الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فمن يكفن الميت يضع عليه لفيفة سفلى، ثم لفيفة وسطى، ثم يذر الحنوط أو الطيب عليها، ثم لفيفة عليا ويذر الحنوط والطيب عليها، ثم بعد ذلك يقومون بلف طرف الجانب الأيسر إلى الشق الأيمن، وهذه الطريقة نصورها لكم بثلاثة مناديل، هذه المناديل الثلاثة هي اللفائف، توضع اللفيفة السفلى على النعش، لا يوضع تحتها حنوط، كما جاء في ذلك نهي عمر وابنه وأبي هريرة لئلا يصاب الميت بشيء، بحيث لو رئي البياض فإنه يصفر بسبب الحنوط وغيره، فلهذا قال العلماء: لا يوضع حنوط على النعش، ولهذا جاء عند ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر أنه كان يكره أن يوضع على النعش شيء، والنعش المقصود به ما يحمل عليه الميت، لكي يبقى كفنه أبيض لا يكون فيه أثر الطيب، فتوضع اللفافة السفلى، ثم توضع اللفافة الوسطى، ويذر عليها الحنوط والطيب، ثم توضع اللفافة العليا ويذر فيها الحنوط، فإن شاء أن يطلى الميت بالمسك فلا حرج، كما صنع ابن عمر بميت، وكما صنع بـأنس كما ذكر المؤلف، ثم يضع الميت مستلقياً، ويكون جهة رأسه أكثر من حيث زيادة اللفائف بحيث يكون الزائد إذا طوي يكون أكثر من جهة الرأس، وقد استدل العلماء على ذلك بحديث خباب بن الأرت كما عند البخاري حينما مات مصعب بن عمير لم يجدوا كفناً له إلا نمرة، ( فكان إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوا النمرة على رأسه وغطوا رجليه بإذخر )، قال العلماء: لأن الرأس أشرف، فيوضع بهذه الطريقة، فتكون أكثر اللفائف من جهة الرأس، والباقي من جهة الأرجل.
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يرد طرف اللفافة العليا ]، هذه الآن اللفافة العليا إلى الشق الأيسر ثم يأخذ طرف اللفافة الأخرى إلى الشق الأيمن، الآن الزائد جهة الرأس، ثم يصنع بالوسطى كذلك، ثم يصنع بالسفلى كذلك، الآن هناك زائد من جهة الرأس، وزائد من جهة الأرجل، ثم يطوي ما كان من جهة الرأس، ويطوي ما كان من جهة الأرجل، ثم يعقدان عقداً، فإذا أراد إنزال الميت في قبره فإنه يحل تلك العقد، وهذا الذي يصنع الآن عندما يضعونه في المقبرة يحلون هذه العقد، وهذه العقد جاء حديث ذكره المؤلف قال: رواه الأثرم ، ولم أجد هذا الحديث مسنداً، ولعله في سنن الأثرم ، وسنن الأثرم لم يطبع، إلا أنه قد جاء عند أبي داود في كتاب المراسيل من طريق خلف بن خليفة قال: حدثني أبي أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه حينما وضع
إذاً: هكذا هي طريقة كفن الميت.
إذا ثبت هذا، فإننا نعود لقراءة كلام المؤلف على نحو ما شرحناه بهذا التصوير.
قال المؤلف رحمه الله: [ وكره داخل عينيه، وأن يطيب بورس وزعفران وطليه بما يمسكه كصبر مالم ينقل، ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه أي: فوق الطرف الأيمن، ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، أي: كالأولى، ويجعل أكثر الفاضل من كفنه على رأسه لشرفه ].
لأن هذا لم يرد؛ لأن الميت بمجرد وفاته يستحب تغميض عينيه كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي سلمة ، وقال: ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم عينيه ثم قال: اللهم اغفر لـ
ذكر الحنابلة سبب الكراهة قالوا: لأن تطييبه بالزعفران ربما يظهر لوناً على الكفن مثلما قالوا: ألا يحنط الطرف الأسفل الذي هو الجهة العليا بعد كفنه، قالوا: ولأنه يستعمل غذاءً وزينة، ولا يعتاد التطيب به، هكذا قال الحنابلة، والجواب على هذا أن قولهم: (لم يعتد التطيب به)، فإن العرب كانوا يتطيبون بالزعفران، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على
أما الورس فالذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا لم يؤثر ذلك على كفن الميت فالأصل أنه جائز، وقولنا: إذا لم يؤثر على كفن الميت لئلا يساء به الظن، فإن الناس إذا رأوا لون صفرة على الميت ظنوا أنه به أثر جراحة، أو ظنوا أنه قد خرج من بطنه شيء، فلأجل ألا يساء به الظنون، وألا يتفكر الناس، وربما شق ذلك عليهم حين حمله، وربما تقززوا كره ذلك، وإن كانت الكراهة حكماً شرعياً لا تثبت إلا بدليل شرعي، والأولى تركه، وأما الزعفران فهو منهي عنه لحديث أنس .
قال المؤلف رحمه الله: (وطليه بما يمسكه كصبر) الصبر مادة معروفة يقولون: إن وضعه على الجسم يلصق فيه، فلو أريد إزالته لشق ذلك عليه، فلهذا نهي أن يطلى بصبر، قالوا: (ما لم ينقل)، فإذا كان سوف ينقل من مدينة إلى مدينة وخوفاً من تغير الرائحة، قالوا: فلا حرج في طليه بصبر، لكنهم قالوا مع الجواز: بشرط ألا يمزق جلده، يعني: إذا كان نقله سبباً لتفسخه، أو تغيره، فإنه ينهى عن نقله، وينهى عن وضع الصبر عليه.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يرد طرف اللفافة)، هو يقصد بهذا الملحد، فيرد طرف اللفافة العليا وهي التي ذكرناها من جهة الملحد، وإلا فإن العليا بعد الانتهاء تكون هي السفلى، فيرد طرف اللفافة العليا إلى الجانب الأيمن للميت، ثم يرد اللفافة العليا من الطرف الآخر إلى الجانب الأيسر، وقالوا بهذه الطريقة؛ قالوا: لأن هذا هو المعتاد فيما يلبسه الناس في القباء والرداء، وهذا التعليل حسن، ولو قيل بأن كل طريقة يلف فيها الميت جائزة لكان حسناً، لقول عائشة رضي الله عنها: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة )، وهذا يدل على أن أي طريقة في اللف فهي جائزة، والله أعلم.
يجعل أكثر الفاضل، يعني: الفاضل من اللفائف بحيث لا يضع الميت وسط اللفائف، بل ينزل من جهة الأرجل بحيث تكون اللفائف من جهة الرأس أكثر، يقول: لشرفه، واستدلوا بقصة خباب بن الأرت حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه وليس عنده إلا نمرة، ( فكان إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بداه رأسه، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ضعوها من جهة رأسه، وغطوا رجليه بإذخر )، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر ].
أي يطوى الزائد من اللفائف ويعاد إلى الميت، ثم يعقد من جهة رأسه، ويعقد من جهة رجليه، وهذه العقد لأجل الزائد من اللفائف من الجهة العليا والجهة السفلى.
أما قول ابن مسعود : (إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد)، يعني: إذا أدخلتموه في قبره حلوا العقد، وهذا رواه الأثرم ، وكما قلت: لعله في سننه، لكنه لم يطبع، وفيه بعض الأجزاء طبعت، أما كله فلم يطبع، وقد رواه ابن سعد و ابن أبي شيبة من طريق خلف بن خليفة عن أبيه يقول الراوي وأظنه عم مولاه معقل بن يسار : ( لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما قول الحنابلة أنه إذا نسي الملحد حل العقد وقد دفن، فإنه ينبش القبر ثم يحل؛ لأنها سنة، الأقرب والله أعلم أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث مرفوع، وأحسن ما جاء في حديث ابن مسعود في حل العقد وهو فعل الناس إلى يومنا هذا، وعلى هذا فإثبات السنة يحتاج إلى دليل، والله أعلم، وعلى هذا فلو لم يحل العقد فإن القبر لا ينبغي نبشه، فلأجل ألا يتناقل الناس ما يصنع، أو ما فعل به بعد دفنه، فالذي يظهر لي والله أعلم أنه إذا دفن فلا ينبش القبر لأجل حل العقد، خلافاً للحنابلة والله أعلم.
يخرقونه حتى نعلم أننا نعيش في ترف ليس مثل ما كان المؤلف قد ألفوه، يقولون: لا يخرق الكفن؛ لأن العامة كانوا يخرقون الكفن بحيث إذا وضع الميت في قبره لا يأتي النباش ويسرق الكفن، فإذا علم أن هذا الكفن قد خرق فإنه لا يطمع في أن ينبش القبر ليأخذ الكفن، ولهذا قالوا: ويكره أن يخرق الكفن ولو ظن أن ينبش، يعني: خوفاً من سرقته، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه ).
قول المؤلف رحمه الله: (وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة)، يعني: صارت اللفافة واحدة، والقميص والمئزر، فيكون المئزر للحقو فما دونه، ويكون القميص مثل لبس الحي فلا حرج، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه: كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج للجديد، وإنما هو للمهلة والتراب، وهذا قول أبي بكر رضي الله عنه عندما أوصى بألا يكفن إلا في ثوبين.
وأما قول المؤلف رحمه الله: (وعن عمرو بن العاص أن الميت يؤزر ويقمص ويلف بالثالثة)، فإن الحديث رواه مالك في الموطأ و البيهقي و عبد الرزاق من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وليس عن أبيه، ولعله وهم في هذا والله أعلم، والغريب أن هذا الوهم كنت أظنه في الروض فوجدت أن المؤلف ذكره في كشاف القناع! ولكن المعروف أنه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وليس من حديث عمرو بن العاص ، ولو كفن بثوب واحد يستر البشرة يكفيه ولا حرج؛ لفعل مصعب بن عمير ، وإن كان الأفضل أن يكفن في ثلاثة أثواب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويكون القميص بكمين).
يعني: القميص الذي نحن نسميه الفنيلة، فإما أن يكون بكمين طويلين أو إلى العضدين، فلو ألبس الميت فلا حرج.
قال المؤلف رحمه الله: (ودخاريص)، الدخاريص لا يزر، والمقصود بالدخاريص والله أعلم أن الدخاريص هي الوصلة الزائدة بعد الخياطة فيما يسميها العامة الكفة، أظن أنها معروفة، وهي الوصلة الزائدة بعد الخياطة، هذا يسموه دخاريص؛ لأجل أنه لو أراد صاحب الكفن في اللفافة أن يربط بالقميص شيء فيربطه بالدخاريص هذه، ولهذا قال: لا يزر؛ لأنه يدخل القميص من تحت فيربط حتى يتماسك، هذا معنى الدخاريص، ولهذا قالوا: الدخاريص ما يوصل من الشيء ليوسعه، هذه أشياء كانت في السابق؛ لأن الناس كانوا يعيشون في فقر بحيث كلما يسمن يفتحون فيزيدون، واليوم أصبح من تنعم الناس يجعلون طرف الثوب مبروماً، لا دخاريص فيه، فهذا يدل على الترف الذي نعيشه نحن، وهم كانوا يعيشون في فاقة والله المستعان.
والقميص ما يزر، يلبس مفتوحاً ولا يدخل رأسه بل يكون مفتوحاً جهة الصدر، مثل الفنيلة لكن به أزرة، يدخل بيديه، ورأسه لا يدخل مثل الكوت هذا القصد، والإزار من تحت، ثم بعد ذلك تكون اللفافة الأخيرة، ثم يلف على الجسم.
أما قوله: من قطن، لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف )، يعني: من قطن، ولهذا الأفضل أن يكون من قطن، وأن يكون أبيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس : ( البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ).
قال المؤلف رحمه الله: (ندباً في خمسة أثواب)، قال: إزار وهو الحقاء أن يكون من السرة إلى أسفل، وخمار؛ لأجل تغطية الرأس والوجه، وقميص؛ لأجل تغطية الصدر، ولفافتين، وهذا مبني على صحة الحديث الذي ذكره المؤلف، فإن المؤلف ذكر حديث الإمام أحمد و أبي داود من طريق ليلى الثقفية .
قال المؤلف رحمه الله: [ لما روى أحمد و أبو داود وفيه ضعف عن ليلى الثقفية قالت: ( كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما أعطانا الحقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر ) قال أحمد : الحقاء الإزار، والدرع القميص، فتؤزر بالمئزر، ثم تلبس القميص ثم تخمر ].
هذا الحديث يرويه محمد بن إسحاق عن نوح بن حكيم عن داود بن أبي عاصم بن عروة بن الزبير عن ليلى الثقفية ، والحديث حسنه النووي و ابن الملقن في البدر المنير، وضعفه ابن القطان بسبب نوح بن حكيم ، وضعفه المنذري بسبب محمد بن إسحاق لعدم تصريحه بالسماع، ولتفرده كما مر معنا، والذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث ضعيف، ولهذا فالراجح هو مذهب الشافعية خلافاً للحنابلة، وهو أن المستحب في حق المرأة كالمستحب في حق الرجل وهو ثلاثة أثواب بيض سحولية، وأقول: إن هذا في حق كل ميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، ولا فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، ذكراً أم أنثى والله أعلم، ولهذا لا ينبغي الزيادة على المشروع، وما يفعله الناس من تغطيته بالمشلح فهذا يعني لا حرج لكن لا ينبغي أن يدفن بالمشلح؛ لأن وضع المشلح عليه كأنه تكريم وزيادة على ما كفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا ينبغي التفاخر في هذا، والزيادة عن المشروع؛ لأن هذا فيه ترف والله أعلم.
وأما قول ليلى : (أول ما أعطانا الحقاء)، ذكر المؤلف أن الحقاء هو الإزار، والدرع هو القميص، فتؤزر بالمئزر ثم تلبس القميص، ثم تخمر، هذه ثلاثة، ثم تلف لفافتين.
يرى الحنابلة أن الزيادة إلى الثلاث جائزة في حق الصبي، والراجح هو مذهب الشافعية أنه يستحب أن يكفن في ثلاثة، ومن المعلوم أن لفافة الكبير ليست مثل لفافة الصغير، فإن لفافة الصغير صغيرة، فثلاثة أثواب بيض لصغير قد تسع لفافة ونصفاً في حق الكبير، ولهذا فالراجح أن الميت يكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية.
قال المؤلف رحمه الله: [ ما لم يرثه غير مكلف ].
يعني: أنه إذا كان الميت صغيراً وعنده مال فإن كان يرثه مكلف وقد علم ما يصنع بهذا الميت في ثلاثة أثواب فكأن هذا نوع من الرضا، وأما إذا كان يرثه غير مكلف، فإنه يكون من القصر، وإذا كان من القصر فينبغي مراعاة ماله، وهذا كما قلت: في وقت كان الناس يشق عليهم أن يجدوا ثوباً، والآن أصبح الكفن موجوداً في المغسلة وليس فيه منة، كما يقول الفقهاء: ولا يكفن بمال غير قريب خشية المنة، والآن لم يعد فيه منة، فالناس تعودوا الصدقة فتراهم يتصدقون باللفائف ولا حرج في ذلك؛ لأن المنة هي ما لا يخرج عن العادة، وأما إذا اعتاد الناس هذا فليس فيه منة والله أعلم، وعلى هذا فالسنة هو مذهب الشافعية أن يكفن في ثلاثة أثواب سواء ورثه مكلف أو غير مكلف خلافاً للحنابلة، وكذلك الصغيرة تكفن في ثلاثة أبواب بيض، والله أعلم.
الأصل أن الميت يجب أن يكفن بأقل الواجب وهو ثوب واحد، والمقصود بالثوب الواحد هو ما لا ترى البشرة دونه، فإن كان رقيقاً يصف البشرة فلا يجوز؛ لأن هذا ليس بكفن، ولهذا قال المؤلف: يجزئ في سترها ثوب واحد، لما جاء في صحيح البخاري أن خباب بن الأرت ذكر أن مصعب بن عمير كفن في ثوب واحد وهي النمرة.
قول المؤلف رحمه الله: (ويكره بصوف وشعر) لحديث عائشة ، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف )، وأما إذا كان بصوف وشعر فإن ذلك خلاف ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ألا يكون ذلك فيه نوع من التميز، فإن المباهاة في هذا غير مشروعة، خاصة وأن المال مال الوارث.
وأما الجلود فإنه المؤلف يقول: يحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أمر بأن تنزع عنهم جلودهم، كما في حديث جابر ؛ فلما أمر بنزع الجلود عنهم دل ذلك على أن وضع الجلد في الكفن منهي عنه، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويجوز في حرير لضرورة فقط)؛ لأن لبس الحرير في حق الرجل محرم إلا لضرورة، والضرورة مثل ألا يجد ثوباً إلا ثوب حرير، وأما الحرير الصناعي فهذا ليس داخلاً في المنهي عنه إلا أن السنة تركه؛ لأن الحرير ليس من القطن، والمستحب أن يكفن في أثواب من كرسف يعني: من قطن.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن لم يجد إلا بعض ثوب ستر العورة كحال الحياة)، يعني: كالإنسان الذي ليس عنده إلا ثوب يستر به عورته فيجب أن يستر به عورته، فإذا كان الحي يصنع به كذلك فالميت من باب أولى، والباقي يغطى بالحشيش والجريد والورق.
قول المؤلف رحمه الله: (وحرم دفن حلي وثياب غير الكفن) يعني: يحرم أن يضاف شيء غير الكفن إذا كان له قيمة، أقول: لا بد أن يقال: إذا كان له قيمة، وأما إذا لم يكن له قيمة فلا حرج، فقد روى البخاري و مسلم من حديث ابن عباس : ( أنه جعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء )، وهذا يدل على أن إضافة شيء غير الكفن لا حرج فيه، والحديث متفق عليه، وهذا يدل على جواز أن يضاف شيء مما ليس له قيمة، فأما ما له قيمة فإن هذا مال الوارث، وقد جاء في الحديث: ( إذا مات الميت يمشي معه ثلاثة فيبقى واحد ويرجع اثنان، يذهب أهله وماله وعمله، ويبقى عمله ويرجع ماله وأهله )، فهذا يدل على أن إبقاء شيء غير الكفن إضاعة للمال، وقد جاء في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كره قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال ).
وهذا يوجد في تشاد والنيجر عندما أرادوا أن يقبروا موتى المجاعة أحياناً يكون الثوب الذي يكفن فيه الميت يحتاجه الحي، فلا حرج أن يأخذه الحي بقيمته؛ لأنه سوف يشتريه من الورثة، فلا يأخذه إلا بقيمته؛ لأن الورثة إنما تنازلوا عنه لأجل الميت، فإذا تشاحوا واحتاج الفقير لأجل حر أو نحوه، وهذا فيما إذا كان يحتاجه خوفاً من هلاك نفسه، وأما إذا كان من باب التجمل فالميت أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، والله أعلم، إذاً: إذا كان ذلك من باب خوف هلاك فيجوز، وقد قال أبو بكر فإن الحي أحوج بالجديد، وإنما هو للمهلة والتراب.
ولعل في هذا كفاية، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر