الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ولا يصح بيع الملامسة بأن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا, أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة كأن يقول: أي ثوب نبذته إلي أي: طرحته فعليك بكذا، لقول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة )، متفق عليه, وكذا بيع الحصاة كـ(ارمها فعلى أي ثوب وقعت فلك بكذا) ونحوه].
بيع الملامسة والمنابذة بيعان كان أهل الجاهلية يفعلانه, والملامسة لها صورتان:
الصورة الأولى: بأن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، فيقول: ادخل المحل وربما في ظلام دامس أو قد غطى عيني المشتري فيقول: ادخل المحل فأي ثوب لمسته فهو لك بعشرين ديناراً أو بعشرة ريالات، فأحياناً يمسك ويضع يده على شيء قيمته عشرة، وأحياناً قيمته ريال وأحياناً قيمته ألف ريال، فدخل البائع والمشتري بين الغنم المتوقع والغرم المتحقق، فيكون هذا داخلاً في قاعدة الغرر.
الصورة الأولى: أن يقول: خذا هذا الحجر ثم ارم فعلى أي شيء وقع من ثيابي أو من أغراضي فهو لك بمائة ريال, فربما وقع على شيء غال, وربما وقع على شيء ليس بنفيس.
الصورة الثانية: أن يقول: ارم هذا الحصاة فعلى أي شيء وقعت فلك المثل من الأرض بكذا, فهذا من طريقتهم في البيع, وكانت الأراضي ما تساوي شيئاً، والآن صارت شيئاً يذكر, على كل حال هذا نوع من الجهالة, والله أعلم.
يقول: لو عندك شياه في مزرعتك، فقلت: أبيعك شاة من شياهي، يقول: لا يصح للجهالة؛ لأن الغنم تتفاوت, فهذه بخمسمائة ريال وهذه بألف ريال وهذه بثمانمائة ريال ولم توصف هذه الشاة فلا يجوز.
أما لو قال: أبيعك شاة لي صاحبة قرون وهو يقصد معيناً فهذا جائز؛ لأنه باع معينة موصوفة؛ ولأنه لو باع شاة من غنمه أو عبداً من عبيده من غير رؤية ولا وصف فإنه يصير مبهماً، فلربما قلت لك: هذه الشاة قلت: لا, أنا أريد الثانية فصار التفاوت فيها في الثمن، وهذا إذا كان ثمة تفاوت في الثمن, أما إذا لم يكن ثمة تفاوت في الثمن والقيمة واحدة والوصف واحد فالذي يظهر -والله أعلم- جواز ذلك بشرط رؤيته أو وصفه أو له الخيار إذا رآه كما قلنا سابقاً.
ومعنى التفاوت أي: تساوي القيمة، فلا يلزم منه تساوي الوصف، فإذا كانت الأوصاف متساوية والقيمة متساوية فالذي يظهر الجواز، وإذا كانت القيمة متساوية والوصف مختلفاً فالمؤلف يمنع ذلك.
والقول الثاني: إذا تساوت القيمة مثل الشياه فلا بأس؛ لأنه يجوز بيع ما لم يره وما لم يوصف على هذا القول، وأما القول بمنعه فلا يجوز؛ لأنه باع غير معين, وقد ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ).
قول المؤلف: (ولا يصح استثناؤه إلا معيناً)، فلا يقول: أبيعك هذا القطيع إلا شيئاً أو إلا واحداً أو اثنين ولم يحدد فلا يصح؛ لأنه ربما يستثني شيئاً نفيساً فيكون في ذلك غرر وجهالة، ولهذا ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثنيا إلا أن تعلم ).
قول المؤلف: (قال الترمذي : حديث صحيح)، وقد جاء ذلك في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا ) ورواية الترمذي : ( إلا أن تعلم )، فلو قال: أبيعك هذه الشياه إلا شاة واحدة ولم يحددها لم يصح لأجل الجهالة، وكذلك فيما لو قال: أبيعك هؤلاء العبيد إلا واحداً لم يصح؛ لعدم معرفته ويدخل في ذلك غرر وهذا بلا شك غرر؛ لأن ( النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا إلا أن تعلم )، قال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وصورة المسألة: لو اشتريت أنا شاة, وقال البائع: أنا موافق لكن بشرط أن يكون رأسه لي أو إليته لي فهنا يعلم؛ لأنه يرى.
قال المؤلف: [ ( لفعله صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة إلى المدينة ) رواه أبو الخطاب ].
الحديث رواه أبو داود في المراسيل وهو ضعيف, لكن لا شك أن باب المعاملات مبني على القواعد, والقواعد تؤيد الجواز؛ لأنه رؤي, والله أعلم.
قال المؤلف: [فإن امتنع المشتري من ذبحه لم يجبر بلا شرط ولزمته قيمته على التقريب].
فلو أن البائع قال: لي رأسه ففجأة أخذه المشتري وقال: لن أبيعه, صارت رخلة يعني أنثى فقالوا: أريد أن استكثرها، يقول المؤلف: (لم يجبر بذبحه بلا شرط)، فلو قال البائع: بشرط أنك تذبحه ولي رأسه فيصح، فيجب على المشتري أن يذبحه؛ لأنه اشترط عليه الذبح، أما إذا لم يشترط عليه الذبح فلا يجبر على ذبحه، ولكن للبائع قيمته، فيقول: كم قيمته لو ذبح؟ قال: والله! قيمة الرأس لو ذبح مائة ريال قال: خذ المائة أو خمسين ريالاً قال: هذه خمسون, هذا إذا اشترى المشتري الشاة التي استثني رأسها من غير شرط.
وأما إذا اشترط الذبح فإنه يبطل البيع إذا أبى المشتري أو يكون للبائع الخيار على التقريب بأن يقدر فيما لو حدث على التقريب، يعني: نحن نقول: التقريب له قيمة المثل.
قال المؤلف: [وللمشتري الفسخ بعيب يختص هذا المستثنى]؛ لأن هذا المستثنى ربما يؤثر في سائر أعضاء المعقود عليه, والله أعلم.
قول المؤلف: (وعكسه أي: عكس استثناء الأطراف في الحكم استثناء الشحم والحمل)؛ لأن هذا لا يعلم المقدار ولم ير؛ لأنه مغطى بالجلد، فهذا لا يصح إفراده بالبيع فيبطل البيع باستثنائه, فكل ما لم يصح إفراده لا يصح استثناؤه.
فلو باع بشرط أن الشحم والحمل للبائع فهل يصح؟ نقول: هذه المسألة سوف تأتي في باب الخيار، وهو أنه إذا باع بشرط فاسد, الحنابلة يقولون: إذا باعها بشرط فاسد فإن لمشترطه الخيار بين الإمضاء والفسخ، وهذا هو المذهب.
وهناك أربعة أقوال لا أرى داعي لذكرها, وهي موجودة في كثير من المسائل, مسائل في الغش وأثره في العقود, وقد ذكرنا هذه الأقوال, والله أعلم.
قول المؤلف: (ويصح بيع الباقلاء ونحوه)، الباقلاء مثل ما نسميه الفاصوليا اللوبيا الذي له قشر، وكذلك الحمص، وكذلك الجوز الذي داخله المكسرات التي عندنا وغيرها، (ولو تعدد قشره)؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه, ولأن أهل الخبرة يعرفون صلاحيته؛ ولأن ستره هذا بأصل الخلقة أشبه الرمان.
وهذه قاعدة: أن بيع الشيء الذي يرى وإن كان لا يرى بالتفصيل فلا بأس بذلك، مثل رؤية ما في باطن الأرض، وإن كان هذا يختلف؛ لأن ما في الباطن لا يرى كاملاً لكن رؤية بعضه دلالة على الجميع. والله أعلم.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى يشتد ) أي: وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، فيقول: ( نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد )، فإذا اشتد ما بعدها, فالغاية بعد (حتى) يخالف ما قبلها فوجب زوال الحكم، يعني: اختلاف الحكم، فما قبله لا يساوي ما بعده.
وأما بالنسبة للفقع فهناك بعض الناس إذا جاء موسم الأمطار، يعرف أن أرضه مهيأة للفقع، فيحرثها فبمجرد وصول الأمطار في الموسم سبحان الله تنبت، فهذا يوجد في بعض المناطق، وبيعه هنا اختلف أهل العلم, فهذا مثل بيع الكلأ في الأرض، ومذهب الجمهور ومنهم الحنابلة يمنعون من ذلك وقلنا: إن ابن تيمية يجوزه بشرط استنباته، يعني: إذا سقاها وحرثها لأجل أن يستنبت فلا بأس مثل الفقع, لكن الفقع فيه إشكال من وجهين: أنه من الكلأ المباح، والثاني: أنه مما في باطن الأرض، وهذا ولا يعلم لا تقدر أن تعرفه، فلا بد من حرثه حتى تخرجه وتعرفه.
فإذا وجد شجر كهذا فهو دليل على وجود الفقع، لكنه لا يعلم نضجه من عدم نضجه بخلاف البطاط وبيع المغيبات، فلا بد من إزالته, والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر