إسلام ويب

شرح الورقات [12] - التعارض بين الأدلةللشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدلة الشرعية لا تعارض بينها في ذاتها، وإنما التعارض في فهم العلماء لها وليس في نفس الأدلة، وقد وضع العلماء طرقاً للجمع بين هذه الأدلة المتعارضة ظاهراً، وحددوا الأساليب التي تتبع لتجاوز هذا التعارض. أما الدليل الثالث من أصول الأدلة فهو الإجماع، وقد بين أهل العلم تعريفه ومدى حجيته وأنواعه.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ إذا تعارض نطقان فلا يخلو: إما أن يكونا عامين أو خاصين، أو أحدهما عاماً والآخر خاصاً، أو كل واحد منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه، فإن كانا عامين: فإن أمكن الجمع بينهما جُمع، وإن لم يمكن الجمع بينهما فيتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ، فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، وكذا إذا كانا خاصين، وإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً، فيخصص العام بالخاص، وإن كان أحدهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه، فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر ].

    حقيقة التعارض بين النصوص

    قوله رحمه الله: (إذا تعارض نطقان) والتعبير بكلمة (التعارض) مما توسع فيه كثير من متأخري أهل الأصول رحمهم الله، وكأنه لا يحسن هذا التعبير في الأصل، أن تقول: إذا تعارض نطقان، أي: منطوقان؛ لأنه من حيث الأصل معلوم أن حقيقة التعارض ليست واقعة في الشريعة باتفاق العلماء، وإذا كان كذلك فمن حيث الأوصاف المقدرة لا يسمى ذلك، فهو تعارض اجتهاد، وليس تعارضاً في النطقين نفسيهما، أي: في منطوق كلام الشارع، فلا يجعل التعارض وصفاً لكلام الشارع، وإنما يوصف به الاجتهاد، هذا مع الإدراك أن مرادهم رحمهم الله ليس أن التعارض يقع في الشريعة، فإنهم متفقون على براءة الشريعة من ذلك، لكن من حيث التأدب مع الشريعة يُتجاوز عن إلحاق وصف التعارض بالنصوص التي ظاهرها التعارض، أو ما إلى ذلك، هذا هو الأصل.

    لكن من حيث النتائج يقول: إذا تعارض نطقان؛ فإنه ينظر فإما أن يكونا عامين، وإما أن يكونا خاصين، وإما أن يكون أحدهما عاماً والآخر خاصاً، أو أن أحدهما عام من وجه خاص من وجه، والآخر كذلك.

    قال: فإذا كان التعارض بين العمومين فإنه ينظر في الجمع بينهما، فإن أمكن الجمع فإنه يصار إليه، وإن لم يمكن الجمع بينهما فإنه يتوقف، إلا أن يعلم التاريخ فيكون أحدهما ناسخاً للآخر، أما القول بأن أحدهما يكون ناسخاً للآخر، فهذا متجه، مع أنك إذا طلبته من جهة المثال على الإطلاق أن العام ينسخ العام، هذا أيضاً يحتاج إلى تحقيق في ثبوته في الشريعة، إلا أن يكون العام اللاحق لأصل الحكم، كعموم الوقت في أصل الحكم، هذا عام واقع له نسخ في الشريعة، لكن أن يكون العام من أصله لحقه نسخ، لا من جهة الوصف اللاحق له؛ فهذا ليس له مثال منضبط.

    هذا فيما يتعلق بما قرره أبو المعالي رحمه الله لما قال: إذا علم التاريخ فإن أحدهما يكون ناسخاً للآخر، فإن العموم إذا أريد به الأصل هذا لم يقع له مثال من النسخ، وأما إذا أريد الوقت كأن تقول: نسخ هذا الحكم فنسخ عموم الوقت المتعلق به، فهذا يتجه.

    توجيه كلام الجويني في مسألة التوقف

    ومسألة التوقف طريقة لبعض النظار ويعتبر هذا انقطاعاً في الاجتهاد، ولم يأمر به الشرع من حيث هو مقصود للشارع، وإنما حتى لا يقال في الشريعة بغير علم،

    وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، وإلا فإن أحكام الشريعة موصول إليها بالاجتهاد؛ ولهذا لا يمكن أن يكون التوقف منهجاً مشروعاً لسائر المجتهدين، ولم يقع في الشريعة أن سائر المجتهدين توقفوا في مسألة، فهذا مما يعرض فهو انقطاع في اجتهاد البعض، وليس من أوصاف الأحكام التي تشرع.

    هذا ما يرد على قوله: (التوقف)، وهو انقطاع اجتهاد في حقيقته، وليس هو على الترتيب الذي قد يفهم من كلام أبي المعالي رحمه الله، فقد يفهم عنه أنه يجعله في المرتبة الثانية، والنسخ في المرتبة الثالثة، وليس الأمر كذلك؛ ولهذا في مفصل كلامه في "البرهان" يبين أن النسخ معتبر في الأصل، وأن التوقف حقيقته عندهم هو انقطاع، ولا يفهم منه هنا أن التوقف هو الدرجة الثانية؛ لأنه لو كان الدرجة الثانية لانتهى به النظر ولما أمكن النظر في مسألة النسخ.

    فإذاً: هو انقطاع اجتهاد.

    الجمع بين الأدلة عند التعارض

    أما ما ذكره أبو المعالي في المقام الأول: وهو الجمع بينهما، هذا في بادئ النظر يكون حسناً؛ لأنه جمع بين عمومين، لكنه عند التحقيق مشكل، بمعنى: أنه إذا فرضت أن المنطوقين تعارضا، ثم جمعت بينهما، فمعناه: أنه لم يقع تعارض؛ لأن التعارض هنا كان مقدراً وحقيقته: أن المحل مختلف، فإنه لو تحقق التعارض لما أمكن الجمع؛ لأنه من حيث الأحكام العقلية إذا تحقق التعارض بين الشيئين فلا يمكن الجمع، فمعناه: أنه إذا تحقق الجمع علم أن التعارض كان توهماً، تقديره وتسميته في هذا المحل لم يكن محكماً؛ لأنه لو كان التعارض متحققاً -والشريعة بريئة من ذلك ولا شك- لكن المقصود أنه لاح للمجتهد أن بين المنطوقين -كما قد يسمى- تعارضاً ثم جمع بينهما، فجمعه بينهما دليل على انتفاء التعارض، فلما تقول: أول ما يصار إليه عند التعارض الجمع، فحقيقته أن الجمع يرفع التعارض، وهذا هو الأصل في الشريعة، مما يبين أن ما يسمى تعارضاً هو تعارض في تقديرهم في الاجتهاد، وإلا لو تحقق التعارض جدلاً مع براءة الشريعة من ذلك فإنه لا يمكن الجمع بين المتعارضين، وإذا صرف أحدهما على معنى والآخر على معنى علم انتفاء التعارض، كما في صلاة تحية المسجد بعد العصر، فإن الشارع قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) كما في حديث أبي قتادة.

    وفي حديث ابن عباس وغيره: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد العصر)، فهذا عام وهذا عام، فإذا قيل: هذا مما يكون له سبب، أو قيل: هذا في الفرائض، أو ما إلى ذلك، وصارت النتيجة بعد ذلك إلى أن تحية المسجد لا تصلى اعتباراً بالنهي، أو تصلى اعتباراً بالأمر على اختلاف المذاهب الفقهية في هذا، نتج من حيث الأصول أنه لم يقع بين النصين على الحقيقة تعارض, ولا يقع -كما هو مستقر- ذلك في حقيقة الشريعة.

    فالمقصود إذاً ما يذكره الأصوليون رحمهم الله حينما يقولون: التعارض، ثم يذكرون الجمع، ويجعله كثير منهم هو أول المراتب؛ لأنه يعمل فيه بالنصوص، مع أن هذا عليه بعض الأسئلة، فقد يرد أن النسخ يسبقه، ولو أمكن الجمع بين النصوص؛ لأنه قد ينسخ بعض الحكم دون بعض، فهذا على كل حال محل مراجعة من جهة الترتيب، لكن المقصود أن الجمع يفيد بأن التعارض لم يقع، كما هو الأصل المستقر، إذاً قوله: (إذا تعارض نطقان)، أي: لاح للمجتهد هذا القدر من تقدير التعارض بينهما، وهو في حقيقته لا وجود له.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089156309

    عدد مرات الحفظ

    782251669