والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
نظراً لكون هذه الحلقة أتت بعد فريضة الحج ولا شك أنه قد تحصل بعض التساؤلات التي يحتاج الناس إلى إجابتها فأرحب بتواصلهم بداية من بداية الحلقة، وسأعرضها بإذن الله عز وجل في ثنايا الشرح.
أرحب بالجميع وعلى بركة الله عز وجل نبدأ درسنا، وإذا كان هناك تواصل فسيكون عن طريق الموقع، عبر أرقام الهواتف التي ستعرض على الشاشة بين الفينة والأخرى، فمرحباً بكم وأترككم مع ضيفنا الدكتور: عبد الله .
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا رب العالمين.
العود أحمد إن شاء الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتم علينا نعمه وأن يبارك لنا في القول والعمل وأن يخلص لنا النية والسريرة إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وها نحن قد عدنا من بعد أداء فريضة من أعظم فرائض الله سبحانه وتعالى وهي فريضة الحج، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أهمية هذا الحج كما سبق أن ذكرنا ذلك، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي أهميته وفضله, بقوله صلى الله عليه وسلم ( من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )، ومن حج فهنيئاً له، ولكن نقول: أتبع السيئة الحسنة تمحها، فإتباع الحسنة الحسنة دليل على قبول العمل، وقد كان السلف رضي الله عنهم أجمعين يرون أن إتباع الحسنة الحسنة بمثلها دليل على قبول العمل، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يهنئون الذي أدى العبادة وأقبل على الله سبحانه وتعالى، كما كان ابن مسعود يقول في آخر رمضان: أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المحروم جبر الله مصيبتك، فأهنئ كل من أدى عبادة الله سبحانه وتعالى في الحج، وأقول: لا تتكل على عملك هذا، وأقبل على الله سبحانه وتعالى، واعلم أن استمرارك على الطاعة والعبادة دليل على القبول، وكم هو جميل أن تقبل على قراءة القرآن وعلى أداء الصلاة بأول أوقاتها وأن تدع قول الزور، وأن تدع الغيبة والنميمة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في الحج كما في حديث أسامة بن شريك الذي رواه الدارقطني و أبو داود و ابن حبان و ابن خزيمة و البيهقي وغيرهم كثير وكثير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما سئل عن الحج: ( لا حرج لا حرج إلا على مسلم أخذ من عرض أخيه المسلم )، فدل ذلك على أن أعراض المسلمين من الأهمية بمكان.
وبداية كم أحزننا وكم آلم قلوبنا وأقض مضاجعنا ما سمعناه وشاهدناه من الحملة المسمومة على سيد البشر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يفرحنا أن الله سبحانه وتعالى قد كفاه بقوله: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، وقد غطت قناة المجد مشكورة هذا الحدث بما لا مزيد عليه، ولكن من باب الذكرى ومن باب المشاركة أحببنا أن نذكر هذا، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم عنا لغني، ولكننا من باب أداء الواجب ومن باب أن نحظى بالدفاع عن الحبيب عليه الصلاة والسلام كانت هذه الوقفة.
وقفنا أحبتي الكرام إلى قول المؤلف: [ فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما ]،
فلتتفضل يا شيخ اقرأ.
المحظور الأول: أنهم وسعوا دائرة الانتشار، يعني أن بعض الأفراد لم يرها إلا من خلال الإنكار.
الأمر الآخر يا شيخ وهو الأخطر وأتمنى أنكم تنبهون عليه: أنه قد يترتب على هذه الصور ارتباط ذهني، فعندما يذكر صلى الله عليه وسلم يحصل في العقل ما يسمى بالارتباط الذهني فحبذا يا شيخ لو نبهتم عليها.
الشيخ: على كل حال بالنسبة لهذه المسألة فإن الإخوة في قناة المجد ذكروا أنهم استفتوا سماحة المفتي في ذكر هذه الصور، فسماحة المفتي من باب إطلاع المشاهدين على هذا الأمر ذكر أن هذا لا بأس به، لكن ينبغي على القول بهذا القول أو عدمه ألا نتوسع في هذا الأمر، وإن كنت أحب ألا تظهر هذه الصورة المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم لأمور:
الأمر الأول: دع الناس يعيشون بجو لا يعرفون ما مداه؛ لأن بعض الناس قصير الهمة، ضعيف النظر، فربما إذا نظر إلى هذه الصور قال: كل هذه الحملة لأجل هذه الصور، فهو لا يستشعر عاقبة هذا الأمر.
النقطة الثانية: أن بعض الناس ضعيف الإدراك فإذا اطلع على هذه الصور تجد أنه كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ارتكزت في ذهنه هذه الصور وهذا خطير، ولهذا أحب ألا تنتشر هذه الصور بل يذكر للناس هذا الأمر بتصوير كلامي أرى أن هذا أفضل، وبقاء كلام النبي صلى الله عليه وسلم أرحم وأوجب من تصور الناس على أن يفعلوا أو لا يفعلوا؛ لأننا نقول: إنه يجب عليك إذا سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم سب أو انتهك عرضه أن تدافع عنه أياً كان هذا السب والانتهاك، ولا يلزم أن تسمعه شعراً كان أو غير ذلك، ولله در معاذ بن معوذ حينما قال لـعبد الرحمن بن عوف : يا عم! هل تعرف أبا جهل ؟ قال: وما شأنك به؟ قال: سمعت أنه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ووالله لئن لاقيته لا يفارق سوادي سواده حتى يكون الأعجل منا، فهذا يدل على أن الإنسان إذا سمع أنه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي عليه ألا يتوسع ويبحث عن هذه الصور؛ لأنه ربما يترتب في ذهنه بعض الأشياء، ويكفي الناس أنهم سمعوا ما فيه الكفاية.
وتجد بعضهم ترك العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، ولهذا يجب أن نعرف أن كل مستهزئ بدين الله سبحانه وتعالى أو بسنة النبي صلى الله عليه وسلم هو داخل في هذا الأمر، وإن كان يحزننا فعل هؤلاء إلا أنهم كفار، ولكن الحزن أعظم حينما يكونون من أبناء جلدتنا ومن المسلمين الذين يتسمون بالإسلام.
[ فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، يجمع بينهما، ثم يبيت بها، ثم يصلي الفجر بغلس، ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو ويكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه وفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] الآيتان، ويقف حتى يسفر، ثم يدفع قبل طلوع الشمس فإذا بلغ محسراً أسرع قدر رمية بحجر حتى يأتي منى ].
المسألة الأولى: أن السنة للحاج أن يصلي المغرب والعشاء بجمع -يعني: بمزدلفة- وقد نقل غير واحد الإجماع على أن السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يجمع المغرب والعشاء في جماعة، وقد نقل الإجماع غير واحد منهم ابن المنذر و النووي و الخطابي و ابن حجر وغيرهم كثير كثير، وبينوا أن السنة للحاج أن يصلي المغرب والعشاء بجمع بعد مغيب الشفق -يعني: بعد العشاء- وهذه سنة متواترة، والدليل على ذلك حديث جابر أولاً وهو كما رواه مسلم في صحيحه قال جابر: ( حتى أتى المزدلفة فصلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع ) والحديث الآخر حديث أسامة في البخاري و مسلم واللفظ للبخاري قال: ( ثم سار حتى أتى المزدلفة فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أذن قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلى المغرب بإقامة، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان )، ولحديث أسامة حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! الصلاة. قال: الصلاة أمامك ).
واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث أسامة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الشعب الذي يريح الناس من مغرب فتوضأ وضوءاً ليس بالبالغ وبال، فقلت: يا رسول الله! الصلاة؟ قال: الصلاة أمامك ) قال: الحافظ ابن حجر : واستدل به على الصلاة في مزدلفة، وهذا مجمع عليه يعني أنه سنة، لكن ذكر الظاهرية أن هذا واجب للاستدلال بهذا الأمر، وهذا فيه نظر لأننا نقول: نعم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة أمامك )، دليل على مشروعية الصلاة في مزدلفة، لكن أنى لهم أن تكون الصلاة باطلة ويجب عليه أن يعيد؟ أنى لهم ذلك؟ فليس في الحديث ما يدل على ذلك.
ومن الأدلة على هذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وقال كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود : ( إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان، المغرب والعشاء )، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر في غير وقتها.
قالوا: فقوله: ( حولتا عن وقتهما صلاة في هذا المكان ) دليل على أنه لا يجزئ أن يصلي الإنسان المغرب والعشاء إلا في جمع ونقول: إن هذا فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنها حولتا عن وقتهما )، يعني في أول وقتهما ليس الوقت المقصود به الوقت الكامل إنما هو الوقت المستحب، والدليل أن صلاة العشاء صليت في وقتها، وإن كان في أول الوقت، ولكننا نقول: الأفضل والأحرى أن لا يصلي الإنسان المغرب والعشاء إلا في مزدلفة، لكن إن خشي وقت خروج العشاء فإنه والحالة هذه يصلي المغرب والعشاء جمعاً في أي مكان شاء؛ لأن الصلاة في وقتها أولى والعبرة بالوقت أعظم من العبرة بالمكان.
ومنتصف الليل يختلف شتاءً وصيفاً، فيحسب الإنسان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فيجمعه ويقسمه على اثنين فهذا هو منتصف الليل، وأحب أن أبين أن الإخوة الذين يخرجون من عرفة إلى مزدلفة ربما يحبسهم الزحام فلا يصلون إلى بعد صلاة الفجر وأرى أن هذا ليس بصحيح، وإن كان بعض الفقهاء ينظرون أن الوقت وقت العشاء للضرورة ينتهي إلى الفجر، واستدلوا على ذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لا يصلي الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى )، قالوا: فهذا يدل على أن وقت كل صلاة لا ينتهي إلا بدخول وقت الصلاة الأخرى، قلنا: هذا ليس على ظاهره بدليل أن صلاة الفجر بينها وبين الظهر وقت مقطوع ليس من وقت الظهر ولا هو من وقت الفجر، وقول الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، مما يدل على أن وقت العشاء منقطع عما بعده، وهو ينتهي بمنتصف الليل، هذه مسألة ذكرها المؤلف رحمه الله.
أولاً: الإجماع: نقل الإجماع غير واحد، كـابن المنذر و ابن تيمية رحمه الله وقد قال في مجموع الفتاوى: إن الجمع بمزدلفة، إن المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في شرحه لحديث أسامة بن زيد عندما قال: ( الصلاة أمامك )، واستدل به على جمع التأخير بمزدلفة، وقال: هذا إجماع لأهل العلم وذكر ذلك أيضاً ابن عبد البر في التمهيد، وذكره الخطابي وذكره النووي، بل إن نصوص الأئمة تدل على ذلك، ومنها قول مالك بن أنس رحمه الله حين سئل كما في المدونة: هل الرجل يصلي قبل مغيب الشفق؟ لو وصل مزدلفة قبل مغيب الشفق يعني قبل دخول العشاء، قال مالك : لا أظنه قد كان الوقت يصعب ذلك، فلو وصل أحببت له أن لا يصلي حتى يدخل أو حتى يغيب الشفق أي: حتى يدخل وقت العشاء.
وقال الشافعي رحمه الله كما ذكر ذلك النووي : والسنة للحاج أن يصلي المغرب والعشاء في جمع جمع تأخير ولو صلى المغرب في وقتها أو صلى المغرب والعشاء في غير جمع أو صلى المغرب في وقتها والعشاء في وقتها أساء وترك الفضيلة، وكذلك نص الإمام أحمد أن السنة للإمام أن يجمع جمع تأخير.
ومن الأدلة على ذلك: أولاً: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي الأحوص عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان: المغرب والعشاء )، فدل ذلك على أن المغرب حولت عن وقتها إلى وقت العشاء، والعشاء حولت عن وقتها المستحب المتأخر إلى تقدم لأن سنة الصلاة في العشاء هو أن يؤخر الصلاة لكنه في مزدلفة يتقدم في الصلاة، فهذا هو المراد، هذا هو قول عامة الفقهاء، بل قول الحنابلة المتأخرين، وقد كان الحنابلة في كتبهم يذكرون هذا إلى أن جاء الحافظ ابن مفلح في كتابة الفروع قال: وظاهر كلامهم -انظر كلمة وظاهر كلامهم- على أنه لو أتى مزدلفة قبل مغيب الشمس أنه يصلي، فـابن مفلح ذكر ذلك فهماً من عنده، ثم تبعه الأئمة الحنابلة على هذا الأمر، وهذا يدل دلالة واضحة على أن المتقدمين من الحنابلة وغيرهم يذهبون إلى ما ذهب إليه الأئمة وهو أن السنة أن يصلي المغرب والعشاء في وقت العشاء.
والقول الثاني في المسألة: هو قول بعض أهل الحديث قالوا: إن السنة للحاج متى ما قدم مزدلفة فإنه يصلي، سواء كان في وقت المغرب أو كان في وقت العشاء، وهذه المسألة استدلوا عليها بحديث جابر كما في صحيح مسلم قال: ( حتى أتى مزدلفة وصلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين )، فجعلوا العبرة بالرسول.
وأنا أقول: المسألة إنما هي على سبيل الاستحباب فسواء صلى المغرب والعشاء في وقت المغرب، أو صلى المغرب والعشاء في وقت العشاء، وإن كنت أرى أن قول الأئمة الأربعة وقول من ذكر الإجماع على أن صلاة المغرب والعشاء في وقت العشاء هو أولى وأحرى، لكن هنا وقفة وهو أن بعض الإخوة خاصة بعض أصحاب الحملات بمجرد وصولهم إلى مزدلفة تجدهم يصلون ولا ينتظرون أصحابهم، وقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث أسامة قال: ( حتى أتى مزدلفة فتوضأ للصلاة ثم أمر بالأذان )، فهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ في مزدلفة، فتسارع الناس للصلاة قبل اجتماع إخوانهم أرى أن هذا ليس بالأفضل، ومن المعلوم من السنة المتواترة أن صلاة المرء مع صاحبه أولى من صلاته وحده، وصلاته مع الثلاثة أفضل من صلاته مع الرجل، وهذا الذي ينبغي التنبيه عليه.
ولو أنه خشي خروج الوقت ثم صلى، ثم وصل مزدلفة قبل منتصف الليل فنقول: صلاته صحيحة ولا يعيد؛ لأنه أدى الصلاة بما أمره الله، وقد قال ابن عمر مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين )، فإذا أمرنا الشارع أن نصلي الصلاة قبل مزدلفة بناءً على حفاظنا على الوقت، فلا ينبغي أن نعيد الصلاة؛ لأن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين.
هذا الكلام فيه مسائل:
الأمر الأول: أن عائشة رضي الله عنها أخبرت بذلك وهي أعلم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم الداخلية من جابر ، وقد استفتى جابر عائشة رضي الله عنها في بعض المسائل التي لا يعلمها إلا النساء، مثل وجوب الغسل، وقد روي في مسلم وأصله في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الوتر ولا ركعتي الفجر لا في حضر ولا سفر )، وهذا خبر عام فلا يجوز لنا أن نبطله بأدلة ربما لا تكون قوية كما سوف يظهر، فلو قيل عن جابر أنه لم يصله الحديث عن الوتر؟
فسنقول: عائشة أخبرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك، فربما جابر لم يبلغه هذا الأمر.
الأمر الثاني: أن جابراً رضي الله عنه لم يحفظ كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في حجه، فهناك مسائل في الحج لم تبلغ جابراً ، بل إن في حديث جابر الطويل ترك مسائل فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه وأمر نسائه بها، مثل جوازه للنساء والضعفة والمرضى أن يخرجوا من مزدلفة إلى منى، ولم يذكر جابر ذلك، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخرجوا ليلة الجمع فهذا لم يبلغ جابراً رضي الله عنه.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ قبل الفجر وأرسل بـأم سلمة قبل الفجر، وقال: اخرجي إلى منى فرمت الجمرة ثم أفاضت فرجعت إلى منى، فـجابر لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ قبل الفجر، ومن المحال أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفجر ويخاطب أصحابه ولا يذكر الله ولا يصلي، فـالنبي صلى الله عليه وسلم هو أقرب إلى ربه من البشر.
الدليل الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون و جابر لم يقل: لم يوتر، إنما قال: حتى اضطجع، فربما جابر نسي أن يذكر هذا أو لم يبلغه هذا، إنما ذكر ما حفظه، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسماء أنها أتت من مزدلفة فصلت ساعة ثم قالت: لغلامها عبد الله : هل غاب القمر؟ قال: لا، فصلت ساعة، فقالت: هل غاب القمر؟ قال: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم، قالت: فارتحل بنا. فهذا يدل على أن الصحابة كانوا يصلون الوتر.
ومن المسائل أن ابن عمر كان يوقظ ضعفة أهله ويجعلهم يقفون ويذكرون الله قبل أن يقف الإمام أو قبل أن يبدأ، كما في الصحيحين من حديث سالم عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في ذلك.
الدليل الخامس: نقول: إن الوتر ليس من المناسك أصلاً، فهب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فـالرسول صلى الله عليه وسلم ربما يترك الأمر بسبب ما يغلبه من النعاس والتعب والرهق، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة أنها قالت: ( كان إذا غلبه نوم أو نعاس عن صلاة الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة)، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أفعالاً ربما لا يستطيع أقوياء وأشداء البشر أن يصنعوها مثله، كقيامه بأبي هو وأمي وهو رافع يديه حين الوقوف من بعد الزوال إلى غروب الشمس لا يفتر عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب الناس، وقد قالت عائشة قد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً بعدما حطمه الناس، يسألونه -مائة ألف حاج- يسألون النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا لا نقول: أنه ربما ترك النبي صلى الله عليه وسلم -إذا ثبت أنه ترك- لأجل التعب والإرهاق.
المسألة الثانية: مما يدل على ذلك أن جمهور أهل العلم من الحنابلة والشافعية قالوا: لمن وافى مزدلفة بعد منتصف الليل لا يلزمه البيتوتة، فهذا يدل على أنه بدل كلمة حكم المبيت بمزدلفة الأولى أن نقول: حكم الوقوف بمزدلفة؛ لأن الحنابلة والشافعية هم الذين اختصوا بالبيتوتة لمن وافها قبل منتصف الليل وجب عليه أن يبيت إلى منتصف الليل، إلى زيادة على ذلك، فقالوا: بوجوب المبيت بمزدلفة.
على كل حال نقول: حكم الوقوف بمزدلفة اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الوقوف بمزدلفة واجب في الجملة، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، أن الوقوف بمزدلفة واجب بالجملة مع اختلافهم في مقدار الوقوف، وما هو الزمان الواجب في ذلك كما سوف نذكر تفصيل ذلك، لكنا نذهب إلى أن عامة الفقهاء ذهبوا إلى أن الوقوف بمزدلفة واجب بالجملة، هذا هو مذهب الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى يقول: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، والمشعر الحرام، هو مزدلفة وهذا أمر والأصل في الأوامر الوجوب.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في مزدلفة وقال: ( خذوا عني مناسككم )، والفعل إذا خرج بياناً للقول دل على أنه مأمور به في الجملة.
الدليل الثالث: هو قوله عليه الصلاة والسلام كما عند الإمام أحمد و أبي داود و الترمذي من حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ).
الدليل الرابع على وجوبها وعلى عدم ركنيتها: هو قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة فمن وقف بعرفة قبل طلوع الفجر فقد تم حجه )، فإذا وقف بعرفة قبل طلوع الفجر لم يستطع أن يبت بمزدلفة، وهذا يدل على أن الوقوف بمزدلفة ليس بركن وليس بمستحب كما يقول بعض أصحاب الشافعية.
القول الثاني: وهو قول النخعي من السلف و الأسود و الشعبي ، و الحسن البصري وهو قول لبعض أهل الظاهر أن الوقوف بمزدلفة ركن، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ولكن نقول: هذا يدل على الوجوب لا يدل على الركنية، ثم إننا نقول: صلاتهم في مزدلفة قد أدوا بها هذا الأمر، لذا نقول: إن الوقوف بمزدلفة واجب، وأما استدلالهم بحديث عروة بن مضرس وهو الدليل الثاني لمن قال بالركنية، قالوا: قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك بليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه )، قالوا: ومن لم يقف بمزدلفة لم يتم حجه ولم يقض تفثه، قال الحافظ الإمام الفقيه أبو محمد الموفق بن قدامة قال: إن هذا الحديث لم يلتزموا به على ظاهره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من شهد صلاتنا هذه )، وقد أجمع أهل العلم خلافاً لبعض أهل الظاهر على أنه لو صلى وحده في مزدلفة صح وأجزأ، ثم إنه لو نام كما يقول ابن قدامة ولم يصل الفجر في مزدلفة أجزأه ذلك، فدل هذا على أن الحديث ليس على ظاهره، فلا ينبغي أن نأخذه على ظاهر هذا الإطلاق.
على كل حال الأقرب -والله أعلم- أن الوقوف بمزدلفة واجب.
إذاً من أتى مزدلفة قبل منتصف الليل وجب عليه أن يبقى إلى منتصف الليل، فلو خرج قبل منتصف الليل قالوا: وجب عليه أن يرجع فيبقى إلى منتصف الليل ثم يخرج، ولو لم يرجع قالوا: يجب عليه دم؛ لأن الوقوف إلى منتصف الليل واجب، هذا قول الشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بقي ولم يأذن لأحد بالخروج حتى الضعفاء فوجب علينا أن نأخذ بهذا الفعل، وأما تحديد ذلك بمنتصف الليل فإن هذا هو المشهور عندهم، والقول الآخر عندهم قالوا: إنه إلى مغيب القمر.
أما استدلالهم على منتصف الليل فهو ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل بضعفة أهله )، فقالوا: بليل يصدق على أكثره؛ لأن أكثر الشيء يقوم مقام جميعه، فإذا بات أكثر الليل في مزدلفة صار بحكم من بات بجميعه.
الرواية الثانية: عند الحنبلة وغيرهم قالوا: إن العبرة ليست بمنتصف الليل، ولكن العبرة بمغيب القمر؛ لأن أسماء قالت: هل غاب القمر؟ ثم قالت: فارتحل بنا بعدما غاب القمر، ثم قال لها في آخر الحديث: أي هنتاه! لقد غلسنا، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد من حديث ابن عباس قال: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بسحر بثقل النبي صلى الله عليه وسلم )، وقد قال ابن منظور في لسان العرب: أن السحر هو آخر الليل، وهو آخر ثلث الليل الأخير.
وأرى أن هذا القول أقرب من قولنا بمنتصف الليل، لكن هل يدل على وجوب بقاء من أتى مزدلفة قبل منتصف الليل أو قبل المغرب؟ نقول: المسألة مسألة بحث فالقول قوي، لكن المالكية قالوا -وهذا القول الثاني-: إن الواجب هو حط الرحال، فإذا بقي في مزدلفة بمقدار حط الرحال فقد فعل الواجب، ولا يلزمه البيتوتة سواء كان قبل منتصف الليل أو بعد منتصف الليل، واستدلوا على ذلك بأدلة:
أولاً: قالوا: حديث عروة بن مضرس كما عند الإمام أحمد و أبي داود و الترمذي قال عروة : ( يا رسول الله! جئت من جبل طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، فو الله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ )، فـعروة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلاماً جامعاً قال: ( من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه ) فقوله: ( وقد وقف بعرفة قبل ذلك )، هذا هو المقدار، فإذا أتى بهذا المقدار فإنه أدى الواجب، وإن كان الأولى والأحرى أن يبقى إلى خروج الناس من قبل طلوع الشمس، ولو خرج قبل منتصف الليل، أساء ولكن لا يلزمه شيء.
واستدلوا على ذلك بأدلة ثانية قالوا: إن الشارع أمر الحجاج بأن يذكروا الله عند المشعر الحرام، وذكر الله عند المشعر الحرام يصدق عليه أن يذكره في مزدلفة بأن يصلي المغرب والعشاء، أو بأن يذكر الله في المشعر الحرام، يعني: في الجبل قبل طلوع الشمس، فعلى الحنابلة والشافعية إما أن يأخذوا بأول الحديث يعني صلاة المغرب والعشاء، وإما أن يأخذوا بآخره، فهم لم يأخذوا بأول الحديث.
إذاً: قالوا: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] يعني إما أن يقال: ذكر الله عند المشعر الحرام هو الصلاة بمزدلفة وبهذا قد أدى الواجب، وإما أن يقال: ذكر الله هو الوقوف بالمشعر الحرام، كما وقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل طلوع الشمس فذكر الله سبحانه وتعالى كما سوف يأتي، فهذا يدل على أن الوقوف الواجب هو هذا المقدار، وإن كان أساء إذا خرج.
أما قولهم: إن الرسول فعل ذلك وفعله يدل على الوجوب في الجملة، فقد جاءت أدلة تقوي عدم وجوب هذا الأمر فالعمل ليس بواجب ودليله أن الرسول قال: ( وقد وقف معنا بعرفة قبل ذلك )، أما استدلال الحنابلة والشافعية على حديث عروة بن مضرس بأن ذلك إنما كان بعد نصف الليل، قلنا: هذا يحتاج إلى دليل، ومن قال: إنه من أتى قبل منتصف الليل إنه يجب عليه أن يبقى، هذا محل نظر وتأمل، ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح كما يقول ابن تيمية واحتج به الإمام أحمد عن الأسود أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه وهو بجمع بعدما أفاض من عرفات فقال: يا أمير المؤمنين! الآن قدمت أو قال: قدمت الآن، قال عمر : أما كنت وقت وقفت بعرفة قال: لا، قال: فأت بعرفة وقف بها هنيهة، ثم أفض قال: فذهب الرجل، فنام عمر حتى أصبح وصلى الفجر ثم قال: لقد جاء الرجل قالوا: لا، ثم قال: لقد جاء الرجل قالوا: جاء، ثم قال عمر : فلننفر إذاً أو فلنفض إذاً, و عمر لم يأمره بشيء مما يدل على أن المبيت بمزدلفة لم يجب، وهذا من الأدلة على أنه يبقى إلى قبيل طلوع الشمس وأيضاً أنه قد فعل الواجب، هذه استطراد رأيت أنه من الأهمية بمكان، وإن كنت أرى أن الأولى ألا يخرج من مزدلفة إلا بعد مغيب القمر.
والمقصود بمغيب القمر هو مغيبه عن مزدلفة، ليس عن الجبل، وهذا يكون قبل الفجر بساعة أو بساعة ونصف، وجمع الأدلة يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن بسحر، وقد قال الحافظ ابن منظور في كتابه لسان العرب، قال: وبسحر: هو آخر الليل قبل الفجر، ومما يدل على ذلك أن الوقت قريب وليس بمنتصف الليل؛ لأن منتصف الليل يكون قبل الفجر بثلاث ساعات تقريباً، أن ابن عمر يقول: كما روى سالم عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله، فيقفون قبل الفجر بالمشعر الحرام، قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، ويذكرون الله ما بدا لهم ثم يخرجون إلى منى، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فهذا يدل على أن الوقت كان قريباً وقصيراً، وذلك هو الأولى والأحرى.
القول الثالث: هو قول الحنفية، وهو أن مقدار الوقوف الواجب ليس هو الليل بل هو من طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، وهذا غريب لم يذكر ولم يشتهر لكنهم قالوا: لو وقف قبل ذلك لم يستحب لكن الواجب هو أن يبقى من طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، فلو خرج القوي قبل ذلك مع الضعفة وهو ليس منهم قالوا: ترك واجباً؛ لأنه يجوز ترك الوقوف للضعفة والحيض، كما يقولون: المرأة الحائض، ومن خاف زحام الناس جاز له ذلك، أما القوي فإنه لو خرج قبل مغيب القمر ترك واجباً وعليه أن يجبره بدم، واختار الحنابلة والشافعية أن القوي لو خرج بعد مغيب القمر، ولو لم يكن معه ضعفة أنه أساء وليس عليه شيء، وهذا يدل على أنه ينبغي لطلاب العلم أن لا يضيق ذرعاً بقول اشتهر عنده لأنه ربما لو ذهب وقرأ أقوال الأئمة يجد أن المسألة فيها مندوحة، وما من إمام من أئمة الإسلام إلى وقد اغترف من بحر جود النبي صلى الله عليه وسلم وسنته عليه الصلاة والسلام، وهذه الأقوال ما ذكرتها إلا لأنها لها قوة ولها اهتمام، وإن كنت أرى أن الأولى الأخذ بقول الشافعية والحنابلة لكن القول بالوجوب محل تأمل ونظر، وكما أننا لا يجوز لنا أن نقول: هذا حلال، كذلك لا يجوز لنا أن نقول: هذا حرام إلى بسنة ناصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل حال مذهب الحنفية واستدلالهم محل نظر؛ لأنهم استدلوا بحديث عروة بن مضرس وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من شهد صلاتنا هذي ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه )، قالوا: فهذا هو مقدار الواجب ولكنا نقول: هذا محل نظر؛ لأن الله يقول: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ويصدق هذا أنه إذا صلى في مزدلفة أو ذكر الله في مزدلفة أو وقف في مزدلفة؛ لأن مجرد الوقوف في مزدلفة ذكر وهذا هو المراد في الحديث، وهذا هو الوقوف بمزدلفة هل هو واجب أو لا؟
الجواب: الذي يبيت النية على أنه لا يريد أن يقف بمزدلفة وليس ثمة عذر أصلاً إلا الخوف من دعوى الزحام فقد ترك واجباً، فيجب عليه أن يجبره بدم، أما من أتى مزدلفة وأراد أن يدخلها لكن مع مشقة الزحام لم يستطع أن يصلها إلا بعد الفجر أو بعد طلوع الشمس، فأرى والله أعلم أنه ليس عليه بأس إن شاء الله؛ لأن غاية الواجبات كما قال ابن تيمية وغيره أن تسقط بالعجز وعدم القدرة، فإذا لم يستطع الإنسان من عند غير نفسه، فإنه قد ترك الواجب لأجل العذر والمشقة ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
الجواب: على كل حال هذا الذي أفتاهم أفتاهم بناء على قول: وهو قول الشافعية والمالكة فلا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لأنه أخذ بقول، وقد قال الإمام الشاطبي : إذا أفتى العالم العامي فهو كما إذا أفتى الرسول صلى الله عليه وسلم العلماء، وأشار إلى أن العامي لا يستطيع أن يتبحر في العلم ويأخذ بالأقوال، فإذا أخذ بقول أحد فإنه لا يلزمه شيء، كما قال ابن تيمية رحمه الله: ومن تعامل بمعاملة باجتهاد أو تأويل أو تقليد فما أخذ من هذا الأمر فليس عليه بأس، والله أعلم.
الجواب: نعم من أتى لمزدلفة فإننا نقول: إما أن يصلي المغرب والعشاء في وقت المغرب، وإما أن يصلي المغرب والعشاء في وقت العشاء، أما ما يقوله بعض الفضلاء: أنه يصلي المغرب في وقتها إذا جاء قبل مغيب الشفق، فإذا دخل وقت العشاء يصلي، فأقول: هذا خالف السنة، بل نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن السنة الجمع، فهو إذا صلى المغرب في وقتها والعشاء في وقتها فقد ترك الإجماع، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فهو عند البخاري وغيره أنه صلى المغرب، ثم أتى بعشائه ثم صلى العشاء، فنقول: هذا الأثر عن ابن مسعود إما أنه لم يبلغه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فـجابر و أسامة ربما يكونان أخبر من ابن مسعود بذلك، فـجابر ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر هذا الأمر.
الثاني: أننا نتأول لـابن مسعود أنه إذا صلى المغرب ثم دعا بعشائه ثم تعشى ثم صلى العشاء في وقت العشاء فما زال هو وقت جمع، أما أن يأتي أحد ويصلي المغرب في وقت المغرب فإذا جاء وقت العشاء صلى في وقت العشاء فقد خالف ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود عندما أمر أن تصلى في وقت العشاء فهو يصدق عليه أنه جمع، ولكنه يدل على أن الجمع عنده لا يلزم فيه الموالاة، أما نصلي المغرب في وقت المغرب، ثم ننتظر حتى إذا جاء وقت العشاء نصلي العشاء استدلالاً بفعل ابن مسعود فنقول: هذا محل نظر؛ لأن ابن مسعود فصل في وقت العشاء، وهذا الفصل يدل على أنه جمع المغرب والعشاء في وقت العشاء، ولكنه يرى أنه لا يلزم الموالاة في الجمع، وهذه هي المسألة.
وأنا أرى أن الأولى أن يؤخر حتى يدخل وقت العشاء فيصلوا المغرب والعشاء، ولو صلوا لا بأس في ذلك.
الجواب: القول الثالث في الوقوف بمزدلفة وهو قول لبعض الشافعية يرى أن الوقوف بمزدلفة مستحب، واستدلوا على استحباب ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه )، قالوا: وهذا يدل على أن الوقوف بمزدلفة ينتهي بطلوع الفجر، وهذا محل نظر؛ إذ أن الوقوف بمزدلفة -كما سوف نذكر إن شاء الله بالأدلة- ينتهي قبيل طلوع الشمس، وهذا الاستدلال فيه نظر.
الجواب: أنا أرى أنه من جاء مزدلفة قبل منتصف الليل أو قبل مغيب القمر ينبغي له أن يبقى إلى قبيل طلوع الشمس، ومن كان معه من الضعفة فإن الأولى أن لا يخرجوا إلا بعد مغيب القمر أو بسحر قبل الفجر بساعة أو بساعة ونصف تقريباً هذا هو الأولى، لكنهم لو خرجوا قبل ذلك بناء على فتوى مثل ما سأل الأخ نبيل قال: تصرف القائمين ببعض الحملات ربما يكون من المغرب الإسلامي، والمغرب الإسلامي يظهر فيهم المذهب المالكي، المذهب المالكي قالوا: الواجب حط الرحال والصلاة ثم الخروج هذا هو مذهبهم، فأرى أنهم إذا كانوا بناء على رأي من يستفتونهم بذلك فالحمد لله، ولكني أرى أنهم أساءوا وأخطئوا وإن كان لا يلزمهم دم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فقد تم حجه وقضى تفثه )، ولكنهم أساءوا، والذي ينبغي أن يبقوا إلى قبيل الفجر، أو قبيل مغيب القمر.
وما هو أفضل الكتب لشرح عمدة الفقه؟
الجواب: مسألة تصرف القائمين قلنا: إن كان بناء على أنهم قد أخذوا مذهب المالكية فالحمد لله ولا حرج، وإذا كانوا لا يعلمون إنما أخذوا بالفتاوى التي يسمعونها فيجب عليهم البقاء، فإن كان يشق عليهم البقاء؛ لأجل الضياع أو غير ذلك وهم أدرى بذلك، وهذه المسألة مسألة دين، فإن كان يشق عليهم وربما أصيبوا بكرب في ترك الحملة، فإنهم يخرجون ولا حرج عليهم في ذلك إن شاء الله، وإن كانوا يستطيعون البقاء فأرى أن الواجب أن يبقوا ويتركوا صاحب الحملة.
الجواب: جزاك الله خيراً! أنا أشكر الأخ على هذا السؤال العظيم وأنا كنت سوف أنبه على هذا، وهذا مما يدل على أن الفلكيين ربما يخطئون أكثر، وقد اتصلت على فلكي أو أخبرني أحد طلبة العلم الكبار أن فلكياً مشهوراً في هذا الزمان أخبر أن مغيب القمر في اليوم التاسع ليلة العاشر عام ألف وأربعمائة وستة وعشرين سوف يغيب الساعة الواحدة إلا ربع، يعني اثنا عشر وخمسة وأربعين دقيقة، وقد قلت بناء على هذا الأمر، بناء على الحسابات باعتبار المتخصص، فأخطأ في هذا الأمر، وأنا قلت: هذا الأمر لأصحاب الحملة الذين معي، فلما وصلنا منى بعد ذلك وجد الإخوة أن الساعة الثالثة إلا ربع أو ثنتين ونصف والقمر ما زال باقياً، على كل حال أرى من خرج واحدة إلا ربع أجزأه ذلك؛ لأني أرى أن الخروج بعد منتصف الليل أو بعد مغيب القمر إنما هو على سبيل الاستحباب الأكيد، فلو خرج بعد ذلك أساء ولا حرج عليه في ذلك، وقد أخطأت واستغفر الله مما فعلت وقلت وإن كان الخطأ من الفلكي، وهذا يدل على أن كلام الفلك ربما يصيب وربما يخطئ فليس كلامهم قطعاً وأنا مقلد في هذا الأمر، وأنا أرى أن الإنسان لا يخرج إلى قبل الفجر بساعة أو ساعتين وهذا أقرب كما ذكر ابن منظور أن السحر هو قبل الفجر بساعة، وكلمة ساعة ليست بالساعة التي عندنا ولكنه وقت قريب.
الجواب: المشكلة أن بعض الإخوة المستمعين من طلبة العلم يستحبون فعل هذه الطريقة، ويقولون: كم هي الأقوال التي لم نعرف قوتها ولا دليلها إلا بوجود هذا الشرح، وكذلك الاستدلال والاستطراد في الأدلة وأقوال الأئمة، فيه أناس يحبون هذا، ولكني أرى للأخت وكذلك الإخوة، أنهم يلخصوا هذا الأمر، والذي أراه في الامتحان هو أن يذكر قول المؤلف ويرد على قول المؤلف، إن كان هو الراجح فالحمد لله، وإن لم يكن هو الراجح يذكرون القول الراجح الذي رجحته، وينسبونه إلى قائله من أصحاب الأقوال التي ذكرتها، فمثلاً: قوله المبيت بمزدلفة نذكر هذا، فإذا قلنا: قول الحنابلة قلنا: وهناك قول عند المالكية كذا وكذا، وأرى أن قول الحنابلة قوي إلا أن الدم لا يلزم كما هو مذهب المالكية، فأنا أقول: إنهم يتركون الأقوال التي ضعفتها ويذكرون القول الراجح بتسمية من ذهب إليه بأدلتهم واحد أو اثنتين يكفي إن شاء الله.
والعبرة أن بعض الإخوة يقول: إن هذا الشرح يكون لنا في كل سنة نذكر هذا الأمر وهذا الذي جعلني أستطرد.
الأمر الثاني: مسألة الامتحان الواجب هو ذكر كلام المؤلف، وإن كان هو الراجح يذكر بالأدلة التي أذكرها، وإن لم يكن هو القول الراجح فيذكر القول الراجح الذي رجحته، منسوباً لقول الأئمة الذين نسبته إليهم بأدلتهم، والأقوال الأخرى التي ضعفتها لا حرج في تركها، والله أعلم.
الجواب: المبيت بمنى الأقرب والله أعلم أنه واجب، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لـالعباس في البيتوتة عن منى، والرخصة ضدها العزيمة وأرى أن البيتوتة في منى واجبة، والواجب هذا يسقط مع العجز، وذلك؛ لأن العباس أراد أن يسقي الحجاج ومعلوم أن الحجاج يستطيعون أن يسقوا أو أن يسقي بعضهم بعضاً، أو يسقي الواحد نفسه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل العباس يسقي ومن معه من باب فعل المستحب، وقال: ( اسقوا ولولا أن تغلبكم الأعراب لسقيت معكم )، فهذا يدل على أن الإنسان إذا شق عليه ولم يجد مكاناً، أو كان المكان الذي وجده غال الثمن فلا يستطيع أو يشق عليه، فأرى أنه يسقط لأن غاية الواجب يسقط مع العجز وعدم الإدراك، وكذلك وقت احتراق منى قبل سنوات أرى أن هؤلاء لا يلزمهم البيتوتة؛ لأن ذلك خارج عن إرادتهم، والله أعلم.
الجواب: المسافر حتى على قول الأئمة الأربعة قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في منى ثلاثة أيام أو أربعة أيام فقصر، فأرى أنه يقصر إلا إذا كان جلوسه في منى قبل الوقوف بمنى، يعني أتى منى في يوم واحد من شهر ذي الحجة فبقي، فهذا بناء على قول الجمهور: إنه إذا بقي أربعة أيام فإنه يتم، لكن إذا جاء اليوم الثامن وذهب إلى عرفة ومن عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى، فإنه لا يصدق عليه كونه بات بمنى أنه بقي فيها أربعة أيام؛ لأن الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية يرون أن خروجه من منى إلى عرفات قد فارق السفر، والله أعلم.
السؤال الثاني: ما حكم ما لو صلى المغرب والعشاء خارج مزدلفة؟
أرجو أن تكون الإجابة بالقول الراجح بالأدلة، والله أعلم.
المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ عبد الله ! وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر