الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله مساءكم بكل خير ومسرة ويمن وسلام.
كنا قد توقفنا في بعض مسائل صلاة الجماعة، واليوم إن شاء الله سوف نتحدث عن أحق الناس بالإمامة، وما يتعلق بهذا الموضوع إن شاء الله، وأهيب بالإخوة أن يتأملوا معنا حتى نسرع في ذكر هذه المسائل.
من المعلوم أن الفقهاء رحمهم الله أطالوا في هذا الباب، فذكروا بعض الصفات التي يكون الشخص بها أحق بالإمامة من غيره، لكن أكثر هذه الصفات إنما جاءت بالقياس، مثل قولهم: إن المتوضئ أولى من المتيمم، والحاضر يقدم على مسافر، والحضري أولى من البدوي.
والواجب أن نعلم أن العبرة بالدليل، فإذا لم يوجد دليل فإن الأصل في هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود البدري : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً )، والحديث رواه مسلم وفيه: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، وهذا يدل على أن أولى الناس بالإمامة هو الأقرأ.
واختلف العلماء من هذا الحديث في معنى الأقرأ؟
فذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية إلى أن الأقرأ هو العالم الفقيه، أي أن العالم الفقيه أولى بالصلاة من غيره.
وذهب الحنابلة وبعض الحنفية إلى أن الأقرأ هو الأجود والأكثر قراءة للقرآن، أي الأكثر حفظاً.
والأقرب والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن معنى (أقرؤهم لكتاب الله): أكثرهم وأجودهم قرآناً، خلافاً للقائلين بأن المقصود العالم الفقيه، وإنما قالوا: الأقرأ هو العالم؛ لأن القراء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم الفقهاء.
والجواب على هذا أن نقول: إن هذا المصطلح لا يغير من المعنى الشرعي لكلمة (أقرؤهم)، ومما يدل على أن المقصود بالأقرأ الأكثر جودة وحفظاً أنه ثبت في صحيح البخاري أنه لما قدم المهاجرون قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً، وفيهم عمر بن الخطاب و أبو سلمة ، وهذا دليل على أن الأقرأ معناه الأكثر قرآناً؛ لأن سالماً مولى أبي حذيفة ليس بأفضل من عمر ، ولكنه لما كان أكثر حفظاً من عمر قدم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، كما في البخاري من حديث عمرو بن سلمة .
فإن قال قائل: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد و الترمذي بسند صحيح: ( أقرؤكم
فالجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنكم أقررتم بأن الأقرأ معناه: الأكثر قرآناً، بدليل أنكم استشهدتم بحديث أبي بن كعب ، فجعلتم معنى الأقرأ أنه الأكثر قرآناً، فدل ذلك على أن الأصل هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقرؤكم
فكذلك تقديم أبي بكر رضي الله عنه ليس لأجل أنه أقرأ من أبي ؛ ولكن لأجل معنى آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه ليشير أنه أولى الناس بالخلافة من بعده.
ومن المعلوم أن الشخص لو جاء إلى بيت شخص وكان هذا الضيف أكثر قرآنا فلا ينبغي له أن يؤم صاحب البيت إلا بإذنه: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، فدل ذلك على أن حديث أبي مسعود هو الأصل، إلا إذا جاء ما يستثنى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثر قرآناً ).
ذهب بعضهم أن الأصل هو الأكثر قرآناً؛ لأن أكثر الروايات تدل على ذلك.
وذهب بعضهم إلى أنه يقدم الأكثر قرآناً والأجود معاً؛ لأنها كلها داخلة في معنى (الأقرأ)، فمجموع هذا تسمى القراءة المطلقة، وهي ما جمعت ثلاثة أشياء: الأول: جودة في مخارج الحروف والتجويد، والثاني: حسن صوت، والثالث: كثرة حفظ.
فإذا كان الشخص أحسن قراءة وتجويداً وصوتاً ولو كان أقل حفظاً، فهل يقدم أم لا؟
بعض أهل العلم قال: يقدم؛ لأنه الأقرأ، وبعضهم يقول: لا، والراجح والله أعلم أنه يقدم الحسن الصوت؛ لأنه داخل في الأقرأ بدلالة المطابقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثركم قرآناً)، فلأن قريشاً كانت مخارج حروفها على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فخاطبهم صلى الله عليه وسلم بما هم قادرون عليه، وإلا فإن الذي يؤثر في المصلين وتجلب قراءته الخشوع فهو أولى، وهذا هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز ، فإنه قال: إذا كان إمام حسن الصوت وإمام أكثر قرآناً لكن ليس حسن الصوت، فيقدم حسن الصوت؛ لأن قراءته أكثر تأثيراً، وما رفع الصوت وجهر بالقراءة إلا لأجل أن يستمع المأموم قراءة إمامه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
لكن مع ذلك ليس معناه أن يكون هو الأقرأ إذا كان لا يحسن الصلاة، مثل أن يكون حديث عهد بإسلام، أو حفظه والده القرآن أو دخل في الكتاتيب لكنه لا يحسن الصلاة وأحكامها، فإن الأصل أنه يدرك أحكام الصلاة، بحيث يعرف حكم ما لو ترك واجباً أو ترك ركناً وغير ذلك، فهذا هو أولى بالإمامة ممن يقرأ وليس عنده من فقه الصلاة شيء والله أعلم.
لأن الاهتمام بأركان الصلاة وأحكامها مع المأموم أولى من الاهتمام بالقراءة مع إخلال بالأركان؛ لأن القراءة غايتها أنها مشروعة أو ركن في الفاتحة! أليس كذلك؟
وكذلك من يحفظ الأربعين النووية ولا يحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على الصلاة، فهذا لا يسمى فقهاً، فلا بد إذاً أن يحفظ المسائل المبنية على الدليل، ولو لم يحفظ الدليل، فهذا عمل بالسنة وإن لم يحفظ السنة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فإن كانوا في الهداية سواء فأقدمهم سناً، أي: أكبرهم عمراً، وهذا يدل على أن الكبير لا يقدم مطلقاً، على خلاف السائد عندنا حيث إن الكبير يقدم في كل شيء، يقدم في الحديث، وفي العلم وغيره وهذا خطأ، والصواب: أن يقدم الأعلم ولو كان هناك من هو أكبر منه سناً.
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقدم ابن عباس بين شيوخ بدر وكبرائهم حتى ضاق ذلك على بعض الناس فقال عمر : إني أعلم ما لا تعلمون، ثم أدركهم عمر وهم مجتمعون فسألهم عن مسألة فلم يجيبوا وقالوا: الله أعلم، فقال: ومن يعلم إذا لم يعلم ربي! ما تقول فيها يا ابن عباس ؟ وكان فتى! فقال: لا أتقدم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قل، قال: يا أمير المؤمنين! .. ثم ذكر سورة النصر، فضحك عمر وقال: والله ما أعلم إلا كما قلت، ثم التفت إليهم وقال: أتلومونني في تقديم ابن عباس أو كما قال رضي الله عنه.
ولهذا حينما جاء وفد إلى عمر بن عبد العزيز وكان فيهم فتى، فلما أراد أن يتحدث فكأن عمر بن عبد العزيز استكثر ذلك منه فقال: ليتقدم من هو أكبر منك سناً يا فتى! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الشأن بالسن لكان أولى بالخلافة من هو أكبر منك سناً، فضحك عمر وقال: تكلم، قال: فتكلم فأعجب عمر بمنطقه، وهذا يدل على أنه لا يقدم بالسن على إطلاقه، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث ابن عمر: ( فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، كبر )، فإذا كان ذلك ليس من باب العبادة والتعبد لله، ولكن من باب أمور الناس في الدنيا فيقدم الكبير، وأما إذا كان ذلك للعلم والدين فإنما يقدم المرء على حسب علمه ودينه وفقهه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا لما أراد حويصة أن يتكلم في أمر القسامة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( كبر، كبر، فتكلم أخوه
وكذلك يقدم الإمام الراتب على من ليس براتب، وقد روى ابن أبي شيبة أن ابن عمر أتى أرضاً له وفيها مسجد يصلي فيه مولى، فلما حضرت الصلاة قالوا لـابن عمر: تقدم، قال: بل يصلي فيه إمام مسجدكم، فتقدم المولى فصلى بـابن عمر ، وهذا دليل على أن إمام المسجد أولى من غيره، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأما ما يذكره بعض الفقهاء من صفات أخرى فإنما هي أقيسة ليس عليها دليل، ومن ذلك أنهم قالوا: يؤم المتوضئ المتيمم؛ قالوا: لأن المتيمم صلاته عن طهارة إباحة، وأما المتوضئ فطهارته ترفع الحدث.
قلنا: ما الدليل على هذا؟ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم)، ومن المعلوم أن صلاة المتيمم صحيحة، والقاعدة أن كل من صحت صلاته صحت إمامته، حتى من به سلس بول إذا صحت صلاته، فالراجح أن له أن يصلي بالناس ولو كان يخرج منه شيء من الدم إذا كان لا يؤثر ذلك على ثيابه، بحيث لا يتقزز المأموم من حالته، فالأصل أنه تصح صلاته وتصح إمامته إذا كان هو أقرأ لكتاب الله، ومما يدل على ذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، قال
والصحيح أنه لو حضر مقيم ومسافر أو حاضر وباد فإنه يتقدم أقرؤهم، سواء كان هو المسافر أو المقيم أو الحاضر أو البادي، فيقدم أقرؤهم ولو كان الحاضر أقرأ، وإذا اجتمع متوضئ ومتيمم فيقدم الأقرأ، حسب ترتيب حديث أبي مسعود البدري ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأما قول من قال: بأن المهاجري يؤم غير المهاجري، والأعرابي يؤمه غير الأعرابي، فهذا الكلام جاء من حديث جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أعرابي مهاجرياً، ولا تؤمن امرأة رجلاً، ولا يؤمن فاجر مؤمناً، إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه وسيفه )، وهذا الحديث ضعيف يرويه عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان ، و عبد الله بن محمد العدوي متهم بالوضع، وعلي بن زيد بن جدعان كادوا أن يتفقوا على ضعفه، فالحديث لا يصح، والله أعلم.
إمامة المرأة للرجل إما أن تكون: إما أن تكون في صلاة جمعة، وإما أن تكون في غير صلاة جمعة.
وقد وجد في بعض بلاد الغرب من بعض الأقليات المسلمة أن امرأة خطبت بالمسلمين من باب دعوى المساواة التي ذبحونا وقتلونا وأتعبونا بها، وفرق بين المساواة والعدل، فمساواة المرأة بالرجل في كل شيء ظلم لها، كما أنه ظلم للرجل؛ لأن المرأة لها خصوصيتها والرجل له خصوصيته، والمطلوب العدل، فالعدل هو وضع الأمر في موضعه المناسب له.
ولم يعرف عن أحد من أهل العلم أنه قال بجواز أن تصلي المرأة بالرجال الجمعة.
والذي يظهر والله أعلم أن الأصل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن يصلين وحدهن، ولكن يجوز للمرأة أن تصلي مع جماعة كما صح ذلك عن عائشة رضي الله عنها، فقد جاء من حديث ريطة الحنفية عن عائشة ، و عطاء عن عائشة أنها كانت تؤم النساء وتقوم بينهن، وهذا إسناد صحيح، وإن كانت ريطة مجهولة، لكن تابعها عطاء على ذلك.
وكذلك ثبت في حديث أم سلمة رضي الله عنها، فإنه قد صح عنها أنها كانت تؤم أهل دارها وتصف وسطهن، وهذا يدل أيضاً على جواز ذلك.
وقد أمت أم سلمة و عائشة النساء، فدل ذلك على مشروعيته في الجملة، وقولنا: المشروعية لا يلزم منه أن يكون واجباً ولا مستحباً ولربما يكون جائزاً، فإذا فعل أحياناً فإن هذا قد يقال: بمشروعيته واستحبابه، أما أن يكون ذلك هو الغالب فلا؛ لأن الغالب في صلاة المرأة هي الفردية والانفراد، والله أعلم.
إذا ثبت هذا فإن ما جاء في حديث أبي داود ( أن
أولاً: قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )، ومن المعلوم أن الإمامة نوع ولاية، فيدخل في ذلك.
ولا شك أن حديث: ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )، المقصود به الولاية التي فيها نوع من سياسة الأمور، وليس المقصود به أي ولاية كما لا يخفى، فإن المرأة لها ولاية على بيتها، ( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها )، ولكن الحديث أيضاً ليس خاصاً، ولكن عدم الإمامة هو الأصل، فإنه لم يعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدين ولا من جاء بعدهم أن المرأة كانت تؤم الرجال.
وأما ما جاء في حديث أبي داود و ابن خزيمة من طريق الوليد بن عبد الله بن جميع قال: حدثتني جدتي ليلى بنت مالك و عبد الرحمن بن خلاد كلاهما عن أم ورقة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها، فكان خادمها يؤذن لها فتصلي )، فهذا الحديث أولاً نقول: إنه ضعيف، وسبب ضعفه أربع علل:
العلة الأولى: قالوا: إن الوليد بن عبد الله بن جميع مختلف فيه، فقد ضعفه بعضهم وحسنه بعضهم، والراجح والله أعلم أنه حسن الحديث، إلا أنه يهم في بعض أحاديثه، ولا يقبل حديثه فيما إذا تفرد بأصل لم يروه الأئمة الحفاظ الثقات الجهابذة، وهذا منها، فإنه تفرد به، ولهذا لما روى الحاكم هذا الحديث قال: وهذه سنة ليس لها أصل، وهذا يدل على أن الحديث منكر، والوليد بن عبد الله بن جميع مع وهمه فإنه اضطرب في حديثه، فمرة يرويه عن ليلى بنت مالك عن أبيها عن أم ورقة ، ومرة يرويه عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة ، ومرة يرويه عن ليلى بنت مالك عن أم ورقة ، فهذا اضطراب في الإسناد، ناهيك عن أن الوليد بن عبد الله بن جميع وإن كان هو من رجال مسلم ، إلا أن مسلماً ينتقي من أحاديثه ما يعلم أنه أصاب فيها.
العلة الثانية: أن ليلى بنت مالك مجهولة لا تعرف.
العلة الثالثة: ولم يذكرها إلا ابن حبان في الثقات، ومن المعلوم أن ابن حبان إذا لم يسمع ولم في ير امرأة جرح ولا تعديل، فإنه يذكرها في الثقات كعادته.
العلة الرابعة: أن في السند عبد الرحمن بن خلاد ، وقد أشار ابن القطان الفاسي إلى أنه مجهول الحديث ولا يعرف.
هذه أربع علل وهي: الوليد بن عبد الله بن جميع ، ليلى بنت مالك ، عبد الرحمن بن خلاد ، والاضطراب في الإسناد.
ثم قالوا: ولو صح الحديث فليس فيه ما يفيد ولا ما يدل على أنها كانت تؤم الرجال، إنما كانت تؤم أهل دارها، وأهل دارها إنما هم من النساء؛ لأن الرجال يجب عليهم أن يصلوا في المساجد.
وهذا دليل على أن القاعدة في هذا أننا لا نتبع المتشابه، بل نرجع الأمور دائماً إلى المحكم، فإذا جاءنا حديث مشكل أرجعناه إلى المحكم، والله أعلم.
وذهب المزني و أبو ثور و ابن جرير الطبري إلى جواز أن تؤم المرأة الرجال المحارم، ولكن الصحيح خلاف ذلك؛ لأنهم اعتمدوا على حديث أم ورقة ، وهو كما قلت: حديث لا يصح، ولو صح فلا يقال: إنها صلت بالرجال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة فإن حديث: ( ولا تؤمن امرأة رجلاً )، هو حديث جابر وقلنا: إنه حديث منكر يرويه عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف لا يحتج به، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أولاً: الصبي ينقسم إلى قسمين: صبي غير مميز، وصبي مميز.
أما الصبي غير المميز فإنه لا تصح إمامته؛ لأن صلاته لا تصح، لأنه ليس له نية ولا يعقل ولا يرد الجواب ولا يفهم الخطاب، وهذا بإجماع الفقهاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: والمجنون حتى يفيق )، ومن المعلوم أن الصبي غير المميز في حكم المجنون.
القسم الثاني: الصبي المميز، وهو الذي يفهم الجواب ويرد الخطاب، ويدرك معنى النية ويدرك معنى الصلاة، فقد اختلف العلماء في حكم إمامته.
القول الأول: هو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنها لا تصح إمامة الصبي في النافلة ولا في الفريضة.
والقول الثاني: هو صحة إمامته في النفل دون الفرض، وهي رواية عند الإمام أحمد .
والقول الثالث: مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمهم الله: قالوا بصحة صلاة الصبي المميز وإمامته، سواء كان ذلك في الفرض أو النفل، وهذا هو الراجح.
ودليل ذلك: ما روى البخاري من حديث عمرو بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال
وجه الدلالة: أن عمرو بن سلمة أمهم وكان صغيراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فليؤمكم أكثركم قرآناً )، وهذا نص في المسألة، إلا أن الإمام أحمد تكلم في هذا الحديث وقال: ماذا هذا؟ ولكن أكثر أهل العلم صحح الحديث ومنهم البخاري رحمة الله تعالى على الجميع، وهذا يدل على أنه لا بأس بإمامة الصبي المميز، والقاعدة في هذا أن كل من صحت صلاته صحت إمامته.
ثم إننا نقول: إن الصبي صلاته نفل في حقه، والقاعدة أن الراجح صحة صلاة المفترض بالمتنفل، خلافاً للجمهور، وهذا الراجح هو مذهب الشافعي كما سوف يأتي إن شاء الله، وهو ثابت في الصحيحين من حديث جابر ( أن
الصواب هو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية خلافاً لجمهور أهل العلم الذين قالوا: إن الصلاة صحيحة.
وأما ما استدل به الجمهور من حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه )، فقالوا: ومن المعلوم أن المأموم إذا كانت نيته فرضاً والإمام نيته نفلاً، فقد اختلف المأموم عن إمامه.
فالجواب على ذلك: أنه يجب أن نجمع بين الأحاديث ولا نرد بعضها، ونقول: إن المقصود بالاختلاف هو الاختلاف في الأفعال وليس الاختلاف في الأقوال، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الحنابلة رحمهم الله ووافقهم المالكية والحنفية في بعض الصور يقولون: لا تصح إمامة العاجز عن الركوع أو السجود خلف من كان قادراً على الركوع والسجود، إلا أن الحنابلة استثنوا إمام الحي ومن يرجى زوال علته، وقالوا: إن غير إمام الحي لا يصح أن يؤم الناس، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أم أصحابه لأنه إمام الحي، فإذا كان إمام الحي ممن يرجى زوال علته فيصح أن يكون إماماً، وأما إذا كان فيه علة ولا يمكن زوالها، مثل مقطوع اليد أو كبير السن فإنهم يقولون: حتى ولو كان إمام حي فإنه لا تصح إمامته، وهذا مذهب الحنابلة وبعض المالكية.
والقول الثاني: صحة إمامة كل من صحت صلاته، وهذا مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد اختارها كثير من المحققين كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيره، ولعل هذا القول أظهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما (سقط عن فرس فجحش شقه الأيمن قال
إلا أننا نقول: ومع أن هذا جائز، إلا أن الشخص العاجز عن الركوع والسجود، مثل من يصلي فإذا جاء وقت الركوع أو السجود جلس على كرسي، فنقول: الأفضل ألا يصلي إماماً، وإن كانت صلاته صحيحة، هذا هو الراجح والله أعلم؛ لأن القاعدة أن كل من صحت صلاته صحت إمامته، والصحابة صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً.
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا تصلوا خلفه، بل قال: (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)، فهذا دليل على أن الإمام إذا صلى جالساً صحت الإمامة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: سواء كان إمام حي يرجى زوال علته أو لم يكن كذلك، فدل ذلك على أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا فإن المأموم إذا صلى خلف إمام جالس فهل يجلس متابعة لإمامه أم يقوم؟
أولاً: من المعلوم أن الأحاديث اختلفت في هذا، فجاءت أحاديث تبين أن المأموم يجب عليه أن يجلس إذا جلس إمامه، قال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا جلس فاجلسوا )، ولما صلى جالساً وأراد أصحابه أن يقوموا قال: ( إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، فأمرهم أن يجلسوا )، فهذا وجوب.
ولما كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم : ( وكان
أما الشافعية والمالكية وبعض الحنفية فقالوا: إن الواجب أن يصلي المأموم قائماً، سواء صلى الإمام قائماً أو جالساً؛ وذلك لأن الأصل أن المأموم يجب عليه أن يؤدي الأركان بما يستطيع.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب )، كما في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين ، وهذه قاعدة.
قالوا: وأما الجواب على حديث أنس : ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين )، فإن هذا منسوخ بآخر أمره صلى الله عليه وسلم، فإنه كان جالساً والصحابة قيام. قالوا: والقاعدة في النسخ إذا كان الأصل القيام ثم جاء النهي عن القيام: ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً )، ثم جاء الأمر بالجواز، فيعود الجواز إلى ما كان عليه قبل ورود حديث: ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين )، فيكون على الأصل، وهو أن القيام مع القدرة واجب، وهذا القول قوي.
أما الحنابلة فيقولون: يفرق بين من ابتدأ صلاته جالساً، وهو الإمام المرجو زوال علته، وبين من جاءته علة عدم القيام أثناء الصلاة، فيقولون: إن ابتدأ الصلاة جالساً فإن السنة أن يجلسوا، وإن أصابته العلة أثناء الصلاة، فإن الواجب أن يقوموا؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
والمشكل على هذا: ما دليل مسألة العلة أثناء الصلاة؟
قالوا: لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى جالساً فاستمروا على القيام، قالوا: فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء ذلك مثل حال الإمام فيما لو أصابته علة أثناء الصلاة، ولكن هذا ليس بظاهر.
ولهذا فالذي يظهر والله أعلم هو قول بعض أهل الحديث وبعض المالكية كما أشار إليه أبو عمر بن عبد البر ، وهو أن يقال: إن الأصل أن الإمام إذا صلى جالساً جاز للمأموم أن يصلي جالساً؛ لحديث: ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين )، ولكن الأفضل أن يقوم المأموم ولا يتابع إمامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أمره أقر الصحابة على قيامهم، فدل ذلك على أنه يستحب القيام، ولا نقول: يجب، خلافاً للشافعية والمالكية وبعض الحنفية، ولا نقول: يفرق في ذلك بين جلوسه أول صلاته وفي أثنائها.
وعلى هذا فالقاعدة: إذا صلى الإمام جالساً فيجوز للمأموم أن يصلي جالساً؛ لحديث: ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين )، والأفضل القيام؛ لحديث أبي بكر أنه حينما صلى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فصلى الصحابة خلفه قياماً، وذلك في آخر أمره صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ).
أم أن الأصل أن المأموم تنعقد صلاته بانعقاد صلاة الإمام ولا ينفك عنها إلا لعذر، وهذا أصل عند بعض أصحاب أحمد في رواية، وبعض أصحاب مالك .
وعلى هذا فقولنا: (إلا لعذر)، يفيد أن الأصل أن المأموم تصح صلاته مع إمامه، فإن أخطأ الإمام ولم يعلم المأموم بخطئه فهذا عذر، فتصح صلاة المأموم ولا تصح صلاة الإمام.
وعلى هذا فإننا نقول: ومن صلى خلف محدث والمأموم لم يعلم؛ فإن سلم الإمام ولم يعلم بحدثه إلا بعد انتهاء الصلاة صحت صلاة المأموم ووجبت إعادة صلاة الإمام، وهذا قول عامة أهل العلم، خلافاً للزهري وغيره.
مثال ذلك: إمام صلى وهو محدث، ولم نعلم بذلك إلا بعد انتهاء الصلاة، فنقول: قول عامة أهل العلم أن صلاة المأموم صحيحة، أما الإمام فعليه الإعادة بالإجماع؛ لأن عمر رضي الله عنه كما روى ابن المنذر صلى بأصحابه الفجر حتى إذا بلغ الجرف وجد على ثيابه بللاً، يعني من احتلام، فاغتسل فأعاد ولم يأمر أصحابه بالإعادة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ).
فلو صلى محدثاً حتى انتهت صلاته، فإن صلاة المأموم صحيحة، وهذا باتفاق الفقهاء.
أما المتنجس فإن الحنابلة يقولون: لو صلى الإمام بثوب متنجس، فإنه لا تصح صلاة المأموم ولا الإمام.
والراجح أنه لا فرق بين المحدث والمتنجس بعد انتهاء الصلاة.
الحالة الثانية: لو أن الإمام صلى وهو محدث وعلم بحدثه أثناء الصلاة، فيجب عليه أن يقطع صلاته. لكن هل تصح صلاة المأموم؟
إن كان المأموم يعلم بحدث إمامه وتابعه، فإن صلاة المأموم أيضاً تبطل، وهذا محل إجماع، وإن كان لا يعلم فإن الحنابلة والمالكية يقولون: لا تصح إمامته، ولا تصح صلاة المأموم.
والراجح والله أعلم أن المأموم إذا لم يعلم بحدث إمامه، سواء انتهت الصلاة أو في أثناء الصلاة، وسلم الإمام، فإن المأموم صلاته صحيحة ولا تبطل صلاته؛ لأنه دخل عن يقين ولا تبطل صلاته بذلك، وهذا هو الراجح، وإن شاء الله سوف نفصل المسألة أكثر وأكثر؛ لأن الوقت داهمنا، ولعلنا إن شاء الله نكمل هذه المسألة في درس لاحق.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر