الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً,
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إخوتي المشاهدين والمشاهدات!
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً, وأن ينفعنا بما نسمع ونقول, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كنا قد توقفنا في بعض مسائل من صلاة التطوع التي اختلف أهل العلم هل هي صلاة أم لا؟ وقد تحدثنا عما أجمع أهل العلم على أنها صلاة كصلاة الضحى وصلاة الليل وصلاة الوتر.
ثم ندلف في هذه الحلقة إلى ما يسمى بسجود التلاوة وسجود الشكر, فقد اختلف أهل العلم في سجود التلاوة هل هو صلاة أم لا؟ وكم عدد سجدات التلاوة؟ وما حكم سجدة التلاوة؟ وهل يسجد المستمع كما يسجد القارئ؟ وإذا لم يسجد القارئ فهل يسجد المستمع؟
مسائل سوف نتحدث عنها إن شاء الله في هذا اليوم.
فذهب جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن سجود التلاوة مستحب وليس بواجب, وهو قول عمر رضي الله عنه, خلافاً لـأبي حنيفة الذي قال إن ذلك واجب, وهو اختيار ابن تيمية رحمهم الله جميعاً.
والراجح -والله أعلم- أن سجود التلاوة مستحب، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر أنه قال: ( أيها الناس! إنا نمر بالسجدة فنسجد، فمن سجد فقد أصاب, ومن لم يسجد فلا إثم عليه ), وفي رواية لـمالك في الموطأ: ( إن الله لم يأمرنا بالسجود إلا أن نشاء ).
ومما يدل أيضاً على أن سجود التلاوة مستحب ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فسجد فيها ), وهذا فعل، والفعل يقتضي الاستحباب.
وروى البخاري من حديث زيد بن ثابت أنه قال: ( قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ولم يسجد فيها ).
فدل سجوده في حديث ابن عباس على مشروعيته, ودل تركه في حديث زيد بن ثابت على أنه يجوز للإنسان تركه, وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
نقول: اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فذهب جماهير الفقهاء من الأئمة الأربعة على أن سجود التلاوة صلاة, وعلى هذا فيشترط فيه ما يشترط للصلاة, مثل: الطهارة واستقبال القبلة والتكبير، ومثل أن المستمع لا يسجد إذا كانت ستسجد سجود التلاوة امرأة؛ لأنه لا تصح صلاة رجل خلف امرأة, وهذا بناء على أنها صلاة.
واستدلوا على ذلك بما رواه البيهقي عن ابن عمر بسند صحيح أنه قال: (لا يسجد الرجل إلا على طهارة), قالوا: فدل ذلك على أن الصحابة فهموا أن سجود التلاوة يشترط فيه ما يشترط للصلاة.
والراجح والله أعلم أن سجود التلاوة ليس بصلاة, وهذا هو مذهب ابن حزم ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
ومما يدل على ذلك أمور:
أولاً: صح عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه سجد للتلاوة وهو على غير طهر, فدل ذلك على أن ابن عمر حينما أمر بالطهارة في سجود التلاوة -كما هو هنا-، فإنما كان ذلك على سبيل الاستحباب, وعندما سجد على غير طهارة فهذا دليل على أن ذلك ليس بواجب ولا شرط.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح البخاري و مسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ), قالوا: ومن المعلوم أن سجود التلاوة لا يشرع فيها قراءة الفاتحة، فدل على أن سجود التلاوة ليس بصلاة.
ومما يدل على ذلك: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه كبر لها في غير الصلاة.
وأما ما جاء عند الحاكم أنه: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم السجدة فسجد فسجدنا ), وفي رواية: ( فكبر ), فإن رواية التكبير رواية ضعيفة في سندها رجل يقال له: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو يسمى عبد الله العمري المكبر، وحديثه حديث ضعيف كما ذكر ذلك أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
اختلف العلماء في عدد السجدات التي تشرع في القرآن:
فذهب الحنابلة ومن وافقهم إلى أن عدد السجدات أربع عشرة سجدة, ليس منها سجدة (ص).
وذهب بعضهم إلى أنها ثلاث عشرة سجدة, ليس منها سجدة (ص) ولا السجدة الثانية من سورة الحج.
والذي يظهر هو ما روي عن ابن عباس و ابن عمر ، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة منها سجدتان في سورة الحج ), وهذا الحديث في سنده رجل يقال له: عبد الله بن منين ، وهو ضعيف, ضعفه بعض أهل العلم, ولكن نقول: الأقرب والله أعلم أن عدد السجدات خمس عشرة سجدة.
وأما دليل سجوده صلى الله عليه وسلم في (ص)، فقول ابن عباس كما عند البخاري : ( إنها ليست من عزائم السجود, ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ), فهذا دليل على أن سجود (ص) إنما سجده داود شكراً, وهذا لا أثر له؛ لأننا اقتدينا بفعله صلى الله عليه وسلم, فقد ثبت أنه سجد, فدل ذلك على أن الأقرب أن عدد سجدات التلاوة خمس عشرة سجدة.
نقول: جاء في حديث رواه أبو داود و الترمذي وقالا: حديث حسن صحيح, من طريق خالد الحذاء عن أبي العالية عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده في الليل: سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ), وفي رواية بزيادة: ( تبارك الله أحسن الخالقين ). وهذا الحديث الأقرب -والله أعلم- أن فيه جهالة؛ وذلك لأن الصحيح في رواية خالد الحذاء أنه قد رواه عن رجل عن أبي العالية عن عائشة , فدل ذلك على أن في هذا الحديث رجلاً لم يسم, كما أشار إلى ذلك الإمام الدارقطني , وعلى هذا فالحديث في سنده ضعف, لكن لو قاله الإنسان في سجود التلاوة فلا بأس.
وقد جاء عند أهل السنن من حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي رأى في المنام كأنه يصلي خلف شجرة، قال:( فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام ), فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال هذا.
وهذا الحديث في سنده رجل يقال له: الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد يرويه عن ابن جريج , و ابن جريج يرويه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس , و الحسن بن محمد بن عبيد الله حديثه ضعيف.
ولهذا حينما سئل الإمام أحمد : ماذا يقول في سجود التلاوة؟ قال: يسبح؛ لحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حينما نزل قول الله تعالى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1], قال: اجعلوها في سجودكم ), والحديث رواه أبو داود وقلنا: إنه إسناده جيد, وقد حسنه أبو العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
فدل ذلك على أن الإنسان لو قال في سجود التلاوة: (سبحان ربي الأعلى) لكفاه ذلك, فإن أحب أن يدعو بخيري الدنيا والآخرة فلا حرج في ذلك, وإن أحب أن يدعو بحديث عائشة وإن كان في سنده ضعف فلا حرج إن شاء الله, وإن دعا بحديث ابن عباس وإن كان في سنده الحسن بن محمد بن عبيد الله أيضاً فلا حرج إن شاء الله تبارك وتعالى.
القسم الأول: سجود تلاوة في صلاة, والقسم الثاني: سجود تلاوة خارج الصلاة.
فإن كانت سجود التلاوة داخل الصلاة، فقد ذهب جمهور الفقهاء -وهو الراجح- من الحنابلة والمالكية والشافعية أن للإنسان أن يكبر, بل هو واجب أن يكبر إذا أراد أن يسجد، وأن يكبر إذا أراد أن يرفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث أبي هريرة : ( أنه كان يكبر في كل خفض ورفع ), فهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد أن يخفض فإنه يكبر, وإذا أراد أن يرفع فإنه يكبر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا كبر فكبروا, وإذا ركع فاركعوا, وإذا سجد فاسجدوا ), فدل ذلك على أن التكبير مشروع في الصلاة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
القسم الثاني: إذا سجد للتلاوة خارج الصلاة: فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يشرع للإنسان أن يكبر إذا أراد أن يسجد, وإذا أراد أن يرفع.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يكبر في الخفض ولكنه لا يكبر في الرفع.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم: أنه لم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير للخفض ولا للرفع خارج الصلاة؛ وذلك لأن الحديث الوارد فيه حديث ضعيف, وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة فيها سجدة, فسجد فسجدنا معه, حتى ما يجد أحدنا موضعاً لمكان جبهته ), وجه الدلالة: أنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر.
وأما ما جاء عند الحاكم من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر : ( فكبر فسجد فكبرنا فسجدنا ), فهذه زيادة منكرة أنكرها كثير من أهل العلم؛ وذلك لأن عبد الله بن عمر العمري رجل ضعيف لا يعول على مفرداته فضلاً عما إذا كان ذلك مخالفاً لما جاء في الصحيحين, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وذهب الشافعي إلى أنه المستمع والسامع يسجد, وإن كان في حق المستمع أولى وآكد منه في حق السامع.
وجاء في ذلك أثران:
الأثر الأول: حديث عثمان رضي الله عنه: (أنه مر برجل قرأ سورة السجدة, فأراد الرجل أن يسجد عثمان معه, فقال عثمان : إنما السجود على من استمع لها).
الأثر الثاني: حديث ابن عباس بسند صحيح: (إنما السجود على من جلس لها), قالوا: فهذا معناه أن السجود في حق المستمع, وأما السامع فإنه وإن جلس لكنه لم يجلس للقراءة.
وأقول: إن هذه هي سنة الصحابة, فقد ثبت عن عثمان و ابن عباس أن السجود للتلاوة إنما يشرع في المستمع والقارئ, وأما السامع فالذي يظهر والله أعلم أنه غير مخاطب, فإن سجد فلا حرج إن شاء الله، ولا يقال: يسن, بل يقال: إنه حسن منه، لكنه ليس بمخاطب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وبعبارة أخرى: إذا قرأ قارئ السجدة فلم يسجد, فهل يسجد المستمع أم لا؟
نقول: هذا على أقسام:
القسم الأول: إن كان في صلاة فإذا لم يسجد الإمام فلا يشرع للمأموم أن يسجد, وإنه يأثم في ذلك؛ لأنه خالف إمامه, وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه ).
القسم الثاني: إذا كان ذلك خارج الصلاة, فإن الذي يظهر أنه إذا لم يسجد القارئ فقد روى ابن أبي شيبة أن ابن مسعود قال لغلام اسمه سليمان بن حنظلة حين قرأ السجدة: أنت إمامنا، فاسجد نسجد معك، وهذا يدل على أن الأفضل للمستمع ألا يسجد إلا أن يسجد إمامه.
وجاء حديث آخر رواه أبو داود في مراسيله من حديث زيد بن أسلم قال: (قرأ قارئ سجدة فلم يسجد، فقال له صلى الله عليه وسلم: إنما أنت إمامنا فلو سجدت لسجدنا), ولكن هذان الحديثان ضعيفان, فإن أحدهما من مراسيل عطاء بن يسار والآخر من مراسيل زيد بن أسلم ، ومراسيلهما كمهب الريح, يعني: أن ذلك لا يصح.
ولكني أقول: إن المستمع إذا كان قد استمع الآية، فإن كان القارئ سوف يسجد فيشرع للمستمع ألا يسجد حتى يسجد القارئ, وأما إذا لم يسجد القارئ فالذي يظهر والله أعلم أن له أن يسجد؛ لأن المستمع يأخذ حكم القارئ، ومما يدل على ذلك أن المستمع كالداعي، فيأخذ حكمه كما في قول الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89], والذي دعا هو موسى عليه السلام، وهارون إنما أمن على دعائه، فجعل سبحانه وتعالى أن الدعاء صار منهما جميعاً, فكذلك المستمع له أن يسجد, ولكن الأفضل إذا سجد إمامه ألا يسجد حتى يسجد إمامه, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: نعم, إذا كان الإنسان يستمع القارئ في المذياع أو في جهاز التسجيل, وهو يستمع له استماعاً، فإنه إذا قرأ القارئ السجدة فإنه يوقف المذياع ثم يسجد, ولا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لأنه مستمع؛ لأن المستمع بمقام القارئ، والله أعلم.
ثانياً: لو قرأ الإمام سورة فيها سجدة فهل يشرع له سجود التلاوة أم لا؟
فهنا مسألتان: فنقول: ذهب الحنابلة إلى أنه لا يشرع للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة السر, ثم قالوا: ولو قرأ فلا يشرع له أن يسجد فيها؛ لأن سجوده يشوش على المصلين, ويربك الصلاة, والأصل في الصلاة أن يحضر فيها الخشوع، وينبغي ألا يخل بخشوعه, هذا مذهب الحنابلة.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يستحب للإنسان إذا مر بسجدة أن يسجد, وليس ثمة كراهة، واستدل بما جاء عند أبي داود من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الظهر, قال: فسجد ثم قام، فرأينا أنه قرأ سورة فيها سجدة وهي: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:1-2] ), وهذا الحديث لو صح لكان حجة, لكنه في سنده ضعف, فقد رواه سليمان التيمي عن أمية عن أبي مجلز عن ابن عمر ، و أمية رجل مجهول لم يروِ عنه إلا سليمان التيمي , ولهذا فهو حديث ضعيف.
ولهذا نقول: إن الكراهة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي, ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك, نعم الظاهر من سنته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسجد للتلاوة في صلاة سرية, فدل ذلك على أن الأفضل ألا يقرأ سجدة في صلاة سرية.
فإن قيل: ما الدليل؟
قلنا: الدليل أنه داوم صلى الله عليه وسلم على قراءة السورة ولم يسجد. وفرق بين الكراهة والأفضلية.
فقد أقول: إن الأفضل فعل كذا, لكن لا أقول: يكره ترك كذا؛ لأن ترك السنة لا يلزم منه الكراهة, وفعل السنة لا يلزم من مخالفتها فعل الكراهة, ولهذا نقول: الأفضل ألا يقرأ الإنسان في صلاة السر إذا كان إماماً, وأما إذا كان منفرداً فلا حرج عليه في ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
هذه مسائل سجود التلاوة ذكرناها بنوع من التفصيل, نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.
الأقرب والله أعلم أنه مشروع, وهذا قول عامة أهل العلم, بل حكى بعضهم الإجماع، والواقع أنه ليس ثمة إجماع, لكن هذا هو قول عامة أهل العلم.
ودليل مشروعية سجود الشكر هو فعل الصحابة, فقد صح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سجد للشكر حينما بلغه مقتل مسيلمة الكذاب , وسجد علي رضي الله عنه حينما بلغه خبر ذي الثدية في مسألة الخوارج, وثبت عن كعب بن مالك كما في الصحيحين حينما بلغه توبة الله عليه, وهذا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً.
وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت أحاديث:
أولاً: الحديث الذي رواه الخمسة إلا النسائي , من حديث بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده أبي بكرة قال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه خبراً يسر به خر ساجداً ), وهذا الحديث مشكلته أن فيه بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة , وحديثه ضعيف.
وقد جاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أصحابه فسجد ثم قام فقال: إن جبريل أتاني فبشرني فسجدت ), وهذا الحديث في سنده أيضاً ضعف.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما جاء في قصة: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم
ولو لم يكن في مشروعية سجود الشكر إلا فعل كعب بن مالك لكفى دليلاً على أن ذلك كان معروفاً متداولاً موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, والرسول عليه الصلاة والسلام لا يقر أصحابه على خطأ ولا باطل.
ونعم الله على عبده تترى, وليس معنى ذلك أن كل نعمة صغرت أم كبرت يسجد لها الإنسان, وإلا لزم أن يسجد في كل وقت؛ لأن الإنسان لو لم يكن من نعم الله عليه إلا صحته ودقات قلبه لكفى, ولكن المقصود تجدد نعمة جديدة لها وقع في نفس العبد, سواء كانت من أمور الدين أم من أمور الدنيا, فلو بلغنا -نسأل الله القبول- مقتل بشار مثلاً فإننا نسجد؛ لأن ذلك محنة أصابت المسلمين, فيشرع لها سجود الشكر.
ولو بلغنا نصرة الإسلام والمسلمين مثلاً في سوريا لسجدنا شكراً، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته, فهذه نعمة تجددت تستحق منا الشكر.
لكن الراجح مذهب جماهير أهل العلم على أنه إذا طال الفصل فلا يسجد للسهو, فعلى هذا فلا يشرع للإنسان أن يتقرب إلى الله بسجود مطلق من غير صلاة, وأما الحديث الذي جاء فيه: ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ), فهذا إنما أطلق الجزء وأراد الكل كما هو معلوم عند أهل العلم, والحديث ثابت في الصحيح من حديث ربيعة بن مالك ، والله أعلم.
وكذلك في حديث أبي ذر : ( فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة, وحط عنك بها خطيئة ), والحديث ثابت في صحيح مسلم .
الوقت الأول: من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ), وكذلك جاء من حديث أبي سعيد , و ابن عباس ، وهذا أمر مجمع عليه.
الوقت الثاني: إذا طلعت الشمس فلا يشرع للإنسان أن يصلي حتى ترتفع الشمس قيد رمح, وهذا أيضاً مجمع عليه، ومما يدل عليه ما جاء في صحيح مسلم من حديث علي بن رباح عن عقبة بن عامر أنه قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع, وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس, وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب ), فهذه أشد أوقات النهي وهي أغلظها, فإذا طلعت الشمس فلا يجوز للإنسان أن يتحرى الصلاة, وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة حتى ترتفع, فإذا ارتفعت فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة ), والحديث رواه مسلم من حديث عمرو بن عبسة , وهذا أمر أيضاً مجمع عليه.
الوقت الثالث: حين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس.
ومعنى ذلك أنه إذا كانت الشمس في كبد السماء, قبل أذان الظهر بعشر دقائق أو باثنتي عشرة دقيقة تقريباً على اختلاف بين الشتاء والصيف, فالشمس حينما تخرج من جهة المشرق تتجه إلى جهة المغرب, فإذا صارت الشمس في كبد السماء كأنها قد توقفت فهو وقت الكراهة، فإذا ذهبت جهة الغرب فقد زالت, يقال: دحضت الشمس أو زالت الشمس, وقد قال الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78], وقد مر معنا أن الدلوك يطلق في اللغة بمعنى الغروب والزوال, وقلنا: إن الراجح في هذه الآية أن المقصود هو الزوال، وهو قول أكثر المفسرين, وإن كان الدلوك في اللغة يطلق على الغروب, لكن الظاهر أنه إنما أريد به في هذه الآية من الظهر إلى العشاء والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الوقت الرابع: بعد صلاة العصر حتى اصفرار الشمس.
فإنه لا يجوز للإنسان أن يصلي بعد العصر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ).
وإنما قلنا: حتى تصفر الشمس؛ لأن هذا نهي, ونهي آخر أعظم منه، وهو:
الوقت الخامس: حينما تضيف الشمس للغروب حتى تغرب, وهو بعد اصفرار الشمس إلى الغروب, وهذا وقت أغلظ.
فنلحظ أن هذا كله من بعد العصر إلى المغرب؛ لكن وقت الكراهة بعد العصر وقتان: وقت محرم، ووقت أشد حرمة؛ لأن العبادة عند غروب الشمس من فعل المجوس وعباد الشمس, فلا يجوز للإنسان أن يفعل ما يشبه ذلك, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( وحينئذٍ سجد لها الكفار ). هذه خمسة أوقات ينهى العبد أن يصلي فيهن.
نقول: أولاً: إن كانت صلاة فريضة فقد أجمع أهل العلم على أن للإنسان أن يصليها في هذه الأوقات ولا يؤخرها؛ لما ثبت ذلك في صحيح البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك، وقرأ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] الآية ). وهذا القسم الأول.
ومثله ما قاله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( يا
هذا هو مذهب الشافعية الذين قالوا: يجوز للإنسان أن يصلي التطوعات ذوات الأسباب في أوقات النهي، وهي رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
واستدلوا على جواز ذلك بحديث جبير بن مطعم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ), فدل على أن عموم النهي جاء ما يخصصه.
وذوات الأسباب لم يقل صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوها في أوقات كذا ولا في أوقات كذا, فدل على جوازها في عموم الأوقات, وأن ما جاء من عموم الأوقات محفوظ, وما جاء من عموم النهي مخصوص، والمحفوظ أولى من المخصوص, فدل ذلك على الجواز.
ومما يدل على ذلك أيضاً: ما ثبت في البخاري من حديث ابن عمر ، وفي مسلم من حديث عائشة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها, فتصلوا عند ذلك ), فدل على أنها إذا كانت من ذوات الأسباب فله أن يصلي، ولكنه يتعجل إذا كان ذلك في أوقات النهي.
وبالمناسبة فإننا نلاحظ بعض الإخوة الذين يريدون أن يدعوا ربهم قبل غروب شمس يوم الجمعة, فتجدهم يجلسون في المسجد, حتى إذا لم يبق على غروب الشمس إلا وقت يسير خرجوا من المسجد فتوضئوا وصلوا, فيدعون ربهم في الصلاة, فنلاحظ أن هذه الطهارة لم يكن مقصوداً بها إلا الصلاة, ولهذا نهي الإنسان عن أن يتحرى الطهارة ليصلي في أوقات النهي؛ لأنه تحرى حينئذ الصلاة في الوقت المنهي عنه, وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فتصلوا عند ذلك ), والله أعلم.
أما الحنابلة فإنهم يقولون: لا تشرع صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.
والراجح والله أعلم أنه يجوز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.
ومما يدل على ذلك ما جاء عند أبي داود و البيهقي من حديث قيس بن عمرو : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر, ثم قام
أول هذه الأوقات: استثنى الشافعية وقت يوم الجمعة, وهو ما إذا صارت الشمس في كبد السماء قبل أن تزول؛ لحديث عقبة بن عامر قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا، وذكر منها: وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول ), فقالوا: إن هذا مخصوص بيوم الجمعة, فيجوز للإنسان يوم الجمعة أن يصلي وقت الزوال تنفلاً مطلقاً؛ وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله, ودليل التخصيص قوله صلى الله عليه وسلم عن يوم الجمعة: ( من تطهر في بيته ثم أتى المسجد ولم يفرق بين اثنين، ثم صلى ما كتب له, غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ), قال ابن تيمية : لم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يخرجون فينظرون هل زالت الشمس أم لم تزل؟ وهذا يدل على أن هذا أمر معتاد عندهم, أنهم كانوا يصلون يوم الجمعة ولو كان في أوقات النهي.
أما جمهور أهل العلم فلم يفرقوا بين جمعة ولا غيرها، وهذا هو الراجح؛ ولهذا نقول: إن الصلاة قبل الظهر لا فرق فيه بين الجمعة ولا غيرها؛ ولكن من دخل المسجد وبدأ يصلي قاصداً التنفل -لحديث أبي هريرة الذي مر معنا- وصلى حتى يدخل الإمام فهذا لا بأس به ولا يكون داخلاً في النهي؛ لأن هذا استمر من قبل دخول وقت النهي، أما من لم يصل إلا قبل أذان الظهر بدقيقتين أو ثلاث, فأرى أن هذا واقع في النهي، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
إذاً: قبل أذان الجمعة وقت زوال الشمس لا تشرع الصلاة فيه، وهي منهي عنها, إلا في حق من جاء المسجد وأحب أن يصلي حتى يدخل الإمام, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، فهذا الوقت الأول المستثنى من أوقات الكراهة.
الوقت الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشرع بعد أذان الفجر من النوافل إلا ركعتي الفجر؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه عند الترمذي من حديث ابن عمر : ( لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتي الفجر ), يقصد سنتها الراتبة, فقالوا: لا يشرع أن يتطوع الإنسان بعدها, يقول الترمذي : وعليه العمل عند أكثر أهل العلم, بل بعضهم بالغ فقال: إن الصلاة غير سنة الراتبة بدعة. وهذا ليس بصحيح!
والذي يظهر والله أعلم أن الأفضل أن الإنسان لا يصلي, وذلك لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى أكثر من ركعتين قبل الفجر؛ ولهذا تقول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين, فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع ), فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطوع أكثر من ركعتي الفجر، فهذا هو الأفضل, لكنه لو صلى أكثر من ذلك مثل: أن يكون صلى لأجل الوتر, أو لأنه في الحرم فأحب أن يصلي فنقول: هذا جائز.
ومما يدل على الجواز: ما ثبت في صحيح الإمام مسلم من حديث عمرو بن عبسة أنه قال: ( فإذا طلع الفجر فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي الفجر ), وهذا يدل على أنه لا بأس بالصلاة في هذا الوقت. وهذا هو اختيار الشيخ ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه؛ وعلى هذا فليس ثمة وقت نهي، وإن كان الأفضل تركه, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
لعلنا بهذا ننتهي من هذا الدرس, ونكمل إن شاء الله في باب صلاة الجماعة من حيث وجوبها وبعض الأحكام المتعلقة بها.
وإلى ذلكم الحين.. نستودعكم الله, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر