بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: وإن اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل قُتِل وسقط سائرها، ولو زنى أو سرق مراراً ولم يُحد فحد واحد.
وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها استوفيت كلها ويبدأ بالأخف فالأخف منها، وتدرأ الحدود بالشبهات، فلو زنى بجارية له فيها شرك وإن قل أو لولده أو وطأ في نكاح مختلف فيه أو مكرهاً أو سرق من مال له فيه حق أو لولده، وإن سفل من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه لم يحد ].
بدأ المؤلف رحمه الله بالحديث عن تداخل الحدود، وتداخل الحدود تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: حدود ذات أجناس مختلفة فيها قتل.
القسم الثاني: حدود ذات أجناس مختلفة ليس فيها قتل.
كيفية إقامة الحدود عند اجتماعها مع حد فيه قتل
فقول المؤلف رحمه الله: (إن اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل قُتل وسقط سائرها).
مثال ذلك: لو أن شخصاً سرق ثم زنى ثم قتل، فالآن اجتمعت عليه ثلاث عقوبات: القتل قصاصاً، وجلد مائة لأجل الزنا، وقطع اليد للسرقة، فالمؤلف هنا قال: (قُتل وسقط سائرها)، وهذا القول هو قول ابن مسعود رحمه الله، قالوا: لأن أسباب الحدود إذا كان فيها موجب للقتل سقط ما دونه، كالمحارب إذا أخذ المال وقتل فإنه يُقتل ولا تقطع يده، وقالوا: إن مما يدل على أن أسباب الحدود إذا كان فيها موجب للقتل تداخلت أن المحارب وهو صاحب الحرابة إذا أخذ المال وهتك العرض وقتل فإنه يُقتل ولا يقال: تقطع يده ويُجلد مائة جلدة.
قالوا: وأما قوله سبحانه وتعالى:
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ
[المائدة:33]، فهذا ليس لأجل القتل، ولا لأجل السرقة، بدليل قطع الرجل ولكنه من باب التعزير، هذا قول.
وهناك تفصيلات ذكرها ابن عباس رحمه الله، وفي كتب التفسير غُنية عن تفصيل هذا، لكنهم قالوا: قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ليس لأجل السرقة؛ لأن الرجل ما شأنها وشأن السرقة؟!
وقال بعضهم: تُستوفى ثم يُقتل، واستدلوا بما رواه عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم )، والرجم قتل، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد مائة والرجم، ولكننا نقول: إن هذا الحديث كان في أول الإسلام، وقد رجم ماعزاً ورجم الغامدية وكان ذلك في آخر الإسلام، ولم يُنقل أنه عليه الصلاة والسلام جلدهما ولو كان ثمة جلد لنُقل، كيف لا وقد نُقلت في أحداث هاتين القصتين ما يدل على حضور الصحابة لهما واهتمامهم بهما، وهذا الأقرب والله أعلم.
حكم من زنى وسرق مراراً ولم يحد
قول المؤلف رحمه الله: (ولو زنى مراراً أو سرق مراراً ولم يُحد فحد واحد).
يعني: لو أنه زنى بنساء كُثر ولم يقم عليه الحد فلا يقام عليه الحد بعدد زناه فلا يقال: كم امرأة زنيت بها؟ فإن قال: عشراً قيل: يُجلد ألف جلدة، لا، أو يقال: كم زنيت بهذه المرأة؟ فإن قال: ثلاثاً، قيل: يُجلد ثلاثة حدود، لا، بل لو زنى مراراً بنساء أو بامرأة فإن المؤلف يقول: (فحد واحد)، ومثله: لو سرق مراراً فحد واحد أيضاً؛ لأن المقصود من العقوبة تأديبه وإثبات الردع لغيره، ويكون ذلك بحضور طائفة من المؤمنين، كما قال تعالى:
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[النور:2].
لكن لو أن هذا القاتل قتل شخصين، فإذا بأحد أولياء القتيلين طالب بالدية والآخر طالب بالقصاص وجب عليه الأمران فيُعطي الأول ديته ويقتل بالآخر؛ لأن هذا حق لآدمي.
لكن لو قتل وزنى وهو محصن فيقول فيها العلماء: إن الرجم يحصل به القتل وزيادة، وهو ثابت عليه فيُرجم، لأن القتل فيه إزهاق الروح، والرجم فيه إزهاق الروح. والرجم ثابت بالشرع، ولم يُخالف في الرجم إلا الخوارج وأهل الاعتزال فإنهم أنكروا ذلك، أما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعدهم فكلهم يثبتون ذلك، ولهذا قال عمر: (ألا وإن الرجم ثابت بكتاب الله على من زنى أو كان الحبل أو الاعتراف).
ودليل ذلك قصة الغامدية قالت: ( يا رسول الله! إني لحُبلى من الزنا، قال: إما لا فاذهبي حتى تضعي )، ونقل الصحابة لنا قصتها كأننا نراها رأي العين، وأقام عليها الرجم ولم يقم عليها الجلد الوارد في هذه الرواية: ( الثيب بالثيب جلد مائة والرجم )، وكان هذا الحديث في أول الإسلام، ففعله عليه الصلاة والسلام والاستمرار عليه وفعل الصحابة كـعمر يدل على أن هذا اللفظ منسوخ.
إذاً: حقوق العباد مبنية على المشاحة، وحقوق الله مبنية على المسامحة، قال العلماء: دليل ذلك فعل الوطء في نهار رمضان، فلو وطئ في نهار رمضان في الفجر والظهر والعصر يعني: ثلاث مرات في يوم واحد ففيه كفارة واحدة، ولكنه يأثم في كل واحدة، وقد يأثم بنيته الجازمة ولو لم يفعل، يقول ابن تيمية : الإرادة الجازمة وتخلفها لسبب خارجي مثل الذي فعل، فلو أن شخصاً ذهب يسرق ودخل إلى بيوت الناس ولم يجد مالاً ثبت عليه إثم السرقة.
كيفية إقامة الحدود عند اجتماعها ولا قتل فيها
قول المؤلف رحمه الله: (وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها) -هذا القسم الثاني- (استوفيت كلها)، ولكنه قال: ( فيبدأ بالأخف فالأخف منها)، مثاله: فلو شرب المُسكر وثبت عليه شربه، وزنى وهو غير محصن، وسرق فهنا ثبتت عليه ثلاث عقوبات: الزنا فيه مائة جلدة، والسرقة فيها القطع، والشرب فيه الجلد، وأخفها عقوبة الشُرب ثم عقوبة الزنا مائة جلدة ثم عقوبة السرقة القطع.
قول المؤلف رحمه الله: (وتُدرأ الحدود بالشبهات)، الشبهات هنا: هي كل أمارة أو قرينة تمنع وقوع الحد فيها، وهذه الأمارة له فيها حق، مثال ذلك: لو سرق من مال والده فلا تقطع يده؛ لأن له فيه حقاً.
الزنا بجارية له فيها شرك
قول المؤلف رحمه الله: (فلو زنى بجارية له فيها شرك) مثاله: لو أن شخصين ذهبا إلى سوق النخاسين فاشتريا جارية لتخدمهم فلا يجوز لكل واحد منهما أن يطأها، ولو وطأها أحدهم فإنه لا يُقام عليه الحد؛ لأن له فيها شركاً، والشبهة أمارة، والأمارة هنا هي الشراكة.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن قل) فليس المقصود به الربع أو النصف أو ثلاثة أرباع، يقول المؤلف: ( أو ولده )، فلو أن شخصاً عنده جارية فجاء والده فزنى بهذه الجارية فلا يُقام عليه الحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أنت ومالك لأبيك )، ولكنه يأثم؛ لأنه لا يجوز للوالد أن ينظر إلى فرج قد رآه الولد، ولا يجوز لولد أن ينظر إلى فرج قد رآه والده.
الوطء في نكاح مختلف فيه
قول المؤلف رحمه الله: (أو وطئ في نكاح مختلف فيه )، النكاح المختلف فيه مثل: شخص تزوج امرأة من غير ولي في السفر مثلاً، فإذا قلت له: لماذا؟ قال: لا أدري لكن في المسألة خلاف، فهو هنا آثم ووجود الخلاف -وهو قول
أبي حنيفة- منعه من إقامة الحد، وإن كان
أحمد رحمه الله يقول: إذا حكم حاكم بمذهب
أبي حنيفة فإنه يُفسخ ولا يقال: الاجتهاد لا يُنقض بمثله لمصادمته النص ومثل ذلك: لو أن شخصاً وطئ أخت زوجته ظاناً أنها زوجته فإنه لا يُقام عليه الحد لوجود شبهة كما قال المؤلف.
الوطء مكرهاً
السرقة من مال غريمه الذي يعجز عن تخليص حقه منه
قول المؤلف رحمه الله: (أو من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه لم يُحد)، هذه المسألة تُسمى عند الفقهاء مسألة الظفر، وتسمى أيضاً باستيفاء الحق بغير دعوى، وقد اختلف الفقهاء فيها فقال بعضهم: يجوز للإنسان أن يأخذ حقه من غريمه إذا عجز عن إثباته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
هند بنت عتبة : (
خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )، وقال بعضهم: لا يجوز، إلا أن يكون بإذن الإمام، وإلا خربت الديار، والمسألة محتملة وهناك بحث مطبوع في مسألة استيفاء الحق بغير دعوى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن أتى حداً خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج، لكن لا يبايع ولا يشارى، وإن فعل ذلك في الحرم استوفي منه فيه، وإن أتى حداً في الغزو لم يستوف منه حتى يخرج من دار الحرب ].
كيفية إقامة الحد على من ارتكب حداً خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم
حكم من ارتكب حداً في الحرم
استيفاء الحد في حق من ارتكبه وهو في الغزو
قول المؤلف رحمه الله: (وإن أتى حداً في الغزو لم يستوف منه حتى يخرج من دار الحرب)؛ لما روى
بسر بن أرطأة رضي الله عنه: (
أنه أُتي برجل في الغزاة قد سرق بُختية )، وهي التي يسميها الناس الإبل الخُرسانية، (
فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعت يده )، وهذا الحديث رواه الإمام
أحمد و
أبو داود و
النسائي و
الترمذي، وقال
الترمذي: حسن، وهذا الحديث قابل للتحسين، وهو إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، وقد ورى
سعيد بن منصور: أن
عمر بن الخطاب كتب لا تجلدن أمير الجيش ولا رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً، يعني: حتى يرجع معكم فتقيمونه عليه، ثم قال هذه الكلمة العظيمة -وإن كان الحديث في سنده ضعف-: لئلا تحمله حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وهذا فقه عظيم ومقصد من مقاصد التشريع العظيمة، فقهها صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وأخذوها بالسليقة ونحن بحاجة إلى إعادة مثل هذا، ولا ينبغي لنا أن نُعيد صياغة مقاصد التشريع لإبطال الأحكام؛ لأن الطرح الجديد الآن في إعادة قراءة أصول الفقه، وفي إعادة فهم مقاصد التشريع إنما هو لترويض أخطاء المجتمع وتصحيحها على ضوء أعراف الغرب بحجة مقاصد التشريع والمصلحة والأعراف وغير ذلك!! ومن أعظم مقصد التشريع كما يقول الإمام
الشاطبي: هو امتثال المأمور، والذين يتحدثون عن مقاصد الشريعة ليضفوا عليها هالة من براعة البيان ليبطلوا بها حكماً شرعياً، نقول لهم: رويدكم، فإن أعظم مقصد من مقاصد التشريع: هو امتثال المأمور، فإذا رأيت شخصاً يحتج على إبطال شرع بحجة مقاصد التشريع فنقول قال تعالى:
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا 
[التوبة:49] وهذا يخفى على كثير من طلاب العلم؛ لأنهم أحياناً حينما يتحدثون عن مقاصد التشريع يتحدثون عن المصالح، وعن واقع الحال، وعموم البلوى، والحاجة، ورفع الحرج، وينسون أعظم هذه الأشياء وهي امتثال المأمور في الحكم نفسه.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.