إسلام ويب

عمدة الفقه - كتاب الحدود [2]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تشترط شروط عند إقامة حد الجلد على الجاني، وهي: أن يجلد بسوط لا جديد ولا خلق، ولا يمد ولا يربط ولا يجرد، ويتقي المقاتل والوجه عند الجلد، ويجلد الرجل قائماً والمرأة جالسة، ومن كان مريضاً مرضاً يرجى برؤه أخر حتى يبرأ، ومن لا يرجى برؤه وخشي عليه السوط جلد بضغث فيه عيدان بقدر ما يجب عليه.

    1.   

    شروط إقامة حد الجلد

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [فصل في كيفية إقامة الحد: ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق، ولا يُمد ولا يُربط ولا يُجرد، ويتقى وجهه ورأسه وفرجه، ويُضرب الرجل قائماً، والمرأة جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها، ومن كان مريضاً يُرجى برؤه أُخر حتى يبرأ؛ لما روي عن علي رضي الله عنه: ( أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت )، فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جُلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة].

    قول المؤلف رحمه الله: (فصل في كيفية إقامة الحد)، هنا بدأ المؤلف بشروط كيفية إقامة الحد الذي هو الجلد، وهي ستة شروط:

    الشرط الأول: أن يكون الجلد بسوط لا جديد ولا خلق

    الشرط الأول: قول المؤلف رحمه الله: (أن يُضرب بسوط) أي: أن يكون الجلد بسوط، وعليه فلا يجوز له أن يضربه بسلك من حديد، والسوط يُطلق على الجلد ويُطلق على العصا، والأقرب هنا أن يكون بالعصا.

    قول المؤلف رحمه الله: (لا جديد ولا خَلق)؛ لأن الجديد يكون رطباً فيكون ألم الضرب على العاصي شديداً، وانظر يا أخي! رأفة الشارع بالعاصي، فالمقصود هو تأديبه بذلك وليس إرادة الانتقام منه، قوله: (لا جديد) بحيث يؤلمه (ولا خلق) أي: يابس سريع الانكسار فلا يتأثر بذلك، والمقصود هو وقوع الألم عليه ليحصل التأديب، هذا الشرط الأول: أن يكون بسوط لا جديد ولا خلق.

    الشرط الثاني: ألا يمد المجلود ولا يربط ولا يجرد

    الشرط الثاني: ألا يُمد ولا يُربط ولا يُجرد، ومعنى (يُمد) أي: يُبطح في الأرض، ولا يُربط بأن يوضع على رجليه مادة تسمى القيود؛ لأن هذا فيه زيادة ما أمر بها الشارع، والثاني: أن فيه نوعاً من إهانته أكثر مما أمر به الشارع، قال ابن مسعود رحمه الله: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد.

    حتى كان الرجل الذي يشرب الخمر يؤتى به في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( فيُضرب بالجريد والنعال والثياب، فمنا من يضربه بالجريد، ومنا من يضربه بالنعل، ومنا من يضربه بالثياب )، وهذا هو المقصود بقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، والمقصود من ذلك: الإهانة والزجر، وهذا يسميه العلماء التشهير؛ لأن فيه نوعاً من شدة العذاب عليه، ولهذا بعضهم يقول: اجلدني ألفاً بمفردي لكن لا تجلدني عشراً عند الناس.

    ولكن قد يُقيد بالسلاسل مخافة الهرب لا من باب زيادة الضرب عليه، والفرق بين الأمرين أن القيود التي توضع عليه ليست من باب زيادة الضرب عليه ولهذا لا يتألم بها؛ لأنها وضعت لأجل عدم الهرب، هذا هو المقصود. والأثر عن ابن مسعود ضعيف، لكن يُفهم منه صفة جلد عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُنقل عن أحد منهم أنه أمد رجلاً أو قيده أو جرده، وعلى هذا لا تُنزع ثيابه، فقد جلد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نزع الثياب، بل يكون عليه الثوب والثوبان، بل قال أحمد: إذا كان عليه ثوب أو ثوبان فتكون من ثياب الصيف لا من ثياب الشتاء، وقال رحمه الله: لو تُركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب، وثياب الشتاء ليست الثوب فقط بل هي الثوب والسراويل والفراء والحشو الذي يكون عند أهل الشام؛ لأن أحمد شامي وهم يكثرون من اللباس، فهذا هو المراد، وأما إذا كان ثوباً واحداً من صوف فإن الخطب فيه يسير، لكن إذا كان قد وضع على جسده شيئاً مما يمنعه من ألمها وجب إزالته؛ لأن المقصود إيلامه تأديباً، فإذا وضع مثل هذه الأشياء فإنه لا يتأثر ويجب إزالتها.

    الشرط الثالث: اتقاء وجه ومقاتل من يقام عليه الحد أثناء جلده

    الشرط الثالث: أن يُتقى الوجه والمقاتل، أي: الذي يقتل، ويشمل الوجه ومكان القتل مثل الرأس، ومثل الصدر أحياناً، ومثل الفرج؛ لأن ضربه فيها يؤدي إلى هلاكه.

    الشرط الرابع: جلد الرجل قائماً والمرأة جالسة

    الشرط الرابع: أن يُضرب الرجل قائماً؛ لقول علي : الرجل يُضرب قائماً، والمرأة تضرب جالسة، وهذا الحديث ضعيف، ولهذا قال مالك : يُضرب الرجل جالساً، وأرى والله أعلم أن هذا الشرط لم يدل عليه دليل صحيح صريح يُصار إليه، وعلى هذا فلو ضُرب جالساً كفاه، وحديث أبي هريرة في الصحيحين قال: ( أُتي برجل شرب الخمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بالجريد) الحديث، فهذا يدل على أنه ربما يسقط ويُضرب وربما يحتمي، والمقصود إنما هو إيقاع الضرب على ظهره وفخذه وإيليته ويديه فهذا كافِ في ضربه، وليس المقصود مكاناً خاصاً، فأهم شيء أنه لا يضرب الوجه ولا الأماكن التي ربما تؤدي إلى الهلاك والوفاة.

    الشرط الخامس: عدم المبالغة في الجلد عند إقامة الحد

    الشرط الخامس: ألا يُبالغ في الضرب، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا أراد أن يضرب فلا يُظهر إبطيه؛ لأنه إذا أظهر إبطيه يكون الضرب شديداً، لكن بعض الفقهاء يقول: تكون الضربات متوالية، ولهذا الذين يضربون قد يسرعون في الضرب، وهذا ليس عليه دليل شرعي، بل أهم شيء أنها لا تكون منفصلة؛ لأن الضربات إذا كانت منفصلة لا يقع بها الألم الذي قصد منه التأديب.

    وأما حد التعزير فقد قال بعض الفقهاء: إنه إذا كان تعزيراً فلا يجوز له أن يصل به إلى أدنى ضرب الحد، وأدنى ضرب الحد أربعين، فلا يجوز إذا كانت تعزيراً أن يضرب مثل الحد لا في الكيفية ولا في العدد، وقال بعضهم: لا يُضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله، وليس المراد منه الحد الذي ذكره الفقهاء هنا؛ لأن الحد هو محارم الله، يعني: لا يسوغ للإمام أو نائبه أن يُعزر أو يؤدب إلا فيما كان ذنباً ومعصية، فلو خالف مثلاً النظام وهذه المخالفة لا تؤدي إلى إفشاء الفساد والإفساد في المجتمع فلا يسوغ أن يُضرب فوق عشرة أسواط، هذا القصد، لكنه لو أخذ أموال الناس أو دفع شيكاً ليس له رصيد بحيث يُضر بالمسلمين فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ).

    الشرط السادس: أن يكون الجلد على قدر تحمل المجلود

    الشرط السادس: أن يكون الجلد على قدر تحمل المجلود، كما ذكر المؤلف هنا في مسألة (إذا كان مريضاً لا يُرجى برؤه)، فيُجمع عليه عيدان بقدر المائة ثم يُضرب بضربة كما قال الله تعالى في قصة أيوب حينما أراد أن يضرب امرأته.

    1.   

    كيفية إقامة حد الجلد على المرأة والمريض

    صفة جلد المرأة

    قول المؤلف رحمه الله: (والمرأة جالسة)، يعني: تُضرب المرأة جالسة، (وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها)، من المعلوم أن المرأة عورة كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي و ابن خزيمة وصححه: ( أن المرأة عورة )، ولهذا يجب الحفاظ على كيانها وعدم كشف سترها، وعليه قال الفقهاء: تُضرب جالسة؛ لأنها إذا ضُربت قائمة فربما كان قيامها مع الضرب سبباً لفتنة بعض الناس، وهذا إذا كانت في محضر الرجال كما في الرجم، أما الآن فالجلد يكون أحياناً في سجن النساء، فلو ضربت قائمة لا حرج في ذلك إن شاء الله خاصة إذا لبست ما يمنع كشف عورتها.

    كيفية إقامة حد الجلد على المريض الذي يرجى برؤه

    قول المؤلف رحمه الله: (ومن كان مريضاً يُرجى برؤه أُخر حتى يبرأ)، الأصل أن الجاني الذي عليه حد من حدود الله يقام عليه على الفور، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين: ( أن معاذ بن جبل حينما ذهب إلى أبي موسى إلى اليمن وكان راكباً على دابته، وجد رجلاً موثوقاً، فقال: ما شأن هذا؟ قيل: رجع إلى دينه دين السوء، يعني: كان يهودياً ثم أسلم ثم رجع إلى اليهودية فقال: والله لا أنزل حتى يقام عليه الحد، يقول أبو موسى لـمعاذ: انزل، فقال: لا والله لا أنزل حتى يقام عليه الحد سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم )، أو كما قال رضي الله عنه فهذا يدل على أن إقامة الحدود يجب أن تكون على الفور متى ما ثبت ذلك، وكان الوقت والزمان مناسبان، إلا أن تأخيره لمصلحة الفاعل أو لمصلحة المجتمع جائز، والتأخير شيء وإبطاله شيء آخر، ومثال التأخير لمصلحة الفاعل ما إذا كان مريضاً يُرجى برؤه فإنه يؤخر لمصلحته، دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب قال: ( يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يُحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجلدها، قال: فذهبت إليها فوجدتها نفساء، وفي رواية أبي داود: فوجدت عليها الدم، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لم أقم عليها الحد قال: أحسنت، ثم قال: اتركها حتى تتماثل )، يعني: حتى تُشفى، فهذا تأخير لمصلحة الفاعل.

    الثاني: تأخير لمصلحة المجتمع، وقد جاء أن حذيفة رضي الله عنه أمر بتأخير الحد على الجاني في دار الحرب، حينما شرب الوليد بن عقبة الخمر، فأراد الصحابة والتابعون أن يقيموا عليه الحد حينما غزوا الروم فقال حذيفة رضي الله عنه: أتقيموا على أميركم الحد، فأمر رضي الله عنه ألا يُقام عليه الحد خشية أن يذهب الوليد بن عقبة إلى الكفار، ولهذا قال أحمد رحمه الله: لا تقام الحدود في دار الحرب، وقد روى الإمام أحمد و أبو داود و النسائي والترمذي بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقطع الأيدي في الغزو )؛ لأن المسلمين يقاتلون الكفار، فربما لو أراد المسلمون أن يقيموا الحد على هذا الرجل هرب إلى دار الكفر، فالتأخير لمصلحة المجتمع ولمصلحة الفاعل جائز، مثل: لو أن دولة رفع فيها تحكيم شرع الله، فبطبيعة الحال الردة هنا ربما إقامة حدها سوف يعود على المسلمين -ولا أقول على الكفار- بالضرر برجوعهم، فللإمام أن يؤخر ذلك، ولا يُبطله فلا يقال: تُبطل الردة، مثل ما يُطرح الآن فإنهم يقولون: تبطل؛ لأنها تُخالف حقوق الإنسان، فنقول: معاذ الله! أن نُبطِل شرعاً من شرع الله سبحانه وتعالى قد ثبت، ولكننا نقول: إنه يؤخر لمصلحة المجتمع حتى يطمئن الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : ( حتى لا يتحدث الناس: أن محمداً يقتل أصحابه )، وهذا تقديره ليس لعامة الناس إنما هو للإمام وأهل الحل والعقد من الأئمة والعلماء.

    إذا ثبت هذا فإنه إن كان مريضاً مرضاً يُرجى برؤه أُخر حتى يُشفى، وهذا المرض ينبغي أن يقال: مرض لا يسري السراية يعني الزيادة، هذا المرض ينبغي أن نقول: أنه يُخشى منه أن يسري إلى هلاك الجسد. أما إذا كان مرضاً لا يسري مثل شخص مزكوم فهذا إن أقيم عليه حد الجلد وهو مريض لكنه لا يؤثر عليه في الجلد فإنه لا بأس أن يقام عليه الحد كما أقام عمر رضي الله عنه الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض؛ لأن مرضه هنا لا يزيد زيادة تؤدي به إلى الهلاك بسبب الضرب.

    كيفية إقامة حد الجلد على المريض الذي لا يرجى برؤه

    فإن لم يرج برؤه يعني كأن يكون مريضاً مرضاً مزمناً، مثل شخص -عافانا الله وإياكم- مريض بمرض نقص المناعة، فهذا يُقام عليه الحد؛ لأن هذا المرض في الغالب لا يُرجى برؤه، فإن كان إقامة الحد عليه لأنه غير محصن بالجلد فإن كان جلد المائة لا يؤدي به إلى الهلاك فإنه يُجلد مائة جلدة، وإن كانت المائة جلدة تعود عليه بالهلاك فإنه يُجمع شمراخ فيه مائة عذق ثم يُضرب به ضربة واحدة، ودليل ذلك: أمر الله سبحانه وتعالى لأيوب حينما حلف أن يضرب زوجته: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وروى أبو داود من حديث أبي أمامة بن سهل عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً اشتد به المرض، حتى أصبح جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية من قومه فوقع عليها، فدخل عليه أصحابه ورجال من قومه فأخبرهم الخبر، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية من قومي دخلت عليّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا من الضر مثل الذي به، يعني: بصاحبهم، لو حملناه إليك )، يعني: لو حملناه إليك لتقيم عليه الحد، ( لو حملناه إليك لتفسخت عظامه )، فانظر قول هؤلاء الرجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: هذه مبالغة، لو كان صحيحاً لما زنى، أيقوى على الزنا ولا يقوى على هذا! لكن الحبيب عليه الصلاة والسلام يأخذ الناس بأقوال العدول، فلما قال الصحابة رضي الله عنهم ذلك جعل هذا دليلاً على الإثبات، ( فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة )، وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم كـالحافظ في التلخيص وابن المنذر، وفي إسناده مقال.

    نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767949459