إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [باب قتال أهل البغي: وهم الخارجون على الإمام يريدون إزالته عن منصبه، فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم بأسهل ما يندفعون به، فإن آل إلى قتالهم أو تلف مالهم فلا شيء على الدافع، وإن قتل الدافع كان شهيداً. ولا يتبع لهم مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية، ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه. ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال. وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم ولا على الدافع إليهم، ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره].
قول المؤلف رحمه الله: (باب قتال أهل البغي)، سموا بغاة؛ لأنهم جاروا ومالوا عن الحق، وظلموا وعدلوا عن الحق، والحق هنا هو الحق الأولي وإن كان معهم حق، ولكن حق السابق أولى من حقهم.
وهذا يفيدك على أن البغاة يجوز إطلاقها على العلماء الذين خرجوا، فـسعيد بن جبير و الشعبي وثلاثون ألفاً أكثرهم من الفقهاء في فتنة ابن الأشعث حينما خرجوا على الحجاج وفازوا بالمعركة الأولى ثم علا صيتهم وارتفع شأنهم وكثر الخطباء في البصرة ومن حولها في نصرة الإمام ابن الأشعث كما يسمونه في خطبهم، ثم دارت معركة بينهم وبين الحجاج مرة ثانية ففازوا عليه، ثم طلب الحجاج من عبد الملك بن مروان أن يمده بجيش في المعركة الثالثة فاستطاع الحجاج أن يستولي عليهم، وقتل منهم صبراً يعني: بالسيف، وهو يأخذ الواحد منهم ويقتله حتى قتل مائة ألف رجل أكثرهم من الفقهاء والمحدثين، انظر الفتن إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها حتى الدهماء، وأصبحت فتنة عظيمة، فسموا بغاة؛ لأنهم خرجوا عن حق إمام سابق عليهم وهو عبد الملك بن مروان .
وهل عبد الله بن الزبير يُعد من البغاة؟ ذكر ابن كثير رحمه الله أن عبد الله بن الزبير إنما بايعه أهل مكة قبل مبايعة الناس واستتباب الحكم لـيزيد بن معاوية فلا يعد خارجياً، يعني: خارجاً على السلطان.
والحسين بن علي رضي الله عنه هل يُعد خارجياً أم لا؟ الأقرب والله أعلم أن الحسين لا يعد خارجاً؛ لأن المدينة التي بايع أهلها الحسين لم يكن الحكم لـيزيد فيها، وكان أمير الجيش عبيد الله بن زياد ، وهذا ذكره ابن الوزير في العواصم والقواصم، وأشار إليه ابن تيمية وكذا ابن كثير في البداية والنهاية.
والخوارج غير الخارج، فالخارج عن السلطان لا يلزم أن يكون من الخوارج، فالخوارج هم الذين خرجوا على المسلمين فهتكوا الأعراض بناء على أنهم سبايا كما فعل علي بن أبي طالب عندما آووا وجلسوا في حروراء، قال علي بن أبي طالب : لكم ما بقيتم إلا أن تقطعوا السبيل وتأخذوا المال، فأحسوا أنهم على هدى، فقتلوا بعض أمراء علي بن أبي طالب ثم غزاهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هذا القسم الأول كما أشار إلى ذلك ابن تيمية في المجلد السابع.
والذين يحكمون بغير ما أنزل الله من الولايات فيأمرهم السلطان في ولايته بأن يرجعوا فيأبون، فإن قاتلهم فإنه علم ما في قلوبهم -كما أشار إلى ذلك شيخنا عبد العزيز بن باز في ذلك- من هذا الأمر، إذ أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يُعد كفراً إلا إذا استحل هذا الأمر أو رأى أن تحكيم القوانين خير من تحكيم شرع الله أو رأى أن تحكيم القوانين مثل حكم الله أو أن يُبدل الشرع المطهر، ومعنى التبديل هنا: أن يكون الحكم كله ليس فيه إسلام، أما إذا كان شرع الله ظاهراً في الحدود والقصاص والأحوال الشخصية والقضايا المدنية إلا أن فيها جزءاً من بعض القضايا فهذا لا يُعد تبديلاً لشرع الله المطهر؛ لأن شرع الله ظاهر، وتكون معصية، وهذا هو ظاهر كلام ابن تيمية رحمه الله لمن جمع كلامه جميعاً، فرحمه الله قال: ومن أحل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المطهر فهو كافر باتفاق الفقهاء، ومعنى بدل الشرع المطهر يعني: أن الحكم ليس لله ولا لكتابه، هذا هو مراد ابن تيمية رحمه الله.
وعليه فلو كانت مسألة أو قضية أو جزئية ليست شرعية ولو كانت تحت نظام، لكن النظام العام هو نظام شرعي فإنها تُعد كبيرة وليست مخرجة من الملة، والدليل على هذا: أنه كان في بني أمية نظام المكوس التي كانوا يأخذونها من الناس حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطل المظالم، ورد الحقوق إلى أهلها، فلما مات عمر جاء الخليفة من بعده فأعاد ما كان أسقطه عمر بن عبد العزيز ، وهذا بلا شك ظلم ومع ذلك لم يُكفر أئمة الإسلام بني أمية ولا العباسيين.
وإمامة يزيد بن معاوية إمامة للمسلمين عامة وليس إمام للكوفة وغيرها، كما أشار إلى ذلك الجويني والشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله.
وللعلماء تخريج آخر على هذه المسألة فقال: إن الحسين إنما احتمى ولم يقاتل، وفرق بين الاحتماء وبين المقاتلة.
على كل حال قلنا: إن الذين يخرجون على ثلاثة أقسام وهم: المرتدون والخوارج والبغاة.
وعليه فالخارجون عن الإمام هم الذين خرجوا على سلطانه بعد أن بايعه الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )؛ لأن مبايعة الأول في سلطانه كافية فلا يجوز مبايعة الثاني.
قول المؤلف رحمه الله: (يريدون إزالته عن منصبه)، فالذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه يريدون إزالته من منصبه وخلعه، ولكن هل يخرج الخليفة عن منصبه؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يا
قول المؤلف رحمه الله: (وإن قُتل الدافع)، يعني: الذي يدفع أهل البغي (كان شهيداً)؛ لأنه قتيل في حرب أُمر بها، وأُثيب عليها فكان شهيداً؛ فيعامل معاملة الشهيد.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا تُسبى لهم ذرية)؛ لأنهم مسلمون، ولهذا حتى الخوارج حينما قيل لـعلي بن أبي طالب : هل هم كفار؟ قال علي : من الكفر فروا، قالوا: منافقين، قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً وهم يذكرون الله، قال: فمن هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، فهم جمعوا بين الخروج على دين المسلمين والخروج على إمام المسلمين.
يقول الإمام الزهري رحمه الله: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أنه لا يُقاد أحدٌ ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه، وهذا عمدة هذا الباب.
ومعنى (لا يقاد أحد) أي: لا يؤخذ بالقود ولا يقاد أحد بقتل، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن، يعني: متأولين، البغاة أخذوه متأولين، وكذا الذين نصروا هذا الإمام فإنهم يقول المؤلف: (إلا ما وجد بعينه)، فلو أنه وجد مع البغاة سيارات، والرخص والاستمارة لفلان وفلان وفلان فإنها ترجع إليهم، إذا كانوا قد أخذوها متأولين فيها، وأما ما أتلفوه إن كانوا بغاة بتأويل سائغ فلا يضمنونه، وأما أهل العدل فلا يلزمهم ذلك أيضاً، وهم الذين مع الإمام؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم فعله فلا يلزمهم شيء؛ لأنه ما ترتب على المأذون فليس فيه الضمان.
أما لو اقتتلت طائفتان لعصبية أو لنعرة قومية أو لطلب رئاسة دنيوية أو لأجل إظهار نعرة قبلية فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، قال ابن تيمية رحمه الله: فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يُعلم عين المتلف، يعني: طائفة سين وطائفة جيم تقاتلوا لأجل عصبية فجاء واحد من طائفة سين فقتل أحد أفراد طائفة جيم فإن مجموع طائفة سين يدفعون الدية عمن قتلوا من طائفة جيم، أو أحرقوا مالاً أو غير ذلك فإنهم يضمنون المجموعة كلها.
قول المؤلف رحمه الله: (وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم)، معنى كلامه رحمه الله: أن أهل البغاة أحياناً يكون لهم منعة وشوكة في جهة شمالية شرقية أو غربية جنوبية من البلد، وهذه الجهة يكونون هم من يأخذون من أهل هذه البلد الزكاة الظاهرة كالأغنام وكالزروع لرئيس هذه الطائفة الباغية، فيأخذون هذه الأشياء منهم، فيقول: (وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة) يعني: امتنعوا في حرورية مثل الخوارج، أو امتنعوا في جهة شمالية أو شرقية أو جنوبية أو غربية امتنعوا وجلسوا أحياناً سنين يتفاوضون مع الإمام، مثل ما يسمونهم في المصطلح المعاصر متمردون، لكن هؤلاء المتمردين إن كانوا مسلمين والإمام مسلماً وصار فيه اختلاف في اجتهاد تأويل، وإما إن كانوا كفاراً أو من غير تأويل كما قلنا: يريدون حكم الديمقراطية أو القبلية أو غير ذلك، فهؤلاء لا يعول عليهم فهم قطاع طريق، أما البغاة وهم الذين امتنعوا بتأويل فإن أخذوا الزكاة من أهل هذا البلد فلا يؤمرون بعد انتهاء واستتباب الأمر أن يطالبوا بالزكاة التي أخذوها، أو الجزية وهي ما يؤخذ من أهل الذمة من يهود أو نصارى ساكنون في هذه المحِلة وكانت الطائفة الممتنعة تأخذ منهم الجزية فلا يؤخذ منهم بعد ذلك، أو خراج مثل لو كانت الطائفة الممتنعة في سواد العراق الذي يؤخذ منها الخراج فلا يؤخذ منهم الجزية.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا على الدافع عليهم)، يعني: ما يقال للبغاة: أعطونا المال الذي أخذتموه، ولا يقال للأفراد الذين كانوا يدفعون الزكاة للبغاة: أخرجوا الزكاة مرة ثانية، يقول: (ولا على الدافع إليهم).
قول المؤلف رحمه الله: (ولا يُنقض من حكم حاكمهم)، أحياناً الطائفة الممتنعة تكون لها محاكم، ويكون لها قضاة، ويحكمون مثل فتنة ابن الأشعث ، فهذا القاضي إذا قضى فإنه لا يُنقض حكمه إذا كان موافقاً للشرع، أو كان اجتهاده مقبولاً في الشرع، ولهذا قال: (ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما يُنقض من حكم غيره)، يعني: الإمام عنده قضاة، هذا القاضي إذا حكم بمسألة اجتهادية لا ينقص اجتهاده باجتهاد مثله، لكن لو أنه حكم أن المرأة تتزوج من غير ولي فهذا العقد باطل ويُرد عليه، كذلك قضاة البغاة إذا قضوا في مسألة مخالفة للشرع فإنه لا يعول على هذا القضاء، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يجوز قضاء قضاة أهل البغاة، قال: لأنهم فاسقون ببغيهم، والفسق ينافي القضاء، وذهب الجمهور إلى أن قضاءهم صحيح؛ لأنهم متأولون، فكما أنه لا ضمان على متلف أحد المالين؛ لأنهم متأولون فكذلك يقبل قضاء قضاتهم؛ لأنهم متأولون.
لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر