إسلام ويب

فقه العبادات - الصلاة [20]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للمأموم مع إمامه إذا سها في صلاته أحوال، فقد يكون مسبوقاً أو غير مسبوق، ولكل حال منها أحكام. واختلف العلماء في أفضل التطوعات بعد الفرائض، والراجح أنها على حسب الأحوال والأشخاص، وأفضل التطوعات في الصلاة ما اختلف العلماء في وجوبها ثم ما يشرع في حقها الجماعة.

    1.   

    سجود السهو في حق المأموم

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأربنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحبتي في الله!

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وبداية أحبي الإخوة والأخوت المشاهدين خلف هذه الشاشة، وكذلك أرحب بإخوتي الذين معنا في الأستديو.

    حكم سجود السهو للمأموم غير المسبوق

    الشيخ: كنا قد توقفنا في آخر مسائل في سجود السهو، وبينا أن سجود السهو إما أن يكون لزيادة، وإما أ، يكون لنقص، وإما أن يكون لشك، وذكرنا تقسيم كل مسألة من المسائل، إلا أنه بقيت مسألة وهي مسألة المأموم هل يسجد تبعاً لإمامه أم لا؟

    أقول والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم: إن المأموم لا يخلو من أن يكون مسبوقاً أو غير مسبوق، وقولنا: (مسبوقاً) يعني: قد فاته من الصلاة ركعة أو أكثر، وأما غير المسبوق فهو الذي أدرك مع إمامه الركعة الأولى.

    فعندنا الآن حالان:

    الحال الأولى: إن كان المأموم لم يفته شيء من صلاته -وهو ما يسمى بغير المسبوق- فإنه يجب أن يسجد مع إمامه إذا سجد، ولا يسجد إذا لم يسجد الإمام، وإذا كان المأموم قد أنقص شيئاً من صلاته من الواجبات، فإن الإمام يتحمل عنه، أما لو أن الإمام ترك سجود السهو والمأموم يرى أن الإمام يجب عليه أن يسجد ولم يسجد -إما لجهل وإما لنسيان أو غير ذلك- فإن المأموم غير المسبوق يسجد لذلك.

    وللتوضيح أكثر أقول: المأموم غير المسبوق هو من أدرك مع إمامه تكبيرة الإحرام، فإن سجد الإمام للسهو فوجب على المأموم أن يسجد، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، كـابن المنذر و ابن حزم أنه يسجد تبعاً لإمامه؛ لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة و أبي هريرة ، وعند مسلم من حديث أبي موسى : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وأبو موسى لم يروه بهذا اللفظ، إنما رواه البخاري و مسلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا ) ... الحديث. فدل ذلك على أن الإمام إذا سجد للسهو فإن المأموم واجب عليه أن يسجد وهذه الصورة الأولى.

    الصورة الثانية: وهي ما إذا ترك المأموم غير المسبوق شيئاً من واجبات الصلاة، مثل: أن يكون قد نسي أن يقول: (سبحان ربي العظيم) أو نسي أن يقول: (سبحان ربي الأعلى) وقد قلنا: إن هذا واجب كما هو مذهب الحنابلة خلافاً للجمهور، فإن المأموم حينئذ لا يسجد؛ لأن الإمام يتحمل عنه سجوده؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، كما روى ذلك أبو هريرة .

    ومما يدل على أن الإمام يتحمل عن المأموم ما جاء مرفوعاً، والصواب وقفه على علي بن أبي طالب كما رواه البيهقي : ( إنما الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين )، فدل ذلك على أن الإمام يتحمل، فهو ضامن لنقص مأمومه.

    الصورة الثالثة: لو ترك الإمام واجباً، مثل: أن يكون قد قام من الركعة الثانية إلى الثالثة ولم يجلس للتشهد الأول، فلما سلم لم يسجد، فإذا ظن المأموم أن الإمام لن يسجد وقال: أنا ما أخطأت، فإن المشروع في حق المأموم أن يسجد؛ لأن الإمام انفتل من صلاته.

    صور سجود السهو للمأموم المسبوق

    الشيخ: الحال الثانية: من أحوال المأموم وهي إذا كان المأموم مسبوقاً، فإن المأموم في هذه الحال يسجد إذا سها في صلاته؛ لأننا قلنا في المأموم غير المسبوق: لا يسجد للسهو؛ لأنه تبع لإمامه، أما المسبوق الذي فاته شيء من صلاته، فإنه يكون قد انقتل عن الإمام، وحينئذ فإنه يفعل مثل فعل المنفرد، فلما كان المنفرد يجب عليه أن يسجد للسهو في واجب، وجب على المسبوق أن يسجد للسهو في واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين )، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود وفي أهل السنن من حديث أبي هريرة هذه الصورة الأولى.

    الصورة الثانية: أن يدرك المأموم إمامه في سجود للسهو بعد السلام، بمعنى: لو أن الإمام إذا جلس في التشهد الأخير ثم سلم ثم سجد للسهو، فإن المأموم المسبوق هل يسجد للسهو أم لا يسجد؟

    اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:

    القول الأول: أن المأموم المسبوق إذا سها إمامه وسجد بعد السلام، إن المشروع إنه إذا سلم الإمام فإن المأموم لا يسلم، بل ينتظر، فإذا سجد الإمام للسهو سجد المأموم معه، ثم إذا جلس الإمام وأراد أن يسلم فسلم فإن المأموم يقوم فيكمل صلاته، هذا القول الأول.

    وللتوضيح أكثر قالوا: إن المأموم المسبوق الذي أدرك إمامه في التشهد الأخير، فإن كان الإمام سجد للسهو بعد السلام، فإن المشروع في حق المأموم أن ينتظر إمامه ولا يسلم معه، فإذا سلم الإمام ثم سجد للسهو سجد المأموم المسبوق معه، ثم قام فأكمل صلاته.

    والقول الثاني في المسألة: وهو أن الإمام إذا سلم من صلاته فقد انفتل المأموم عن إمامه، فإذا سجد الإمام بعد ذلك للسهو بعد السلام، فإن المسبوق لا يسجد، بل الواجب عليه أن يقوم؛ لأنه بمجرد سلام إمامه انفصلت صلاة الإمام عن صلاة المأموم، ثم يكمل المأموم الصلاة، فإذا جلس لتشهده الأخير فإنه يفعل مثل ما فعل إمامه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، فيأتم به بالتشهد الأخير، فيسلم ثم يسجد للسهو ثم يسلم.

    والراجح هو القول الثاني؛ وهو أن المسبوق إن أدرك إمامه في التشهد وكان حقه قبل السلام، وجب على المسبوق أن يسجد قبل السلام، وإن أدرك إمامه في سجود سهو بعد السلام، فالراجح أن المأموم بمجرد سلام إمامه ينفتل عن إمامه ويكمل صلاته، فإذا جلس في التشهد الأخير، فإنه يسلم ثم يسجد السهو ثم يسلم، هذا هو الراجح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما روى أحمد و الترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ).

    وجه الدلالة: فبمجرد سلام إمامه فقد انفتل المأموم عن إمامه، وهذا القول هو القول الراجح.

    الصورة الثالثة: إن سها إمام المسبوق ولم يسجد للسهو، ثم قام المسبوق، فإن المشروع في حقه أن يسجد؛ للنقص الذي لم يسجد معه إمامه.

    فتلخص أنها ثلاثة أحوال:

    الحال الأولى: إذا سها إمامه وسجد معه، وإن كان بعد السلام، فإن الراجح أنه إذا سلم انفتل المأموم عن صلاته، فإذا جلس للتشهد الأخير سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم.

    الحال الثانية: إذا سها المسبوق في صلاته فترك واجباً، فإننا نقول: لو لم يكن مسبوقاً لما جاز له أن يسجد؛ لأجل ألا يخالف الإمام، أما المسبوق فإنه إذا جلس للتشهد الأخير، فإنه إن كان سجود قبل سلام سجد قبل السلام، وإن كان بعد سلام سجد بعد السلام.

    الحال الثالثة: وهي حالة ما إذا ترك الإمام واجباً ولم يسجد له، فإذا قام المسبوق وأكمل صلاته، فإن المشروع في حقه أن يسجد للسهو؛ لأن إمامه لم يسجد، فكان ذلك من واجبات الصلاة، ولم يفعلها الإمام فيفعلها المأموم، وإنما قلنا: لا يفعل في الأولى؛ لأنه إنما كان تبعاً لإمامه.

    وبهذا نكون قد أنهينا باب سجود السهو، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    1.   

    مذاهب الفقهاء في أفضل التطوعات

    الشيخ: الآن سوف نشرح مسائل في صلاة التطوع.

    أولاً: من المعلوم أن أفضل ما يتقرب العباد إلى الله سبحانه تعالى هو ما افترضه عليهم؛ كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فوجه الدلالة: هو قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فدل ذلك على أن تقرب العباد إلى الله بما فرضه عليهم أحب إليه وهذه المرتبة الأولى.

    المرتبة الثانية: وهي ما اختلف أهل العلم في وجوبها مع أن دليل الوجوب ظاهر، وهو أفضل مما لم يختلفوا في وجوبها؛ لأن اختلافهم في الوجوب دليل على عظم هذا الشأن، وهذه مسألة مهمة في ترتيب الأولويات، وهو أن بعض الناس أحياناً يفعل بعض المستحبات ويترك الواجبات أو يترك الأركان؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما فقد سليمان بن أبي حثمة وكانت أمه تسمى الشفاء ، وكان عمر قد نصبها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر في سوق النساء، ثم إن عمر رضي الله عنه افتقد سليمان في صلاة الفجر، فلما ذهب يعس في السوق وجد الشفاء أم سليمان فقال: يا أم سليمان ! لم أر سليمان في صلاة الفجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! لقد كان سليمان يصلي من الليل حتى أخذته عينه فنام عن صلاة الفجر، فقال عمر رضي الله عنه: والله لأن أصلي الفجر في جماعة أحب إلي من أن أقوم الليل كله! وهذا يدل على أن كثيراً من الناس إنما يتعبدون الله بما يصلح ذلك بقلوبهم، ولم ينظروا إلى سنة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان العلماء أفضل من العباد؛ لأن العالم لا يعبد الله إلا على أمرين: بما شرع على لسان نبيه، وبما أمره الله من الإخلاص، والعابد ربما يوافقه الأمر الأول وهو الإخلاص، لكنه قد لا يتابع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل الطرق مسدودة إلى الجنة إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )، وقال سبحانه وتعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، ولهذا لسنا بحاجة إلى أن نبالغ هل هذا الأمر جائز أم ليس بجائز؟ إذا لم يثبت هل هو بدعة أو ليس بدعة؟ مجرد أنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي لنا أن نتكلفه.

    ولهذا أنا أعجب عجباً لا ينقضي! حينما أجد بعض الناس يتحمس ويبذل الغالي والنفيس في سؤال أهل العلم، هل فعله جائز أم لا؟ وأكثر أهل العلم يرون أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيبالغ في شرعنتها، وبدلاً من هذا كله كان الأولى أن تفعل ما هو أصلح لقلبك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واختر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أنفع لقلبك، بدلاً من أن تخترع شيئاً لم ينزل الله به من سلطان، فلهذا ينبغي للناس أن يتفقهوا في دينهم، وأن يعلموا أن أكمل الفقه هو أن ينظر الإنسان ماذا كان صلى الله عليه وسلم يصنع.

    ولهذا قال عمر : والله لأن أصلي الفجر في جماعة أحب إلي من أن أقوم الليل كله؛ لأن قيام الليل سنة وصلاة الفجر فرض في وقتها وفي الجماعة أيضاً؛ لأن صلاة الجماعة واجبة على الراجح؛ لأجل هذا اختلف أهل العلم ما أفضل التطوعات بعد الفرائض؟

    مذهب الحنابلة في أفضل التطوعات

    الشيخ: فذهب الحنابلة إلى أن أفضل التطوعات هي الجهاد، ثم العلم لمن صحت نيته، ثم الصلاة، ونقصد بالجهاد هو الجهاد الذي ثبت على الأمة أنه فرض كفائي، وليس هو الجهاد الذي هو فرض عين، وهو ما إذا داهم العدو بلداً من بلاد المسلمين، فإنه يجب على المسلم المقيم في هذا البلد أن يجاهد ما استطاع إذا كان هناك راية إسلامية، والله أعلم.

    الثاني: العلم، فإن العلم من أعظم ما يتقرب العبد به إلى الله، ولهذا قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : فبدأ بالعلم قبل العمل؛ لأن العلم أهم.

    هذا مذهب الحنابلة على أن أفضل التطوعات الجهاد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الجهاد وبين فضل الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وقال: ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها )، وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( رباط يوم في سبيل الله خير من قيام شهر وصيامه )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده إني أحب أن أجاهد في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل، ثم أحيا فأقتل )؛ لعظم أجر الشهيد، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

    مذهب أبي حنيفة ومالك في أفضل التطوعات

    الشيخ: القول الثاني: أن أفضل التطوعات بعد الفرائض هو العلم، وهذا هو مذهب أبي حنيفة و مالك بن أنس ، وهذا يدل على أن تفرغ طالب العلم للعلم من العبادات إذا أخلص لله النية، وأحسن له الطوية، ولا تغتر بكثرة الهالكين الذين يقولون: أنت تدرس أو تدرس بعض المسائل والأمة في خطر، ليس هذا وقتك! أنت إذا أدركت منكراً تستطيع إنكاره فيجب عليك أن تنكره، لكن أن تتصدر في مسائل الأمة فهذا ليس وقتك، فوقتك أن تبذل العلم، وأن تتعلم على أيدي أهل العلم الربانيين الذين يعلمون صغار العلم قبل كباره، حتى إذا علا كعبك واشتد ساعد علمك واحتاجت الأمة إليك، انبريت إلى هذه المقامات التي لا يدركها إلا أولو العزم.

    لكن لا يمكن أن يتسلق الإنسان وهو لم يتزبب بعد، كما يقول أبو علي الفارسي : لا تتزبب قبل أن تتحصرم. يعني لا تكن زبيباً قبل أن تكون حصرماً، والحصرم هو العنب الصغير الذي فيه حموضة شديدة، فلا يمكن أن يكون زبيباً إلا أن يكون سبقه حصرم، وهذا يدل على أن طالب العلم كذلك، لا ينبغي أن يتصدر المسائل وهو لما ينضج بعد في العلم، ولم يعرف الناس أنه عالم تفنن في العلم، نسأل الله سبحانه تعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين.

    فذهب مالك و أبو حنيفة إلى أن أفضل التطوعات العلم لمن صحة نيته، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله )، فقالوا: إن هذا العدل هو العلم، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يورث ديناراً ولا درهماً، وإنما ورث العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر.

    مذهب الشافعي في أفضل التطوعات

    الشيخ: وذهب الشافعي إلى أن أفضل التطوعات هي الصلاة، واستدل على ذلك بما رواه علي بن يزيد الألهاني عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصلاة خير موضوع، فإن شئت فاستقبل أو استكثر )، وهذا الحديث في سنده ضعف، فإنه يرويه علي بن يزيد الألهاني ، وروايته عن القاسم أبي عبد الرحمن منكرة كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم كـالبخاري وغيره، فدل ذلك على أن الحديث ضعيف والله أعلم.

    الراجح في أفضل التطوعات

    الشيخ: ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ( أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لوقتها )، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، وسئل ( أي الأعمال أفضل؟ فقال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله )، كما في الصحيحين من حديث أبي ذر .

    وسئل: ( أوصني! فقال: لا تغضب ).

    وسئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (الصدقة)، قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: والأفضل في ذلك هو أنه على حسب أحوال الأشخاص، وعلى حسب الأزمنة والأمكنة.

    ولعل هذا القول من الفقه الذي حباه الله أبا العباس بن تيمية رحمه الله، قال: وهذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء وقت الجهاد فإن الجهاد في حقه أفضل، وإذا جاء وقت العلم فالعلم أفضل، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122]، فـأمر الله سبحانه وتعالى ألا ينفر إلى الجهاد إلا جماعة، ويبقى جماعة آخرون يعلمون الناس، قال: وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122].

    إذاً العلم صار أفضل من الجهاد؛ لأن المجاهد يذهب ويتعلم عن طريق العالم، وهذا في وقت، كذلك إذا احتاج المسلمون إلى الصدقة كما حصل للمسلمين في معركة جيش العسرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من جهز جيش العسرة فهو في الجنة، فجهزه عثمان رضي الله عنه )، وقال: ( من يشتري بئر رومة وهو رفيقي في الجنة، فكان عثمان رضي الله عنه )، فدل ذلك على أن هذا على حسب الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة.

    والذهاب إلى مكة وكثرة الطواف فيها أفضل من قراءة القرآن، مع أن الذكر أفضل من غيره، وهذا على حسب الأحوال والأشخاص، فـابن مسعود رضي الله عنه كان يقوم الليل يقرأ القرآن ويقول: لا أستطيع أن أصوم؛ لأنني إذا صمت تركت قراءة القرآن، فيقلل من الصيام ويكثر من تلاوة القرآن، فيقول: إن تلاوتي للقرآن أنفع لي، فصار هذا في حق ابن مسعود أفضل، وهذا من الفقه الذي ربما لا يدركه كثير من الناس!

    فحينما نجد بعض الخطباء يتحدث عن فضل الصدقة، فيتحسر بعض الناس إذا لم يكن عنده مال، فيقول: يا ليتني! نقول: جزاك الله خيراً، تحسرك لك فيه أجر، لكن هناك أعمال أنت قادر على العمل بها، وأن تتفانى في سبيلها، وأن تخدم أمة محمد وتخدم دينك في تحصيلها، وهذا من قدراتك، ولهذا ينبغي أن نوزع المهام، وهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    فجعل سيف الله المسلول خالداً ، وجعل أمين هذا الأمة أبا عبيدة ، وجعل الشيطان يفرق من عمر ، وما كان أصدق لهجة من أبي ذر ، وكان صديق هذه الأمة هو أبا بكر ، فمن ظن أنه يستطيع أن يدرك كل هذه الأشياء في شخص، فإنه لم يفهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كانت أبواب الجنة ثمانية، منها باب الريان لمن أكثر من الصيام، ومنها باب الصلاة، ومنها باب الصدقة، ومنها باب الوالد، ودل ذلك على أن هذه ربما يدعى إليها الإنسان كلها وهذا لا يتأتاها إلا أولو العزم كما كان أبو بكر ، ومنهم من يغلب عليه الصلاة فيدخل من باب الصلاة، ومنهم من يغلب عليه الصوم فيدخل من باب الصوم، ومنهم من يغلب عليه بره لأمه أو لأبيه، فيدخل الجنة من هذا الباب، فالناس يتفاوتون.

    وإن كان الإنسان إذا أدرك هذه الأشياء كلها، فإنه أفضل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    فضيلة الصلاة والتزود من التطوع بها

    الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه لا ينبغي للإنسان أن يقلل من صلاته، فإن التقرب إلى الله بالصلوات من أعظم القربات، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم: ( إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة )، وقال الله سبحانه وتعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فدل ذلك على أن الإنسان إذا صلى لله سبحانه وتعالى فإن ذلك من أعظم القربات.

    ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين مقبلاً على الله تعالى بوجهه، غفر الله له ذنبه )، وهذا أمر ميسور، لكنه لا ينشغل، بل يتضرع إلى الله وينطرح بين يديه، ولهذا كانت الصلاة من أعظم القربات.

    1.   

    ترتيب نوافل الصلاة من حيث الأفضلية

    الشيخ: إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في أفضل التطوعات من الصلاة، فالصلاة فيها فرائض وفيها سنن رواتب، وفيها الوتر، وفيها الاستسقاء، وفيها الكسوف، وفيها التراويح، فاختلف العلماء في ترتيبها حسب الأفضل.

    أولاً: قلنا في مقدمة كلامنا: إن أحب ما تقرب العباد إلى الله هو ما افترضه عليهم، ثم ما اختلف أهل العلم في وجوبه، فإن اختلافهم في الوجوب دليل على قوة دليل الوجوب، لكن اختلافهم في الوجوب في أمر يدل على أنه أقوى مما لم يختلفوا فيه في الجملة.

    وقد أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وبين أن تسبيح المرء ودعاءه في الطواف، أفضل من قراءته للقرآن؛ قال: لأنهم اختلفوا في قراءة القرآن في الطواف، ولم يختلفوا في الذكر والتسبيح والدعاء، فدل على أن التسبيح والذكر والدعاء في الطواف أفضل من قراءة القرآن؛ لأنهم لم يختلفوا فيه، واختلفوا في قراءة القرآن للطواف، وهذه قاعدة مهمة.

    صلاة الكسوف

    الشيخ: إذا ثبت فإن ما اجتمع فيه الأمران: جماعة ووجوب فهو أقوى؛ ولهذا فالأقرب والله أعلم أن أولى التطوعات هي صلاة الكسوف؛ لأنها اجتمعت في أمرين:

    أولاً: لأن العلماء اختلفوا في وجوبها، وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى أنها واجبة، وإن كان جمهور أهل العلم على عدم الوجوب، والقول بالوجوب هو قول ابن القيم ورواية عند الإمام أحمد وقول لأهل الظاهر.

    والراجح هو عدم الوجوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: ( هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تتطوع )، وهذا داخل فيها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يتركها؛ لأنه تخويف من الله سبحانه وتعالى لعباده.

    ومما يدل على الأمر قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وصلوا وتصدقوا )، وفي حديث آخر: ( فافزعوا إلى الصلاة )، والحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومتفق عليه من حديث أبي موسى ومن حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابيات.

    إذا ثبت هذا فإن صلاة الكسوف مما اختلف العلماء في وجوبه، وهي تقام جماعة فهي أفضل.

    صلاة الوتر

    الشيخ: ثم الوتر؛ وذلك لأن أهل العلم اختلفوا في الوتر، هل هو واجب أم لا؟

    فذهب مالك و الشافعي و أحمد إلى أن الوتر ليس بواجب، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوتر واجب، وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أنه واجب في حق من يتهجد من الليل، فإذا قام الإنسان يتهجد من الليل فإنه يجب عليه أن يوتر؛ استدلالاً بالآية: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20] الآية.

    والذي يظهر أن صلاة الوتر ليست بواجبة، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يتركها، فإن الإمام أحمد مع أنه يقول بأن صلاة الوتر ليست بواجبة، سئل عن رجل يترك صلاة الوتر؟ فقال: رجل سوء لا تقبل له شهادة، وقد أشار الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات إلى أن بعض العبادات هي مستحبة أو سنة في آحادها، واجبة في كلياتها، فإذا تركها وداوم على الترك فإنه يأثم، ولعل هذا القول قوي، وهو أن الأصل أنها سنة، لكن إذا داوم على الترك فإنه منهي عنه.

    ومما يدل على عدم الوجوب: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( كان رسول صلى الله عليه وسلم يوتر على الراحلة، ويصلي ويومئ، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )، وهذا الحديث متفق عليه.

    وجه الدلالة: أن ابن عمر رضي الله عنه بين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطوع على الراحلة، ويوتر على الراحلة، ولم يكن يصنع ذلك في الفريضة، فدل على أن الوتر ليس بفريضة.

    واعلم أن أدلة القول بالوجوب ليست قوية وليست ظاهرة، وأحسن شيء في الباب هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يوتر فليس منا )، وهذا الحديث لو صح لكان فاصلاً في المسألة، غير أن الحديث لا يصح، فقد رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي سنده رجل يقال له: خليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة ، والحديث لا يصح؛ لأن خليلاً ضعيف، وقد رواه عبيد الله بن عبد الله العتكي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن حصيب الأسلمي ، ولكن عبيد الله هذا رجل ضعيف يقلب على الرواة أحاديثهم، فهو ضعيف كما ضعفه النسائي وغيره.

    وفي حديث أبي أيوب أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بسبع فليفعل )، وهذا الحديث اختلف أهل العلم في رفعه ووقفه، فذهب أبو حاتم و الذهلي و الدارقطني و البيهقي إلى أن الصحيح أن الحديث موقوف على أبي أيوب ، وهذا هو الراجح، خلافاً للشوكاني و ابن حجر ، فإن ابن حجر رجح رفعه والصواب وقفه، ولو صح الحديث فليس فيه دليل على الوجوب؛ لأن الأحقية دليل على الأهمية، فليست دليلاً على الوجوب؛ لأن ألفاظ الشارع تختلف عن ألفاظ الفقهاء.

    واستدلوا على أن الوتر ليس بواجب بحديث علي رضي الله عنه: ( الوتر ليس بحتم كهيئة الفريضة )، والحديث جيد لو صح، ولكنه موقوف على علي بن أبي طالب ، وفي سنده عاصم بن ضمرة فيها كلام كما أشار إلى ضعفها أبو حاتم وغيره.

    وعلى هذا فالذي يظهر لي والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم: أن الوتر ليس بواجب، وهذا هو مذهب الجمهور، وأقوى دليل على عدم الوجوب حديثان: حديث طلحة بن عبيد الله في قصة الأعرابي الذي قال: هل علي غيرها؟ قال: ( لا، إلا أن تتطوع )، وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على الراحلة ولا يصلي عليها الفريضة، وهذا دليل على قوة الخلاف.

    صلاة الاستسقاء ثم التراويح

    الشيخ: الأمر الثالث في الترتيب بعد الوتر هو صلاة الاستسقاء.

    وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم عند البخاري و مسلم ، وكما عند الإمام أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس ، وكما عند أهل السنن من حديث عائشة ومن حديث أبي هريرة ، فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء، وهذا هو مذهب مالك و الشافعي و أحمد خلافاً لـأبي حنيفة الذي يقول: لا تستحب صلاة الاستسقاء، وهذا يتعجب منها الحضور!

    أبو حنيفة لا يرى صلاة الاستسقاء إلا بالدعاء فقط في صلاة الجمعة، أما الصلاة فلا تشرع، والصحيح استحباب ذلك كما سوف يأتي تفصيل ذلك في بابه.

    وإنما قلنا بعد ذلك الاستسقاء؛ لأن صلاة الاستسقاء وإن لم يختلفوا في وجوبها لكنها تصلى جماعة، وهذا دليل على أفضليتها؛ فما كان عن جماعة فهو أفضل مما يصلى على انفراد. ثم بعد الاستسقاء صلاة التراويح.

    1.   

    صلاة الوتر

    أقل الوتر

    الشيخ: إذا ثبت هذا فاعلم أن الوتر مع مشروعيته، فإن الراجح أن أقله ركعة، هذا هو مذهب جمهور الصحابة، فقد صح عن عثمان وفعله ابن عباس و ابن عمر وروي عن عمر ، وروي عن أبي بكر ، ولم يصح عنهما وإنما صح عن جمع من الصحابة، كما ذكر ذلك البيهقي في السنن الكبرى، وكما ذكر غير واحد من أهل العلم، ولا يفعل الصحابة ما هو منهي عنه.

    وأما ما جاء في حديث: ( فمن أحب أن يوتر بركعة فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل )، فهذا حديث لا يصح، وإنما جاء من حديث أبي أيوب ذكر الثلاث، وأما حديث أم سلمة ففي سنده ضعف.

    لكن مما يدل على الركعة ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى )، وهذا يدل على أن الوتر واحدة، وقد كان عثمان رضي الله عنه يوتر فيقرأ القرآن بركعة واحدة، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمة الله تعالى على الجميع.

    أدنى الكمال في الوتر

    الشيخ: وأدنى الكمال ثلاث، ولا ينبغي للإنسان أن ينقص عن ثلاث؛ لما جاء في حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بسبع فليفعل )، فجعل صلى الله عليه وسلم أقل الوتر ثلاثاً، وهذا فيما إذا كان سوف يوتر بثلاث ولا يصلي بعدها.

    وأما ما جاء في الحديث أنه قال: ( ولا تشبهوا بالمغرب )، فهذا حديث يرويه الحاكم من حديث أبي هريرة ولا يصح، ولهذا كره الحنفية أن يصلي الثلاث على هيئة صلاة المغرب، بل يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي ركعة، والصحيح أن له في الثلاث الركعات أن يجمعها في تشهد واحد، وأن فعلها في سلامين فهذا أفضل، وإن جعلها مثل المغرب بأن جلس للتشهد الأول ثم قام فهذا الصحيح أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صنعه، وأقل ما صنعه صلى الله عليه وسلم إنما هو سبع، وأما الخمس فإنما أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها كما في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وإن كان الحديث رواه مسلم فقد تكلم فيه بعض الحفاظ كـالأثرم وغيره.

    أما الجواز فإنه يجوز لكن تركه أفضل؛ لأننا نقول: إن الأفضل أن يوتر بثلاث ركعات، إما يجعلها بسلام واحد وبتشهد واحد، وإما أن يجعلها بسلامين وتشهدين، وأما أن يجعلها مثل المغرب فإن الأولى تركه، ولكنه لم يأت دليل على المنع.

    وأما حديث: ( لا توتروا بثلاث ولا تشبهوا بالمغرب )، فهذا الحديث رواه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي سنده ضعف، والله تبارك أعلى وأعلم.

    الوتر بخمس أو سبع وصور ذلك

    الشيخ: ويجوز للإنسان أن يوتر بخمس، وأن يوتر بسبع، وأن يوتر بتسع، فكل ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فثبت عنه أنه أوتر بثلاث على خلاف في صحة حديث أبي أيوب ، وثبت عنه أنه أوتر بخمس كما في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عند مسلم وإن كان بعضهم يضعفه: (يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرها)، وفعل صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( أنه صلى سبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة، ثم قام فصلى ركعة واحدة ثم جلس فسلم )، فجعل في صلاته السبع ركعات كلها في تشهدين، وإن جعلها كلها في تشهد واحد جاز ذلك، وإن كان الأفضل أن يصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند مسلم .

    صور الإيتار بتسع

    الشيخ: وكذلك إن أراد أن يوتر بتسع فعل، وهي على ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يصلي ركعتين ركعتين، ثم يوتر بركعة، وهذا أفضل الطرق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة )، هذه رواية البخاري و مسلم ، وراه مسلم بلفظ: ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ركعتين، فإذا خشي الصبح صلى ركعة واحدة ).

    الصورة الثانية: أن يصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، ويقرأ التشهد الأول ثم يقوم إلى التاسعة، ثم إذا جلس للتشهد سلم، وهذا ثابت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها حينما أخبرت سعد بن هشام عن وتره صلى الله عليه وسلم.

    الصورة الثالثة: أن يصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في التاسعة، فهذا أيضاً جائز، وقول مثل ذلك في السبع جائز.

    صور الوتر بإحدى عشرة ركعة

    الشيخ: وأما الوتر بإحدى عشرة، فلم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل في إحدى عشرة إلا أنه صلى ركعتين ركعتين، كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً ).

    وقد اختلف العلماء في تفسير معنى هذا الحديث، وما معنى (يصلي أربعاً)، هل يجلس في الركعة الرابعة، أم ركعتين ركعتين بتسليمين؟

    الراجح هو مذهب جماهير أهل العلم، أن المقصود بحديث عائشة أن يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم ركعتين طويلتين ثم يسلم، ثم بعد ذلك ركعتين ركعتين طويلتين أقل من التسليمتين الأوليين، هذا هو مذهب جماهير السلف والخلف.

    وخالف في ذلك بعض أهل العلم، واختاره الشوكاني أن له أن يصلي أربع ركعات في تشهد واحد، ولكن هذا خلاف السنة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ركعتين )، وإن كان هذا الفعل مكروهاً أو جائزاً، ولكن ليس بواجب، فإن الحنابلة يقولون: من قام في صلاة الليل إلى ثالثة من صلاة الليل، فكأنما قام إلى ثالثة من صلاة الفجر، وهذا قول عند الحنابلة.

    ولكن الراجح هو مذهب الإمام أحمد الذي نقله الأثرم وذكره أبو عمر بن عبد البر : أنه لو صلى كذلك جاز، لكن السنة والأفضل أن يصلي ركعتين ركعتين والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    فإن فعل فقد خالف السنة، وفعله مكروه، ولكنه ليس بحرام، هذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

    وقد ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر أن الأفضل في صلاة الليل والنهار أن يصلي ركعتين ركعتين، فإن صلى في الليل أربع ركعات في جلوس واحد، فإن فعله خلاف السنة، وإن كان جائزاً؛ لأن الحديث: ( إذا صلى أحدكم من الليل، فليصل ركعتين ركعتين )، هذا خرج مخرج الاستحباب، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في صلاة ليل، فإنه صلى سبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة، فهذا ظاهره يخالف حديث ابن عمر ؛ لأن في حديث ابن عمر أنه يصلي ركعتين ركعتين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل إلا تشهداً أو تشهدين في سبع، أو تشهدين في تسع.

    وأما إحدى عشرة ركعة فإنه جاء عند أبي هريرة أنه قال: ( من أحب أن يوتر بإحدى عشرة ركعة فليفعل )، وجاء مرفوعاً ولا يصح رفعه، والصواب وقفه على أبي هريرة ، وهذا يدل على الجواز، ولكن الأفضل في الإحدى عشرة ركعة أن يصلي ركعتين ركعتين، وهذا على هذا فإننا نقول: الأفضل أن يصلي من الليل ركعتين ركعتين، فإذا خشي الصبح صلى ركعة فإن صلى ركعتين ركعتين ثم الثلاث ركعات صلاها بتشهد واحد وسلم، فهذا أيضاً جائز.

    وإن أحب أن يجعل الباقي خمس ركعات في تشهد أخير، فهذا ثابت في صحيح مسلم ، وإن شاء الله أن الحديث أقرب الى الصحة؛ لأن مسلماً رواه.

    الثاني: أن يجلس في سبع كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: ( كنا نعد له طهوره وسواكه فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيصلي ست ركعات لا يجلس إلا في السادسة، فيصلي على الملائكة المقربين ثم يقوم ويصلي ركعة ثم يجلس فيوتر، ثم يصلي بعدها ركعتين، فتلك تسع ركعات يا بني ) الحديث، فهذا يدل على أنه فعل هذا وفعل هذا.

    ولعل في هذا كفاية ونكمل إن شاء الله في درس لاحق، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952769