ثم قال جل وعلا:
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
[البقرة:2] أي: إنما يوفق الله سبحانه وتعالى المتقين للانتفاع به, وإن كان الله يهدي به غير المؤمنين وغير المتقين من جهة الدلالة, لكن بين شرف المتقين.
هذه السورة بين الله جل وعلا فيها أقسام بني آدم بعدما استقرت أقسامهم من جهة الديانة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثه كان الناس في الأرض على جاهلية, كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم, فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم, وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ).
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ) . فهذه كانت حال الناس قبل البعثة, ثم قال: ( وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك, وأنزلت عليك كتاباً تقرؤه نائماً ويقظاناً لا يغسله الماء )؛ ولهذا حفظه الله جل وعلا وجعله آيات في صدور الذين أوتوا العلم.
فقوله جل وعلا:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
[البقرة:2] إبانة لحال الناس, لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم صار الناس إما مؤمن ظاهراً وباطناً, وهم من آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام, وإما كافر ظاهراً وباطناً. والمؤمن ظاهراً وباطناً على ثلاث درجات ذكرها الله في قوله جل وعلا:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
[فاطر:32] .
فهؤلاء جميعهم مؤمنون ظاهراً وباطناً وإن كانوا متفاضلين, أو كافر ظاهراً وباطناً سواء كان بعبادة وثن أو بغير ذلك.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ظهر قسم ثالث, وهم المؤمنون في الظاهر الكفار في الباطن؛ وهم الذين قال الله فيهم:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
[النساء:145], وهم المنافقون, فهذه هي الأقسام الواقعة.
وبقي من حيث التقسيم العقلي قسم رابع, وهو: من يكفر ظاهراً وهو مؤمن باطناً, فهذه ليست حالاً لبني آدم إلا حالاً عارضة, كما في المكره المذكور في قول الله جل وعلا:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ
[النحل:106] , لكن من حيث الأحوال غير العارضة فالناس على ثلاثة أقسام, وهذه الأقسام الثلاثة بينها الله في هذه السورة، فبدأ سبحانه بذكر المتقين، فقال:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
[البقرة:2].
ثم بعدما ذكر المتقين ذكر الذين كفروا, فقال:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
[البقرة:6] , فهنا ذكر الكفار ظاهراً وباطناً، فيدخل فيه كفرة أهل الكتاب وكفرة العرب في الجاهلية وغيرهم.
ثم بعد ذلك ذكر القسم الثالث, وبين صفتهم وحالهم ما لم يبين فيما سبق؛ تنبيهاً على سوء أمرهم, وأن حالهم مبني على الإخفاء, فصار كشف القرآن لحالهم أظهر من هذا الوجه, وهم الذين ذكرهم الله بقوله:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ
[البقرة:8] . فالسورة في أوائلها ذكر لأقسام بني آدم من جهة الديانة.