الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
فقد سبق قول المؤلف رحمه الله: (ولبائع إجارة وإعارة فيما استثني), وهذه العبارة موهمة ولهذا اختلف الشراح فيها, فالمعنى والله أعلم أنه إذا قال: أبيعك على أن لي حملانه إلى المدينة الذي هو أجرة, يقول: هذا الاستثناء يجوز للبائع إذا استثنى منفعة المبيع أن يؤاجرها بنقود أو يعيرها هذا هو القصد.
إذاً: معنى أبيعك على أن تؤاجرني أي: أبيعك على أن أشتري منك أو أؤجرك على أن أشتري منك ليست هي أبيعك وأجرك, أبيعك وأقرضك, أبيعك وأسلفك؛ لأن ثمة فرقاً بين اشتراط عقد في عقد واجتماع عقدين في عقد, فالفرق فيه كبير, فإذا قلت: أبيعك وأستأجر منك أو أؤجرك, إذاً كلا العقدين من طرف واحد, وهذا مثل الإجارة المنتهية بالتمليك, أؤجرك وأبيعك, فهذه ليست داخلة في اشتراط عقد في عقد كما يظنه بعض المشايخ في بحوثهم، فقد جعلوها من باب اشتراط عقد في عقد، وهذا ليس اشتراط عقد في عقد، وإنما هو عقد معاوضة اشترط فيها الملك, يعني فهو عقد بشرط أو بيع بشرط أو إجارة بشرط، وعلى هذا فثمة فرق بين اشتراط عقد في عقد واجتماع عقدين في عقد.
إذاً إذا قلت لك: أبيعك أؤجرك أو أبيعك وأشاركك هذا مني؛ لأني أنا الذي أشاركك, أما أني أقول: أبيعك على أن تشاركني في هذه الأرض الثانية, إذاً هذه مستقلة, أما أن يقول: أبيعك جزءاً من الأرض وأشاركك بالجزء الثاني فهذا جائز؛ لأن كله في المعقود عليه؛ ولأن المعقود عليه واحد, أما قول: أبيعك على أن تبيعني فالمعقود عليه اثنان, هذا من الفروق, وقول: أبيعك على أن تشتري مني شيئاً هذا لا يجوز؛ لأن هذان معقودان, وقول أبيعك البرج على أن أستأجره منك فهذا جائز؛ فالمعقود عليه واحد, وقول: أبيعك البرج على أن تبيعني برجك الثاني لا يجوز, فهناك فرق واضح.
وهنا فائدة لطلاب العلم وهي: أن معرفة القواعد وضبطها تجعلك تفهم بإذن الله كثيراً من المسائل، فليس المهم أن ننهي الكتاب, المهم أن نعرف القواعد؛ لأن فهم القواعد يسهل عليك قراءة الكتب بعد ذلك, أما أنك تقرأ بناء على مثال ثم تظن أنك فاهم والواقع أنك ما فهمت, فإذا أردت أن تطبق هذه المسائل في المعاملات المعاصرة تقع في مشكلة.
قول المؤلف: (وهو بيعتان في بيعة المنهي عنه، قاله أحمد ), إذاً: الحنابلة رحمهم الله يرون أن اشتراط عقد في قرض داخل في ( لا يحل سلف وبيع ), وأن اشتراط عقد في عقد معاوضة أخرى داخل في بيعتين في بيعة, والجواب: أن اشتراط عقد معاوضة بعقد معاوضة ليس داخلاً في بيعتين في بيعة، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأن بيعتين في بيعة قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية: ( فلو أوكسهما أو الربا ), وليس ثمة مماكسة هنا، فليس هناك سعران في هذا الأمر, وأن بيعتان في بيعة هي كل معاوضة اشترط فيها الربا, سواء كانت عينة أو لم تكن عينة, مثل إذا جاء وقت السلم قال: تبيعني أعطني سلمي وإلا إما أن تقضي وإما أن تربي فهذه داخلة في بيعتين في بيعة؛ له أوكسهما وهو أن يصبر أو أن يزيد الربا وهذا محرم، والله أعلم.
والقول الثاني: قالوا: أنه إن قال له: متى ما نفق المبيع وإلا رددته عليك، قالوا: إن هذا شرط صحيح ولا إشكال في ذلك, وهذا رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله كما أشار إلى ذلك ابن مفلح في الفروع, وهذه صورتها مثل صورة عقد التصريف, فإن بعض الشركات تبيع على أصحاب السوبر ماركت أو البقالات لبناً أو جرائد أو مجلات على أنه إن جاء بعد يوم أو يومين ولم يستطع بيعها فإن الشركة تتكفل برد المعقود عليه, أو أن اللبن إذا لم يبع فإنها إذا جاءت بعد اليومين تأخذ اللبن ويكون هذا من باب الاسترجاع، وهو داخل في قوله: (متى ما نفق المبيع وإلا رده), والذي يظهر -والله أعلم- جواز ذلك بشرط وهو أن يكون هناك مدة معلومة، وإلا فإنه يدل على وجود غرر, يعني: ترده متى ما نفق المبيع فلابد من وجود أجل معلوم وإلا صار غرراً, وقد كتبت بحثاً في عقد التصريف والآثار المترتبة عليه، ولعله إن شاء الله يطبع قريباً.
وعقد التصريف له أربع صور:
بيع بشرط، أو بيع معلق، أو وكالة، أو خيار، فالوكالة مثل عقد التسويق الموزع للسيارات، فيأخذ السيارة على أنه يصرفها وإلا ردها, وله نسبة مثل أن يقول: بعها بمائة وما زاد فهو لك, فهذا يختلف لكن لا نريد أن نتشعب.
والقاعدة في هذا: أن المسلمين على شروطهم؛ ولما جاء عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: مقاطع الحقوق عند الشروط, وهو قول لبعض السلف في مسألة الشروط، وهو قول شريح و محمد بن سيرين وظاهر صنيع البخاري وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فتعالوا لننظر في حديث بريرة ، تقول بريرة : (إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في كل سنة أوقية، قالت
يعني: إذا شريتيها فاشترطي أو لا تشترطي لأن هذا ملكك, فالحنابلة قالوا: إن هذا شرط فاسد في عقد, فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( اشتريها واشترطي لهم الولاء أو لم تشترطي ), فأبطل الشرط, فهذا مذهب الحنابلة.
القول الثاني قالوا: إن معنى: ( واشترطي لهم الولاء ) إن هذا أصلاً ليس شرطاً فاسداً في عقد؛ لأن المكاتبة ثابتة حاصلة, فلا حق للملاك الأوائل أن ينفكوا عنها, فـعائشة بعد ثبوت هذا المكاتبة اشترتها, إذاً: هذا الاشتراء ليس فيه شرط, فيكون شرط الملاك ليس لهم حق الشرط أصلاً, فصار قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي ), هو الأقرب, وإلا فكيف يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ادخلي معهم العقد وقولي لهم هذا الشرط وأنت تعلمين أنه باطل، هذا بعيد! لأن هذا فيه نوع من الغرر والخيانة, وحاشا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الأمر, ولقد فهم بعض الباحثين هذا, ويقول: أدخل ثم إذا ثبت العقد فإنه يبطل شرعاً, لا ما يجوز هذا، وحاشا محمد صلى الله عليه وسلم أن يخادع، وقد قال الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58], فمعنى: ( واشترطي لهم الولاء ) يعني: اشترطي أو لا تشترطي فإن الشرط باطل، هذا المعنى الأول.
والمعنى الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشتريها واشترطي لهم الولاء ), يعني: واشترطي عليهم الولاء، فيكون شرطاً من مقتضى العقد وليس شرطاً فاسداً, وقد قلنا: لو قال: أبيعك على أن تكون الملك لي هذا جائز وأبيعك على أن أتصرف بالسيارة أو أشتري منك على أن أتصرف بالسيارة هذا هو الصحيح, فقال لـعائشة : (اشترطي لهم الولاء), يعني: تملكي ولك حق التصرف.
ولهذا لا ينبغي لطالب العلم أن تقصر همته ويقول: أنا أريد أن أصير مثل فلان المعاصر, بل ينبغي له أن يقول: أريد أن أكون مثل ابن تيمية ؛ لأنه لن يكون مثل ابن تيمية لكن سوف يخطو خطوات كبيرة يسبق زمن مشايخه وعلماء بلده, وبهذا كلما علت همة الإنسان كلما جد واجتهد, لكنه إذا بدأ يلتفت وينظر زملاءه وإذا هو أفضل منه، فبدلاً من أن يقرأ عشرة كتب سوف يقرأ كتاباً واحداً, ولهذا كون طالب العلم يكون عالماً بجميع الفقه بأدلته ويكون مع الفقه محدثاً فقد جمع بينهما, وإلا فإن بعض الفقهاء مقلدة حديث، أو بعض المحدثين مقلدة أصول, يعني: أصول ابن حزم، فهو دائماً ظاهر وهذا بلا شك من أسبابه أن المحدث لا يقرأ كتب الفقهاء، ولا يقرأ الفقيه كتب أهل الحديث.
ولهذا تجد بعض المشايخ يشرح الروض بالمعاملات, لكن إذا جاء في التطبيق في المعاملات المعاصرة يضعف، والسبب لأن هذه تتطلب خروج من المكتبة, يعني: يسهل عليه أن يقعد في المكتبة ويقرأ الورقة الصفراء ويتأمل، لكن إذا جاء يقرأ الكتاب الفلاني أو عقد هؤلاء اقرأه تفحصه هذا أحياناً يضعف؛ ولهذا أنا أرى أن الناس بحاجة إلى بيان الأحكام الفقهية المعاصرة.
ولهذا في زمن سبق كانت التجار لا يسألون المشايخ في المعاملات؛ لأنهم يرون أن المشايخ ما يفهمون, خاصة في المعاملات البنكية، واليوم صارت المعاملة البنكية واضحة لكثير من المشايخ وطلبة العلم، بسبب الاحتكاك والمسائل والمناقشات فنفع الله بها نفعاً عظيماً.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر