الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات!
أسعد الله مساءكم أيها الإخوة الطلاب الذين معنا في الأستديو! ونسأل الله أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
أيها الإخوة! كنا قد توقفنا في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند صفة الركوع، وبينا الصفة المشروعة والمستحبة، وبقينا في الذكر الوارد في هذا الباب.
وقد قال جماهير أهل العلم: إن الطمأنينة في الركوع ركن من أركان الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ).
ومقدار الاطمئنان أن تعود كل فقرة إلى مكانها حال الركوع، ثم يمكث بمقدار أن يقول: سبحان ربي العظيم.
وقول: (سبحان ربي العظيم) مشروع؛ لما جاء عند أبي داود من حديث عقبة بن عامر : ( أنه لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] قال: اجعلوها في سجودكم ).
ولهذا ذهب جماهير أهل العلم إلى مشروعية أن يقول في الركوع: (سبحان ربي العظيم)، إلا أن الحنابلة قالوا بوجوب ذلك؛ لحديث عقبة بن عامر، وحديث عقبة بن عامر حسن إسناده أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وإن كان في سنده بعض الكلام، لكن الذي يظهر -وهو أحوط- أن الإنسان يقول في الركوع: (سبحان ربي العظيم)، ولو مرةً واحدة، فإن نسي ذلك فإنه يجبره بسجود السهو.
وأما الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة و مالك و الشافعي فإنهم قالوا باستحباب ذلك، وقالوا: لا يسجد للسهو إذا ترك قول: (سبحان ربي العظيم).
على هذا فالواجب أن يقول: (سبحان ربي العظيم) مرة واحدة، فإن قال: (سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم) فهذا أقل الكمال، وإن قاله عشراً فهذا أفضل.
وأما قول: (سبحان ربي العظيم وبحمده) فإنه قد رواه أبو داود وغيره، والراجح والله أعلم أن زيادة (وبحمده) في الركوع والسجود ضعيفة؛ لأن الحديث فيه جهالة، وعلى هذا فالسنة أن يقول: (سبحان ربي العظيم) فقط.
ويستحب أن يقول: ( سبوح قدوس، رب الملائكة والروح ) كما ذكر ذلك النسائي و محمد بن نصر المروزي في كتابه قيام الليل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
جماهير أهل العلم على أن المأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى : ( فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد )، فهذا دليل على أن المأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؛ خلافاً لبعض الفقهاء الذين قالوا: يستحب أن يقوله المأموم كالإمام، والراجح أن المأموم لا يقول ذلك، وإنما يقول الدعاء الوارد بعد ذلك.
فإذا قال الإمام والمنفرد: (سمع الله لمن حمده)، فيقول المأموم: (ربنا لك الحمد)، أو يقول: (ربنا ولك الحمد)، أو يقول: (اللهم ربنا لك الحمد)، أو يقول: (اللهم ربنا ولك الحمد).
واعلم أنه قد صحت الرواية في الجمع بين (اللهم) والواو، وبين (ربنا ولك الحمد)، وبين (ربنا لك الحمد)، كل ذلك قد جاء، وهي أربعة أذكار، أي: إما أن يقول: (ربنا لك الحمد)، أو (ربنا ولك الحمد)، أو (اللهم ربنا لك الحمد)، أو (اللهم ربنا ولك الحمد)، خلافاً لـأبي العباس بن تيمية و ابن القيم اللذين قالا: لا يشرع للإنسان أن يجمع بين اللهم وبين الواو لعدم ثبوت ذلك، والصحيح أنه قد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما حقق ذلك كثير من أهل الحديث المتقدمين والمتأخرين، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فكل فعل فعله صلى الله عليه وسلم فإن المأموم يشرع له أن يقوله مثل الإمام، إلا ما ورد، وأما ما ورد مثل: (سمع الله لمن حمده)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد ).
والذي جاء في السنة أن المأموم يقول: ( ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد )، وهذا ثبت في صحيح مسلم .
وجاء في بعض الروايات أنه يقول: ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ملء السموات وملء الأرض.. ) الحديث، وهذا أيضاً ثابت.
وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى كما عند مسلم في بعض رواياته: ( أنه يقول: اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )، والله أعلم.
وقد ذكر بعض أهل الحديث أنه لا يقوله في الركوع، كما أشار إلى ذلك الألباني ، والذي يظهر والله أعلم أنه يقوله؛ لأن بعض الروايات فيها اختصار، وإن كان في صحيح مسلم لم يذكر هذه اللفظة، لكن جاءت في طرق أخرى تدل على أنه يشرع للإنسان أن يقولها حتى بعد الرفع من الركوع.
وأما رواية حذيفة عند أبي داود : ( لربي الحمد ) فقد حسنها كثير من المتأخرين، ولا حرج أن يقولها الإنسان.
واعلم رعاك ربي أنه يستحب للإمام إذا رفع رأسه من الركوع أن يطيل ذلك، وهذه سنة تخفى على كثير من المصلين، حيث إنهم يتعجلون الذكر الوارد في هذا، بل إن بعض الأحناف لا يرون القيام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يجب عليه أن يقوم، وأن يستتم قائماً حتى يطمئن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم ارفع حتى تعتدل قائماً )، وفي رواية: ( حتى تطمئن قائماً )، فيجب بعد الركوع أن يقف حتى تعود كل فقاره إلى مكانها، فهذا واجب من غير ذكر.
الصحيح أن قول: (ربنا ولك الحمد واجب)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فقولوا: ربنا ولك الحمد )، وهذا مذهب الحنابلة خلافاً للجمهور الذين قالوا باستحباب ذلك وليس بوجوبه، والراجح وجوب ذلك.
وأما ما بعد ذلك فإنه يستحب، فالواجب أن يقول: الإمام والمأموم والمنفرد، (ربنا ولك الحمد)، وأما ما زاد على ذلك فهو مستحب.
والإطالة هنا موطن دعاء، كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم، فيقول: (لربي الحمد)، أو يدعو دعاءً يرتضيه، ولا حرج، وإن كان الركوع الأفضل أن يعظم فيه الرب، فيكثر من قول: (سبحان ربي العظيم)، و(اللهم لك ركعت، ولك سجدت، وبك آمنت، وعليك توكلت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي لله ربي العالمين)، كل ذلك جاء في روايات، لكن يحتاج إلى مراجعة أسانيدها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
اختلف العلماء في ذلك، فذهب بعض المالكية إلى أنه لا يقبض، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يقبض، وهو رواية عند الإمام أحمد ، واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي : ( كان الناس يؤمرون إذا قاموا إلى الصلاة ) قالوا: فهذا القيام يصدق عليه قبل الركوع وبعد الركوع.
وفي حديث وائل بن حجر عند النسائي : ( كان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة وضع يده اليمنى على كفه اليسرى )، فهذا يدل على أنه في كل قيام يصنعه.
وأما المشهور من رواية الإمام أحمد أن ذلك جائز، سواء وضع يده اليمنى على كفه أو سدلهما؛ لأنه لم يثبت صراحةً ماذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصنع، وعلى هذا فالذي يظهر كما نص الإمام أحمد على أنه إن فعل هكذا بعد الركوع فليس فيه إشكال إن شاء الله.
وقد بالغ بعض فقهاء المالكية المتأخرين، فحكموا على أن وضع اليدين بعد الرفع من الركوع بدعة، وقد صنفوا في ذلك التصانيف، والحقيقة أنه ليس فيه ما يدل على المنع، وليس فيه ما يدل على الإثبات، والمبالغة في الإنكار، وإطلاق البدعة في مسائل يسع فيها الخلاف مما نهينا عنه، كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وقد بالغ بعض فقهاء المالكية وبعض فقهاء الحنابلة فقالوا: إن الذكر المشروع إذا تعمد الإنسان فقاله في غير محله فإن صلاته تبطل؛ لأنه سوف يقول ذكراً مشروعاً في غير محله، وهذه مبالغة.
والراجح أنه لا يشرع للإنسان أن يقول: الله أكبر، ثم يركع أو يسجد، بل يقول: الله أكبر إذا أراد أن يركع، ليجعل تكبيره حال انحنائه.
وبعض المصلين من أصحاب الميكرفونات تجد أحدهم يقول: الله أكبر، ثم يركع، ثم يقول: حتى إذا استتم قائماً قال: سمع الله لمن حمده بالميكرفون، وهذا ليس من السنة، بل ربما أشكل ذلك على المسبوق الذي جاء وركع والإمام يرفع.
الإمام لا يصدق عليه أنه ركع بمجرد الانحناء، وإنما حتى يقبض بيديه على ركبتيه، فمقدار الركوع أن ينحني انحناءً يمكن معه أن يضع يديه على ركبتيه، فهذا هو مقدار الركوع، فإذا رأى المأموم المسبوق إمامه وقد انحنى شيئاً فإننا نقول: إن كان يغلب على ظنك أن انحناءه يمكن معه فيما لو وضع يديه على ركبتيه أن يدركهما فإننا نقول: أدركت الركوع، وإن كان انحناؤه بحيث لو وضع وقبض يديه على ركبتيه لا يستطيع ذلك نقول: لم تدرك الركوع، وإذا أشكل فالأصل عدم الإدراك.
وأما ما يصنعه بعض الأئمة؛ بأن يقول: سمع الله لمن حمده، ويكون صوته جهورياً، وواضح أنه لم يقل ذلك إلا إذا استتم قائماً، فإن الغالب أن المأموم لم يدرك إمامه.
وقد ذكر بعض الفضلاء المعاصرين أنه يدرك ذلك، ولو استتم الإمام قائماً، وقال: إن هذا يعجز عنه، والراجح خلاف ذلك؛ لأنه لم يدرك إمامه وهو راكع، ولا فرق أن يكون هذا جائزاً، أو أن يكون ذلك حال تكبيرة الإحرام، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا فإن المأموم إذا كان يصلي خلف الإمام فلا يشرع له إذا كبر الإمام حال انتقاله وسجد أن يأتي المأموم ويسجد معه، بل حتى يراه قد وضع جبهته على الأرض، قال البراء كما عند البخاري و مسلم : ( فإذا رفع رأسه من الركوع لم نزل قياماً ننتظره حتى نراه قد وضع جبهته على الأرض )، فهذا يدل على أن المأموم لا يسابق إمامه، وسوف نذكر إن شاء الله في حلقات قادمة طريقة المتابعة؛ لأن المأموم إما أن يتابع إمامه، وإما أن يسابق إمامه، وإما أن يوافقه.
والمتابعة هي السنة، والموافقة مكروهة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أما على وجهه فقد ثبت من حديث وائل بن حجر، وأما حذو منكبيه فكما في حديث أبي حميد الساعدي، والله أعلم.
وينبغي أن يبعد عضلة ساقه عن عضلة فخذه، هذه هي السنة، وبعض المصلين هداهم الله إذا سجد تجده ينحط ساجداً، فربما أثقل بجبهته على الأرض؛ حيث يكون ممدوداً، وهذا ليس من السنة، السنة أن يجعل عضلة ساقه بعيدة عن عضلة فخذه، أما أن يجعل عضلة فخذه مائلة إلى جهة سجوده فهذا ليس من السنة، بل تكون عضلة الفخذ مستقيمة.
فإذا سجد مكن بجبهته وأنفه الأرض، واستقبل بأطراف أصابع يديه القبلة، وكذلك بأطراف أرجله القبلة.
وأما مسألة السنة في الانحطاط: فهل يضع يديه أولاً أم يضع ركبتيه؟ فسوف يأتي إن شاء الله بيانها.
وأما الأنف فقد ذكر بعض الفقهاء أن ذلك ركن من أركان السجود، والذي يظهر والله أعلم أن الركن إنما هو وضع الجبهة، وأما الأنف فواجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )، وهي: اليدان، والركبتان، والرجلان، والجبهة، وأشار إلى أنفه، فهذا يدل على أن الأنف من الوجه، والسجود على الجبهة هو الأصل، ولكن يسجد على الأنف؛ لأجل أن ذلك هو دائم فعله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: ينبغي له أن يسجد، ولا يجوز له أن يترك ذلك إلا لعذر.
وأما الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية فقالوا باستحباب ذلك، والراجح هو مذهب الحنابلة، فمن ترك ذلك من غير عذر فإنه يجبره بسجود سهو، وقولنا: (من غير عذر) كالمأموم، فإن المأموم تبع لإمامه، فالإمام يتحمل عن المأموم في واجبات الصلاة إذا لم يفته شيء من الصلاة، وأما إذا فاته شيء من الصلاة فإنه يجبره بسجود سهو، مثله مثل الإمام والمنفرد.
وأما قول: ( سبحان ربي العظيم وبحمده )، فقد سبق أننا قلنا: إن الرواية ضعيفة.
ويشرع في السجود أن يكثر من أن يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن ).
ويستحب حال السجود أن يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، وأن يكثر من الدعاء؛ ويسأل ربه، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم )، وهذا يدل على مشروعية أن يكثر الإنسان حال السجود من الدعاء.
وهل يدعو من خيري الدنيا والآخرة بما شاء أم يدعو بخيري الدنيا والآخرة مما جاء في الأثر؟
قولان عند أهل العلم: فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يدعو بما ورد من خيري الدنيا والآخرة.
والقول الآخر: أنه يدعو بما شاء وإن لم يرد فيه حديث، ولعل هذا القول أظهر؛ لأن كل إنسان له حاجات، وإن كان الاكتفاء بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من خيري الدنيا والآخرة غنية، فإن الإنسان إذا أراد زوجة قال: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وإذا أراد شيئاً من الدنيا فإذا دعا بهذا الدعاء فإن فيه غنية إن شاء الله، ولكن لا حرج أن يدعو بخير الدنيا والآخرة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
والمأموم يفعل مثل فعل إمامه، فيقول: سبحان ربي الأعلى، ويدعو بما شاء، ولكنه لا يكبر حتى يكبر الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه: ( فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، -ثم قال صلى الله عليه وسلم-: فتلك بتلك )، ومعنى (فتلك بتلك) يعني: إذا سبقكم الإمام حال السجود بالذكر فأنتم تبقون، حتى إذا رفع فأنتم أيضاً تبقون، (فتلك) يعني مسابقته هو بتأخركم بعد ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
والسنة في الجلوس بين السجدتين أن يجلس، فيفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، ويجعل كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وفي رواية: (يجعلها على ركبته اليسرى)، كل ذلك وارد.
وأما يده اليمنى فيجعلها على فخذه اليمنى، أو على ركبته اليمنى، كل ذلك قد ورد في حديث ابن عمر ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وكذلك فإن الرواة تابعوا سفيان، عن عصام بن كليب ولم يذكروا هذه اللفظة، فدل على أن السنة أن يبسط كفه اليمنى على فخذه اليمنى، واليسرى على فخذه اليسرى، والصورة الثانية أن يجعلهما على ركبتيه.
فإن قال: ( ربي اغفر لي، وارحمني، وعافني، وارزقني، واجبرني )، فذلك جائز، كما ثبت عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، والصحيح في هذا أنه قاله في صلاة الليل، فلا حرج أن يقوله أيضاً في صلاة الفريضة.
واعلم أن الحنابلة رحمهم الله أوجبوا على المصلي أن يقول: رب اغفر لي، سواء الإمام أو المنفرد أو المأموم.
وذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن ذلك على سبيل الاستحباب، والذي جاء فيه هو الدعاء؛ لقول ابن عباس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ما بين السجدتين )، ولم يرد حديث يدل على وجوب قول: رب اغفر لي، بدليل أننا رجحنا أن يقول: (سبحان ربي العظيم) حال الركوع، وهو واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوها في ركوعكم )، وقول: (سبحان ربي الأعلى) قلنا: واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجعلوها في سجودكم )، لكن (رب اغفر لي) ليست بواجبة؛ لأن غاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ولم يوجب.
فإن قال الحنابلة: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل، فنقول: هناك أشياء فعلها صلى الله عليه وسلم وداوم على فعلها، وليست بواجبة، مثل الافتراش والتورك، فهل يقول قائل: إن التورك واجب؟ أو إن الافتراش واجب؟ نقول: لا، وهذا يدل على صحة ورجحان قول جماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وعلى هذا فالذي ورد: ( رب اغفر لي، وارحمني، وعافني، واجبرني، وارزقني )، فإن دعا بما شاء من خير الدنيا والآخرة، حتى ولو قال: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، فلا حرج.
وما يقوله العوام: رب اغفر لي ولوالدي، هذا لم يرد فيه حديث، لكن لو قالها فلا حرج، لكن لا ينبغي أن يداوم على ذلك خشية أن يظن أن ذلك سنة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس : ( أنه سئل عن الإقعاء في الصلاة؟ فقال: سنة أبي القاسم، فقلنا: إنا لنراه جفاءً بالرجل ).
ومعنى الإقعاء في الصلاة هو: أن ينصب رجليه، ويقعد على عقبيه، هذا هو الإقعاء وهو السنة أحياناً بين السجدتين، هذا مذهب الحنابلة.
وذهب مالك رحمه الله إلى كراهة ذلك، وأشار إلى ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقعاء كإقعاء الكلب )، وفي رواية: ( نهى عن الإقعاء في الصلاة ).
والراجح أن النهي هنا ليس عن الإقعاء المذكور في حديث ابن عباس، فإن الإقعاء المنهي عنه هو إقعاء كإقعاء الكلب، والمقصود به أن يجلس على إليتيه، وينصب ساقيه، فيكون جلوسه كهيئة الكلب، فهذا هو فعل الكلب، والله المستعان.
والمشروع في حق المأموم أو الإمام أن يطيل هذا الركن؛ لما جاء في الصحيحين من حديث ثابت البناني قال: (فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من السجود استتم جالساً حتى يقول القائل: قد نسي).
وبعد ذلك يقول الإمام: الله أكبر، فيسجد مرةً ثانية، ويكون سجوده مثل السجود الأول.
وقلنا: إنه لا يرفع السبابة بين السجدتين، وأما ما ذكره بعض مشايخنا أنه ورد في الحديث: (إذا قعد في الصلاة) قال: فهذا يصدق على القعود بين السجدتين، ويصدق على قعود التشهد، فالجواب على ذلك أن نقول: هذا ليس من العام والخاص؛ لأن (قعد) لفظ فعل، وقد أشار الإمام الجويني في كتابه الورقات أن ألفاظ الفعل يقال لها: مطلق ومقيد، ولا يقال: عام وخاص.
وعلى هذا فالذي جاء في (قعد) المقصود به في بعض الروايات (قعد في الصلاة)، والقعود في الصلاة يطلق على التشهد، فيكون هذا مطلقاً، والحديث الثاني (قعد في التشهد)، وهذا هو الذي جاء، وعلى هذا فيحمل المطلق على المقيد، ولا يدل على التخصيص، فهذه ليست داخلة في هذه قاعدة العام والخاص، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: إذا قلنا: إنه يسجد الإمام ويتابعه المأموم في السجود الثاني، فإن السنة أن يكون سجوده الثاني أقل من سجوده الأول.
واستدل العلماء على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها في صلاة الكسوف أنها قالت: ( فكان سجوده الثاني أقل من سجوده الأول )، فقالوا: هذا على الترتيب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، ولهذا فإن الأفضل أن يكون السجود الأول أطول من السجود الثاني، ولكن هذا الطول لا ينبغي أن يكون طويلاً مفارقاً بينهما، فإنه لا بد أن يكونا قريباً من السواء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث البراء : ( رمقت الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركوعه، فرفعه من الركوع، فسجوده، فقيامه، فجلسته قريباً من السواء ).
ويقصد من ذلك أنه إذا أطال القيام أطال الأركان الأخرى، وليس معنى ذلك أن إطالة القيام بمثابة إطالة الركوع، وبمثابة إطالة السجود، فهذا فهم خاطئ، أشار إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه القواعد النورانية، ويسمى القواعد الكبرى، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وقد ذهب الحنفية إلى أنه لا يتورك في الصلاة.
وذهب مالك إلى أنه يتورك في كل تشهد، حتى لو كان في الصلاة تشهدان تورك في الأول والثاني.
والشافعية يقولون: يتورك في كل تشهد يعقبه سلام.
فعلى هذا فالشافعية يقولون: يتورك في صلاة الفجر، وأما إذا كان فيه تشهدان فإنه لا يتورك في التشهد الأول، ولكن يتورك في التشهد الثاني؛ لأن الشافعية يرون التورك في كل تشهد يعقبه سلام.
أما الحنابلة رحمهم الله فإنهم يقولون: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان، وذلك في التشهد الثاني.
والذي يظهر والله أعلم هو مذهب الحنابلة؛ لأن حديث أبي حميد الساعدي ، قال: ( فجلس في الثنتين فأشار إلى أنه نصب رجله اليمنى، وفرش رجله اليسرى، وفي الجلوس الأخير فإنه تورك )، وهذا يدل على أن التورك لا يكون إلا في الصلاة التي فيها تشهدان، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وسوف نكمل إن شاء الله بعد ذلك مبينين ماذا يصنع إذا استتم قائماً في الركعة الثانية.
ولعل في هذا كفاية أيها الإخوة والأخوات! وسوف نكمل إن شاء الله في حلقة قادمة، وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله على أمل اللقاء بكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر