وإذا ذكرنا عبد الله بن سلام وتحريه للحق فلابد أن يذكر معه سلمان ابن الإسلام عليه من الله الرضوان، فهذا الرجل المبارك رحل رحلة طويلة يطلب الحق، يقول رضي الله عنه كما في مسند الإمام أحمد من رواية عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، يقول: (حدثني سلمان وأخذت ذلك من فيه، أي: من فم سلمان إلى أذن ابن عباس ، يقول سلمان : كنت رجلاً مجوسياً يعبد النار، من أصبهان، وكنت أحب ولد أبي إليه، حتى أنه حبسني كما تحبس الجارية، بلغ به حبه إياي أن يحبسني في بيته كما تحبس الجارية، يقول رضي الله عنه: واجتهدت في دين المجوسية، حتى جعلوني قاطن النار لا أدعها تخبو لحظة، يعني: كان يغذي تلك النار بالحطب؛ لئلا تخبو، يقول رضي الله عنه: وكان لأبي ضيعة يختلف إليها في كل يوم يتفقد حالها، فشغل ببناء له يوماً، فقال لي: أي بني! انطلق إلى تلك الضيعة وافعل كذا وكذا، ولا تتأخر، فإنك إن تأخرت شغلتني عن كل عمل لي.
يقول رضي الله عنه: فمررت بقوم من النصارى في كنيسة لهم يصلون، فسمعت أصواتهم، وأعجبتني صلاتهم، فطفقت أنظر إليهم حتى غربت الشمس وما بلغت الضيعة، فأرسل أبي في طلبي، فلما رجعت إليه، قال: أي بني! أين كنت؟ قلت: إني مررت بقوم كان من خبرهم كذا وكذا، وقد أعجبني دينهم، فقال أبي: ويلك، لا يفتنوك، دينك خير من دينهم، قلت: لا والله! بل دينهم خير من ديننا، وكان رضي الله عنه صادقاً، ما أخفى أمره، قال: فوضع أبي رجلي في القيد، قال: فأرسلت إليهم، أي: أرسل سلمان إلى أولئك النصارى من يسألهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فقلت لهم: إن قدم ركب يريدون الشام فأعلموني، يقول: فلما قدم ركب خلعت رجلي من القيد، ولحقت بهم حتى أتيت بلاد الشام -خرج رضي الله عنه مهاجراً من بلاد فارس إلى بلاد الشام يطلب الحق- قال: فكنت عند قسيس لهم، جئته فقلت له: إني أريد أن أكون معك، أخدمك، وأصلي بصلاتك، وأتعلم منك، قال: فافعل، قال: وكان رجل سوء، ممن يأكلون الدنيا بالدين، يأمر الناس بالصدقة فإذا أتوه بها لا يعطي فقيراً، ولا مسكيناً، وإنما يدفنها عنده، حتى ملأ سبع قلال ذهباً وورقاً، قال: فأبغضته بغضاً شديداً.
يقول رضي الله عنه: فلما مات اجتمعوا إليه ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة ولا يعطي منها فقيراً ولا مسكيناً، قالوا: وما علمك بذاك؟ فقلت لهم: إن هذا المال قد جعله في قلال دفنها، وإن شئتم دللتكم على مكانها، قالوا: دلنا عليها، قال: فدللتهم، فلما أدركوا أني صدقتهم صلبوه ثم رجموه، ثم أقاموا رجلاً مكانه، فوالله ما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس خيراً منه، ولا أدأب في ليله ولا نهاره منه، يعني: كان رجلاً عابداً لله في الليل والنهار.
قال: فأحببته حباً عظيماً، حتى إذا نزل به الموت قلت له: أي فلان! إنه قد نزل بك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً على وجه الأرض على مثل ما أنا عليه، فإن الناس قد بدلوا وغيروا، ولكن عليك بفلان في أرض الموصل، في العراق، فخرج سلمان رضي الله عنه -بعدما غيب ذلك القس الصالح- من الشام إلى الموصل يريد الحق، وبقي مع ذلك القس الذي أوصاه به الأول، فلما أدركه الموت، أوصى به إلى رجل في نصيبين، في تركيا، فخرج إليه، حتى إذا أدركه الموت، أوصى به إلى رجل في عمورية، فبقي مع ذلك القس يعبد الله على دين المسيح ابن مريم، فلما أدركه الموت قال له: يا فلان! إلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً على وجه الأرض على مثل ما أنا عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبي من بني إسماعيل يخرج في أرض العرب، مهاجره إلى أرض سبخة بين حرتين كثيرة النخل، فإن استطعت أن تلحق به فافعل.
يقول سلمان : وكنت قد اكتسبت بقرة وشويهات، فلما قدم نفر من العرب من بني كلب، قلت لهم: أعطيكم بقرتي وشويهاتي على أن تبلغوني أرض العرب، فقالوا: نفعل، فأخذوا البقرة والشويهات، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى غدروا بي فباعوني عبداً رقيقاً لرجل من اليهود، فبقيت في خدمة ذلك اليهودي. يقول: فقدم ابن عم له فابتاعني منه، وحملني إلى يثرب.
قال: فوالله ما إن رأيتها حتى عرفتها، أي: لما رأى المدينة تذكر كلام ذلك القس الذي قال له: مهاجره إلى أرض سبخة بين حرتين كثيرة النخل.
يقول رضي الله عنه: وبينما أنا أعمل في نخل سيدي اليهودي إذ جاء ابن عم له فقال له: قاتل الله بني قيلة، اجتمعوا في قباء على رجل قدم من مكة يزعم أنه نبي، يقول سلمان رضي الله عنه: فأخذتني العروراء، أي: الرعدة، فقلت له: ماذا تقول؟ قال: فلطمني اليهودي، وقال: ما شأنك؟ أقبل على عملك، قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستوثق.
يقول: فلما أمسيت أخذت شيئاً من تمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه، فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وهذا شيء من تمر قد جمعته صدقة لك ولأصحابك، فكف صلى الله عليه وسلم يده وقال لأصحابه: كلوا -فقلت في نفسي: هذه والله واحدة!- فلما كانت الليلة التي تليها أتيته بتمر فقلت: إنها هدية، فقال: بسم الله، فأكل مع أصحابه -فقلت: وهذه والله ثانية! وبقي له أن يرى خاتم النبوة- يقول: فطفقت أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركته في جنازة في بقيع الغرقد وهو جالس، فطفقت أدور ففطن صلوات ربي وسلامه عليه أني أريد أن أرى شيئاً، فألقى رداءه، فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال صلى الله عليه وسلم: تحول، قال: فتحولت، قال: ما شأنك؟ فقصصت عليه خبري، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي سمع ).
وكانت أول مشاهده رضي الله عنه الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانظروا إلى عناية الله بعبده، يخرج من أصبهان إلى أرض الشام، ثم إلى الموصل، ثم إلى نصيبين، ثم إلى عمورية، ثم إلى وادي القرى، ثم إلى يثرب، حتى يصير واحداً من خير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يعرف أحواله، وفرح بمولده كان ممن كفر به، حتى نزل قوله تعالى:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
[المسد:1].
حين نقارن بين الحالين؛ نؤمن يقيناً بقول ربنا:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً
[الكهف:17].
أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.