إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ باب حد الزنا.
الزاني من أتى الفاحشة في قُبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فُعل به فحده الرجم إن كان مُحصناً أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصناً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم ), والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي قد وطئ زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح, ولا يثبت الزنا إلا بأحد أمرين: إقرار به أربع مرات مصرحاً بذكر حقيقته، أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا, ويجيئون في مجلس واحد، ويتفقون على الشهادة بزناً واحد ].
والقول الثاني في المسألة ذكره ابن القيم في الجواب الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي، قال: إن الصحابة أجمعوا على قتل من عمل عمل قوم لوط، ولكنهم اختلفوا في طريقة قتله، فبعضهم قال: يُرجم، وبعضهم قال: يُقتل، وبعضهم قال: يُسقط من أعلى قمة في البلد، وغير ذلك، واستدلوا على ذلك بما رواه عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )، وهذا الحديث ضعيف كما أشار إلى ذلك الإمام البخاري في التاريخ الكبير، وقال: إن عمرو بن أبي عمرو وإن كان صدوقاً إلا أن روايته عن عكرمة فيها ضعف، والمسألة ليس فيها حديث صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الفاعل والمفعول به، ولكن بعضهم قاسها على قوم لوط، ولا شك أن فعل اللواط أعظم من الزنا؛ لأن الزنا بين رجل وامرأة، أما عمل قوم لوط -عافنا والله وإياكم- فالفطرة فيه مُنتكسة، حتى قال عبد الملك بن مروان : والله لولا أن الله ذكر عمل قول لوط لما عقلت -يعني: لما صدقت- أن الرجل يأتي الرجل، هذه هي الفطرة، والمسألة محتملة لكن المؤلف هنا قال: يُعامل معاملة الزاني، وإن كان ثمة ترجيح فيقال والعلم عند ربي جل وعلا: إن عقوبة اللواط عقوبة تعزيرية، لكن إن كان مُحصناً فإنه يُقتل.
ومعنى عقوبة تعزيرية أي: أنها ليست حداً، لكنه إن كان محصناً فإنه يُقتل، ولا ينبغي أن يتساهل فيها، فإن عُوقب غير المحصن بعقوبة الزاني غير المحصن أو أشد من ذلك فلا بأس، وللإمام أن يقتله ولو كان غير محصن؛ لأن التعزير يجوز فيه القتل إذا فشا هذا المنكر، لكن إذا رأى ولي الأمر والقاضي أنه يُقتل تعزيراً فلا بأس.
فإذا كان من عمل اللواط غير محصن فإننا نقول: لا ينبغي أن يقل عن عقوبة الزنا، ولو زادت العقوبة إلى القتل لرؤية السلطان جاز ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن شرب الخمر فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه )، وفي الرابعة أو الخامسة قال: ( فاقتلوه )، والحديث في هذا الباب ضعيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول ابن قدامة: إنه يُعامل معاملة الزنا محل نظر، ولكن نقول: هي عقوبة تعزيرية؛ لأن من الصحابة من قال: إنه يُضرب في كذا، ولو كان حداً لكان لا يجوز لأحد أن يجتهد فيه.
ولهذا كانت عقوبة قوم لوط لما فسدوا كلهم أشد من القتل، وإذا فشا هذا الأمر بلا شك تكون العقوبة أشد من الزنا، لكن نحن نتكلم عن الواحد والاثنين، على كل حال المسألة -كما قلت- محل بحث، فـابن قدامة قال: عقوبتهم عقوبة الزنا ويُعامل معاملة الزاني، و ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ذكر قولاً آخراً واستدل بحديث عمرو بن أبي عمرو وحديث عمرو بن أبي عمرو ضعفه البخاري كما في التاريخ الكبير وكذا الإمام أحمد وغيرهم.
ولذلك فإن اللوطي قد أجمع أهل العلم على قتله واختلفوا في الكيفية، هذا كلام ابن القيم في الجواب الكافي، والمسألة ليس فيها إجماع بل فيها خلاف؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله لو كان عنده إجماع حاشا أحمد أن يُخالف في ذلك، قال: عقوبته الرجم، وهذا روي عن علي بن أبي طالب و ابن عباس و جابر بن زيد ، وبعضهم يقول: يُقتل بالسيف والعلم عند الله، لكن قُبح هذه الفعلة وشناعتها جعلتهم يقدرون عقوبتها أغلظ عقوبة حتى قال بعض الصحابة أو بعض التابعين: يُبحث عن أعلى قمة في البلد ثم يُقذف فيها حتى يموت ثم يُعاد عليه بالحجارة كما فعل بقوم لوط، وعقوبة قوم لوط: أنهم أُخذت قراهم ثم جعل عاليها سافلها.
قول المؤلف: ( أو من فُعل به فحده الرجم إن كان محصناً )، الزاني إن كان محصناً فإنه يُرجم وإن كان غير محصن فإنه يُجلد مائة جلدة، ويُغرب عام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) في حديث عبادة .
والرواية الثانية: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، جلد مائة في الثيب قلنا: إنها منسوخة.
أولاً: الحرية في قول أكثر العلماء، فالعبد والأمة لا يجب عليهما الرجم؛ لأن الله يقول: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، قالوا: والرجم لا يتنصف.
الثاني والثالث: البلوغ والعقل، وقد سبق دليل ذلك.
الرابع: أن يوجد الكمال فيهما جميعاً حال الوطء، فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة، لأنه إذا كان أحدهما ناقصاً لم يكمل الوطء، ولا يحصل به الإحصان، وهذا الشرط يُخالف فيه بعض العلماء، فأحياناً قد يتزوج الرجل مجنونة ويطأها وتلد منه فإن قيل: لا يسمى محصناً فهذا بعيد والعلم عند ربي، والأقرب والله أعلم أن يُقال: أن يكون الوطء في القُبل، هذه الشروط الصحيحة، والثاني: أن يكون في نكاح ويكون النكاح صحيحاً، هذه ثلاثة، والرابع: أن يكون حراً، والخامس فيه خلاف: والأقرب والله أعلم أن يُقال: أن يوطأ مثلها، فإذا تزوج صغيرة لا يوطأ مثلها فليس بمحصن، أو وطئها ولو كانت مجنونة فإن الأقرب أنه يصير محصناً وهي كذلك.
لعلنا نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر