اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
يستحب فعل صلاة الاستسقاء في المصلى؛ لأن السنة في صلاة العيد أن تُصلى في المصلى وصلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ولحديث عائشة : ( شكى الناس إلى رسول الله عليه وسلم قحط المطر فأمرهم يوماً أن يخرجوا إلى المصلى، فأمر بمنبر يوضع في المصلى )، وهذا يدل على استحباب فعلها في المصلى.
ويشرع في الركعة الأولى أن يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بهل أتاك حديث الغاشية، والسنة الثانية أن يقرأ فيها بسورة القمر، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.
وأما مالك رحمه الله فإنه يقول: إن صلاة الاستسقاء كصلاة الفجر، وأما أبو حنيفة فإنه لا يرى مشروعية الصلاة للاستسقاء وقد قلنا: إن مشروعية صلاة الاستسقاء ثابتة عند جمهور أهل العلم من السلف والخلف، والراجح والله أعلم أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد من حيث التكبيرات الزوائد؛ لقول ابن عباس : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى كصلاة عيد )، وهذا عند الإمام أحمد ، وقول آخر أنه قال: ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، وهذا الحديث أخرجه ابن المنذر في كتاب الأوسط، وكذلك الإمام البيهقي في السنن الكبرى.
ثم أراد المؤلف أن يُفرع على هذا الأمر فقال: [فتُسن في الصحراء]؛ لأن المشروع في صلاة العيد أن تُصلى في الصحراء فكذلك تُصلى صلاة الاستسقاء في الصحراء، ولحديث عائشة : ( فأمر بمنبر يوضع له في المصلى فخرج صلى الله عليه وسلم ... ) الحديث.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن السنة أن يُكبر سبعاً زوائد، والخلاف بينهما إنما هو في فهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد، كبر سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية )، قال الشافعي : فإذا كنا قد اتفقنا على أن تكبيره للقيام لا يُحسب في الركعة الثانية، ضمن الخمس التكبيرات فكذلك تكبيرته الأولى لا تحسب من ضمن السبع، والذي يظهر والله أعلم هو مذهب الحنابلة، وعليه أكثر الآثار؛ وذلك لأن التكبير سبعاً في الأولى هو في حق القيام تكبير في القيام، وأما في الخامسة فإن تكبيره إنما هو من رفعه من السجود، وليس تكبيره حال قيامه، ولهذا يُكره له أن يكبره حال القيام، بل إن بعض الحنابلة قالوا: إن فعل ذلك متعمداً بطلت صلاته.
وقد ذكرنا أنه إذا ذكر ذكراً مشروعاً متعمداً في غير محله فبعض أهل العلم يرى بطلان الصلاة؛ لأنه ذكر زائد كما لو زاد ركعة، وقلنا: إن الراجح خلاف ذلك، ولهذا فإنهم يشددون في التكبير حال الرفع من الركوع إذا استتم قائماً، يقولون: لأن الذكر إنما هو حال الانتقال، وهذا هو السنة، أما أن تبطل به الصلاة فقد قلنا: إن هذا ليس عليه دليل؛ ولهذا فالراجح هو مذهب الحنابلة.
قال المؤلف رحمه الله: [من غير أذان ولا إقامة قال ابن عباس : صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد]، هذا أمر اتفق عليه من يقول بمشروعية الصلاة، ولهذا قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرع للناس أن يخرجوا يوماً من غير أذان ولا إقامة، وتوالى عليه الخلفاء الراشدون، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع ذلك في صلاة العيد فكذلك صلاة الاستسقاء لقول ابن عباس : ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي في العيد )، وقوله: (سنة الاستسقاء سنة العيدين)، ولهذا استدل المؤلف على ما ذهب إليه من التكبيرات الزوائد في صلاة الاستسقاء، وكونها في الصحراء، وحضورها من غير أذان ولا إقامة بما رواه الترمذي من قول ابن عباس : ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي في العيد )، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
قال المؤلف رحمه الله: [ويقرأ في الأولى: بسبح، وفي الثانية: بالغاشية] هذه هي السنة وكذلك يقرأ بسورة القمر.
وجه الدلالة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة أن يصلوا صلاة العيد في ذلك اليوم؛ لأنه إنما كان ذلك بعد زوال الشمس، وهذا هو الظاهر؛ وذلك لأن في حديث عائشة : ( شكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر فأمرهم بيوم يخرجون فيه، فأمر بمنبر يوضع في المصلى فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس )، فوجه الدلالة من الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكد يخرج في صلاة الاستسقاء إلا بعد الفجر وبعد ارتفاع الشمس قيد رمح.
والقول الثاني في المسألة أنه يجوز أن تُصلى ولو ليلاً، وهذا مذهب الشافعية ورواية عند الحنابلة؛ لأن صلاة الاستسقاء إنما شُرعت لسبب، فتُفعل متى ما وجد السبب واحتاج الناس إليه، والراجح هو القول الأول؛ وذلك لأن الناس حينما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر أمرهم بيوم يخرجون فيه، مع احتياجهم وقت السؤال، فلم يكد يخرج إلا بعد ارتفاع الشمس من بعد الفجر، فدل ذلك على أن السنة أن نفعل كما فعل صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل، وهذا قاله أبو العباس بن تيمية؛ ولهذا فإن السنة خروج الناس من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح ولو صلوها ضحى جاز؛ لأنه من وقته أي: من وقت الضحى.
وأما مالك فإنه يرى أن تُصلى بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ويرى أن هذا وقتها، وهذا صحيح ولكن ارتفاع الشمس قيد رمح يبدأ به صلاة الضحى، وكل وقت جاز فيه صلاة الضحى جاز فيه صلاة الاستسقاء.
وأما التوبة إلى الله والخروج من المظالم فهذا لا بأس به بل الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يدعو ربه فلا بد له من التوبة حتى يكون تضرعه بطلب السقيا صحيحاً.
ومن ذلك صلة الأرحام فإن ابن مسعود كان يقول: ( نشدت الله قاطع رحم ألا يحضر مجالسنا، فإنه قد بلغنا أن الرحمة تُحبس عن قوم فيهم قاطع )، والحديث روي مرفوعاً ولا يصح، والموقوف فيه ضعف أيضاً، لكن السلف تداولوه -بمعنى أنه لا حرج أن يُذكر ذلك- خاصة أن في الصحيحين من حديث حذيفة : ( لا يدخل الجنة قاطع ).
وقول المؤلف: (لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات) لقول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] ، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحُبارى لتلعن بني آدم بسبب منع القطر من السماء)، وهذا يدل على أن الطيور تتأذى من القحط فتدعوا على بني آدم، والله المستعان.
وأقول: إن الأمة قد تُحرم الخير ودفع البلوى والمحن بسبب كثرة تناحر أهل العلم؛ لأنه إذا كانت الأمة حُرمت بسبب تلاح فلان وفلان فأهل العلم أولى بأن يتصالحوا وتجتمع كلمتهم، ومتى اختلفت كلمة أهل العلم فعلى الأمة السلام؛ لأن الله يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ، وهذا أول ما يُخاطب به أهل العلم الذين آياته في قلوبهم بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
وأما حديث: ( دعوة الصائم لا تُرد )، فهذا حديث في سنده ضعف، ولكن بمجموع طرقه يدل على أن له أصلاً خاصة، ففي الصحيحين أن الله قال في الحديث القدسي: ( للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ).
وبالمناسبة فإن طلبة العلم لا يرون دعوة الصائم إلا عند الإفطار، والحديث إنما قال: ( دعوة الصائم لا ترد )، فمتى شُرع له الإمساك فإن دعوته لا ترد، وأما تقييد ذلك بوقت الإفطار فهذا تقييد لا وجه له إلا على افتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت )، وهذا الحديث ضعيف، فعلى هذا فإذا صلى وقرأ القرآن في الضحى أو في العصر ورفع يديه وانكسر بين يدي ربه فهذا حسن، ولو دعا عند الإفطار فهذا حسن، لكن تقييد ذلك بحال الإفطار محل نظر.
وأما: ما ذهب إليه الحنابلة فينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يتنظف بأن يزيل عنه الروائح الكريهة فهذا مطلب؛ وذلك لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وفي الحديث في الصحيحين: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه أن توجد منه الريح )، فإذا كان التنظف من باب إزالة الروائح الكريهة فإن هذا مطلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه و أحمد : ( أيها الناس! كلكم يناجي ربه فلا يؤذ بعضكم بعضاً في القراءة )، فإذا كان الإنسان ربما آذى المصلي بالقراءة فأذيته بالروائح من باب أولى، فخروج الناس من غير تنظف مع وجود الرائحة الكريهة فيه أذية للمصلين.
القسم الثاني: التنظف الذي هو بمعنى الاغتسال، واستحبابه لا على جهة إزالة الرائحة الكريهة بل على جهة التعبد بذات الاغتسال، فنقول: الذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا يُسن ولا يُشرع، وأما استدلالهم بفعل ابن عمر و علي فيقال: ليس هذا على إطلاقه، فإنه لا يُشرع الاغتسال ليلة مزدلفة، وهو اجتماع مشروع، ولا يُشرع الاغتسال أيام منى وهو اجتماع مشروع، وعلى هذا فتقييد ذلك في كل اجتماع مشروع محل نظر، وكذلك قلنا في صلاة الكسوف أنه لا يُشرع خلافاً للحنابلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كسفت الشمس خرج يجر إزاره، لكون الوقت ليس وقت اغتسال، إنما وقت تضرع وابتهال.
ولو قلنا: إنه يتطيب، فإن يُشرع له أن يستجلب الطيب له، وهذا الظاهر أنه لا يُشرع لحديث ابن عباس .
وأما قولنا: (لا يتطلب الطيب) أي: لا يتقصد حصوله، فإن وقع في ثيابه أصالة فلا حرج، كما أننا نقول في المسح على الخفين: لا يتطلب النزع ولا يتطلب اللُبس، وهذا هو الظاهر والله أعلم، وقد قال ابن عباس : ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلاً متخشعاً متواضعاً )، كل هذا يدل على التواضع في الملبس والهيئة، ولو قيل: إن التواضع لا يتنافى مع الطيب، فالجواب: نعم، لكن الهيئة هيئة افتقار ولهذا قال الله تعالى: ( أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم )، فهذه الهيئة هيئة افتقار وتذلل، وهذا الذي يظهر، والله أعلم.
ولا يقاس الاغتسال لصلاة الاستسقاء بما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( سنة الاغتسال يوم عرفة ويوم العيدين )، وكان ابن عمر يغتسل يوم عرفة، وهذا ديدنه في هذا الأمر، والأثر عن علي صحيح وعن ابن عمر أيضاً، لكنه عن ابن عمر أصح.
والحنابلة أخذوا هذا على الإطلاق، فكل ما شُرع في العيد شُرع في الاستسقاء فطردوا هذه المسألة، والصحيح أن سنة الاستسقاء كسنة العيدين في الصلاة، ولهذا قال ابن عباس عند الترمذي : ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصلي في العيد )، أما أن تجعل الاستسقاء كالعيد مطلقاً فهذا محل نظر.
فصلاة الاستسقاء في المصلى أفضل من باب أن الإنسان يتطلب الخروج، لكن أن يشرع لها التطيب والتنظف وغير ذلك مما يشرع لصلاة العيد فليس على إطلاقه، والله أعلم.
نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر