فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسعد الله ممساكم، وحيهلا في هذا الدرس العلمي الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، وأن يذكرنا الله فيمن عنده.
أحبتي في الله! بداية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ لأنه من حق الحاضر أن يسلم عليه قبل الغائب.
أيها الإخوة في الله! كنا قد تحدثنا في باب السواك وسنن الوضوء، وشرعنا في باب فروض الوضوء، لكن لم يسعفنا الوقت، فأحببنا أن نذكرها هنا بالتفصيل، وقبل البدء في هذا الأمر نذكر أننا قد ذكرنا بعض سنن الوضوء، فذكرنا من سنن الوضوء: السواك. والثاني: التسمية، وقلنا: إن الراجح -والله أعلم- أن التسمية سنة وليست بواجبة، وأن الحديث الوارد في هذا ضعيف ولا يصح في الباب حديث، وذكرنا غيرها من السنن.
وسنذكرها هنا بعض المسائل المتعلقة بالوضوء، التي استحبها بعض أهل العلم وبعض أهل العلم لم يستحبها، لعلنا نبدأ درسنا هذا بذلك.
يعني: لو أن إنساناً أراد أن يغسل يديه، فما حكم الزيادة على ذلك؟
الجواب: استحب الحنابلة وكذلك بعض الفقهاء أن يزيد الإنسان على مجاوزة الفرض، واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح مسلم : ( أن
والقول الثاني: قالوا: لا يستحب الزيادة إلا زيادةً يعلم بها غسل الفرض من العضو كاملاً، أي: لا يستحب إلا زيادة يتيقن بها غسل كامل العضو، مثل: أن يغسل المرفقين فيزيد حتى يتيقن أنه غسل كامل المرفقين، قالوا: هذا هو الأصل؛ وذلك لأن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في وضوئه، ولا زاد على جميع الأعضاء، فإن الذين ذكروا غسل يديه إلى المرفقين لم يذكروا أنه أطال حتى أشرع في العضد، والذين ذكروا صفة غسل رجليه لم يذكروا أنه أطال حتى أشرع في الساق، بل لم يذكروا إلا مع المرفقين في اليدين، ومع الكعبين في الرجلين، فدل ذلك على أنه لا يستحب.
واستدلوا على ذلك أيضاً بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هذا الوضوء، فمن زاد أو نقص فقد أساء وتعدى وظلم )، وهذا الحديث الصحيح أنه حديث ضعيف، ضعيف بزيادة (أو نقص)، وكذلك هو بنفسه ضعيف حتى لو لم تذكر زيادة (نقص)، وقد أشار الإمام مسلم رحمه الله في كتاب التمييز أن الحديث ضعيف، وكذلك ضعفه أبو داود وغير واحد من أهل العلم، والراجح والله أعلم أنه لو كان ذلك سنة لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرةً واحدة، فلما لم يذكره ولم يفعله صلى الله عليه وسلم دل على أن هذا الوضوء هو الذي يغفر به الذنوب، وتحط به السيئات، ولهذا توضأ صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث حمران ، عن عثمان رضي الله عنه، ثم قال: ( فمن توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه )، فدل ذلك على أن السنة عدم الزيادة، فإن زاد فإن هذا جائز، ولكن السنة تركه.
يعني: بعض الناس إذا أراد أن يغسل وجهه يمسح عنقه، فهل هذا من السنة؟
الجواب: نقول: لا يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح العنق، ولأجل هذا ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يستحب غسل العنق، بل قال النووي : إن غسل العنق في الوضوء بدعة، ولا شك أن إطلاق البدعة محل نظر، إلا إذا فعلها الإنسان على أنها سنة يتعبد بها ويؤجر عليها؛ لأن هذا نوع من الزيادة في الشرع، وهي البدعة التي قال صلى الله عليه وسلم: ( وكل بدعة ضلالة ).
أما إذا فعلها الإنسان هكذا فإننا نقول: هذا ليس من السنة، وهو مكروه، والله أعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد -يعني: إخوان محمد صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم ولم يروه- فقالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من أمتك من لم تره؟ فقال: أرأيتم لو أن رجلاً عنده خيل دهم وبهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: نعم، قال: فإن أمتي يوم القيامة يأتون محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض.. ) الحديث، فدل ذلك على أن هذه الصفة إنما هي من خصوصيات أمة محمد.
وأما أصل الوضوء فإن كل أنبياء الله يتوضئون، ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه في قصة جريج العابد ( حينما اتهم أنه زنى بالمرأة، فقالوا: إنك زنيت بهذه وهذا ولدها، فقال: أمهلوني حتى أصلي، فتوضأ ثم صلى فوضع يده على بطن الصبي فقال: من أبوك؟ فقال: إن أبي هو الراعي )، ووجه الدلالة أن جريجاً توضأ.
وكذلك ثبت في صحيح البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة في قصة سارة زوجة أبينا إبراهيم عليه السلام، ( حينما هم الملك بأن يمسها، قال: فتوضأت ثم صلت )، فهذا الوضوء ليس مثل الوضوء الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه، وبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما حديث ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي )، فهو حديث لا يصح؛ فإن في سنده رجلاً يقال له: زيد العمي ، يرويه عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك و عبد الله بن عمر ، وقد ضعف الحديث غير واحد من أهل العلم كـأبي داود وغيره، وضعفه أبو حاتم و البيهقي وغير واحد من أهل العلم، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
الجواب على هذا هو: أن جماهير أهل العلم ذهبوا إلى أن الوضوء إنما فرض مع الصلاة، وجاء في ذلك أحاديث ولكنها أحاديث ضعيفة، رواها ابن ماجه ، والإمام أحمد ، وفي سندها ضعف، وهو أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء حينما أوحى إليه الصلاة، وقال له: ( هذا الوضوء )، والصحيح أن الحديث ضعيف في سنده رجله يقال له: رشدين بن سعد ، وهو ضعيف، وله طريق آخر في سنده رجل يقال له: عبد الله بن لهيعة ، وهو ضعيف، لكن ذكر عامة أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاةً قط إلا بوضوء، ولهذا قال ابن المنذر : ومعلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم افترض الله عليه الصلاة والجنابة جميعاً، قال رحمه الله: ومعلوم أن الغسل من الجنابة لم يفرض قبل الوضوء، فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة إلا بوضوء، فدل ذلك على أن الصلاة حينما فرضت، فرض معها الوضوء، ولكن فرضه لم يكن بنص ثابت إلا بفعله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
ففرض الوضوء ثابت، لكن صفته بهذه الطريقة على أمة محمد لم يثبت إلا في آية المائدة، وآية المائدة نزلت قريباً من السنة السادسة، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الله عليه الوضوء، لكن الوضوء بهذه الطريقة إنما فرض بنزول آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6].
ومن الوجه المضمضة والاستنشاق، وقلنا: إن الراجح -والله أعلم- أن المضمضة والاستنشاق واجبان، أما المضمضة فلما جاء عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـلقيط بن صبرة : ( إذا توضأت فمضمض )، وقد صح عن ابن عباس كما روى ابن المنذر : ( أن رجلاً اغتسل وترك المضمضة، فسأل
إذاً: المضمضة والاستنشاق حكمهما واجبتان، وهذا هو مذهب أحمد رحمه الله تعالى وهذا الفرض الثاني من فروض الوضوء.
والسؤال: هل المرفقان يغسلان مع اليدين أم لا؟
الجواب: جماهير أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة وقول عند المالكية أنه يجب غسل المرفقين؛ وذلك لأن (إلى) في قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] بمعنى المعية، يعني: مع المرفقين، كما في قوله تعالى: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف:14] يعني: من أنصاري مع الله، وكذلك في قوله تعالى: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود:52]، يعني: مع قوتكم، وقد ذكر علماء اللغة كـالمبرد رحمه الله أن (إلى) الغائية إذا كان الحد من جنس المحدود فإنه يدخل معه، فإذا قلت: قطعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف فإنه يدخل، وأما إذا كان ليس من جنسه فإنه لا يدخل، وعلى هذا فـ(إلى) تأتي في الشرع بمعنى (مع) في ثلاثة مواطن، وهذه فائدة لكم:
الأول: دخول المرفقين مع اليدين.
الثاني: دخول الكعبين مع الرجلين كما في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] يعني: مع الكعبين.
الثالث: التكبير المطلق والمقيد الذي ذكره العلماء، وهو إجماع بين الصحابة كما نقل بعض أهل العلم كـالحاكم وغيره على أنه يكبر إلى آخر صلاة العصر من أيام التشريق، وإدخال المرفقين مع الوضوء هو قول عامة أهل العلم كما قلنا.
وأما الحديث الذي رواه الدارقطني عن جابر رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ) فهذا حديث ضعيف، كما ضعفه ابن حجر وغيره.
إلا أن أهل العلم اختلفوا في الباء في قوله: (برءوسكم) هل هي للتبعيض فيجوز مسح بعض الرأس كما هو مذهب الشافعي و أبي حنيفة ، أم هي للإلصاق فتفيد وجوب تعميم سائر الرأس كما هو مذهب مالك و أحمد ؟
والذي يظهر والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ وضوءاً إلا وقد عمم سائر رأسه، فدل ذلك على أن الباء هنا للإلصاق، بل قال ابن برهان من علماء اللغة: من ادعى أن الباء تأتي في اللغة بمعنى التبعيض فقد تكلم عن أهل اللغة بما لا يعرفون، والواقع أن من علماء اللغة من أشار إلى أن الباء تأتي للتبعيض لكنه قول غير مشهور.
المهم أن الراجح والله أعلم أن الصحابة وعددهم أكثر من أربعة عشر صحابياً لم ينقلوا لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما توضأ مسح بعض رأسه.
وأما ما جاء في حديث المغيرة بن شعبة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته )، فهذا حديث مختصر اختصره بعض الرواة، وإلا فإن في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الناصية وعلى العمامة )، فدل ذلك على أن المسح لم يكن لبعض الرأس إنما كان لكامل الرأس، وهو المسح على العمامة، فلما كان بعض الرأس قد كشف فإن الإنسان يمسحه.
وعلى هذا فالراجح -والله أعلم- أن الإنسان يعمم سائر رأسه، وهذا هو مذهب أحمد و مالك رحمه الله، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع، ولكن لو أن شخصاً قال: أنا مسحت بعض الرأس فهل يصح وضوئي؟ نقول له: إن كان مسحك في وضوء سابق فعفا الله عما سلف، فقد كان لك سلف، أما إن جئت الآن وتقول: الآن مسحت؟ فنقول: الأولى بك أن تعيد الوضوء إذا كانت أعضاؤك قد جفت، فإن كانت أعضاؤك لم تجف فإننا نقول لك: امسح رأسك، ثم بعد ذلك اغسل رجليك كما هو معلوم في مسألة الموالاة، وسوف نشرحها إن شاء الله.
الراجح والله أعلم أنه لا يمسح؛ لأن الواجب هو مسح ما صعد إلى الرأس، فلو أن المرأة مسحت رأسها ولم تمسح ذوائبها، فإن وضوءها صحيح ولا إشكال فيه، فإن مسحت الذوائب من باب الخروج من الخلاف فلا حرج، لكنه لا يجب، والله أعلم.
والجواب: أن يجمع يديه، وكما جاء في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم : ( بدأ بمقدم رأسه حتى انتهى بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه )، هذه صفة مسنونة.
فإن كان شخص لديه قصة وهو لا يريد أن يبعثر ترتيب رأسه فإننا نقول: لا حرج، وكذلك المرأة، كما سئل الإمام أحمد : ما تصنع المرأة في مسح رأسها؟ قال: تضع يدها على يافوخها، ثم تجرها إلى الأمام، ثم تضعها في المكان الذي بدأت منه، ثم تجرها إلى الخلف، وهذا يدل على أن أي صفة مسح بها الرأس جائزة، إلا أن السنة هي الطريقة التي قلناها.
وبعض الإخوة يرفع قلنسوته ويمسح بيد واحدة فنقول: إذا عمم سائر رأسه فلا حرج، وأما إذا أخذ بأول المقدم فنقول: الراجح أن ذلك لا يجزئ، والله تبارك وتعالى أعلم.
مداخلة: جزاكم الله خيراً! هناك بعض الناس يمسحون الرقبة عند مسح الرأس؟
الشيخ: مسح العنق من الرقبة لا يشرع كما مر معنا، سواء كان من الأمام مع الوجه، أو إذا مسح الرأس مسح الرقبة فهذا لا يشرع كما مر معنا، والله أعلم.
الجواب: جماهير أهل العلم يقولون: إن المسح مرةً واحدة، هذا هو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة خلافاً للشافعية؛ وذلك لأن غالب من ذكر صفة وضوء النبي عليه الصلاة والسلام وهم المقدام بن معد يكرب عند أبي داود ، و علي بن أبي طالب عند الإمام أحمد وأهل السنن، و عبد الله بن زيد بن عاصم في الحديث المتفق عليه، و عثمان بن عفان في الحديث المتفق عليه، و ابن عباس فإنهم ذكروا أنه مسح برأسه مرةً واحدة، ولو كان المسح أكثر من مرة فيه فضيلة لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرةً واحدة، فدل ذلك على أنه ليس من السنة أن يمسح الإنسان رأسه أكثر من مرة.
وأما ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن عثمان رضي الله عنه ( أنه مسح رأسه ثلاثاً ) فهذه الزيادة خطأ، وقد ضعفها أبو داود وقال: جميع الأحاديث الصحاح عن عثمان إنما مسح برأسه مرةً واحدة، وكذلك حديث آخر في سنده رجل يقال له: ابن البيلماني وهو ضعيف.
إذاً: الحديث الصحيح هو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة واحدة، والحمد لله، وهذا يدل على أننا متعبدون بدين، هذا الدين لولا الله ثم محمد لما عرفنا هذا الدين، وهذا يدل على أن الله يحب منا ألا نمسح إلا مرة، كما يحب منا أن نغسل أعضاءنا ثلاث مرات، وأن نمسح رءوسنا مرةً واحدة؛ لأنك بهذا تطيعه، فإذا كنت تحب ربك فأطعه، فهو يحب هذه الصفة، لو أنني -ولله المثل الأعلى- فقلت لك: أريدك أن تصنع كذا، قلت لي: لا، لكنني أريد أن أصنع لك أفضل من هذا، فقلت: هذا لا أفضل منه، فأنا أريد هذا، هل تعتبر أطعتني؟
الجواب: لا، ولله المثل الأعلى، فيدل ذلك على أن الله إذا أمرك بشيء فإنك تفعل على نحو ما أمرك ربك سبحانه وتعالى، أو أمرك رسولك صلى الله عليه وسلم.
فائدة أيها الإخوة: نجد أن بعض أهل العلم ينقلون الإجماع في بعض المسائل، ونجد خلافاً، فكيف ذلك؟
الجواب: أن نقل الإجماع عند أهل العلم يشار به إلى أن هذا الخلاف إنما هو خلاف حادث بعد وجود الإجماع، فلا يعول على هذا الخلاف، ولهذا حينما نجد بعض الأئمة ينقل الإجماع في مسألة ثم نجد خلافاً في المسألة فلربما كان هذا الخلاف خلافاً حادثاً جاء بعد الإجماع، ولهذا تجدون دائماً أن الخلاف الذي يكون حادثاً ليس له دليل نقلي، إنما هو استدلال عقلي أحياناً، هذا واحد.
الثاني: أن نقل الاتفاق عند الأئمة رحمهم الله أحياناً يقصدون به اتفاق الأئمة الأربعة، وكلمة (باتفاق الفقهاء) المقصود به عند العلماء اتفاق الأئمة الأربعة، وإن كان في المسألة خلاف، أما إذا قالوا: بإجماع فإنما يقصدون إجماع عامة أهل العلم.
ولهذا لا تثريب على العالم إذا قال: باتفاق الفقهاء، ويقصد بذلك الأئمة الأربعة، وليس في ذلك من خلل في الأمانة العلمية، فقد كان أبو العباس بن تيمية يطلق ذلك، وكان ابن هبيرة من علماء الحنابلة يطلق ذلك، وكان ابن القيم يطلق ذلك، وكذلك أبو عمر بن عبد البر ، بل ينقل أبو عمر الإجماع، مع أن في المسألة خلافاً، وكذلك ابن المنذر ، فينبغي أن نعرف مصطلحات الأئمة العلماء، فلكل عالم مصطلحه، فلا ينبغي أن يعنف على الإنسان الذي سلك طريقة أهل العلم في مصطلحاتهم، فإن العتب على من لم يعرف مثل هذا المصطلح.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإن الرجلين إنما الواجب فيهما الغسل، وهذا -كما قلت- هو قول عامة أهل العلم، وأما جاء في حديث علي : ( أنه رش رجليه أو مسح )، فإنما هو الغسل الخفيف، كما هو عند علماء اللغة، ولهذا تقول: تمسحت للوضوء يعني: اغتسلت للوضوء، فإنه كان من لغة العرب -التي هي غير مشهورة- أن التمسح يأتي بمعنى الغسل الذي ليس كثيراً، والله أعلم.
ثم إن الحديث الوارد في أن علياً مسح رجليه حديث ضعيف، ولو صح فإنه إنما مسح لأجل وجود نعلين في رجليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ويل للأعقاب من النار )، والحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن حديث عائشة عند مسلم ، ومن حديث أبي هريرة .
فقوله: ( ويل للأعقاب من النار ) حينما رأى قوماً مسحوا أرجلهم ولم يغسلوا أعقابهم، فكأنه صلى الله عليه وسلم قد قدم من مكان بعيد فرأى أصحابه لا يهتمون بغسل العقبين، فقال: ( ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار ).
( ورأى
والكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدم، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، ويجب غسلهما، وتكون (إلى) هنا بمعنى المعية.
وهل يشرع أن يغسل ما زاد إلى أول الساق؟
نقول: السنة ألا يصنع، فإن فعل من باب عدم السنة، بل من باب التأكيد فإن هذا جائز، وأما الزيادة فإن ذلك لا يسن كما قلنا في مسألة اليدين، والله أعلم.
فإنه قد ذهب الشافعي و أحمد إلى وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء، كما أمر الله في كتابه ورتبها سبحانه، فقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وأمره صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته عند ابن حبان بسند لا بأس به، قال: ( توضأ كما أمرك الله )، فدل ذلك على أن الله أمره بهذا الأمر.
فإن قال قائل: إن الواو لا تقتضي الترتيب؛ لأن الواو تقتضي العطف دون الترتيب، والذي يقتضي الترتيب من حروف العطف هما ثم والفاء، أما الواو فلا تقتضي الترتيب فكيف الجواب على هذا؟
الجواب: نقول: نعم إن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن الله حينما رتب ذلك وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نفعل كما أمرنا ربنا فدل ذلك على أن الترتيب ليس لأجل وجود الواو، ولكن لأجل وجود أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر واضح إن شاء الله هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منذ أن فرض الله عليه الوضوء، ولم ينقل أنه أخل بالترتيب، وقد روى الإمام أحمد من حديث قابوس ، عن أبيه قال: ( سئل
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: يجب الترتيب في الوضوء، وعليه فلو أن شخصاً أحدث ثم أراد أن يغتسل في البركة، ثم قال: أنا نويت الوضوء، ثم غمس جسده كله في الماء ثم خرج، وقال: الحمد لله أنا نويت وتوضأت فهل يجزئ؟
الجواب: عند من قال بوجوب الترتيب أنه لا يجزئه.
ومثله: شخص عليه جنابة، ثم نوى رفع الحدث، ثم دخل الماء ثم خرج وقال: نويت الوضوء، فهل يجزئ؟
الجواب: لا يجزئ؛ لأن الاغتسال غير الوضوء، فالوضوء حدث أصغر، والاغتسال حدث أكبر.
وإذا نوى الإنسان رفع الحدث وعمم سائر بدنه وتمضمض واستنشق فإن الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا أيها الإخوة والأخوات! الذين يدخلون في بركة السباحة، وعليهم حدث أصغر، ثم يخرجون وقد نووا فلا يكفي حتى يرتب بين أعضاء الوضوء.
ومعنى يرتب: يعني أن يمضمض ويستنشق ثم يغسل وجهه، ثم يغسل يديه، ثم يمسح رأسه، ثم بعد ذلك يغسل رجليه، فإن ذلك يجزئ.
وهنا مسألة افتراضية يذكرها الفقهاء، قالوا: ولو خرج من البركة مرتباً أجزأ، كيف ذلك؟
قالوا: يخرج وجهه أولاً، ثم يديه، ثم يخرج رأسه، ثم يخرج رجليه، فإن ذلك يجزئ، وهذه مسألة افتراضية لا يمكن تطبيقها إلا بعسر ومشقة، وهذه مسألة من باب أنه لو فرض أن شخصاً فعل ذلك، ودائماً -يا إخوان- المسائل الافتراضية إنما هي من باب الترويح في مسائل العلم، ويسميها العلماء ملح العلم، والله تبارك وتعالى أعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإن الراجح -كما قلت- هو أن الترتيب واجب، وهو مذهب الشافعي و أحمد .
والموالاة: هو ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف العضو الذي قبله بزمن معتدل، ومعنى ذلك: أنه لا يسوغ له أن يبدأ بغسل رجليه وقد جف رأسه، ولا يسوغ له أن يمسح رأسه وقد جفت يداه؛ لأنه يشترط في الوضوء الموالاة.
وقولنا: (بزمن معتدل)، يعني: لو أنه يريد أن يتوضأ في شدة برد، وفي شدة هواء، فإن بعض الناس أحياناً يستعصي عليه من شدة البرد إلا أن يتوضأ تباعاً، فلربما إذا غسل يديه أو مسح رأسه وأراد أن يغسل رجليه فربما من شدة الهواء ينشف؛ لكن هذا معفو عنه؛ لأن هذا زمن غير معتدل، والله أعلم.
وكذلك إذا كان الماء قليلاً بحيث يشق عليه استخراجه، مثل أن يتناوله من بئر ويدخل يده لينزح الماء ويغسل وجهه، ثم يدخل يده لينزح، ثم يغسل يديه، وربما طالت محاولته لذلك، فإن ذلك مما يعفى عنه.
وقد روى ابن المنذر أن ابن عمر حينما قل الماء خارج المسجد دخل المسجد وغسل رجليه، فإذا كان الوقت يسيراً وهو مشتغل بشرط الطهارة فإن ذلك معفو عنه، والله أعلم.
ومن ذلك ما تفعله بعض النساء إذا غسلت يديها، فإنها تمسح المناكير، وربما هذه الإزالة تطول حتى يجف البعض، فإذا كان يسيراً فلا حرج إن شاء الله ولو جف البعض، كما ذكر ذلك العلماء رحمهم الله.
والنية من فروض الوضوء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، فمن توضأ ليعلم الناس ولما انتهى قال: ما دام إني توضأت إذاً سأصلي به، فهل يجزئه؟
الجواب: لا يجزئه؛ لأنه لم ينو، ولو غسل يديه وغسل وجهه وقال: صلاة الظهر قريبة فأكمل الوضوء على أنه لصلاة الظهر فهل يجزئه؟ الجواب: لا يجزئه؛ لأن نيته لم تكن من أول الوضوء، والله تبارك وتعالى أعلم.
الجواب: تقديم اليسرى على اليمنى من باب ترك السنة، ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (ما أبالي بدأت بإحدى يدي على الأخرى)، أو كما قال رضي الله عنه.
الجواب: هذا السؤال جيد، الذي يظهر والله أعلم أن اليد إذا أطلقت يقصد بها الكف فقط، ولهذا من مس ذكره بيده انتقض وضوءه، ولو مسه بذراعه فإنه لا ينقض الوضوء على الراجح، والله أعلم.
الجواب: أولاً نحن نقول: بعض أهل العلم نقل الإجماع على نجاسة الدم، والخلاف إنما هو خلاف حادث، فلم يعول على وجوده خلاف، وقد نقل عن الإمام أحمد أنه نقل الإجماع على نجاسة الدم، وهذا هو الراجح أن الدم نجس، ومن قال: إن الدم لا ينجس فإنما أشكل عليه بعض الأحاديث التي توهم صحة قوله، ولكن قوله ليس بصحيح، من ذلك ما روى البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، عن الحسن البصري أنه قال: ( ما زال المسلمون يصلون بجراحاتهم )، نقول: الجواب: لا بأس؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهل عند الصحابة وقتها تقنية بحيث يدخل في العناية المركزة لتفعل له عملية سريعاً؟
هذا لا يمكن، فهو معذور، فالدم سوف يثعب منه، ويصلي على حسب طريقته، وكذلك نقل عن عمر رضي الله عنه حينما جاء أبو لؤلؤة المجوسي عليه من الله ما يستحق وطعن عمر ، فجعل الدم يثعب، ماذا تريدون من عمر ؟ ما استطاع عمر رضي الله عنه إلا أن يستمر، وعلى هذا فخروج الدم لا ينقض الوضوء، أما أن الدم نجس أم ليس بنجس؟ فهو نجس، ويعفى عن يسيره، وقد استدل العلماء على أنه يعفى عن يسيره بما جاء عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا وجدت على ثوبها دماً -أي من دم الحيض- مصعته بريقها وفركته )، والسؤال: إذا مصعته بريقها وفركته أليس يبقى شيء؟
الجواب: بل يبقى، فهذا الباقي معفو عنه. ولو كانت نجاسة عذرة أو بول فإنه لا يجزئ أن يصلي فيه، فدل ذلك على أن يسير الدم يجزئ، وقد جاء عند البيهقي وغيره أن ابن عمر بتر حبةً فيه، فخرج الدم ولم يعد الوضوء، والله تبارك وتعالى أعلم.
الجواب: وما هي المسألة؟ الآن أنت أختي منال ذكرت أن الحكم في بعض المسائل غير واضح، فنقول: سؤالك أنت غير واضح، نجيبك عن ماذا؟ أليس كذلك؟!!
ثانياً يا إخوان: بعض العلماء أحياناً يتورع عن بيان القول الراجح من باب أنه لم تتضح له الصورة، فيذكر الخلاف لبيان ذلك، وإلا فإنه إذا كان الإنسان يعلم الحكم الشرعي فلا حرج أن يذكر الخلاف؛ لأن من الناس من يستمع إلى مشرق الأرض ومغربها، فربما كان له مذهب، فإذا بين الأقوال عرف السامع والمستمع والمشاهد أن المفتي عنده دراية بالقول الآخر، والله تبارك وتعالى أعلم.
فنتمنى من الأخت منال أن تكتب سؤالها على عجل، لعلنا نجيب على ماذا تريد!
الجواب: تنشيف أعضاء الوضوء الراجح -والله أعلم- أنه جائز، تقول ميمونة : ( فأتيته بالمنديل فرده، وجعل ينفض الماء بيديه )، والجواب: إن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما رده ليس لأجل أنه لا يريد أن يتمسح، بدليل أنه جعل ينفض الماء بيده، ويقول ابن القيم : كل حديث فيه تنشيف الأعضاء أو عدم تنشيفها، فهو حديث ضعيف إلا حديث ميمونة ، وحديثها ليس فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بتنشيف الأعضاء أو نهى عنه، فكل حديث فيه الأمر بتنشيف الأعضاء أو النهي عن تنشيف الأعضاء فإنه حديث ضعيف، والله أعلم.
الجواب: لا حرج أن يحمل الطفل ولو كان فيه شيء إذا كان في غير الصلاة؛ ولأنه لم ينجس، وأما إذا كان فيه بلل فإنك تغسلين المكان الذي وقع فيه البلل، والله أعلم.
الجواب: تشبيك الأصابع: الراجح والله أعلم أنه ليس فيه بأس إلا في حال الصلاة، فإن السنة حال الصلاة أن توضع اليدان في المكان الذي أمر به، ففي حال القيام يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى، وفي حال الركوع يضع يديه على ركبتيه، وأما حال الرفع فإما أن يسبل، وإما أن يضع، كل ذلك جائز، وإن كان الأولى أن يضع، وأما السجود فكذلك، وأما بين السجدتين أو التشهد فكذلك، أما التشبيك فإنه ترك السنة، ولهذا نقول: مكروه.
أما إذا كان ينتظر الصلاة، أو خرج إلى الصلاة، فإن الراجح أن الأحاديث الواردة في هذا أحاديث ضعيفة، وهي حديث كعب بن عجرة ، وحديث أبي هريرة ، وحديث أبي سعيد الخدري ، كما ضعفها أو أشار إلى ضعفها الإمام البخاري و ابن رجب رحمهم الله جميعاً.
الجواب: نعم، إذا غسلت المرأة وجهها من أول منابت الشعر إلى أسفل الذقن فجائز، أما أن تضع الخمار عليه هكذا فإنه لا يجزئها حتى تزيله لتغسل ما أسفل من الذقن؛ لأن هذا يعد من الوجه، ولو ترك موضع ظفر فإنه لا يجزئ ذلك، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً ترك موضع ظفر لم يصبه الماء فقال: ارجع فأعد وضوءك )، والحديث عند مسلم ليس فيه إعادة الوضوء، ولكن فيه: ( أحسن وضوءك )، ولكن قلنا: إن الموالاة واجبة، ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد، كما ذكرنا هذه المسألة في فرض الموالاة، والله أعلم.
ولعلنا نكتفي بهذا في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة بإذن الله نستودعكم الله على أمل اللقاء بكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر