الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [وغير بيع العربون] العربون: مصدر عربن، ويضبط بضم أوله وسكون ثانيه: (عربون)، وأيضاً بفتح أوله وثانيه (عربون)، وبفتح أوله وسكون ثانيه (عربان)، ولهذا: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان ) و ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون ) فهي بضم الأول والثاني أو بضم الأول وسكون الثاني أو بفتح الأول وبفتح الثاني.
وقد ذهب الحنابلة إلى جوازه، ولا يصح في الباب حديث مرفوع، فحديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان ) أو ( بيع العربون ) حديث ضعيف، رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إلا أن الرواة عن عمرو بن شعيب كلهم ضعاف، فلا يصح الحديث، وأحسن شيء في الباب ما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و البيهقي في السنن الكبرى، من طريق نافع بن عبد الحارث : أنه اشترى داراً في السجن لـعمر من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، ثم قال: إن رضيه عمر وإلا فلك أربعمائة دينار.
وجه الدلالة: أن نافع بن عبد الحارث اشترى هذه الدار وقدم لـصفوان جزءاً من الثمن، فإن رضيه عمر فهو بأربعة آلاف، وإن لم يرضه فإن ما دفعه نافع لـصفوان هو ملك لـصفوان.
وقد اشتراه بإذن عمر وعلم بذلك عمر ، وهذه سنة أحد الخلفاء الراشدين.
وهنا توضيح أن تعليق الثمن غير تعليق الصيغة، الصيغة ثابتة، هو يقول: إن جئتك بالثمن بعد رضا عمر وإلا فالثمن لك، وليس المقصود: إن رضي عمر بعتك، وإلا اشتريته إن لم يرض عمر ، ليس هذا هو المقصود.
وهذا هو الراجح والله أعلم، وليس ثمة غرر، ولا أكل لأموال الناس بالباطل، والجمهور يقول: إن هذا غرر، وأنه أكل لأموال الناس بالباطل، وأقول: لا يسع الناس في هذا الزمان إلا هذا، وإلا فإنه ربما أدى إلى حبس السلعة عن البائع، وبعد مضي مدة ونفور مشترين عنها يرجع، وهذا ضرر واضح، وقد أفتى به محمد بن سيرين في قصة الركاب: أدخل ركابك فإن جئتك يوم الأربعاء وإلا فلك كذا.
إذا علم هذا فإن الحنابلة يرون التعليق جائز في ثلاث صور:
الصورة الأولى: قول: إن شاء الله.
الثاني: بيع العربون، جائز عند الحنابلة.
الثالث: هو التعليق في دفع الثمن، فيقول: إن جئتني بالثمن بعد ثلاث وإلا فلا بيع بيننا، وهو تعليق الفسخ، وهذا جائز عند الحنابلة ممنوع عند الجمهور، والحنابلة يرون أنه لا بأس لأن هذا ليس تعليقاً في الإيجاب والقبول وإنما هو تعليق بفسخ العقد، كما لو اشترط مدة ثلاثة أيام وإلا فلا بيع بينهما.
هذه ثلاثة صور يجوز الحنابلة فيها التعليق، ولا يقال: تعليق العقد؛ لأن تعليق العقد ممنوع عند الحنابلة والله أعلم.
واعلم أن العربون له صورتان:
الصورة الأولى: أن يدفع المشتري جزءاً من الثمن إلى الوسيط صاحب المكتب العقاري، دون علم بقبول أو بإيجاب البائع، فهذا الثمن بمثابة قبول المشتري بحيث لا يحق له الفسخ إلا بعد إذن ورضا البائع من عدمه، فيصير بمثابة القبول المعلق على رضا البائع، وحينئذٍ لا يحق للمشتري الإلغاء، إلا إذا رفض البائع.
الصورة الثانية: أن يدفع المشتري جزءاً من الثمن ويقبضه البائع، فحينئذٍ تم العقد، ولا يسوغ للبائع بعد ذلك أن يلغي العقد. ما الفرق بين الصورتين؟
الصورة الأولى لا يجوز للمشتري أن يفسخ العقد، لكن البائع يجوز له أن يفسخ وألا يرضى بالعقد وحينئذٍ فدفع مبلغ العربون ليس بمثابة العقد، فلو لم يرض البائع بذلك فلا يحق للمشتري أن يطالبه بالسلعة؛ لأنه لم يشترها بعد.
أما الصورة الثانية وهي أن يقبض البائع العربون، فقبضه للعربون هو قبول وإيجاب منه، وحينئذ لو جاءه رجل آخر ليشتري منه الأرض بأكثر فليس له أن يبيعها، ويخطئ كثير من التجار بهذا الأمر، يظن أن دفع العربون هو معلق له حتى يسدد المبلغ، ويجوز إلغاؤه، هذا ليس بصحيح، وعلى هذا فإن أذن البائع للوسيط بأن يقبض عربوناً فهو بمثابة الصورة الثانية، وإن لم يعلم فإنه بمثابة الصورة الأولى، وهي أن البائع لم يقبل أو لم يتم إيجابه في هذا.
إذاً في الصورة الأولى صار الخيار للبائع وليس للمشتري، المشتري دفع جزءاً من الثمن فلا يحق له حينئذٍ الرجوع، حتى يرفض البائع.
وفي الصورة الثانية يقبض البائع العربون أو يأذن بقبضه للوسيط، فحينئذٍ لا يجوز للبائع أن يفسخ إلا برضا الطرف الآخر، ولا يجوز للمشتري أن يفسخ إلا برضا الطرف الآخر.
حين نقول: ليس له الحق؛ لأن قبوله معلق برضا، وإلا ذهب عليه العربون، هذا القصد، ولهذا قلنا في الصورة الأولى: لم يتم العقد، ولكنه قبول معلق برضا البائع، لكن لم يتم العقد، هذا الفرق بينهما، الأول لم يتم العقد والثاني تم العقد، لكن الصورة الأولى معلق، وهذه الصورة جائزة، ومثلها مثل الاكتتاب، فإن الإنسان يكتب أنه يريد أن يشتري ألف سهم، كل سهم بعشرة ريالات وهو معلق بقبول الشركة، وهذا جائز والله أعلم.
قول المؤلف: (ويقول: إن أخذت المبيع أتممت الثمن وإلا فهو لك فيصح لفعل عمر ) كما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله عبد الرزاق و ابن أبي شيبة .
قول المؤلف: (والمدفوع للبائع إن لم يتم البيع) يعني والمدفوع للبائع إن لم يتم المشتري البيع، وإلا فإن قبض البائع العربون ثم رغب بعدم إتمام البيع فليس له الحق.
قول المؤلف: (والإجارة مثله) يعني مثل البيع في مسألة العربون.
والعربون: أنا أعطيتك جزءاً من الثمن، ما هناك رهن، هذا الثمن الذي أعطيتك هو جزء من ثمن المعقود عليه، الرهن شيء مستقل تماماً عن مسألة الثمن، لكن لماذا الحنابلة منعوه؟ قالوا: إذا جعل الرهن ثمناً للمعقود عليه واشترط ذلك فهو حرام، أبيعك وأعطيك هذا الرهن على أنه ما لم آتك بالثمن فالرهن لك، قالوا: إذا جعل الرهن ثمنا بالتعليق لا يجوز.
والرهن قالوا: هو أنه إذا عجز المشتري عن الثمن فإن المرتهن يقوم ببيعه عن طريق الحاكم، هذا الأصل في الرهن مطلقاً، أنه يجعل في يد أمين أو يجعل في يد المرتهن، فإن عجز الراهن عن التسديد فإنه يباع.
والحنابلة لم يمنعوا هذه الصورة للرهن، إنما منعوا إذا قال: خذ بعتك، ورهنتك، فإن لم آتك بالثمن فالرهن لك، هذا ممنوع؛ لأنه فيه ثمن ورهن.
والصورة الجائزة عندهم العربون، أعطيك جزءاً من الثمن، وإذا لم أقم بتسديده، فهذا الثمن لك، هذا جائز. والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر