الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
مكان صلاة الاستسقاء
صفة صلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [ويصلي ركعتين يُكبر في الأولى ستاً زوائد وفي الثانية خمساً] وقوله: (ستاً زوائد)؛ لأن التكبيرة الأولى هي تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الإحرام ليست زائدة بل هي أصل وركن، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند
الترمذي و
أحمد من حديث
علي رضي الله عنه: (
مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، وهذا هو مذهب الحنابلة، الذي هو أنه يُكبر ستاً زوائد.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن السنة أن يُكبر سبعاً زوائد، والخلاف بينهما إنما هو في فهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد، كبر سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية )، قال الشافعي : فإذا كنا قد اتفقنا على أن تكبيره للقيام لا يُحسب في الركعة الثانية، ضمن الخمس التكبيرات فكذلك تكبيرته الأولى لا تحسب من ضمن السبع، والذي يظهر والله أعلم هو مذهب الحنابلة، وعليه أكثر الآثار؛ وذلك لأن التكبير سبعاً في الأولى هو في حق القيام تكبير في القيام، وأما في الخامسة فإن تكبيره إنما هو من رفعه من السجود، وليس تكبيره حال قيامه، ولهذا يُكره له أن يكبره حال القيام، بل إن بعض الحنابلة قالوا: إن فعل ذلك متعمداً بطلت صلاته.
وقد ذكرنا أنه إذا ذكر ذكراً مشروعاً متعمداً في غير محله فبعض أهل العلم يرى بطلان الصلاة؛ لأنه ذكر زائد كما لو زاد ركعة، وقلنا: إن الراجح خلاف ذلك، ولهذا فإنهم يشددون في التكبير حال الرفع من الركوع إذا استتم قائماً، يقولون: لأن الذكر إنما هو حال الانتقال، وهذا هو السنة، أما أن تبطل به الصلاة فقد قلنا: إن هذا ليس عليه دليل؛ ولهذا فالراجح هو مذهب الحنابلة.
قال المؤلف رحمه الله: [من غير أذان ولا إقامة قال ابن عباس : صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد]، هذا أمر اتفق عليه من يقول بمشروعية الصلاة، ولهذا قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرع للناس أن يخرجوا يوماً من غير أذان ولا إقامة، وتوالى عليه الخلفاء الراشدون، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع ذلك في صلاة العيد فكذلك صلاة الاستسقاء لقول ابن عباس : ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي في العيد )، وقوله: (سنة الاستسقاء سنة العيدين)، ولهذا استدل المؤلف على ما ذهب إليه من التكبيرات الزوائد في صلاة الاستسقاء، وكونها في الصحراء، وحضورها من غير أذان ولا إقامة بما رواه الترمذي من قول ابن عباس : ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي في العيد )، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
قال المؤلف رحمه الله: [ويقرأ في الأولى: بسبح، وفي الثانية: بالغاشية] هذه هي السنة وكذلك يقرأ بسورة القمر.
وقت صلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس، أي: ذكرهم بما يلين قلوبهم من الثواب والعقاب، وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم بردها إلى مستحقيها؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، وأمرهم بترك التشاحن من الشحناء وهي العداوة؛ لأنها تحمل على المعصية والبهت وتمنع نزول الخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (
خرجت أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت )، وأمرهم بالصيام؛ لأنه وسيلة إلى نزول الغيث ولحديث: (
دعوة الصائم لا ترد )، وأمرهم بالصدقة؛ لأنها متضمنة للرحمة، ويعدهم، أي: يعين لهم يوماً يخرجون فيه ليتهيئوا للخروج على الصفة المسنونة، ويتنظف لها بالغسل وإزالة الروائح الكريهة وتقليم الأظفار لئلا يؤذي، ولا يتطيب؛ لأنه يوم استكانة وخضوع. ويخرج الإمام كغيره متواضعاً متخشعاً، أي: خاضعاً متذللاً من الذل وهو الهوان. متضرعاً، أي: مستكيناً لقول
ابن عباس رضي الله عنهما: (
خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشعاً متضرعاً )، قال
الترمذي : حديث حسن صحيح، ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ؛ لأنه أسرع لإجابتهم، والصبيان المميزون؛ لأنهم لا ذنوب لهم. وأبيح خروج طفل وعجوز وبهيمة والتوسل بالصالحين].
وعظ الناس بما يلين قلوبهم وأمرهم بالتوبة من المعاصي
أمر الناس بترك التشاحن
أمر الناس بالصيام
قال المؤلف رحمه الله: (وأمرهم بالصيام)، لم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم كانوا يأمرون الناس بالصيام، ولهذا فإن أمر الناس بهذا يكون محل نظر، لكن لو وافق يوم الخروج يوم صيام مشروع كأيام البيض أو يوم الإثنين والخميس فإن هذا حسن، وقد كانوا في السابق يخرجون يوم الإثنين والخميس، وأذكر أننا خرجنا مرة يوم الأربعاء، وهذا حسن؛ لأجل ألا تتعلق نفوس الناس ويظن أن السنة الخروج يوم الإثنين والخميس، فلو خرجوا في أيام البيض من باب موافقة صيام أكثر الناس فلا حرج، أما أمر الناس به فإنه يحتاج إلى دليل، فلو قيل: قبل أن تخرجوا تقربوا إلى الله بألوان الطاعة مما تتقربون به فلا حرج إن شاء الله؛ من الصيام والصدقة والتبتل والانكسار بين يدي الله.
وأما حديث: ( دعوة الصائم لا تُرد )، فهذا حديث في سنده ضعف، ولكن بمجموع طرقه يدل على أن له أصلاً خاصة، ففي الصحيحين أن الله قال في الحديث القدسي: ( للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ).
وبالمناسبة فإن طلبة العلم لا يرون دعوة الصائم إلا عند الإفطار، والحديث إنما قال: ( دعوة الصائم لا ترد )، فمتى شُرع له الإمساك فإن دعوته لا ترد، وأما تقييد ذلك بوقت الإفطار فهذا تقييد لا وجه له إلا على افتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت )، وهذا الحديث ضعيف، فعلى هذا فإذا صلى وقرأ القرآن في الضحى أو في العصر ورفع يديه وانكسر بين يدي ربه فهذا حسن، ولو دعا عند الإفطار فهذا حسن، لكن تقييد ذلك بحال الإفطار محل نظر.
أمر الناس بالصدقة
تعيين يوم الخروج للاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: (ويعدهم، أي: يعين لهم يوماً يخرجون فيه ليتهيئوا للخروج على الصفة المسنونة)؛ لما جاء من حديث
عائشة : (
وأمرهم بيوم يخرجون فيه )، وقد ذكر
الشافعي : أن
عمر بن عبد العزيز أمر الناس أن يخرجوا يوم الإثنين، وهذا حسن، لكن لا ينبغي أن يقيد الخروج بيوم الإثنين فقط أو يوم الخميس؛ لأنه لم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوم الإثنين أو يوم الخميس، وإنما أمرهم بيوم يُناسب حالهم، ولهذا فإذا كان يوم من أيام الأسبوع وقت الدوام أنفع للناس من حيث كثرة المصلين فهذا حسن، وإن كان خلاف ذلك مثل يوم الخميس فهذا حسن، لكن لا ينبغي أن يُقيد بأيام حتى يظن الناس أن السنة هي تلك الأيام التي اعتادوها.
الاغتسال لصلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: (ويتنظف لها بالغسل)، الحنابلة يرون استحباب الاغتسال في كل اجتماع مشروع، ولهذا جاء عن
علي وعن
ابن عمر رضي الله عنهما: أنهما كان يغتسلان يوم عرفة، وفي العيدين، وفي الجمعة.
وأما: ما ذهب إليه الحنابلة فينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يتنظف بأن يزيل عنه الروائح الكريهة فهذا مطلب؛ وذلك لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وفي الحديث في الصحيحين: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه أن توجد منه الريح )، فإذا كان التنظف من باب إزالة الروائح الكريهة فإن هذا مطلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه و أحمد : ( أيها الناس! كلكم يناجي ربه فلا يؤذ بعضكم بعضاً في القراءة )، فإذا كان الإنسان ربما آذى المصلي بالقراءة فأذيته بالروائح من باب أولى، فخروج الناس من غير تنظف مع وجود الرائحة الكريهة فيه أذية للمصلين.
القسم الثاني: التنظف الذي هو بمعنى الاغتسال، واستحبابه لا على جهة إزالة الرائحة الكريهة بل على جهة التعبد بذات الاغتسال، فنقول: الذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا يُسن ولا يُشرع، وأما استدلالهم بفعل ابن عمر و علي فيقال: ليس هذا على إطلاقه، فإنه لا يُشرع الاغتسال ليلة مزدلفة، وهو اجتماع مشروع، ولا يُشرع الاغتسال أيام منى وهو اجتماع مشروع، وعلى هذا فتقييد ذلك في كل اجتماع مشروع محل نظر، وكذلك قلنا في صلاة الكسوف أنه لا يُشرع خلافاً للحنابلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كسفت الشمس خرج يجر إزاره، لكون الوقت ليس وقت اغتسال، إنما وقت تضرع وابتهال.
التطيب لصلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يتطيب؛ لأنه يوم استكانة وخضوع)، الذي يظهر لي والله أعلم أنه لا يتطلب التطيب، وقولنا: لا يتطلب التطيب، غير أن نقول: لا يتطيب، وغير أن نقول: يتطيب، فلو قلنا: لا يتطيب، يعني: لو أن عنده ثوباً فيه طيب وثوباً ليس فيه طيب فإنه يلبس الثوب الذي ليس فيه طيب.
ولو قلنا: إنه يتطيب، فإن يُشرع له أن يستجلب الطيب له، وهذا الظاهر أنه لا يُشرع لحديث ابن عباس .
وأما قولنا: (لا يتطلب الطيب) أي: لا يتقصد حصوله، فإن وقع في ثيابه أصالة فلا حرج، كما أننا نقول في المسح على الخفين: لا يتطلب النزع ولا يتطلب اللُبس، وهذا هو الظاهر والله أعلم، وقد قال ابن عباس : ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلاً متخشعاً متواضعاً )، كل هذا يدل على التواضع في الملبس والهيئة، ولو قيل: إن التواضع لا يتنافى مع الطيب، فالجواب: نعم، لكن الهيئة هيئة افتقار ولهذا قال الله تعالى: ( أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم )، فهذه الهيئة هيئة افتقار وتذلل، وهذا الذي يظهر، والله أعلم.
ولا يقاس الاغتسال لصلاة الاستسقاء بما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( سنة الاغتسال يوم عرفة ويوم العيدين )، وكان ابن عمر يغتسل يوم عرفة، وهذا ديدنه في هذا الأمر، والأثر عن علي صحيح وعن ابن عمر أيضاً، لكنه عن ابن عمر أصح.
والحنابلة أخذوا هذا على الإطلاق، فكل ما شُرع في العيد شُرع في الاستسقاء فطردوا هذه المسألة، والصحيح أن سنة الاستسقاء كسنة العيدين في الصلاة، ولهذا قال ابن عباس عند الترمذي : ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصلي في العيد )، أما أن تجعل الاستسقاء كالعيد مطلقاً فهذا محل نظر.
فصلاة الاستسقاء في المصلى أفضل من باب أن الإنسان يتطلب الخروج، لكن أن يشرع لها التطيب والتنظف وغير ذلك مما يشرع لصلاة العيد فليس على إطلاقه، والله أعلم.
نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.