الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخوتي المشاهدين والمشاهدات! وأسعد الله مساءكم أيها الإخوة الطلاب الذين معنا في الأستديو، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا مطروداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الإخوة! توقفنا في واجبات الصلاة عند قول العلماء رحمهم الله: هل قول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود أو (سبحان ربي العظيم) في الركوع واجب أم لا؟ وذكرنا الخلاف في هذا، وقلنا: الراجح هو مذهب الحنابلة رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يصلي يقولها، ويقويه حديث عقبة بن عامر ، أنه ( حين نزلت: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، قال: اجعلوها في سجودكم )، وهذا إسناده جيد حسنه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وصححه الزيلعي ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ذهب الحنابلة إلى أن سؤال المغفرة في الجلسة بين السجدتين واجب، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقولها كما في حديث حذيفة رضي الله عنه أن: ( النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس بين السجدتين قال: رب اغفر لي )، والحديث الآخر حديث ابن عباس رضي الله عنه.
وذهب عامة أهل العلم من الحنفية والشافعية والمالكية ورواية عند الإمام أحمد إلى أن قول: (رب اغفر لي) سنة؛ وذلك لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك، قالوا: فلا فرق بين أن يقول دعاء الاستفتاح وأن يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي)؛ فلما لم يجب دعاء الاستفتاح لأن ذلك فعل من غير أمر، فكذلك قول: (رب اغفر لي) فعل وليس بأمر، وهذا الاستدلال قوي.
ولهذا فإننا نقول: الأقرب -والله أعلم- أن الإنسان يدعو بخير ما أراد، وإن دعا بما ورد كأن يقول: ( رب اغفر لي وارحمني وارزقني واجبرني ) فهذا حسن، كما جاء ذلك في حديث حذيفة و ابن عباس ، وإن كانت زيادة: (اجبرني وارزقني)، فيها كلام عند أهل العلم، لكن بعض الناس يزيد فيها: رب اغفر لي ولوالدي، فقلنا إن هذه رواية لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قولها لا بأس به؛ لأن هذا موطن دعاء، كما أشار إلى ذلك الفقهاء.
وإن قال: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) جاز؛ لأنه موطن دعاء، وإن كان الأفضل أن يفعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ( رب اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني )، وعلى هذا فالراجح أن ذلك ليس بواجب.
وإذا ثبت هذا فإننا نكون قد ذكرنا جميع الأركان والخلاف فيها، وجميع الواجبات والخلاف فيها.
وإذا تقرر ذلك فإننا نقول: يستحب للإنسان حينما يذكر الأقوال الواجبة، مثل (سبحان ربي العظيم)، أو (سبحان ربي الأعلى) أو (رب اغفر لي) على الخلاف في وجوبها، فإن الأفضل ألا يقل عن ثلاث، وإن زاد إلى العشر فهو حسن؛ فإن سليمان بن يسار روى قال: صلى بنا أمير مكة، فحزرنا ركوعه فكان قريباً من قول عشر، وكان سجوده يسبح قريباً من عشراً، وقد قال أبو هريرة: ( لقد كان هذا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم )؛ ولهذا استحب العلماء إذا أراد الأفضلية أن يقول: (سبحان ربي الأعلى) عشراً.
وأما في النافلة فإنه يطيل كما كان صلى الله عليه وسلم يصنع.
وأما أقل الكمال فهو ثلاث، واستدل العلماء على هذا بما جاء عند الدارقطني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجدت فقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً)، وهذا أدنى الكمال، وهذا الحديث واضح أنه لا يصح؛ لأن الحديث يرويه عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود، وعون هذا لم يسمع من عبد الله بن مسعود فهو منقطع كما أشار إلى ذلك الإمام البخاري والإمام أبو داود.
ويستدل على التكرار ثلاثاً بما قال أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً، فالأصل أن يدعو ثلاثاً، وروي عن ابن مسعود من قوله، لكن كما قلنا إن في سنده انقطاعاً، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
التشهد الأول والجلوس له واجب، والوجوب هو مذهب الحنابلة، وعدم الوجوب هو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وقد ذكرنا الدليل على الوجوب في حلقة سابقة.
ونحن في الحلقة السابقة كنا نذكر الأركان، فأدخلنا التشهد الأول وهو من الواجبات، وهذا سهو، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني )، لكنكم ما ذكرتموني!
فأقول: إن التشهد الأول قد ذكرنا الخلاف فيه، وأعيده على عجل فأقول:
مذهب الحنابلة أن التشهد الأول والجلوس له واجب، والدليل على وجوبه: حديث ابن مسعود في الصحيحين: ( إذا جلس أحدكم للتشهد فليقل: التحيات ...إلخ )، وهذا جلوس للتشهد في الأول والثاني، وإذا كان (فليقل) دليلاً على أنه واجب؛ فإنه لا يتم الواجب إلا بالجلوس.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما قام إلى الركعة الثالثة ولم يجلس للتشهد الأول، سجد للسهو )، كما في حديث المغيرة بن شعبة الذي رواه الطحاوي ، وهذا إسناده جيد، وأما حديثه الذي رواه أبو داود فإن في سنده ضعفاً، حيث يرويه جابر الجعفي ولا يصح حديثه، لأنه متهم بالكذب، والله أعلم.
أما المسبوق فإنه إذا ترك واجباً جاهلاً أو ناسياً فإنه يجب عليه أن يسجد للسهو إذا صلى البقية الباقية من صلاته، وأما إذا كان مأموماً غير مسبوق فإن الإمام يتحمل عنه سجود السهو، ومما يدل على ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال: ليس على المأموم سهو إلا أن يسجد إمامه، كما رواه ابن المنذر وغيره.
وإنما قلنا: مستحب؛ لأن سجود السهو شرع ترغيماً للشيطان، فالإنسان يرغم الشيطان، سواء ترك واجباً أو ترك مستحباً. إلى هنا نكون قد انتهينا من صفة الصلاة كاملة.
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أجمع أهل العلم على أن من سها في صلاته، أو زاد عن جهل، أو نقص عن نسيان يسجد سجدتين.
وقد دل على مشروعية سجود السهو السنة والإجماع.
الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين في قصة ذي اليدين ( حينما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر، فسلم من ركعتين، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد كأنه غضبان، وفي القوم
الحديث الثاني: حديث ابن مسعود رضي الله عنه حينما صلى خمس ركعات، فإنه سجد للسهو وقال: ( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا سها أحدكم فليتحر الصواب وليبن عليه، وليسجد سجدتين بعد أن يسلم ).
الحديث الثالث: حديث عبد الله بن مالك بن بحينة ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلى صلاة الظهر بأصحابه ولم يجلس للتشهد، ثم لما أراد أن يسلم سجد للسهو ).
الحديث الرابع: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، حينما سلم من ثلاث ركعات، والحديث رواه مسلم .
الحديث الخامس حديث أبي سعيد الخدري وهو في الشك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( إذا شك أحدكم فلم يدر كم صلى، أثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعاً كانتا ترغيماً للشيطان ).
الحديث السادس: حديث المغيرة بن شعبة الذي رواه الطحاوي ، وهو أن من قام من الركعة الثانية إلى الثالثة ولم يستتم قائماً فإنه يجلس، وإن استتم قائماً فإنه لا يجلس، وعليه سجود السهو قبل السلام، أو بعد السلام، كل ذلك قد جاء في الروايات، وسوف نتكلم عنها بتفصيل إن شاء الله.
فإن كان عن زيادة فلا تخلو الزيادة من أن تكون زيادة من جنس الصلاة، أو زيادة من غير جنس الصلاة وعلى هذا تكون الزيادة قسمين:
القسم الأول: إن كانت الزيادة من جنس الصلاة كالركوع والسجود في غير محله، أو قيام في محل قعود أو العكس وهذا له أحوال:
الحال الأولى: أن تكون الزيادة عن تعمد؛ فمن تعمد هذا فقد بطلت صلاته؛ لأنه أخل بنظم الصلاة، وقد سبق أن الترتيب ركن، وهذا زاد قياماً حقه القعود، أو زاد قعوداً حقه القيام، فيكون خالف نظم الصلاة، وهذا أمر مجمع عليه عند أهل العلم، ولا إشكال في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء في صلاته: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد .. إلخ )، فإذا سجد في موضع ركوع أو ركع في موضع سجود فقد خالف ما أمره به صلى الله عليه وسلم.
الحال الثانية: أن تكون الزيادة من جنس الصلاة عن سهو، ففي هذه الحالة يسجد للسهو قبل السلام.
وهناك قول آخر وهو كان السهو عن زيادة فإنه يسجد بعد السلام وهذا هو قول لـإسحاق، ورواية عن أحمد، وقول لـمالك ، وقول أبي حنيفة.
فالراجح والله أعلم هو مذهب الحنابلة، أن الزيادة والنقص يسجد فيها قبل السلام، هذا هو مذهب الإمام أحمد ، واختاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والله أعلم.
إذاً: الراجح أنه إذا زاد عن جهل أو نسيان فإنه يسجد للسهو قبل السلام.
ومما يدل على سجود السهو في الزيادة والنقصان ما جاء في حديث ابن مسعود في رواية مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا صلى أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين )، وفي حديث أبي هريرة : ( وإذا سها أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين ).
وقولنا: إنه يسجد للسهو قبل السلام؛ لأن الأصل أن كل سهو قبل السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد بعد السلام إلا في حالتين:
الحال الأولى: أن يسلم من صلاته وقد بقيت عليه بعض الأركان، فإن الواجب أن يأتي بهذه الأركان إذا لم يطل الفصل، ثم يجلس للتشهد ثم يسلم، ثم يسجد للسهو ثم يسلم، فيكون سجوده للسهو بعد السلام.
ودليل ذلك حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، ( حينما صلى إحدى صلاتي العشي فسلم من ركعتين، فلما أخبره الصحابة أنه أنقص: قام فأكمل صلاته ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم ).
ومثله حديث عمران بن حصين حينما سلم من ثلاث ركعات، على الخلاف هل حديث عمران هو حديث أبي هريرة ، والراجح أنهما حديثان منفصلان؛ لأن حديث عمران بن حصين قال: ( فخرج من بيته يجر إزاره )، دليل على أنه دخل بيته، وأما حديث أبي هريرة فإنه لم يدخل، بل ما زال في محرابه، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
وأما من قال بأنه إذا كان عن زيادة فإنه يسلم ويسجد ثم يسلم؛ استدلالاً بحديث أبي هريرة؛ فنقول: أبو هريرة رضي الله عنه روى أنه سلم عن نقص، وقولهم: إن سلامه الأول فيكون هذا السلام زيادة، فنقول: هذه الزيادة لم تكن من داخل الصلاة، وإنما كانت بعد السلام، فهذا هو الراجح، -والله أعلم- خلافاً لـأبي العباس بن تيمية ؛ ولهذا فالراجح هو مذهب الحنابلة أنه يسجد للسهو قبل السلام، وهذا على سبيل الاستحباب، فلو سها عن زيادة فسلم بعد السلام أو قبله كان ذلك جائزاً.
واعلم أن أهل العلم قالوا: كل ما كان حقه قبل السلام فسجد بعد السلام فهو جائز، وإنما الخلاف في الأفضلية.
وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم على هذا كما قال المرداوي ، ونقله بعض المالكية رحمهم الله تعالى، وخالف في ذلك ابن تيمية فقال: ما حقه بعد السلام فيجب بعد السلام، وما حقه قبل السلام فيجب قبل السلام، والراجح هو قول عامة السلف والخلف وهو قول الأئمة الأربعة، أن ذلك كله على سبيل الاستحباب.
ومما يدل على عدم الوجوب حديث المغيرة بن شعبة كما رواه الطحاوي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( قام من الركعة الثانية إلى الثالثة ولم يجلس للتشهد الأول، فلما جلس في التشهد الأخير سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم )، كما رواه بسند صحيح إبراهيم بن طهمان عن مغيرة عن قيس عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم بعد السلام عن نقص على رأي ابن تيمية ، فدل ذلك على استحباب ذلك، وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله تعالى، وهو قول الأئمة الأربعة.
إذا ثبت هذا فإذا زاد عن جهل ونسيان فإنه يجب عليه أن يسجد للسهو قبل السلام، ولكن لو سجد بعده كان ذلك جائزاً، والأفضل أن يكون قبل السلام كما هو مذهب الإمام أحمد ، واختاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وهذا أضبط للناس؛ لأن أكثر الناس حينما يقال له: إذا كان عن نقص فقبل السلام أو عن زيادة فبعد السلام، وإذا كان عن شك ...، فهذا لا ينضبط لعامة الناس.
وأذكر أني كنت إماماً لسنوات كثيرة، كلما سهوت ذكرت لهم قول ابن تيمية ويشكل عليهم، وبعد بحث وطول تأن وترو تبين أن الأصل أن كل سهو قبل السلام إلا في حالين:
الحال الأولى: أن يسلم عن نقص ولم يكمل صلاته، فإن أتم صلاته فإنه يسلم ثم يسجد للسهو ثم يسلم.
الحال الثانية: إذا شك في صلاته وعنده غلبة ظن، فإنه يبني على غلبة الظن، ثم يسلم ثم يسجد للسهو ثم يسلم.
إذاً الزيادة إما أن تكون من جنس الصلاة، وإما أن تكون من غير جنس الصلاة.
القسم الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة.
فإن زاد زيادة من غير جنس الصلاة، مثل: أن يكثر من الحركة، فإن أكثر العبث وطال عرفاً من غير تفريق، فإن صلاته باطلة، ودليل البطلان حديث حذيفة رضي الله عنه، فإنه حينما رأى الرجل الذي يعبث في صلاته وينشغل ولا يتم الركوع والسجود، قال له: إن مت مت على غير الفطرة التي فطر الله تعالى عليها عباده، وهذا يدل على أن الكلام الكثير والقيل والقال مبطل للصلاة إذا كان عن عمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، ومثل ذلك الشرب والأكل والقيام، فهذا كله زيادة من غير جنس الصلاة فإن فعلها المصلي متعمداً بطلت صلاته.
وأما إذا فعلها جاهلاً أو ناسياً، فإن الراجح أنه إذا لم يطل الفصل فصلاته صحيحة، وصورتها: كما لو سلم الإمام ولم يكمل صلاته، فجعل الناس يتحدثون، وجعل بعضهم يصلح الإنارة أو يصلح الميكرفون، فقال بعض الناس: يا إمام، لقد أنقصت شيئاً من صلاتك، ويجب عليك أن تكمل، فتكون هذه الحركة كأن الناس في صلاة؛ لأنه لما جاز له أن يكمل الصلاة ولم يستأنفها، فإن ذلك يدل على أنه ما زال في الصلاة.
فهذا يدل على أنه لو طالت الحركة وكان ذلك عن جهل ونسيان فإن الراجح -والله أعلم- أنه لا بأس بذلك، ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلى بأصحابه الظهر فسلم من ثلاث، ثم إنه دخل بيته فذكر بذلك، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر إزاره فأكمل بهم صلاته )، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ثم دخل بيته، ثم أزال بعض ثيابه، ثم لبسها ثم خرج، فكل ذلك حركة ولكن الفصل قصير.
وهذه هي رواية عند الإمام أحمد اختارها المجد أبو البركات جد أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
ومما يدل على ذلك إذا كان أنه إن جهل لا يضر حديث معاوية بن الحكم السلمي في قصة كلامه في الصلاة، فإن هذه زيادة من غير جنس الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره أن يعيد صلاته، فقال: ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )، هذا القسم الأول الزيادة.
واعلم أن من أنقص ركناً من أركان الصلاة متعمداً فقد بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً أو ناسياً فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يتذكر بعد السلام وهذا له صورتان:
الصورة الأولى: أن ينقص ويطول الفصل فهذا صلاته باطلة ويجب عليه أن يعيد صلاته.
فلو أنه لم يسجد السجدة الثانية في إحدى ركعاته، ثم سلم ولم يذكره المأمومون، ثم طال الفصل، فإنه يجب عليه أن يعيد الصلاة، ولو أن إماماً أنقص آية من قراءة الفاتحة ولم يتذكر إلا بعد إطالة الفصل، مثل لو صلى بهم المغرب ولم يقرأ آية من الفاتحة كأن قرأ: الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، وطال الفصل فإنه يجب عليه أن يعيد.
الصورة الثانية: إذا أنقص ركناً من أركان الصلاة جاهلاً أو ناسياً ثم تذكر قريباً، فإنه يجب عليه أن يأتي به ويكمل صلاته، ثم يسجد للسهو قبل السلام، وهذا إجماع من أهل العلم، إذاً الحال الأولى: أنقص ركناً وسلم ثم تذكر، فإنه يأتي بركعة بركوعها وسجودها ويسجد للسهو.
الحال الثانية: إذا كان ما زال في الصلاة وتذكر أنه ترك ركناً فلا يخلو من صورتين:
الصورة الأولى: ألا يتذكر إلا بعد أن وصل إلى نفس الركن من الركعة التالية، فتكون هذه الركعة التي صلاها بدلاً عن الركعة التي ترك فيها ذلك الركن، ويكمل صلاته ويزيد ركعة، وتكون هذه الركعة التي أنقص فيها ركوعاً أو سجوداً لاغية.
الصورة الثانية: أن يترك ركوعاً أو سجوداً أو جلوساً بين سجدتين ثم يتذكر قبل أن يصل إلى ذلك الركن من الركعة التالية، فإن الواجب أن يرجع إليه سريعاً، وعلى هذا فلو أنه سجد في الركعة الأولى ثم جلس بين السجدتين، وظن أن ذلك تشهد أول ثم قام، فإنه يكون قد جلس بين السجدتين؛ لأن الجلسة بين السجدتين غير قول: رب اغفر لي؛ وإن كان هو يظن أنها جلوس تشهد.
إذاً: هو جلس بين السجدتين، والمتروك هو السجود الثاني، فإن قام وركع تذكر وهو راكع أو ثم قام فتذكر وهو قائم فإنه يجب عليه أن يهوي ساجداً؛ لأنه تذكر الركن المتروك قبل أن يصل إليه من الركعة التالية، هذا هو الراجح والله أعلم، وهذا نقص الركن.
أما نقص الواجب فهذا لا يخلو من صورتين:
الصورة الأولى: أن يترك واجباً متعمداً وهذا بطلت صلاته، وبالتالي لا يسجد سجود سهو؛ لأن صلاته باطلة.
الصورة الثانية: أن يترك أو نقص واجباً عن جهل أو نسيان فهذا لا يخلو من حالين.
الحال الأولى: أن يكون إماماً أو منفرداً وهذا يجب عليه أن يسجد للسهو إن كان قريباً، وإن كان قد سلم وطال الفصل أو أحدث بعد الصلاة، فإن صلاته صحيحة، والله أعلم.
وأما قول أبي العباس بن تيمية أنه يسجد للسهو ولو طال الفصل، فهذا قول ابن أبي موسى من الحنابلة، وقد ذكره في كتابه الإرشاد.
والراجح -والله أعلم- هو قول بعض أهل العلم أنه إذا طال الفصل، فإن صلاته صحيحة ولا يلزمه سجود السهو، وبعضهم يقول: إن كان في المسجد فيسجد، والصحيح أنه ليس العبرة ببقائه في المسجد ولا بغيره، بل العبرة بإطالة الفصل، والله أعلم.
الحال الثانية: أن يكون مأموماً وهو إن كان ترك الواجب تعمداً فقد بطلت صلاته، وأما إذا كان عن جهل ونسيان، فالذي يظهر أنه إن لم يفته من الصلاة شيء مع إمامه فإنه يسلم مع إمامه والإمام يتحمل النقص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، وقوله صلى الله عليه وسلم كما روى البيهقي : ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين )، هذا عن نقص.
وإذا قلنا: يسجد للسهو فإنه يسجد قبل السلام، ولو سجد بعد السلام فهو صحيح جائز، والله أعلم.
القسم الأول: شك من غير رجحان أحدهما على الآخر، وهذا يسمى شكاً أو ظناً عند الفقهاء؛ لأن الشك والظن عند الفقهاء بمعنى واحد، وأما عند الأصوليين فإن الشك هو تردد بين أمرين لا مرجح لأحدهما على الآخر، وأما عند الفقهاء فإنهم يرون أنه سواء ترجح أحدهما على الآخر أو لم يترجح، فكله يسمى شكاً.
فإذا لم يكن ثمة ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر بحيث شك في صلاته ولم يدر كم صلى، أثلاثاً أم أربعاً؛ فإن الواجب في حقه أن يبني على الأقل، وهو ما يسمى بالبناء على اليقين ثم يكمل صلاته، فإذا جلس في التشهد فإنه يسجد قبل السلام -فالواجب هو سجود السهو- والسنة أن يسجد قبل السلام، وإن سجد بعد السلام فالصلاة صحيحة، لكن الأفضل أن يكون قبل السلام؛ لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، أثلاثاً أم أربعاً؛ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن )، يعني إذا كان يشك هل صلى ثنتين أو ثلاثاً يجعلها اثنتين، أو شك هل صلى واحدة أو اثنتين يجعلها واحدة، ثلاثاً أم أربعاً يجعلها ثلاثاً، أربعاً أو خمساً يجعلها أربعاً؛ لأنه ليس عنده رجحان، فيبني على الأقل ثم يجلس للتشهد فيسجد للسهو ثم يسلم، فإن سلم وسجد فإن ذلك جائز، لكن الأفضل أن يجعل سجوده قبل السلام.
القسم الثاني: إذا شك وعنده ترجيح أحد الأمرين على الآخر، وفي هذه المسألة ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من شك في صلاته وترجح عنده أحد الأمرين على الآخر -يعني عنده غلبة ظن، سبعين بالمائة أو ستين بالمائة على شيء، وأربعين بالمائة على شيء آخر- فإنه يسجد للسهو قبل السلام.
وذهب مالك رحمه الله وقول لـإسحاق ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية إلى أن من شك في صلاته وعنده غلبة ظن، فإنه يبني على غلبة ظنه فإن كان غلبة ظنه الأقل فإنه يبني على غلبة ظن أقل، وإن كان غلبة ظنه الأكثر فيبني على الأكثر، ثم يكمل صلاته بناء على غلبة ظنه، فإذا جلس للتشهد سلم ثم سجد للسهو ثم سلم، فيكون سجود سهوه بعد السلام وليس قبل السلام، وهذا هو الراجح؛ لما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، فليتحر الصواب وليبن عليه ).
وجه الدلالة قوله: (فليتحر الصواب وليبن عليه)، وهذا هو غلبة الظن، ثم قال: ( ثم ليسلم ويسجد للسهو ثم يسلم )، فدل ذلك على أنه إن شك في صلاته وبنى على غلبة ظن فإنه يسلم، ثم يسجد للسهو ثم يسلم.
المسألة الأولى: إذا صار في صلاته سجود سهو قبل السلام وسجود سهو بعد السلام، مثل أن يكون قد سها عن زيادة أو نقص، وشك وعنده غلبة ظن في الجميع، كما لو صلى إنسان وزاد في صلاته أو نقص في صلاته، فهذا حقه السجود قبل السلام، وعنده غلبة ظن وحقه السجود بعد السلام، فأيهما يقدم؟
الراجح والله أعلم أنه يقدم ما قبل السلام؛ لأن السجود قبل السلام داخل الصلاة، وما كان داخل الصلاة فهو أولى من خارجها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
بعض أهل العلم قالوا: يسجد لأنه ترغيم للشيطان، وبعض أهل العلم قالوا: لا يسجد لأن لم يحصل زيادة أصلاً، والراجح والله أعلم أنه إن شك وعمل جزءاً من صلاته بناء على الأقل أو غلبة ظن، ثم تبين له رجحان فعله، فإنه يسجد للسهو، لأنه سها في صلاته وعمل على هذا السهو، فيكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سها أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين )، وهذا قد سها.
ومما يدل على ذلك أنها ترغيم للشيطان كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وبهذا نكون قد انتهينا من سجود السهو.
الراجح والله أعلم أن كل من زاد ذكراً مشروعاً في غير محله فيستحب له أن يسجد للسهو قبل السلام، ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس إذا سها وهو في التشهد يقول: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، فهذا ذكر مشروع في غير محله، فيسجد للسهو، والله أعلم.
وبهذا نكون قد انتهينا من باب سجود السهو، ولعلنا نكمل المسائل في حلقة أخرى إن شاء الله، وإلى ذلكم الحين نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر