الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أبو المعالي الجويني هو إمام الحرمين؛ لما اشتهر به من العبادة والشهرة العلمية، وهو من فقهاء الشافعية وأئمتهم في الأصول، ويعد أبو المعالي الجويني من المتكلمين الذين كتبوا في علم النظر وعلم الكلام، وكذلك صنف في فقه الشافعية، ودافع عن علم الكلام زمناً، ثم قرر الرجوع عن كثير من ذلك، ولا سيما ما ذكره في الرسالة النظامية، وبين أن مذهب السلف هو المذهب الحق، وكلامه هناك كلام فاضل، ولكنه مجمل، ما فصله تفصيلاً، فهذا من المقامات الحسنة عنده وإن كان فيها إجمال، والمقصود أن أبا المعالي من أئمة أصول الفقه في مذهب الإمام الشافعي ، وإذا صح هذا التقسيم جاز لنا أن نقول: إن أبا المعالي يعد من الأصوليين الذين كتبوا في علم الأصول بفهم ثاقب، فإن بعض من كتب في الأصول كتبوا فيه وهم على درجة من الفهم، لكنهم ليسوا على تحقيق بين في معانيه، بمعنى آخر أنك كما تتصور التقليد في الفقه فتستطيع أن تميز الفقيه المحقق عن المقلد، فكذلك يمكنك التمييز بين الأصولي المحقق والأصولي المقلد.
يعتبر أبو المعالي من المحققين، وله كتب في الأصول أشهرها وأقواها كتاب "البرهان" وهو كتاب محقق في الأصول، وإن كان قد بناه على طريقة علم الكلام فهذا شأن سبق التنبيه إليه.
وكتب أبو المعالي هذه الرسالة المختصرة وسماها "ورقات في أصول الفقه" ، وهي من أجود المختصرات من جهة التعريف بأوائل هذا العلم الشريف، وهو علم أصول الفقه الذي هو معرف بأدلة التشريع ورتبها، وبالدلالات وأنواعها ومقاماتها، وبالاجتهاد وصفة المجتهد، فمن فقه من الأصول هذا فقد فقه علم الأصول، وإلا صار فيه جامعاً وحافظاً ومقلداً لكنه ليس فقيهاً، ورتبته العالية - أعني هذا العلم - أن يكون فقهاً مدركاً؛ ليحسن تطبيقه وليتأتى انتظام تطبيقه في مسائل الفقه، لكن ربما مما أغلق شيئاً على كثير من الأذهان أن جمهور كتب الأصول التي جاءت بعد الإمام الشافعي أثر فيها لغة علم الكلام، فصار ينص كثير منهم أن مستند هذا العلم جمل أو أصول، ويجعلون علم الكلام منها، ويريدون به علم أصول الدين، فأثر علم الكلام من جهة الصياغة اللفظية، وكذلكم الآلة وهو علم المنطق، فإن كثيراً من المتكلمين اعتنوا بالمنطق، وجعلوه معياراً في كتابة علم الأصول، وهؤلاء درجات من حيث التأثر، فـأبو حامد صاحب "المستصفى" رحمه الله يعد من المتأثرين في صياغة الأصول على معيار المنطق؛ ولهذا غلب على كتابه التجريد، وقل فيه المثال الفقهي، فهو كتاب نظرية، ولكنها نظرية هي من تحصيل أبي حامد ، فمادة النقل الصرف في كلام أبي حامد قليلة؛ فأثره واستقراؤه بين فيه، كما ترى أثر واستقراء الشاطبي في كتاب "الموافقات"، فمادة النقل عند الشاطبي يسيرة، وهكذا الكتب بعضها تكون مادة النقل فيها كثيرة، وبعضها تكون قليلة، والذين قلت مادتهم لا شك أنهم استفادوا ممن سبقهم، لكن فرق بين الاستفادة التي تقع نقلاً عن معين، والاستفادة التي تقع استقراءً لمتنوع مختلف مع ما يضيفه إليه اجتهاده وإدراكه للشريعة فيكتب، فهذا الذي استقرأ المتنوع من الكتب وما معه من فقه الشريعة وعلمها، ثم يكتب فهذا في الغالب يكون أكثر تحقيقاً في كل العلوم.
ولهذا امتاز ابن قتيبة في اللغة وصار يقال: إنه خطيب أهل السنة، و الجاحظ خطيب المعتزلة؛ لبيانه وقوة سبكه، وقد سئل عن هذا البيان فقيل له: أهو من السابقين؟ قال: هو قول السابقين غاض ثم فاض، فليس هو إياه، وليس هو غيره. يقصد أن هذا كلام السابقين .. هذا شعر العرب وشعر الجاهليين، وفصاحة الفصحاء، وبيان العرب وبلاغة العرب، غاض في نفسه وفي عقله، ثم فاض كتابة، فليس هو إياه، وليس هو غيره بمعنى أنه ليس هذا ما قاله امرؤ القيس مثلاً، لكن لو لم يقرأ شعر امرئ القيس وشعر طرفة وشعر الشعراء وفصاحة الفصحاء ما استطاع أن يكتب بهذه الدرجة من البيان والبلاغة، وهكذا في علم الأصول بعضهم مستوعب استيعاباً دقيقاً فيكتب نظرية دقيقة، بغض النظر عن اختلاف الآراء التي قد يقال: إن هذا رأي راجح أو مرجوح، وبعضهم يكثر في كلامه النقل والتقليد، فهذا كله علم شريف على كل حال، لكن إنما يشار إليه؛ لأن الزمان أقل، والوقت والعمر أقل مما أتيح من العلم والكتب، فيكون طالب العلم في قراءته في العلم كله منتخباً.
فالمقصود أن أبا المعالي من محققي علماء الأصول من جهة قوة الاستيعاب لهذا العلم، وهو عالم جليل ذكي، وإن كان وقع في علم الكلام وطريقته التي أثرت على كثير من آرائه في مسائل أصول الدين، وهذا مما يؤخذ عليه وهو معروف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ هذه ورقات قليلة تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه، وذلك مؤلف من جزءين مفردين: أحدهما: الأصول، والثاني: الفقه، فالأصل: ما بني عليه غيره، والفرع: ما يبنى على غيره، والفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد ].
المقصود بالفقه هنا: معرفة الأحكام، الفقه بمعنى الفروع، وهو الفقه في الاصطلاح، أما الفقه في الشريعة فيراد به: معرفة الدين كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم فقهه في الدين ) والمراد هنا: الدين عامةً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والأحكام سبعة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحظور، والمكروه، والصحيح، والباطل ].
قوله: (الأحكام) بدأ بها، وهذا أحد أوجه الترتيب في صياغة هذا العلم، وإن كان في الحقيقة ليس هو الترتيب المنظم للذهن، فإن الترتيب المنظم للذهن هو البدء بتعريف الأدلة، وتسمية الأدلة وتعيينها، ثم النظر في الأحكام، ثم النظر في الدلالات، هذا يكون أكثر انتظاماً وتصوراً في الذهن، فبدأ أبو المعالي على هذه الطريقة فقال: (الأحكام سبعة) على سبيل الجمع، وإلا فهو ممن يقسم الأحكام على التقسيم الأصولي المعروف بأنها تنقسم إلى قسمين: الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية، فهذه السبعة التي سماها، الخمسة الأولى منها التي هي: الواجب، والمستحب، والمحرم، والمكروه، والمباح، هذه تسمى الأحكام التكليفية، وهي أحكام لا يجتمع اثنان منها على محل واحد، فإن الشيء لا يكون واجباً ومستحباً في آن واحد، إلا أن فقيهاً يقول: إنه واجب، وفقيهاً آخر يقول: إنه مستحب، لكن لا يتصور أن فقيهاً يقول: إن هذا واجب، وفي نفس الوقت يقول: إنه مستحب؛ لأن الأحكام هنا مختلفة. فالمقصود: أن هذه الخمسة هي المسماة في أصول الفقه (الأحكام التكليفية).
أما بالنسبة للصحيح والباطل فهي أخص الأحكام الوضعية، وإن كان الحكم الوضعي لا تختص تسميته بالصحيح والباطل وحدهما، بل يدخلون فيه غير ذلك، والجمهور يسوون في الجملة بين الباطل والفاسد، وهذه طريقة الشافعية والحنابلة، خلافاً للحنفية الذين قالوا: إن الباطل: ما نهى عنه الشارع من أصله، والفاسد: ما نهى عنه الشارع لوصفه. وإنما قيل: يسوون في الجملة؛ لأنهم في بعض الفروع الفقهية يفرقون؛ فالحنابلة فرقوا في بعض الفروع بين الباطل والفاسد، كما في بعض الأنكحة، وفي الحج فرقوا بين الحج الباطل والحج الفاسد، ولا سيما في رأي طائفة كثيرة من الأصحاب، فهذا يستدعي أن نقول: إن الحنابلة لا يفرقون في الغالب، فهم كتأصيل يقولون: الباطل والفاسد واحد.
إذاً: أراد أبو المعالي جماع الأحكام أنها سبعة، ومن حسن فقهه أنه ما قال: تكليفية، ولا قال: وضعية؛ لأنه أراد هنا الاختصار والجمع، وهي الأحكام الشرعية، لكن في الحقيقة الحكم الوضعي ينفك عن الحكم التكليفي، فيمكن أن يجتمع حكم تكليفي وحكم وضعي في وقت واحد، فأنت تقول: الصلاة واجبة، وتقول: صحيحة، فاجتمع الحكمان؛ لأن هذا تكليفي وهذا وضعي، لكن لا يجتمع حكمان تكليفيان في رأي فقيه واحد على محل واحد، فيجعله مباحاً محرماً على نفس الصفة وعلى نفس المحل، إلا أن يتغير فيه صفة أو يتغير فيه شرط أو ما إلى ذلك.
وهل يلزم من وجود الحكم التكليفي ثبوت ما يناسبه من الحكم الوضعي؟ فالصحيح يناسبه الواجب والمستحب، والباطل يناسبه المحرم، فهل يلزم من كون الشيء محرماً أن يكون باطلاً أو فاسداً؟
التحقيق في الأصول أن هذا ليس بلازم، فقد يكون محرماً ولا يكون باطلاً، بل يبقى على صحته، وهذا من المعاني الإضافية، وهذه الرسالة مقامها الاختصار وليس التفصيل، إنما المقصود أن التلازم ليس متحققاً، بل يكون المعنى هنا إضافياً؛ ولهذا تراهم في العقود يقولون: العقد صحيح وإن كان محرماً أحياناً، وهذا مما يختلف الفقهاء فيه كالبيع على بيع أخيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه ) فتقول: البيع على بيع أخيه محرم، لكن هل العقد باطل؟ هذا محل خلاف، الجمهور لا يرون العقد باطلاً، وإن كان منهم من يجعله مكروهاً، ومنهم من يجعله محرماً، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن العقد محرم وأنه باطل.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر