إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:
قال المؤلف رحمه الله: [فصل في كيفية إقامة الحد: ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق، ولا يُمد ولا يُربط ولا يُجرد، ويتقى وجهه ورأسه وفرجه، ويُضرب الرجل قائماً، والمرأة جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها، ومن كان مريضاً يُرجى برؤه أُخر حتى يبرأ؛ لما روي عن علي رضي الله عنه: ( أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت )، فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جُلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة].
قول المؤلف رحمه الله: (فصل في كيفية إقامة الحد)، هنا بدأ المؤلف بشروط كيفية إقامة الحد الذي هو الجلد، وهي ستة شروط:
قول المؤلف رحمه الله: (لا جديد ولا خَلق)؛ لأن الجديد يكون رطباً فيكون ألم الضرب على العاصي شديداً، وانظر يا أخي! رأفة الشارع بالعاصي، فالمقصود هو تأديبه بذلك وليس إرادة الانتقام منه، قوله: (لا جديد) بحيث يؤلمه (ولا خلق) أي: يابس سريع الانكسار فلا يتأثر بذلك، والمقصود هو وقوع الألم عليه ليحصل التأديب، هذا الشرط الأول: أن يكون بسوط لا جديد ولا خلق.
حتى كان الرجل الذي يشرب الخمر يؤتى به في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( فيُضرب بالجريد والنعال والثياب، فمنا من يضربه بالجريد، ومنا من يضربه بالنعل، ومنا من يضربه بالثياب )، وهذا هو المقصود بقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، والمقصود من ذلك: الإهانة والزجر، وهذا يسميه العلماء التشهير؛ لأن فيه نوعاً من شدة العذاب عليه، ولهذا بعضهم يقول: اجلدني ألفاً بمفردي لكن لا تجلدني عشراً عند الناس.
ولكن قد يُقيد بالسلاسل مخافة الهرب لا من باب زيادة الضرب عليه، والفرق بين الأمرين أن القيود التي توضع عليه ليست من باب زيادة الضرب عليه ولهذا لا يتألم بها؛ لأنها وضعت لأجل عدم الهرب، هذا هو المقصود. والأثر عن ابن مسعود ضعيف، لكن يُفهم منه صفة جلد عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُنقل عن أحد منهم أنه أمد رجلاً أو قيده أو جرده، وعلى هذا لا تُنزع ثيابه، فقد جلد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نزع الثياب، بل يكون عليه الثوب والثوبان، بل قال أحمد: إذا كان عليه ثوب أو ثوبان فتكون من ثياب الصيف لا من ثياب الشتاء، وقال رحمه الله: لو تُركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب، وثياب الشتاء ليست الثوب فقط بل هي الثوب والسراويل والفراء والحشو الذي يكون عند أهل الشام؛ لأن أحمد شامي وهم يكثرون من اللباس، فهذا هو المراد، وأما إذا كان ثوباً واحداً من صوف فإن الخطب فيه يسير، لكن إذا كان قد وضع على جسده شيئاً مما يمنعه من ألمها وجب إزالته؛ لأن المقصود إيلامه تأديباً، فإذا وضع مثل هذه الأشياء فإنه لا يتأثر ويجب إزالتها.
وأما حد التعزير فقد قال بعض الفقهاء: إنه إذا كان تعزيراً فلا يجوز له أن يصل به إلى أدنى ضرب الحد، وأدنى ضرب الحد أربعين، فلا يجوز إذا كانت تعزيراً أن يضرب مثل الحد لا في الكيفية ولا في العدد، وقال بعضهم: لا يُضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله، وليس المراد منه الحد الذي ذكره الفقهاء هنا؛ لأن الحد هو محارم الله، يعني: لا يسوغ للإمام أو نائبه أن يُعزر أو يؤدب إلا فيما كان ذنباً ومعصية، فلو خالف مثلاً النظام وهذه المخالفة لا تؤدي إلى إفشاء الفساد والإفساد في المجتمع فلا يسوغ أن يُضرب فوق عشرة أسواط، هذا القصد، لكنه لو أخذ أموال الناس أو دفع شيكاً ليس له رصيد بحيث يُضر بالمسلمين فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ).
الثاني: تأخير لمصلحة المجتمع، وقد جاء أن حذيفة رضي الله عنه أمر بتأخير الحد على الجاني في دار الحرب، حينما شرب الوليد بن عقبة الخمر، فأراد الصحابة والتابعون أن يقيموا عليه الحد حينما غزوا الروم فقال حذيفة رضي الله عنه: أتقيموا على أميركم الحد، فأمر رضي الله عنه ألا يُقام عليه الحد خشية أن يذهب الوليد بن عقبة إلى الكفار، ولهذا قال أحمد رحمه الله: لا تقام الحدود في دار الحرب، وقد روى الإمام أحمد و أبو داود و النسائي والترمذي بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقطع الأيدي في الغزو )؛ لأن المسلمين يقاتلون الكفار، فربما لو أراد المسلمون أن يقيموا الحد على هذا الرجل هرب إلى دار الكفر، فالتأخير لمصلحة المجتمع ولمصلحة الفاعل جائز، مثل: لو أن دولة رفع فيها تحكيم شرع الله، فبطبيعة الحال الردة هنا ربما إقامة حدها سوف يعود على المسلمين -ولا أقول على الكفار- بالضرر برجوعهم، فللإمام أن يؤخر ذلك، ولا يُبطله فلا يقال: تُبطل الردة، مثل ما يُطرح الآن فإنهم يقولون: تبطل؛ لأنها تُخالف حقوق الإنسان، فنقول: معاذ الله! أن نُبطِل شرعاً من شرع الله سبحانه وتعالى قد ثبت، ولكننا نقول: إنه يؤخر لمصلحة المجتمع حتى يطمئن الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : ( حتى لا يتحدث الناس: أن محمداً يقتل أصحابه )، وهذا تقديره ليس لعامة الناس إنما هو للإمام وأهل الحل والعقد من الأئمة والعلماء.
إذا ثبت هذا فإنه إن كان مريضاً مرضاً يُرجى برؤه أُخر حتى يُشفى، وهذا المرض ينبغي أن يقال: مرض لا يسري السراية يعني الزيادة، هذا المرض ينبغي أن نقول: أنه يُخشى منه أن يسري إلى هلاك الجسد. أما إذا كان مرضاً لا يسري مثل شخص مزكوم فهذا إن أقيم عليه حد الجلد وهو مريض لكنه لا يؤثر عليه في الجلد فإنه لا بأس أن يقام عليه الحد كما أقام عمر رضي الله عنه الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض؛ لأن مرضه هنا لا يزيد زيادة تؤدي به إلى الهلاك بسبب الضرب.
نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر