الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فعل صاحب الشريعة لا يخلو: إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك، فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص، وإن لم يدل لا يخصص به؛ لأن الله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا، ومن بعض أصحابنا من قال: يحمل على الندب، ومنهم من قال: يتوقف عنه ].
قوله رحمه الله تعالى: (فعل صاحب الشريعة) هذا بحث في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنها على قسمين: إما أن يكون على وجه القربة، أو لا يكون كذلك، ثم ذكر أن ما كان على وجه القربة من النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنه يحمل على عدم الاختصاص به، إلا أن يدل الدليل على كونه خاصاً، وما ذكره أبو المعالي هو الذي عليه الجمهور من أهل الأصول، وهو الراجح: أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التعبدية، التي تكون على وجه القربة، الأصل فيها أنها ليست خاصة به؛ لأنه مبلغ عن الله، ومحل للاقتداء، وقد قال الله جل وعلا -كما استدل المصنف-: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، والأدلة غير هذه الآية كثير؛ ولهذا فإن مذهب من جعل الأصل الاختصاص بعيد، بل الأصل أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تكون عامة له ولأمته يقتدون به، إلا ما دل الدليل على التخصيص.
ثم إذا قلنا: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليست خاصة به إلا بدليل على مذهب الجمهور وهو الراجح؛ فماذا يقتضيه الفعل من الحكم؟
ذكر المصنف في هذا ثلاثة مذاهب، قال: منهم من حمله على الوجوب، ومنهم من حمله على الندب، ومنهم من قال بالتوقف.
وينبه في ذكر النظار الأصوليين للمسائل إلى أنه ليس بالضرورة أن الخلاف الذي يسمونه يكون حاصراً، وإن كان ليس كثيراً، لكن ربما وقع أن الأصولي يسمي الخلاف على قولين أو ثلاثة ولا يكون أحد هذه الأقوال هو الراجح أو المعتبر في المسألة، وهذا لا يكون عامة في سائر كتابه، لكن يقع في بعض المسائل، وله أمثلة كمسألة التحسين والتقبيح العقليين، فإنهم يذكرون فيها مذهبين مشهورين، وهذان المذهبان كما هو متقرر ليس أحدهما هو الصحيح، فكذلك قوله هنا، وإن كانت هذه المسألة أخف بكثير. إنما إطلاق القول بالوجوب، أو إطلاق القول بالندب، هذا يفسر على أحد وجهين: إن أريد بالوجوب أنه يكون واجباً باعتبار أعيان الفعل؛ فهذا فيه نظر، وإن كان مراد من قال: الوجوب والندب باعتبار الأصل، فهذا متجه في تفسير المذاهب، وعليه فيكون ما يذكره أبو المعالي على هذا التفسير جامعاً للقول الراجح أو القول المعتبر.
بمعنى: أن مراده بقوله: أنه يكون على الوجوب. أي: باعتبار الأصل، كما قالوا في الأمر: إن الأصل فيه الوجوب. ولكنه يخرج عن ذلك، فكذلك الفعل عند من قال من الأصوليين بأنه على الوجوب، أو من قال على الندب أراد من حيث الأصل، ومن توقف فقال: إن الفعل لا يقع فيه أصل يكون هو الغالب فيه، وإنما الفعل يفسر بغيره، ولما كان يفسر بغيره صار متردداً بين الأحكام، فتارة يدل على الإباحة، وتارة يدل على الوجوب، وتارة يدل على الندب، فمذهب من يقول بالتوقف معتبر على هذه الطريقة: أن الفعل من صاحب الشريعة يفسر بغيره، فإذا كان في أعمال القرب -وهو القسم الذي ذكره المصنف هنا- فهو يفسر بغيره، إما على الوجوب، أو على الندب.
والراجح في هذه المسألة: هو الذي عليه الجمهور أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تدل على الوجوب بذاتها، أي: أن الفعل من حيث هو مجرد لا يدل على الوجوب، بل الأصل فيه -إذا أريد وضع أصل في هذه المسألة- أن اقتضاءه للندب أحكم من اقتضائه للوجوب، وهذا مذهب الجمهور، لكنه يخرج عن كونه للندب إلى كونه للوجوب لما يتصل به من الشواهد، أو ما يسمى بالقرائن، فما يتصل به من الشواهد يكون كذلك؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اتصل فعله بأمره اختلفوا كثيراً في مسألة الوجوب في الحج؛ فإنه قال: ( خذوا عني مناسككم )، فهذا حديث مجمل، لم يكن في فعل معين، فلم يقل: خذوا عني الطواف، أو خذوا عني هذا الفعل، في نسك معين، إنما قال: ( خذوا عني مناسككم )، فكان في جملة المناسك، وأفعاله وقعت في حجته مفصلة، فلما وقع فعله مفصلاً، وأمره جاء على هذا الإجمال؛ صار هناك الخلاف في تحقيق المناط وتنقيحه بين ما يقتضيه الأصل في الفعل، وما يقتضيه الفعل باعتبار اتصال الشاهد به، وهو قوله: ( خذوا عني مناسككم )، فصار بعض فعله يفسر أنه على الوجوب، ونجد أنهم لا يجعلون محض الفعل شاهد الوجوب؛ لأنهم يقررون في الأصول: أن الفعل من حيث الأصل عند الجمهور يقتضي الندب، فيجعلون شاهد هذا الفعل أنه ارتقى للوجوب وهو حديث: ( خذوا عني مناسككم )، لكن لا نجد أن فقيهاً التزم بأن هذا الحديث -مع أنه قول وأمر- يقتضي أو يدل على وجوب كل فعل من أفعال الحج، فإن بعض أفعاله داخلة في قوله: ( خذوا عني مناسككم )؛ لأنها من النسك، ومع ذلك أجمعوا على أنها مستحبة ولا تكون واجبة.
ومثله في الصلاة: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وإن كان حديث النسك أكثر دلالة من حديث الصلاة، فالمقصود أن الراجح إذا قرر في الفعل أصلاً قيل: الأصل فيه الندب.
وهذا بيان المذاهب الثلاثة التي ذكرها أبو المعالي رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن كان على وجه غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا ].
قوله: (فإن كان على غير وجه القربة) أي: التقرب لله والتعبد والطاعة، وأداء وصف بياني الثاني، أو عطف يريد به أن يبين المقصود إذا كان على غير القربة والطاعة فهو يقتضي في حقه الإباحة، وكذلك في حقنا، كسائر أفعاله العادية عليه الصلاة والسلام، لما أكل من هذا الأكل، أو لبس من هذا اللباس، أو ركب هذا النوع من الدابة، أو أعجبه هذا الطعام، أو ما إلى ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة، وإقراره على الفعل كفعله ].
قوله: (وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة) أي: أنه حجة، فإذا أقر القول صار هذا القول قولاً شرعياً بإقرار صاحب الشريعة له؛ ولهذا إذا تكلم الصحابي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في أمر وأقره فإن هذا القول يكون قولاً شرعياً، لكن الإقرار عند التحقيق -فيما يظهر لي- ليس مطابقاً للسكوت؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت ولا يكون سكوته عن نص القول إقراراً، بمعنى: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة المعينة يدل على قدر من تقليد الإقرار، فلا يكون مطابقاً لما ذكره المصنف أن الإقرار يظهر من النبي صلى الله عليه وسلم القبول بهذا التصرف، فقد يقع السكوت تارة لكن لا يظهر من النبي صلى الله عليه وسلم القبول بهذا القول؛ ولهذا تجد أحياناً أن ما يقع بين بعض الصحابة في موارد الغضب قد يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن كلمة أحدهما، فلا يقال: إنه أقر فلاناً على هذه التسمية، مثاله: لما قال أحدهم للآخر: ( إنك منافق، تجادل عن المنافقين ). لا يصح أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما رد على هذا الصحابي، وما قال له: إنه ليس منافقاً وإن هذا إقرار، لا؛ لأنه يعلم أن هذه كلمة قالها في حال الغضب، وقامت على وجه من الغيرة؛ ولهذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم هديه في البيان، ويدرك الصحابي أو الصحابة المخاطبون، ويجب أن تدرك الأمة من بعدهم ذلك، يعني: ليس بالضرورة أن يكون تعليمه عليه الصلاة والسلام على سبيل المطابقة الكلمة للكلمة، ألست ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد ، لما قال: ( يا رسول الله! لو أن أحدنا وجد مع امرأته رجلاً لا يمسه حتى يأتي بأربعة شهداء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ) الآن النبي صلى الله عليه وسلم أقره إقراراً صحيحاً بكلمة: نعم، أو هذا أبلغ من الإقرار، ماذا قال سعد بعدها؟ قال: ( كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك ) ما رد النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة على سعد رداً صريحاً، لكن في الفقه والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أقره، لما قال: ( اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني ) هذا هو هدي الأنبياء؛ لأنه ما بعث معنفاً، و سعد إنما قال ما قال غيرة.
فإذاً: لا يتبادر إلى فهم طالب العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يصرح بخلاف القول مطابقة فيسمى إقراراً، لا، ننظر في السياق، فقد يظهر في تصرفه وفعله أو قوله الذي يعقبه ما يقتضي أن هذا ليس إقراراً؛ ولهذا سماه العلماء الإقرار، والإقرار أبلغ من السكوت، والسكوت لا يدل بالضرورة على الرضا، لكن لا بد أنك ترى في فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو تصرفه أو حاله أو قوله ما يدل على حكم على هذا القول.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وما فُعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فُعل في مجلسه ].
وكذلك ما فُعل في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهذا بين، ولكن -كما سبق- أنه يفهم على هذا التحقيق في فهم خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه الذي أشير إليه، وكذلك ما فعل في حياته وعلمه فإنه يكون على هذا الحكم، كما جاء في حديث ابن عمر لما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فبلغ النبي عليه الصلاة والسلام تصرف الفريقين أن أحدهم صلى في الطريق، والآخر تأخر إلى أن صلى في بني قريظة، قال ابن عمر كما في الصحيح: ( فما عنف واحداً من الفريقين ). فهذا يصدق عليه أنه كذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر