الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه ].
هذا حد الواجب، وعبارة الأصوليين في حد الواجب فيها اختلاف، وهو في الجملة اختلاف تنوع، وبعض الاختلاف له معنى، لكنه على خلاف طريقة الجمهور من أهل الأصول فالخلاف بينهم خلاف لفظي، أو يتنوع على قدر من الزيادة لكن ليس فيه تضاد، إلا على طريقة قوم شذوا عن جمهور الأصوليين.
فالواجب كما قال المصنف: (هو ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه)، وبعضهم عبر بقوله: (ويستحق العقاب)، وهذا سواء عبر به أو لم يعبر به فإنه مقدر، فلا يرد أن قولهم: (ويعاقب) أنه يجزم بعقوبته، بل أمره تحت مشيئة الله، هذا لا يرد؛ لأنهم إنما يريدون المعنى الأصولي، أي: تقريب المعنى الأصولي، وليس الجزم بالعذاب من عدمه، فهذا لم يرده أحد ممن قال بتعريف الواجب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمندوب: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه ].
المندوب إذا فعله فإنه يكون مثاباً عند الله، ولا يعاقب على تركه، وهذا في الجملة مستقر في الشريعة، وإن كان يعرض فيه بعض الاستثناء كما في بعض المؤكدات من السنن التي من أجلها ترك الأئمة شهادة من أطبق على تركها، كما كره الإمام أحمد الإقامة على ترك السنن الرواتب، وله في الشهادة قول ذكره بعض أصحابه، فهذا أمر يستثنى من هذا المعنى على سبيل الاجتهاد في بعض المؤكدات من المشروعات، لكن الأصل في المندوب أن تاركه لا يكون مؤاخذاً عند الله.
ثم هذا المستثنى الذي أشار إليه بعض العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم إنما هو في أحكام مرتبة عليها في الدنيا، لكن لم يقل أحمد في الرواتب أو في الوتر أو غيره من المندوبات عنده وإن كانت مؤكدة لم يقل: إنه يكون معاقباً، فإنما هو في بعض الأحكام التي ترتب عليها أحكام كمسألة الشهادة أو نحوها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمباح: ما لا يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه ].
هذا من حيث الأصل، إذا وقع المباح وقوعاً مجرداً كما في الأفعال العادية، أي: على ماهيته العادية المحضة، كالمشي والأكل والشرب ونحوها، فإذا وقع المباح على وجهه العادي المحض وتمحض المباح في عاديته استقام عليه الحكم أنه لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، لكن إذا اتصل به مناسب من الشريعة نقله عن هذا القدر إلى ما هو فوقه، وكذلك إذا اتصل به مناف من الشريعة نقله عن هذا القدر إلى ما دونه.
إذاً لا بد في المباح أن يلتفت إلى هذا المعنى: إلى أن ما ذكروه من حده فإنما هو باعتبار تمحضه، أي: إذا تمحض في كونه عادياً كالأكل مثلاً، لكن إذا اتصل به محرك من الشريعة مناسب نقله إلى ما هو أعلى، وصار به مستحباً مثلاً، وكذلك إذا اتصل به محرك مناف من الإرادات ونحوها زال عن كونه مباحاً إلى وصف الكراهة أو النهي، فهذا باعتبار العارض فيه، لكن باعتبار الأصل أن المباح لا ثواب فيه ولا عقاب، لكن إذا دخل عليه هذا الزائد المنافي أو المناسب تأثر به من جهة الحكم، فمن يستعين في نومه على قيام الليل فإنه يثاب عليه، وهذا هو فقه الصحابة رضي الله عنهم أنهم راعوا هذا المنافي، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى و معاذ ( لما جاء معاذ إلى اليمن وقدم على أبي موسى ، فتذاكرا القيام من الليل، فقال معاذ : أما أنا فأنام وأقوم، وأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي )، يعني: أحتسب في نومتي ما أحتسب في صلاتي، مع أن النوم مباح، وهذا إنما هو التفات من معاذ ، وهو من فقهاء هذه الأمة، وأئمتها في الفقه، التفات إلى المحرك المناسب من الشريعة؛ لأنه احتسب وقصد أن يستعين بنومه على أداء صلاة الليل، ومثله في بقية المباحات، فهذه مسألة في المباح من جهة حكمه ومن جهة حده.
وفي المباح مسألة ثانية: وهي أن المباح على الصحيح وهو الذي عليه الجمهور يعد من الأحكام الشرعية، وهو ما اصطلح عليه أهل الأصول بتسميتهم لها الأحكام التكليفية، ونرى أبا المعالي رحمه الله لما كان يذكر في هذه الورقات خلاصة ما انتهت إليه مسائل الأصول، قال: إن الأحكام سبعة، فإنما هو جمع للأحكام الشرعية، فأدخل التكليفية على الوضعية، وما سمى من الوضعي إلا الصحيح والباطل أو الفاسد، والباطل والفاسد عند الشافعية بمعنى واحد في الجملة، وترك ما بعد ذلك؛ لأن ما بعد ذلك من الوضعي فيه منازعة في دخوله في الوضعي، والمتبين من الوضعي هو الصحيح والفاسد أو الباطل، وهم -أعني: الشافعية- يجعلون الفاسد والباطل على معنى واحد في الجملة، وكذلك في المذهب عند الحنابلة رحمهم الله، إلا أنهم استثنوا بعض المسائل في الحج ونحوه، فلهم فيها تمييز بين الباطل والفاسد.
والشاهد من هذا أن المباح حكم شرعي، وإذا استعملنا الاصطلاح قلنا: حكم تكليفي، مع أن جملة من النظار والمتكلمين من المعتزلة وغيرهم استشكلوا هذا، فمنهم من أورد عليه سؤالاً، ومنهم من جزم بأن المباح ليس من الأحكام؛ لأنهم لا يرون فيه تكليفاً، فهو لا تكليف فيه حيث إن الشارع لم يطلب فعله ولم يطلب تركه، قالوا: فأين التكليف فيه؟ فلم يقع به طلب ولم يقع به تكليف، وهذا الإيراد خطأ؛ لأنه تفرع ليس عن موجب من الشريعة، بل تفرع عن موجب من الاصطلاح، وهذا الموجب من الاصطلاح ليس بلازم، ولو طرد في التحقيق لاطرد هذا اللازم، وهذا السؤال يرد حتى على المستحب، فإن المستحب لا تكليف فيه بمعنى: لا عزيمة فيه، فإنه في المستحب مخير بين فعله وتركه، ولكنه لو فعله أثيب، وكذلك المكروه فإنه لا تكليف فيه بمعنى العزيمة، والتكليف في اللغة ما فيه مشقة وفيه عزم، فهذا الذي ورد على المباح يرد عند التحقيق حتى على المستحب وعلى المكروه، بل ويرد على الواجب أحياناً؛ لأن بعض الواجبات تلاقي الطبيعة والفطرة والمناسبة والاختيار، ويكون التكليف والمشقة بالانفكاك عنها وليس بفعلها، وكذلك المحرمات فإن الأصل أن جميعها منافية للفطرة واستدعاؤها تكلف، ولكن إذا غلبت الشهوات وهوى النفس تميز هذا من هذا، ولكن حتى مع غلبة الشهوات وهوى النفس يبقى قدر من المحرمات لا يمكن أن نفساً تختاره على سبيل السعادة به أو اللذة به أو الأنس به، ألا ترى أن قتل الإنسان لنفسه من المحرمات؟ لكن هل هذا المحرم فيه تكليف، والناس يجاهدون أنفسهم ألا يقتلوا أنفسهم؟ لا، فإذاً: الاصطلاح هو الذي قاد إلى هذا اللبس، وكذلك تسميتها الأحكام التكليفية، وكان يمكن أن تميز عن الأحكام الوضعية بنوع من التمييز غير مصطلح التكليف.
إذاً: أن المباح من الأحكام الشرعية، وليس حكماً عقلياً كما قال بعض المعتزلة، والدليل على كونها حكماً شرعياً صريح القرآن، فإن الله جل وعلا قال في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] وهو شرب النبي صلى الله عليه وسلم العسل، فقال: أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] فهو ليس حكماً عقلياً، وقال جل وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116] ، وكما في الحديث القدسي من حديث عياض بن حمار قال الله تعالى: ( كل مال نحلته عبداً حلال )، فهذا كله يبين أن المباح من الأحكام الشرعية، أو أن الإباحة حكم شرعي؛ ولهذا مضى هدي أئمة الاجتهاد اعتبار دليل الاستصحاب من الأدلة الشرعية بهذا الموجب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمحظور: ما يثاب على تركه، ويعاقب على فعله ].
هذا ما كان محرماً -أي: محظوراً- والمحظور إذا أطلق انصرف إلى المحرم، وإن كان من حيث الجمع والاشتراك فإنه اسم مشترك لما نهي عنه، سواء كان على سبيل العزم أو دون ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمكروه: ما يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله ].
هذا يسمى مكروهاً وهو في باب النهي، وما الفرق بين المكروه وبين المستحب؟ بعضهم جعل المستحب في باب الأمر، والمكروه في باب النهي، وبعض النظار يرى أن ثمة تلازماً بين هذا وهذا من جهة أنه إذا فعل المستحب فإنه بفعله المستحب يكون مثاباً، وهل إذا ترك المستحب يكون قد أتى مباحاً أو أتى مكروهاً؟ هذا ما يقع فيه التفصيل من مسألة الأولى وخلافه، فبعض درجات خلاف الأولى من ترك المستحبات تكون وجهاً من المكروه، وبعضها لا ترتقي إلى ذلك، بمعنى: أنه وإن كان التحقيق أن ترك المستحب لا يلزم عنه الكراهة، وأن فعل المكروه لا يلزم عنه ترك المستحب على اطراد، فإن هذا اللازم إذا قيل بعدم لزومه فلا يعني عدم وقوعه، فهل يلزم من ترك المستحب فعل المكروه؟ الصواب أنه لا يلزم لكنه لا يمنع، فقد يكون تركه للمستحب فاعلاً للمكروه، مثال ذلك: من أقام على ترك السلام، ومعلوم أن بذل السلام مستحب، لكن من هجر السلام على الناس صار لا يبالي بالسلام، أقل أحواله أنه ترك مستحباً وفعل مكروهاً، ليس بدرجة من عرض له ترك المستحب، المقصود من هذا التنبيه على أن تارك المستحب لا يلزم أن يكون عائداً إلى المباح، لما تقول: إن الأقسام الخمسة حاصرة، فإما أن يكون الفعل واجباً، أو مستحباً، أو مباحاً، أو محرماً، أو مكروهاً، هذه أقسام حاصرة وما يسمى خلاف الأولى ونحو ذلك هو يعود إلى هذه الأسماء، يعود إلى المكروه وإلى المستحب، يعود إليه ويئول إليه، إذاً فلا بد من إدراك هذا المعنى في المكروه، وكذلك يدرك في المستحب، أنه لا يلزم من ترك المستحب أنه يعود ضرورة عن المكلف إلى حكم المباح هذا الأصل، ولا يلزم من فعل المكروه أو ترك المكروه أنه يعود إلى فعل المستحب، بل قد يكون كذلك وهو الأصل، وقد يكون دون ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به ].
ما يتعلق به النفوذ لأنه حكم وضعي، ومعنى كونه وضعياً أن الشارع جعله أمارة على الوجود أو الانتفاء، ولهذا يقال: هذا عقد صحيح، وهذا عقد باطل، أو هذه عبادة صحيحة، وهذه عبادة باطلة، فإذا تعلق النفوذ به فهو الصحيح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ، ولا يعتد به ].
ما لا يتعلق به النفوذ، ولا يعتد به يكون باطلاً، وكذلك يسمى فاسداً، وسبقت الإشارة إلى أن الجمهور -في الجملة- لا يفرقون بين الباطل والفاسد بل يجعلونها مقابلة للصحيح، والحنفية في الجملة يفرقون بين الباطل والفاسد، ويقولون: إن الباطل ما نهى عنه الشارع من أصله أو لأصله، والفاسد ما نهى عنه الشارع لوصفه، ومثلوا له ببيع الأجنة في بطون أمهاتها، فيجعلونه من باب الباطل، ويمثلون للفاسد ببعض المعاملات المحرمة عندهم، وبعضهم جعل الربا من الفاسد، وهذا فيه نظر حتى لو قيل على طريقة الحنفية؛ لأن الصحيح أن الربا ماهيته منهي عنها من أصلها، فإنه إذا قدر انفكاكه عن الوصف الفضل أو النسيئة ما عاد ربا، فهو ماهية قائمة على هذا التقدير، ودائماً في القواعد الأصولية والفقهية لا يلزم أن يكون المثال بالضرورة متحققاً على القاعدة أو على الضابط الأصولي أو الفقهي، فقد يكون كذلك وقد لا يكون كذلك، وهذا معنى ينبغي لطالب العلم أن يلتفت له؛ لأن البعض أحياناً إذا نظر القاعدة ونظر مثالها، وفي الغالب أن المثال أقرب إلى مدارك الذهن، فإذا نظر المثال ولاقى مثالاً حسناً في التصوير وفي التطبيق ربما استحسن القاعدة وبالغ في استحسانها، وإذا لاقى مثالاً ضعيفاً أو ليس ملاقياً لذهنه ربما استشكل القاعدة، ولكن الأمر ليس بهذا اللزوم، بمعنى: أن القاعدة قد تكون بالغة الانضباط، لكن مثالها إما أنه ليس مشهوراً عند قارئها، أو من فروع المذهب الحنفي التي هي مبنية على تقدير بعض الأحكام، أو ما يسمى بالفقه التقديري، فلا يكون ملاقياً لذهن القارئ من غيرهم، فقد يتوهم ضعفاً في القاعدة، ولا يكون الأمر كذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر