الخضر عليه السلام عبد من عباد الله الأتقياء، علمه الله علماً لم يعلمه موسى، سافر إليه موسى ليطلب منه العلم وتواضع له، وهو نبي من أنبياء الله، مات كما يموت غيره من البشر.
ثانياً: هل الخضر أفضل من موسى؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: زعم جماعة من الجهلة أن الخضر أفضل من موسى، وإنما أفضى إلى قولهم ذلك وقوفهم على ظاهر هذه القصة دون نظر إلى غيرها، فإن الله عز وجل فضل موسى بالرسالة، وميزه بالكلام:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً
[النساء:164]، وآتاه تسع آيات بينات، وجعله أفضل أنبياء بني إسرائيل، فجميع أنبياء بني إسرائيل داخلون تحت ولايته، وتحت نبوته، حتى عيسى عليه السلام.
ويكفينا في هذا المقام قول ربنا:
يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي
[الأعراف:144]؛ ولذلك كان أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن حتى ذكر ستاً وثلاثين ومائة مرة.
يقول شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وإنما تكرر ذكر موسى مع فرعون؛ لأنهما كانا طرفي نقيض، أما موسى ففي غاية الحق والهدى، وأما فرعون ففي غاية الباطل والضلال.
فرعون لأنه أنكر وجود الله عز وجل،
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
[الشعراء:23].
وموسى عليه السلام مؤيد من الله عز وجل بالكلام؛ ولذلك يكثر في القرآن ذكرهما سوياً، حتى ذكرت قصتهما تفصيلاً ثلاثاً وعشرين مرة في كتاب الله الكريم.
رابعاً: هل يسع أحد من الناس الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى؟
أولاً: السؤال: هل كان موسى مبعوثاً إلى الناس كافة، أم لبني إسرائيل؟ يقيناً كان مبعوثاً لبني إسرائيل، فما من نبي بعث إلى الناس كافة خلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال: ( وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة ) عليه الصلاة والسلام،
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً
[سبأ:28].
فموسى عليه السلام كان مبعوثاً لخصوص بني إسرائيل، فشريعته لا يلزم بها الخضر عليه السلام؛ لأنه لم يكن من بني إسرائيل.
ثانياً: أفعال الخضر عليه السلام مخرجة على أصول الشريعة، أما قلعه ذلك اللوح من من السفينة، فإنما خرب بعضها لينقذ كلها؛ ولذلك قال علماؤنا: يجوز إتلاف بعض المال لإنقاذ كله، يعني: مثلاً لو كانت سفينة في البحر تحمل أموالاً، تحمل أطعمة مثلاً أو أخشاباً أو غير ذلك وتبين أن حمولتها ثقيلة، ولا يتأتى لها الاستمرار إلا بأن يلقى بعض ما فيها في البحر وإلا غرقت، ماذا يقول كل عاقل؟ نلقي بعض هذا المال من أجل أن ننقذه كله، وهكذا فعل الخضر عليه السلام حين قال:
وَكَانَ وَرَاءَهُمْ
[الكهف:79]، بمعنى أمامهم، فهي من ألفاظ التضاد، ككلمة البيع تطلق على البيع والشراء، كان هناك ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، يغتصبها من أهلها.
أما هذه فلو وجدها معطوبة والماء يتخللها فإنه سيعرض عنها.
ثانياً: قتله للغلام باعتبار ما أطلعه الله عليه في لوحه المحفوظ: أن هذا الغلام سيكون سبباً لكفر والديه وخروجهما عن الشريعة وأنه سيرهقهما طغياناً وكفراً.
وأما بناء الجدار فهو من باب مكافأة الإساءة بالإحسان، يعني: أهل القرية لئام، بخلاء، أبوا أن يضيفوهما، فالخضر لا يريد أن يكافئ الإساءة بمثلها، وإنما يريد أن يكافئ الإساءة بالإحسان.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: زعم قوم من الزنادقة أن ظواهر الشريعة لا تلزم إلا العامة والأغبياء، أما الخواص فإنهم غير مقيدين بظواهرها؛ وذلك لخلوهم عن الأغيار وسلامتهم من الأكدار، قال: وهذا عين الزندقة، فإن الله عز وجل بعث الرسل مبشرين ومنذرين وألزم الناس بطاعتهم حين قال:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
[النساء:64]، يطاعون في الدقيق والجليل والصغير والكبير، فمن زعم أن هذه الظواهر لا تلزمه فهو كافر يقتل ولا يستتاب بإجماع المسلمين.
قال: ويستدل بعضهم جهلاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك )، قال: وما قال أحد من أهل العلم بأن المفتي هو القلب.
قال: حتى بلغ الجهل ببعضهم أن يقول: حدثني قلبي عن ربي، وأن يقول بعضهم: أنتم تأخذون عن ميت عن ميت، وأنا آخذ عن الحي الذي لا يموت.
قال: والإلهام خاص بالأنبياء؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك )، المراد به التخلص من الشبه، ليس المراد أن الإنسان يرجع إلى قلبه، هل هذا حلال أم حرام.
بل المراد أنه يستفتي أهل العلم، فلو فرض بأن أهل العلم قالوا له: هذا حلال، وهذه المعاملة تحل لك، ولكن في قلبه منها شيء، فالورع يقتضي تركها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك )، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك )، وليس معنى ذلك بأن الإنسان في أي قضية يرجع إلى قلبه: يا قلب! هل هذا حلال أم حرام؟ لا يقول بهذا عالم! لأن الله تعالى قال:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[النحل:43].
أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.