اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نزل أو نزل، أو أن نظلم أو نظلم، أو أن نجهل أو يجهل علينا، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [فصل في الهدنة].
وقول المؤلف رحمه الله: (بمدة) يقصد بذلك أنه لا يجوز أن يكون بين المسلمين والكفار عهد مطلقاً من غير تحديد مدة؛ بل قالوا: لا يجوز أكثر من عشر سنين كما هي رواية عند الحنابلة، ورأى أبو العباس بن تيمية و ابن القيم وشيخنا عبد العزيز بن باز أنه يجوز العهد معهم والاتفاق من غير تحديد مدة مطلقاً، لكن إذا رأى المسلمون قوة فإنهم ينبذون عهدهم إلى سواء، ومعنى (ينبذون عهدهم إلى سواء) أي يقول إمام المسلمين: ليس بيننا وبينكم هدنة، وهذا مناطه المصلحة للمسلمين.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه].
لأن الإمام هو الذي يتولى الولاية العامة، وأخذها من غيره افتيات في حق الرعية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا
يعني أن الحربي أو المعاهد إذا دخل بلاد المسلمين فإنه يجب على إمام المسلمين أن يحميه من المسلمين, لكن لا يلزم أن يحميهم من الكفار.
لو أن بلداً مسلماً اسمه جيم وبلداً كافراً اسمه دال حربي، فاتفقت الدولة المسلمة جيم مع الدولة الكافرة دال، فيجب على إمام جيم إذا دخل الكفار من دال إلى بلاده أن يحميهم، لكن لو أن دولة كافرة اسمها طاء أرادت أن تحارب الدولة الكافرة وهي دال لا يلزم إمام للمسلمين أن يحميهم، أما إذا دخلوا بلاده فإنه يجب عليه أن يحميهم، هذا هو العهد الذي بينه وبينهم، هكذا قال المؤلف رحمه الله؛ لأنه أمنّهم ممن هم في قبضته وتحت يده، ولهذا فمن أتلف من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئاً أو قتل منهم أحداً فعليه ضمانه.
وهذا كما مر معنا والدليل وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58].
يعني لو جاء كفار طاء وأخذوا من دال الدولة الكافرة وسبوهم لم يجز لنا شراؤهم؛ لأنه ليس بيننا وبينهم اتفاق في هذا.
الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام أنواع:
ودليل وجوب الهجرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، ومعنى (ظالمي أنفسهم) أنهم لم يظهروا دين الله، ولم يقيموا شعائره.
القول الأول: تحريم ذلك إلا لمصلحة وحاجة كالتطبب والتجارة كما صنع أبو بكر ، وما عدا ذلك فلا يجوز؛ لما جاء عند أبي داود من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين لا تراءا ناراهما )، يعني لا تلتقي ناره بنار الكافر، وهذا الحديث الصواب أنه مرسل، وهو حديث ضعيف.
القول الثاني: هذا القول هو الأقرب والله أعلم في هذه المسألة أن أقل أحوال الإقامة بين ظهراني المشركين الكراهة، وهذا غير الذهاب مرة أو مرتين أو للتعليم؛ لأن هؤلاء لا يدخلون؛ لأن هؤلاء يجوز لهم البقاء إذا كان لمصلحة، أو دعوة أو تجارة، أما أن يبقى المسلم هناك مع إمكانية رجوعه إلى بلده، فإني أقول: أقل ما يقال فيه الكراهة وإلا فهو التحريم أقرب، خاصةً في هذا الزمان الذي لا يسلم فيه المسلم من رؤية المنكر والافتتان في الدين، بخلاف السابق فقد كانت المرأة تتجلى بشيء من الحياء والستر، أما اليوم فهناك الافتضاح وخرم المروءة، ولا يسلم المسلم من أن يبقى على غير دين.
وعليه فنقول: إن كان يظهر دينه فإن كان قادراً على الرجوع إلى بلده من غير أذية على دينه ولا على نفسه ولا على ولده فإنه يجب عليه أن يرجع، إلا إذا كان يقضي حاجة أو تجارةً ثم يرجع.
قال المؤلف: [ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار إلا من بلد بعد فتحه].
يعني الهجرة باقية إلى يوم القيامة، لكن البلد الكافر إذا أسلم أهله لا تلزم الهجرة منه؛ لأن أهله صاروا مسلمين.
وهذا هو قول جمهور العلماء: أن الجزية لا تكون إلا في حق أهل الكتاب، فلا تؤخذ من الوثنيين؛ لأنهم إما أن يسلموا وإما القتال هذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن الجزية تؤخذ حتى من أهل الوثن، ودليل ذلك في حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن أبوا فأوجب عليهم الجزية )، فلم يفرق بين مجوس وأهل كتاب وغيرهم، ( وإذا لقيت قوماً من المشركين ) هذا الدليل، وقد رجحه ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، وأشار إليه وقواه شيخنا عبد العزيز بن باز ، وهذا الأظهر والله أعلم.
وأما قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، بعد قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، فهذا ذكر ببعض أفراد العام.
قال المؤلف رحمه الله: [وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة].
يعني أن المجوس يجوز أن تؤخذ منهم إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة كما روى البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف ( أن
وقولنا: (اليهودي والنصراني) ليس المقصود باليهودي والنصراني الراهب الذي يصلي مثل المسلم خمس صلوات في اليوم, اليهودي هو الذي ينتسب إلى موسى وإلى كتابه حتى لو كان بالتعصب، والنصراني: هو الذي يدين بالنصرانية، بأن يقول: المسيح ابن الله أو يقول: المسيح ثالث ثلاثة، أو يقول: إن المسيح مصلوب، ويؤمن بالإنجيل وهذا كافر؛ وهذا هو الأقرب، والله أعلم.
أشار إلى ذلك ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح؛ لأننا لا نعني باليهودي والنصراني أو أهل الكتاب الذين عندهم الكتاب ويتعصبون له, فإننا نعلم أن غالب الدول الغربية إنما تدين بالنصرانية بأمور منها: إذا جاء وقت الزواج، والإدانة بالإنجيل والصليب، ولو سألت أحدهم: هل ذهبت مرة إلى الكنيسة فربما لم يذهب إلى الكنيسة إلا في الزواج، وأحياناً بلا زواج وهو ما يسمى بـ (girl friend) زواج السفاح والزنا، عافانا الله وإياكم.
قال المؤلف رحمه الله: [ومتى طلبوا ذلك].
يعني متى ما قال اليهود والمجوس والنصارى -أو غيرهم على القول الراجح- لا نريد أن نسلم ولكن ندفع الجزية فطلبوا ذلك لزم إجابتهم، ولا يجوز للمسلمين رفض ذلك, وهذا هو معنى قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، يخطئ كثير ممن يقول: معنى (لا إكراه في الدين) أنه: لا بأس أن يسلم الواحد أو يكفر أو يرتد أو غيره ليس هذا المراد, إنما المراد (لا إكراه في الدين) أننا لا نكره اليهودي ولا النصراني على دخول الإسلام، فإذا لم يريدوا الإسلام فدعهم وشأنهم هذا معنى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256].
قال المؤلف رحمه الله: [وتؤخذ الجزية في رأس كل حول]، أي: تؤخذ الجزية كل سنة.
قال المؤلف رحمه الله: [من الموسر]، فلا تؤخذ من الفقير، ولا من الأعمى، ولا من المرأة، ولا من الصبي لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل (خذ من كل حالم ديناراً), حالم يعني: محتلم وهو الذكر.
وقول المؤلف: الموسر ثمانية وأربعون وأربعة وعشرون واثنا عشر, الأقرب والله أعلم أن هذا اجتهاد بدليل أن عمر فعله، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : (خذ من كل حالم ديناراً) مما يدل على أن المسألة مسألة اجتهاد، والله أعلم، وهذا هو الأقرب.
وعلى هذا فالإمام مخير على حسب الحال، فأحياناً مسألة الصرف تختلف العملة في بلاد المسلمين عن العملة في بلاد الكفر، فلا بد أن يختلف هذا الأمر، وعليه فنقول: الأقرب أن هذا بناءً على اجتهاد الإمام، والله أعلم.
وقد روى سعيد بن منصور في سننه أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي، وهذا دليل على أن من جرى عليه المواسي -يعني: نبتت عانته- من أهل البلوغ وأهل القوة، فيجب عليه أن يخرج، ولهذا نقول: اشتغل واعمل.
فلو أن شخصاً ذمياً أسلم سقطت عنه، ومن طريف ما يذكر هنا أن ذمياً أسلم فطولب بالجزية فقال: إني أسلمت، فقال المسلمون: ادفع الجزية إنما أسلمت تعوذاً -يعني: أنت ما أسلمت إلا خوفاً من دفع الجزية- فقال الذمي: إن في الإسلام معاذاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) قال الرجل: إن في الإسلام معاذاً، فقال عمر : نعم إن في الإسلام معاذاً, وكتب: لا تؤخذ منه الجزية كما رواه أبو عبيد في كتاب الأموال، وأما إن مات, أخذت من تركته لأنها باقية في ذمته.
قال المؤلف رحمه الله: [ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر].
يعني أن التاجر من تجارهم إن خرج من بلده ثم دخل بتجارة عظيمة فإنه يعطي نصف العشر كما صحت الرواية عن عمر بن الخطاب في ذلك، وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر كاملاً، كذا قال عمر وفعله رضي الله عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( اقتدوا باللذين من بعدي ).
الأول: أن يهرب إلى دار الحرب.
الثاني: أن يحارب المسلمين ويساعد على حربهم.
الثالث: ألا يلتزم بدفع الجزية.
الرابع: ألا يلتزم بأحكام الملة الظاهرة.
فهذه كلها توجب حل دمه وماله.
وعدم الالتزام بأحكام الملة الظاهرة. مثل أن يفطر في نهار رمضان ولا يبالي، ويقول: أنا لا ألتزم وغير ذلك، أو يهين المصحف، وغير ذلك.
فلو أن شخصاً من أهل الذمة قاتل المسلمين فهذا حل دمه وعرضه وماله، ولكن نساؤه وأولاده يبقون على العهد ما لم يخرجوا معه إلى دار الحرب، فحينئذٍ يكونون مثله، ولهذا قال: [إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب].
هذا هو آخر باب الجزية.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه، والعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر