الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والعموم من صفات النطق، ولا يجوز دعوى العموم في غيره من الفعل، وما يجري مجراه.
والخاص يقابل العام، والتخصيص: تمييز بعض الجملة، وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل. فالمتصل الاستثناء، والتقييد بالشرط، والتقييد بالصفة ].
بين الجويني رحمه الله تعالى في مختصره المقصود بالعموم وأنه في النطق، ولا يكون في الأفعال، فالأفعال عنده لا تفيد العموم، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل الأصول، وكذلك أن العام يقابله الخاص، وأن العام الأصل العمل به، ولا يخرج عنه بعض أفراده إلا بالتخصيص.
ثم اختلفوا هل التخصيص يكون بالنص وحده؟ أو أن التخصيص يتعدى إلى ما هو فوق ذلك؟ أما ما كان بالنص فهذا في الجملة محل اتفاق عند مثبتة العموم، وأما ما زاد على ذلك كالتخصيص بالقياس مثلاً؛ فهذا محل خلاف، وفيه خلاف مشهور بين النظار من المعتزلة وأهل الأصول، والمعتزلة أنفسهم أقوالهم فيه مختلفة ولم يتفقوا فيه على قول واحد؛ لأن البعض يطلق تارة أن المعتزلة أطلقت ذلك، والواقع عندهم خلاف ذلك، فـالمعتزلة أنفسهم مختلفون في هذه المسألة.
ثم بين أن التخصيص على قسمين: منه ما هو متصل، ومنه ما هو منفصل، وسمى المتصل أنه ما كان بالاستثناء، أو بالشرط، أو بالصفة، فإذا أوقع على هذه الأوجه الثلاثة سمي تخصيصاً، ولكنه تخصيص متصل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام، وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء، ومن شرطه أن يكون متصلاً بالكلام ].
أي: لا يكون منقطعاً، وأما إذا كان الاستثناء منقطعاً فإن المستثنى لا يكون من جنس المستثنى منه.
قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه، ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره.
والشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط، ويجوز أن يتقدم عن المشروط ].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع، وأطلقت في بعض المواضع، فيحمل المطلق على المقيد ].
يحمل المطلق على المقيد كما يحمل الخاص على العام، فيرد بعض أفراد العام بالتخصيص، وتخرج عن حكم العام، كذلك المطلق على المقيد، وإن كان المثال الذي أشار إليه إمام الحرمين لو مثل بغيره في المطلق والمقيد لكان أولى؛ لأن الآية التي ذكرت في عتق الرقبة فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] يقول: إنها آية مقيدة، فقيدت الرقبة بأنها مؤمنة، فيقول: يحمل المطلق الذي فيه الأمر بإعتاق الرقبة، أراد بذلك أنه لا يكون كافراً، ليس المراد عنده أنه لا يكون مسلماً، ولكنه لا يسمى مؤمناً، إنما أراد أنه لا يكون كافراً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، وتخصيص الكتاب بالسنة، وتخصيص السنة بالكتاب، وتخصيص السنة بالسنة ].
التخصيص يرد في هذه الموارد كلها، وذلك أن الكتاب يكون فيه تخصيص للسنة، أو أن السنة تخصص الكتاب، ففي هذه الموارد التي ذكرها كلها يقع فيها التخصيص، هذا كله في التخصيص بالنص، وهذا في الجملة ظاهر من حيث الحكم، إنما قد يقع فيه التردد من جهة التسمية هل ما ذكره أبو المعالي وهو يتوسع في ذكره في كتبه المفصلة وأصحاب الأصول في كتبهم المطولة ما كان من دائرة النص كون هذه الأفراد خرجت عن حكم العام، هذا من حيث هو حكم لا خلاف فيه، لكن يبقى الخلاف هل هذا كله يسمى تخصيصاً أو لا يسمى تخصيصاً؟ هذا مورد النزاع.
بعضهم يصحح هذا فيخرج هذا عن هذا كما في الشرط مثلاً، لكن لا يجعل ذلك من اسم التخصيص، لكنك إذا نظرت إلى الحكم لا يكون فيه هذا الإشكال، إنما رجع الإشكال فيما إذا كان التخصيص يعود إلى النصوص نفسها، فيرجع الاختلاف أحياناً إلى التسمية فحسب، ولا يعود إلى الحكم.
إنما الذي يعود الخلاف فيه إلى الحكم حقيقة: التخصيص بما بعد النص، كالتخصيص بالقياس، وهذه مسألة معروفة عند جماعة من علماء الأصول، وفيها خلاف بين نظار المعتزلة ، ونظار أهل السنة كذلك، ونظار المتكلمين بعامة، وبعضهم يذكر مسألة التخصيص بالمصلحة المرسلة، هل المصلحة المرسلة تخصص أو لا تخصص؟ وهذه أقل من مسألة التخصيص بالقياس، ويذكرون بعض الأمثلة.
فيقولون: إن عمر رضي الله عنه أسقط سهم المؤلفة قلوبهم مع أنه منصوص عليه في القرآن، قالوا: أسقطه عملاً منه بالمصلحة المرسلة، والذي يظهر أن المصلحة المرسلة لا يخصص بها النص؛ لأن التخصيص -كما سبق معنا- من عوارض الألفاظ بهذا الاعتبار.
إذاً: هو متعلق بصيغ من الألفاظ تدل على أنه خرج بعض أفراده، فإذا أعدته إلى المعنى يكون ما وقع من هذه المثالات سواء في المصلحة المرسلة وهو أبين، أو حتى في مادة القياس لا يكون من باب التخصيص أصلاً، فإن عمر رضي الله عنه يحمل ما جاء عنه أن السهم المنصوص عليه في القرآن هو في المؤلفة قلوبهم، وهم عنده في تلك الحال ليسوا من أهل التأليف، فأصبح عنده هذا المعنى منتفياً، فما دخلوا في الاسم أصلاً.
وفي المؤلفة قلوبهم بين الفقهاء رحمهم الله اختلاف مشهور، وإن كانوا مجمعين على إثبات أمرهم، لكنهم مختلفون في ضروبهم؛ ولهذا ذكر الموفق رحمه الله في المغني أنهم أضرب، وذكر الخلاف في هذه الأضرب، هل المؤلفة قلوبهم هم حدثاء العهد من المسلمين، أم يدخل فيهم بعض الكفار؟ وإذا دخل فيهم بعض الكفار فما أوصاف الكفار الذين يدخلون؟ هل هو من يرجى إسلامه؟ أو ممن يدفع شره؟
هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من التفت إلى ظاهر التسمية، وجعلها -أي: الزكاة- في هذا الصنف، أي: الذي يرجى أنه يدخل في الإسلام، وبعضهم وسعها إلى ما هو أوسع من ذلك، وقال: إن المقصود من هذا السهم في الشريعة هو أن تكون الزكاة كما كانت في الجهاد المذكور في قول الله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] فإن من مقصودها أن تكون حفظاً لأهل الإسلام عن تسلط أعدائهم؛ لأنه في حال الجهاد ليس بالضرورة أن حال المسلمين في سائر الموارد تكون مناسبة للجهاد، قد يكون حالهم أضعف من حال عدوهم بكثير، وهذا صائر في الأمة كثيراً، وحتى في زمن النبوة فقد كان المسلمون على نوعين: تارة كانوا كما غلب على الحالة المكية أن حالهم أضعف، وغلب على حال المدينة أن حالهم أقوى، فقوي أمرهم؛ لما مكنهم الله سبحانه وتعالى.
فالمقصود أنهم يلتفتون إلى هذا المعنى، ويجعلونها أوسع، ويجعلونها في شيء من الدرء للكفار إذا تحقق بها ذلك.
فالمقصود أن قول عمر رضي الله عنه يُحمل على هذا، ليس أن هذا من باب التخصيص بالمصلحة المرسلة، فإذاً: لو قيل: هل المصلحة المرسلة تكون مخصصة للعموم أم لا؟ فالمبادرة إلى الإطلاق بالإثبات أو النفي ينبني على المقصود بالمصلحة المرسلة، ومعلوم أن تحريرها محل نزاع بين الأصوليين، وإن سموها باسم عام، أو بحد عام، لما قالوا: التي لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء معين. لكن في تحرير المقصود بها خلاف مشهور، وإذا كان كذلك من ضبط أن عمر خصص العموم بالمصلحة المرسلة؟ هذا درجة من الفهم في تصرف عمر هذا، إنما يرى عمر أن هذه الصفة زالت عنهم، وما كانوا من المؤلفة قلوبهم، فيجعل التأليف من الأوصاف المتحركة في الأحوال، وليس وصفاً ثابتاً، فلما تمكن الناس وتمكن الإسلام وظهرت الفتوحات إلى آخره، يرى أنه ما أصبح أحد يرجى في التأليف.
هذا ما نقل عن عمر في هذا الاجتهاد كتوجيه، وإلا فإن الأصل أن سهم المؤلفة قلوبهم لا يزال باقياً في القرآن، حتى ولو ظهر المسلمون، فإنما يكونون في محل دون محل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وتخصيص النطق بالقياس، ونعني بالنطق: قول الله سبحانه وتعالى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ].
هذا تنبيه إلى أنه لا يفهم عن الصحابة فهم تكسر به بعض القواعد الثابتة، بل الصحابة رضي الله عنهم يجتهدون ويصيبون ويخطئون، ويحمل اجتهادهم على وجه مناسب لا يستلزم كسر القاعدة، فإن قول الصحابي - كما هو معلوم- ليس بحجة على كل حال، وإذا كان كذلك من جهة كونه حكماً فمن باب أولى في التقعيد الذي طرأ، فيكون الخلل في تنزيل رأي عمر رضي الله عنه على تسمية هذا مصلحة خصصت النص، وهو ليس كذلك، ولو فتح هذا الباب بأن المصلحة المرسلة التي يقدرها المجتهد تخصص نص الشارع ما انضبط نظام الاستدلال في الشريعة، بل يقال: إنه يختلف في هذه الحال، بتخلف الوصف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمجمل: ما افتقر إلى البيان، والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي ].
المجمل يقابله المبيِن، أي: مبيِن له، والنصوص فيها ما هو مجمل كالأمر المجمل بإقامة الصلاة، ومنه ما هو مفصل، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فهذا من النصوص المفصلة المبينة، والأمر بالطهارة مطلقاً أو بالصلاة مطلقاً هو الذي يسمى مجملاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً وقيل: ما تأويله تنزيله وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي ].
ذكر المصنف درجة الدلالات، ومنها النص، وأراد بالنص هنا: ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وهذا أقوى الدلالات إذا كانت الدلالة دلالة نص ].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والظاهر ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر ].
سموا الدرجة الثانية بعد النص: الظاهر، وقالوا: هو ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر، أي: أرجح، كأن نقول: القرء المذكور في قول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] يحتمل أمرين: الطهر والحيض، وهو كذلك؛ لأنه في اللغة اسم مشترك، ولكنه في الحيض أرجح؛ وكذا من الاستدلال عند من يرجح أن المقصود به الحيض، فيكون ترجيحه هذا عملاً بالأظهر، وليس عملاً بالنص، لكن إذا جئت إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا ) أو إلى قول الله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] قلت: هذه دلالة نص في أن الحج فريضة.
قال المصنف رحمه الله: [ ويؤول الظاهر بالدليل، ويسمى: الظاهر بالدليل ].
الظاهر يقابله المؤول، هذه مسألة من المسائل التي تفرعت عن علم الكلام، وسبق فيها بعض الإشارات في دروس العقيدة.
نقف على هذه المسألة، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر