الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المشاهدون الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم إلى هذا الدرس ضمن دروس الأكاديمية، وهو في شرح كتاب النكاح من عمدة الفقه لـابن قدامة المقدسي رحمه الله.
نستضيف من خلال هذا الدرس المبارك صاحب الفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي ، وكيل المعهد العالي للقضاء لشئون الدورات والتدريب بالمملكة العربية السعودية.
فباسمكم جميعاً نرحب بضيفنا الشيخ عبد الله ، فأهلاً ومرحباً بكم يا شيخ!
الشيخ: حياكم الله، وبالإخوة المستمعين والمستمعات والحاضرين!
المقدم: ترحيبنا موصول بكم، ونسعد كثيراً بتواصلكم معنا من خلال اتصالاتكم الهاتفية على أرقام الهواتف التي تظهر أمامكم على الشاشة، وكذلك من خلال تواصلكم المبارك عبر البريد الإلكتروني للأكاديمية بإرسالكم أسئلتكم عن الدرس، وأيضاً إجابتكم عن أسئلة الشيخ التي يطرحها في نهاية كل درس، فأهلاً بكم وبالإخوة الحضور معنا في هذا الدرس المبارك.
شيخ عبد الله! كما هي عادة البرنامج أن نستعرض إجابات الإخوة والأخوات التي أرسلت عن إجابة سؤال الدرس الماضي.
الشيخ: تفضل!
المقدم: كان الدرس الماضي يقول: اذكر شروط نفقة الزوج على زوجته؟ وما حكمها مع الدليل؟
الإجابات الواردة في هذه الحلقة كثيرة ومتنوعة، وهناك أسماء جديدة تشارك معنا في هذا الدرس، من هذه المشاركات: الأخت: كنزة من المغرب، تقول في إجابتها: هذه إجابتي عن سؤال الحلقة الماضية، الجواب: نفقة الزوج على زوجته يشترط لها شرطان:
الشرط الأول: أن تمكن المرأة من نفسها لزوجها، أو يكون مثلها يستمتع بها، فإن كانت صغيرة لا يستمتع بمثلها فلا تجب عليه نفقة، فلو تزوج الرجل البنت الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، فإن الزوج لا يلزمه نفقة؛ لأن النفقة مشروطة بإمكانية استمتاع الزوج بزوجته.
الشرط الثاني: أن تكون مطاوعة غير ممتنعة، فأحياناً تمكنه من نفسها، وتأتي إلى بيتها، لكنها تكون ناشزاً، فالناشز غير المطاوعة لا يجب لها نفقة.
أما عن حكمها؟ فتقول: نفقة الزوج على زوجته إذا توفر فيها الشروط فهي واجبة، دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم والنظر.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
أما من السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف )، كما في صحيح مسلم من حديث جابر.
أما الدليل الآخر وهو الإجماع، فقد أجمع أهل العلم على وجوب نفقة الزوج على زوجته إذا أمكن الاستمتاع بها، وكانت مطاوعة غير ناشز، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ: بارك الله فيها، هذه الإجابة شافية وافية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياها الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياها رضاه، والعمل بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتقوى.
المقدم: آمين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
الشيخ: فيا حبذا لو ذكرت المشاركين!
المقدم: أحسن الله إليكم، من مشاركي هذه الحلقة: الأخت: فداء جبابو من لبنان أيضاً بعثت بإجابة، غادة من الولايات المتحدة، أم فجر من السعودية، وأيضاً إجابة من الأخت: أم أيوب من المغرب، وسماء من مصر.
هذه أيضاً إجابات واردة من الأخت: عزيزة باخلعة من السعودية، نبيل إبراهيم السيد حجازي من السعودية.
أيضاً الأخت: فوزية من الكويت، أم ياسر من السعودية، نورة من السعودية، جميلة من العراق، طلحة من السعودية، خلود من السعودية، مريم من السعودية أيضاً، عبد الرحيم المغراوي من المغرب.
نعم، هذه هي أبرز الإجابات الواردة.
الشيخ: ما شاء الله، جزاهم الله خيراً.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
المقدم: اللهم صل وسلم عليه.
الشيخ: تحدثنا وكما أجابت الأخت في شروط نفقة الزوج على زوجته، وذكرنا من ضمن الشروط: (أن يكون مثلها يستمتع بها، فإن كانت صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها أو لم تُسَّلم إليه)، يعني قالت: سوف أبقى في بيت أبي لحين انتهاء الدراسة، أو لحين بداية العطلة، فلا يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، قال الفقهاء في تعليل هذا الحكم: لأن النفقة تجب لتمكين الزوج من الاستمتاع، وإذا لم يوجد التمكين فلا، كما في البائع إذا امتنع من تسليم السلعة، فلا يجب أن يعطى الثمن، وهذا الحكم واضح ولا إشكال فيه، الإشكال هو قوله: (أو سافرت بغير إذنه).
القسم الأول: أن تسافر بلا إذنه، فهنا تسقط نفقتها؛ لأن امتناع الاستمتاع كان بسببها، فتسقط النفقة، وهذا واضح.
القسم الثاني: إن سافرت المرأة بإذن الزوج، فهنا اختلف الفقهاء:
فالقول الأول: هو ما مشى عليه المؤلف، قال: (أو بإذنه في حاجتها)، فإذا سافرت لحاجتها، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه، فإن الزوجة يسقط حقها، هذا القول الأول وهو المذهب.
القول الثاني: قالوا: إن سافرت بإذنه، فإن نفقتها تجب؛ لأن هذا حق للزوج سقط بإذنه، والقاعدة: ما ترتب على المأذون فليس فيه شيء.
فسفر المرأة بإذن الزوج يترتب عليه امتناع الاستمتاع، وكان ذلك بإذن الزوج، وقد أذن لها فيه، فلا يسقط حق الزوجة؛ لأن هذا بإذن الزوج، وهذا القول هو الراجح، والله أعلم.
أما لو سافرت بإذن الزوج ولحاجته، مثلما لو قال الزوج: اذهبي مع أمي واخدميها، فسافرت، فقالت: أريد نفقة، فإنها تجب عليه النفقة؛ لأنها سافرت بإذن الزوج، مثل ما لو قال المشتري للبائع: أبق السلعة عندك لحين آخذها بعد زمن، فإن الثمن حينئذٍ يجب على المشتري.
هنا نكون قد انتهينا من هذا الفصل، وندلف إلى الفصل الجديد وهو: (فصل حق الزوجة في المبيت، وحكم الإيلاء)، فلتتفضل يا أبا عمار بقراءة ذلك!
الشيخ: تفضل.
المقدم: الأخت: أم فجر من السعودية، تقول: إذا قلنا إن الصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها لا يجب على زوجها أن ينفق عليها، تقول: إذاً من ينفق عليها؟ وجزاكم الله خيراً.
الشيخ: ينفق عليها أبوها، أو من تجب عليه النفقة عليها لو لم تكن متزوجة.
هب أنها لم تتزوج، فمن ينفق عليها؟ ينفق عليها الذي يجب عليه أن ينفق، فإن لم يوجد لها أحد، فيجوز أن تأخذ من الزكاة، لكن الزوج إلى الآن لم يجب عليه أن ينفق عليها، لو أعطاها كرماً وبذلاً من عند نفسه فلا حرج، لكنه لا يجب عليه.
المقدم: ولو كانت عنده في البيت؟
الشيخ: لو كانت في البيت يستمتع بها وجبت عليه النفقة.
الشيخ: نعم، المرأة إذا كانت مريضة، فهل يجب على الزوج أولاً أن ينفق عليها لطلب علاجها أم لا؟
قولان عند أهل العلم:
فذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا يجب عليه، قالوا: لأنه إنما عقد عليها لحبسها بين يديه واستمتاعه، وإذا كانت مريضة فلا يجب عليه ذلك؛ لأنه خارج عن مقتضى العقد.
والقول الآخر: إن المرأة إذا كانت مريضة فيجب على الزوج أن ينفق عليها بالمعروف، قالوا: لأن الله يقول: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فكما أوجبنا على المرأة أن تخدم زوجها بالمعروف، فكذا يجب على الزوج أن يعالج امرأته بالمعروف.
وعليه: فلو طلب الزوج من المرأة، أو طلبت المرأة أن تبقى في بيت أمها أو أبيها كي تمرض تمريضاً سليماً صحيحاً؛ لأنها لا تستطيع التحرك، فأذن الزوج بذلك، فهذا يكون في حكم سفر المرأة بإذن الزوج، فيجب على الزوج النفقة.
إذا توفرت الشروط ولم ينفق الزوج عليها، فما الحكم؟
الشيخ: إذا توفرت الشروط ولم ينفق الزوج عليها رفعت أمرها إلى الحاكم، والحاكم يأمره بذلك أو يفسخ كما مر معنا في قوله: (وإن لم تقدر على الأخذ لعسرته أو منعها، فاختارت فراقه، فرق الحاكم بينهما، سواءً كان الزوج كبيراً أو صغيراً ).
حق الزوجة في المبيت وحكم الإيلاء:
ولها عليه المبيت عندها ليلة من كل أربع إن كانت حرة، ومن كل ثمان إن كانت أمة، إذا لم يكن له عذر، وإصابتها مرة في كل أربعة أشهر إذا لم يكن له عذر.
فإن آلى منها أكثر من أربعة أشهر فتربصت أربعة أشهر ثم رافعته إلى الحاكم، فأنكر الإيلاء، أو مضى الأربعة، أو ادعى أنه أصابها وكانت ثيباً، فالقول قوله مع يمينه.
وإن أقر بذلك أمر بالفيئة وهي الجماع، فإن فاء فإن الله غفور رحيم، وإن لم يفئ أمر بالطلاق، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه، ثم إن راجعها أو تركها حتى بانت ثم تزوجها وقد بقي أكثر من مدة الإيلاء، وقف لها كما وصفت.
ومن عجز عن الفيئة عند طلبها فليقل: متى قدرت جامعتها، ويؤخر حتى يقدر عليها ].
المرأة لها حق في المبيت؛ لقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فثبت للمرأة حق.
وإن من أعظم حقوق الزوجة على زوجها هو المبيت عندها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإن لزوجك عليك حقاً )، فدل ذلك على أن للمرأة حقاً، وأن من أعظم حقوق المرأة أيضاً: المبيت عندها.
دليل ذلك أن الزوج لا يجوز له أن يتزوج أكثر من أربع نساء، ويجب عليه أن يعدل بينهن، وإذا عدل بينهن فسوف يكون لها ليلة من أربع ليال، كما جاء عند عبد الرزاق : أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: (إن زوجي رجل لا يفتر عن العبادة، فقال: بارك الله لك في أهلك وولدك وزوجك، فأعادت قالت: إن زوجي لا يفتر من العبادة، فقال: بارك الله لك في أهلك وزوجك، فأعادت، فقال كعب بن سوار: يا أمير المؤمنين! إنما جاءت شاكية، قال: فاقض بينهما، قال: فإني أرى أنه كأن لها أربع ضرائر، فتبقى لها ليلة من أربع، ثلاث يشتغل بهن بالعبادة، وليلة يكون عندها، قال عمر: والله ما أعجب بالثانية عجبي من الأولى، أو ما عجبي من الأولى بعجبي من الثانية يعني: أنك علمت ما تريد، ثم حكمت اذهب فقد وليتك قضاء البصرة).
وهذا الحديث إسناده لا بأس به.
ومنه أخذ الجمهور أن للمرأة حقاً في أن يبيت عندها ليلة من أربع ليال، وهذا يسمى: قسم الابتداء، بأن يكون له مثلاً واحدة يبتدئ معها ليلة، هذا هو مذهب الجمهور.
وذهب بعض الفقهاء وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله: إلى أنه لا يتقدر المبيت عندها بما لو كان لها ضرة، قال أبو العباس : ويتوجه أن لا يتقدر قسم الابتداء الواجب، قال: كما لا يتقدر الوطء، بل يكون بحسب الحاجة، فإنه قد يقال: جواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون لها حال الانفراد ما لها حال الاجتماع.
فـابن تيمية يقدر ويقرر أنه إذا كانت زوجة واحدة، فإنه لا يتقدر المبيت كما لا يتقدر الوطء، ويكون ذلك بحسب الحاجة.
ثانياً: قال: فإنه قد يقال: جواز التزوج بأربع لا يقتضي أن يبقى عندها ليلة من أربع ليال؛ لأنه حكم الانفراد لا يعطى حكم الاجتماع، وهذا كأنه رد على رأي كعب بن سوار ، وهذا القول فيه قوة لأمور:
أولاً: لأنه لم يظلم المرأة، ولم يقارن بينها وبين أحد، إنما تفردت به، فله أن يأتيها شريطة أن لا تتضرر؛ كالوطء، فإنها لو كانت لا تعف إلا بعدد، فإنه يجب على الزوج أن يعفها، كذلك لا يلزم أن تكون واحدة من أربع، فلو كانت لا يعف مثلها إلا ليلة، لوجب عليه ذلك، وهذا القول كما قلت: اختيار ابن تيمية ، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
المقدم: حبذ أن تلخص لنا كلام الشيخ ابن تيمية !
الشيخ: ابن تيمية يقول: المرأة حال الانفراد ليست مثل المرأة حال اجتماعها مع ضرائر، والدليل: أنه لا يتقدر المبيت كما لا يتقدر الوطء، وذلك إنما يكون بحسب الحاجة، فإذا كانت الحاجة تقتضي أكثر من ليلة من أربع وجب عليه ذلك، وإن كانت تقتضي أكثر وجب عليه أكثر.
يقول: أما لو كانت معها ضرة، فإنه يجب عليه أن يعدل بينهما كما جاء في الشرع: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، وهذا القول فيه قوة كما قلت ذلك.
المقدم: شيخ عبد الله ! أحسن الله إليكم، في مسألة المبيت، يعني: بعض الناس قد يكون له عمل في الفترة المسائية، ويداوم على هذا العمل؟
الشيخ: هذا سوف يأتي إن شاء الله في مسألة القسم إذا كان له زوجتان.
المقدم: لو كانت له زوجة واحدة؟
الشيخ: لو كانت زوجة يأتيها متى شاء في الصباح أو المساء.
المقدم: يعني المقصود بالمبيت هو؟
الشيخ: المبيت أن يبقى معها ليلة، إذا كان عمله نهاراً كالحارس كما قال الفقهاء، قالوا: لا حارس وجندي، يعني: إذا كان جندياً يحرس في الليل، فإنه يبيت عندها في النهار لا في الليل، وكذلك إذا كان له زوجتان أو أكثر.
قالوا: لأنه لو قسم كل سبع لكانت الأمة أكثر من الحرائر؛ لأن الإماء على النصف من الحرائر؛ فالحرة ليلتان والأمة ليلة، وهذا هو قول ابن قدامة رحمه الله.
وقال بعضهم: أما إذا كانت له أمة تقسم لها ليلة من سبع ليال، وهذه مسألة من فضول العلم، ولم يحصل عندنا مثل هذا، ولكن لو ثبت أو لو وجد فقول ابن قدامة قوي، فالليلة الرابعة تقسم على أنها ليلتان، والأمة على النصف من الحرة.
وقلنا: الراجح أنه لا يقدر بسنة، بل بناءً على الحاجة كما مر معنا أن الطب اليوم يمكن أن يعرف ذلك.
فالفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا لم يستطع أن يطأ أو أن يبيت معها؛ فإذا كان لغير عذر وجب أن يقسم، فإن كان معذوراً كالحارس والمسافر لطلب رزق أو المحبوس أو لغزو واجب، فإنه يسقط الواجب الذي ثبت في ذمته، والله أعلم.
المقدم: عفواً يا شيخ! العذر ما تقديره؟
الشيخ: إذا كان عذره ليس دائما كالمجبوب الذي قطعت آلته، أو الذي فيه عنَّة لا يستطيع مثله أن يستمتع بالنساء، فهذا تطالب المرأة بحقها فيقضي القاضي بها بناءً على الاجتهاد الذي مر معنا في درس سابق.
إلا أن بعض الفقهاء قال: إذا كان له عذر في عدم البيتوتة أو الوطء غير العنة، جاز لها أن تطالب بالفسخ أو أن يرجع.
قالوا: إذا كان له عذر في عدم المبيت معها، كأن يسافر من غير حاجتها، بل لحاجته هو، كأن يريد الزيادة في الرزق، أو حبس وطال الأمد عليها، فهل لها الحق في طلب الفسخ؟
فقال بعض الفقهاء خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة: إن لها ذلك، وهذا هو رأي بعض الفقهاء، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، قال: ويتوجه أن يكون لها الفسخ كتعذر النفقة، بلى أولى، أي أن المرأة إذا لم ينفق الزوج عليها، فلها حق أن تطالب بالفسخ، فكذلك إذا لم يستطع أن يبيت معها ولم يعفها، فلها ذلك ولو كان لعذر.
وهذا القول أظهر والله أعلم؛ لأنه إذا جاز لها الفسخ لعدم النفقة، فإن المبيت معها ربما يكون تركه في نظرها أعظم ضرراً، والعلم عند الله.
وعلى هذا إذا امتنع الزوج عن المبيت مع زوجته ليلة من أربع ليال، فإن الراجح أن لها المطالبة بالفسخ إذا كان لحاجة نفسه، أما إذا كان لعذر عندها، مثل أن تكون حائضاً، فهذا لا حرج ولا يجب عليه، وهذا بالإجماع، بمعنى: لا يجب عليه أن يطأ بالإجماع.
والإيلاء: من آلى يولي، بمعنى: حلف يحلف.
والإيلاء هو: حلف زوج مكلف ولو ذمياً بالله سبحانه وتعالى أو بصفة من صفاته على ترك وطء زوجه -أي: زوجته- في القبل أربعة أشهر أو أكثر من أربعة أشهر.
هذا هو تعريف الحنابلة وتعريف الشافعية والمالكية، وكذا الحنفية في بعض أقوالهم.
فقالوا: لابد أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته بأن يقول: والله لا أطؤك، أو: بعزة الله وقدرته أن لا أطأك، فهذا حلف بالله أو بصفة من صفاته.
أما لو قال: عليَّ الطلاق أن لا أقربك ستة أشهر، أو: لله عليَّ نذر إذا قربتك في أقل من ستة أشهر فعليَّ كذا، فهل يكون في حكم الإيلاء أم لا؟
قولان عند أهل العلم، والراجح والله تبارك وتعالى أعلم: أن الإيلاء هو امتناع زوج مكلف ولو ذمياً من وطء زوجه في القبل أكثر من أربعة أشهر على سبيل التأكيد، فيدخل في ذلك الحلف بالطلاق وكذا النذر وكذا اليمين، وكذا أن يقول لها: لا أطؤك حتى تسقطي النفقة، فامتنع، فإنه يكون في حكم الإيلاء.
هذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم؛ لأن الإيلاء في عرف الشارع وفي عرف لسان سلف هذه الأمة هو: كل ما عزم عليه المرء وحث عليه نفسه أو غيره، فإنه يكون في حكم اليمين، كالحلف بالطلاق والنذر ونحو ذلك.
واختيار الحاكم بين الطلاق أو الفسخ على حسب ما يراه من المصلحة التي يقتضيها النظر في هذه القضية.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: (كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء)، وهذا رواه البيهقي بسند صحيح، واليمين يقصدون به الحلف، أو ما بمعناه كالحلف بالطلاق أو النذر ونحو ذلك.
يقول المؤلف رحمه الله: (فتربصت أربعة أشهر ثم رافعته إلى الحاكم فأنكر الإيلاء، أو مضى الأربعة أشهر أو ادعى أنه أصابها وكانت ثيباً، فالقول قوله مع يمينه).
نقول: إذا رفعت المرأة أمرها إلى الحاكم فللقضية أحوال:
وكذا لو ادعى الوطء وكانت ثيباً، فهذا لا يعلم إلا من جهته، فالقول قوله مع يمينه.
وكذا لو ادعى عدم مضي الأربعة أشهر، فالقول قوله مع يمينه، قالوا: لأن الأصل معه، فإن ادعى عدم مضي الأربعة الأشهر، فمعناه أنه أقر بأنه حلف أن لا يقربها أكثر من أربعة أشهر، ولكنه قال: لم تمض هذه الأربعة أشهر، فالقول قوله، لأن الأصل معه، ما هو الأصل؟
الجواب: الأصل هو بقاء النكاح؛ لأنها لو كان القول قولها لوجب عليه أن يطلق أو أن يفيء.
والفيئة في قوله تعالى: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، قال أهل العلم: الفيئة هي الجماع، وحكي الإجماع على ذلك، وعلى هذا فالفيئة هنا الجماع، فلو قبل أو وطئ دون الفرج، فإن لا يعد رجوعاً ولا فيئاً، فيجب عليه أن يطأ؛ لأن غرض المرأة إنما هو بالفيئة التي عناها الفقهاء.
يقول المؤلف: (فإن فاء فإن الله غفور رحيم)، يعني: ترجع إليه زوجته، وليس الأمر إلا على الخير والبركة.
فإن الله غفور رحيم، يعني: عفي عن خطئه ورحم الله ذلك: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، وهذا المراد.
ولهذا ترى -يا رعاك الله- في قول الله تعالى: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، معنى: (عزموا الطلاق)، أي: نفذوا الطلاق، وقدم المولى سبحانه الفيئة على الطلاق، (فإن فاءوا)، (وإن عزموا الطلاق).
وختم الفيئة باسمين من أسمائه دالين على المغفرة والرحمة، إشارة إلى أن الفيئة أحب إلى الله من الطلاق، ورغبة في أن تعود الأسرة كما كانت، وأن يعفو بعضنا عن بعض؛ لقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، فمن اتصف بهذه الصفة كان جديراً بأن يعفو عما مضى وسلف.
وانظر إلى عزم الطلاق حيث قال الله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227]، ذكر اسمين لله سبحانه فيهما نوع من التهديد والإحاطة والاطلاع، يعني: إن قصد إضرار المرأة وقصد عضلها، فإن الله سميع وعليم، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79].
وعلى هذا فإذا أقر بذلك أمره الحاكم أن يطلق بعد مضي أربعة أشهر، فإن طلق وإلا طلق عليه الحاكم، وهذا هو قول جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة أنهم قالوا: إن مضي المدة ليس بطلاق، بل مضي المدة فيه إقرار على بقاء الزوجية، وهو قول الله تعالى: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، دليل على أن الطلاق لم يقع.
وذهب بعض الحنفية إلى أن مضي أربعة أشهر هو بحد ذاته طلاق.
والراجح هو قول الجمهور.
قولان عند أهل العلم:
القول الأول: قالوا: إنه طلاق رجعي، وهذا هو مذهب الجمهور واختيار ابن تيمية ، قالوا: لأنها طلقة بغير عوض، فأشبه غير المولي، فالطلقة التي بغير عوض هي طلاق رجعي؛ ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227]، والطلاق هنا هو الطلاق الشرعي الذي فيه رجعة، ومن المعلوم أن الطلاق ثلاثاً بدعي، وهذا القول قوي.
والقول الثاني قالوا: إنه إذا طلق عليه الحاكم أو طلقها فإنها طلقة بائن؛ قالوا: لأن هذا الطلاق إنما هو لرفع الضرر عن المرأة، فأشبهت فرقة العُنّة، فالعنين إذا فسخ الحاكم تكون في حكم البينونة، فكذلك الطلاق هنا يكون في حكم البينونة.
والأقرب -والله أعلم- التفصيل، فإن فسخ الحاكم كان حكمها حكم الفسخ، وجاز لها أن تتزوج من حين مضي العدة وتملك أمرها، وإن طلق الحاكم كان حكمها حكم الطلاق الرجعي، يجوز له أن يراجعها بعد ذلك، وتحسب طلقة واحدة، وهذا القول قوي كما ترى.
فهذا يدل على أن الحاكم يطلق إذا امتنع الزوج عن التطليق، واستدلوا على ذلك فقالوا: لأن كل من امتنع عن أداء الحق الذي عليه قام الحاكم مقامه، ولهذا صور، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له )، فدل على أن الحاكم يقوم مقام من امتنع عن أداء الحق أو لم يوجد.
الثاني: أن المفلس والمدين إذا امتنع عن أداء الحق الذي عليه باع الحاكم ماله، فيكون بيع الحاكم في حكم بيع المدين نفسه؛ لأنه قام مقامه، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
وهناك قول قالوا: إن لم يطلق حبس حتى يطلق، وهذا القول ضعيف؛ لأنه لا يرفع الضرر عن المرأة، والقاعدة الفقهية تقول: (إن الضرر يزال بقدر الإمكان)، وإذا حبس وقع ضرر عليه بعناده، وضرر على الزوجة، ولم يرفع ضرر المرأة.
المقدم: شيخ عبد الله عفواً! اختيار الحاكم للفسخ أو التطليق، هل له ضابط أو لا؟
الشيخ: الحاكم ينظر: فإن كان ثمة قرائن عند الحاكم أن هذا الرجل إنما أراد عضلها والإضرار بها، وأنه لو طلقها وقلنا إن الطلاق رجعي، فعل بها مثلما فعل في السابق، جاز للحاكم أن يفسخ، أو يكون مثله لا يصلح أن يطأ وهي شابة صغيرة وهو رجل كبير، ولا يعفها هذا الزوج، جاز للحاكم إذا نظر المصلحة أن يفسخ، والقاعدة الفقهية تقول: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)، والحاكم في حكم الراعي بين الخصمين.
الشيخ: لو قال الزوج: والله لا أقربك خمسة أشهر، ثم راجعها بعد أربعة أشهر بأمر الحاكم، فهل يكفر كفارة يمين؟ نعم نقول: يكفر كفارة يمين.
والمشكلة يا إخوان! أن بعض الناس يحلف، وإذا قلت له: راجع، قال: لا، أنا حلفت، ونقول كما قال صلى الله عليه وسلم: ( والله لأن يلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي أمر الله ).
نقول: الدليل ما جاء في الصحيحين من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( آلى ألا يقرب نساءه شهراً )، فهذا دليل على أنه يجوز الإيلاء أقل من أربعة أشهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آلى، ( فلما مضت تسع وعشرون يوماً دخل على
الحال الثانية: طلقها ولم يراجعها حتى أمضت ثلاثة قروء، ثم جاز لها أن تتزوج زوجاً غيره، فعقد عليها بمهر جديد وتزوجها، ما الحكم بين الحالتين؟
(ثم تزوجها وقد بقي أكثر من مدة الإيلاء، وقف لها كما وصف)، بمعنى: أنه إذا صنع بها مثلما صنع أولاً، فُعل به مثلما فُعل أولاً، فالمرأة ترفع أمرها عند الحاكم وتطالبه بالفيئة والرجوع والوطء، فإن فاء فإن الله غفور رحيم، وإن عزم الطلاق فإن الله سميع عليم.
هذه الأخت: آسية عبر البريد الإلكتروني تسأل تقول:
هل الخدمة المنزلية من طبخ وغسيل وما إلى ذلك للزوج، هل هي من واجباته على زوجته؟ وجزاكم الله خيراً.
الشيخ: ذكرنا هذا وقلنا: إن خدمة الزوجة لزوجها اختلف الفقهاء فيها على قولين:
فذهب بعض الفقهاء إلى أن خدمة الزوجة زوجها لا تجب، وأنها من باب الإحسان والسنية، واستدلوا على ذلك بأنه ليس ثمة دليل يوجب ذلك، والعشرة بالمعروف هو الإحسان إليها، وأن تحسن إليه فيما عقد لأجله، وهو الاستمتاع والمبيت، وأما ما زاد على ذلك فليس واجباً على المرأة، هذا هو القول الأول.
والقول الثاني: وهو اختيار أبي العباس بن تيمية: بأنه يجب على المرأة أن تخدم بعلها بالإحسان والمعروف؛ لأن هذا من العشرة، وقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وهذا أمر بالعشرة بالمعروف، وهذا من العشرة.
الثاني: أن الشارع جعل للمرأة مسئولية في بيت زوجها فقال: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها )، فدل ذلك على أن هذه المسئولية هي الخدمة والحفاظ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تأذن المرأة في بيت بعلها إلا بإذنه )، فدل ذلك على أن هذا نوع من الخدمة والحفاظ على مال الزوج، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
لو فرض أن المرأة طلب الزوج منها أن تخدمه، فقالت: أنا أرى عدم وجوب الخدمة، وأنا أختار هذا القول، ومسائل الاجتهاد يعذر فيها بعضنا بعضاً؟
نقول: هنا لا؛ لأن الزوج تجب طاعته، فإن كان الزوج يرى أن الخدمة مستحبة فلا يجوز له أن يلزمها بما يرى أنه مستحب وإحسان، وإن كان يرى وجوب ذلك فإنه يجب عليها؛ لأنه في حكم الحاكم يرفع الخلاف، ولو قيل بمثل هذا لكان في ذلك ضرر كبير على المرأة.
الشيخ: لو قلنا: إذا عدد الرجل، وذهب إلى قول جمهور الفقهاء أنه لا يجب العدل فيما زاد على الواجب من النفقة والكسوة، فيعطي هذه ساعة بمائتي ريال، وهذه ساعة بألفي ريال، ويعطي هذه لباساً وكسوة بأربعمائة ريال، ويعطي هذه كسوة بأربعة آلاف ريال.
وجمهور الفقهاء قالوا كما سوف يأتي معنا: إنه لا يجب العدل والتسوية بين الأزواج في النفقة والكسوة إذا فعل قدر الواجب بينهن، ومن المعلوم أن الخمسمائة ريال تؤدي الواجب، فهل المرأة ترضى بهذا؟ ويقول الزوج: أنا آخذ بهذا القول؟
نقول: الأقرب والله أعلم، أن يتقي كل واحد من الزوجين في عشرته مع أهله، وأن يكون طلبه هو رضاها، وطلبها هو رضاه، وإن من أعظم الإحسان الإحسان إلى كل واحد من الزوجين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من خيركم أحسنكم أخلاقاً، وخيركم وخيركم لأهله )، كما روى ذلك أهل السنن وغيرهم.
أحبتنا الكرام! إلى هنا نصل إلى ختام هذا الدرس المبارك، لعلك في الختام يا شيخ تطرح للإخوة المستمعين سؤال هذه الحلقة، بارك الله فيكم.
الشيخ: سؤال الحلقة: إذا طلق المولي بعد إيلائه، فهل طلاقه يكون طلاقاً رجعياً أم بائناً؟ اذكر دليل كل قول مع ذكر الراجح؟ والله أعلم.
المقدم: نعم أحبتنا الكرام! إذاً: هذا هو سؤال هذه الحلقة، ونسعد كثيراً بتواصلكم من خلال إجاباتكم التي تبعثون بها عبر البريد الإلكتروني الخاص بموقع الأكاديمية، ونشكركم كذلك على طيب تواصلكم معنا من خلال حلقات البرنامج الماضية من خلال إجاباتكم وتفاعلكم أيضاً بطرح الأسئلة والمشاركات الهاتفية.
حقيقة في ختام هذا الدرس المبارك لا يسعنا إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل -بعد شكر الله عز وجل- لصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي ، وكيل المعهد العالي للقضاء لشئون الدورات والتدريب بالمملكة العربية السعودية.
والشكر موصول لكم أنتم على طيب متابعتكم لنا، حتى يجمعنا لقاء قادم بكم بمشيئة الله تعالى: نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر