إسلام ويب

تفسير سورة الكهف - الآيات [51-59]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد عاتب ربنا سبحانه وتعالى من اتخذ إلهاً غيره بأنه ما أشهدهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، كما ذكر أن هؤلاء الشركاء لا ينفعون من عبدهم في الآخرة، وزيادة في إقامة الحجة صرف الله في هذا القرآن للناس من كل مثل ليتعظوا به، لكن ثم بين أنه ما منعهم من الإيمان إلا أنهم ينتظرون ما جرى للأمم السابقة من العذاب.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

    اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    يقول تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف:51-59].

    توقف بنا الكلام في الدرس الذي مضى عند قول ربنا تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، وتبين لنا أن هذا الأمر الإلهي كان قبل خلق آدم، بدليل قوله سبحانه في سورة الحجر: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28]، وقوله في سورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72].

    وتبين لنا أن الملائكة عليهم السلام قد سجدوا كلهم أجمعون، ما تخلف عن السجود واحد منهم.

    وتبين لنا من هذه الآية أن إبليس لعنه الله ما كان من الملائكة طرفة عين، بل هو من الجن بمنطوق هذه الآية، وذكرنا ما قاله بعض المفسرين، كما أن آدم أبو الإنس، فكذلك إبليس هو أبو الجن.

    وتبين لنا أن إبليس لعنه الله قد امتنع من السجود لآدم لعلة الكبر حين قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، وكما قال أهل التفسير: قياس إبليس فاسد من وجوه ثلاثة:

    الوجه الأول: أنه في مقابل النص، فالله عز وجل قال: (اسجدوا)، وكان واجباً عليه أن يسجد من غير نقاش.

    الوجه الثاني: ألا نسلم أن النار خير من الطين، بل نقول: الطين خير من النار؛ لأن النار يكون منها فساد وإحراق وإتلاف، أما الطين فإنه تخرج منه الثمار الناضرة، والحدائق البهيجة، وغير ذلك من المنافع.

    الوجه الثالث: يقال لإبليس: لو سلمنا أن النار خير من الطين، فلا نسلم بأنك خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، كما قال القائل:

    إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا

    قال الله عز وجل منكراً على الكفار والمشركين: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أي: وهم لكم أعداء، كيف توالون إبليس وتطيعون أوامره، وتنفذون رغباته، وتسلكون طريقه مع أنه عدو لكم، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50]، من استبدل بولاية الله عز وجل ولاية إبليس فهي صفقة خاسرة، وتجارة كاسدة.

    يقول الله عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:51]، وفي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع رحمه الله: (ما أشهدناهم) بضمير العظمة، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، والتاء تاء المتكلم جل جلاله، وفي قراءة أبي جعفر : (وما كنتَ) بتاء الخطاب، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضداً.

    مرجع الضمير في قوله: (ما أشهدتهم)

    يقول الله عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ [الكهف:51]، (ما) نافية، (أشهدتهم) الإشهاد جعل الغير شاهداً أي: حاضراً، (ما أشهدتهم) أي: ما أحضرتهم، والضمير يرجع إلى إبليس وذريته، وقيل: بل يرجع إلى المشركين، فقوله: (ما أشهدتهم) أي: ما أشهدت إبليس وذريته، ولا أشهدت المشركين (خلق السموات والأرض)، ولا كانوا حضوراً حال خلقهما، (ولا خلق أنفسهم)، أي: ما أشهدت إبليس وذريته خلق أنفسهم، ولا أشهدت المشركين خلق أنفسهم.

    غنى الله عن المعاون والمساند

    ثم يتكلم الله عز وجل عن نفسه: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، (المضلين) جمع مضل، اسم فاعل من الإضلال؛ إلقاء الخواطر الرديئة وأسباب الفساد، قيل: المضلون في الآية هم الشياطين، بدليل قوله سبحانه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، وقيل: بل المراد الكفار، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي: الشياطين، ولا الكافرين عَضُداً والعضد هو: العظم الذي بين المرفق والكتف، هذه المنطقة تسمى عضداً، وتطلق مجازاً على المعين، يقال: فلان عضدي، أي: معيني ومساعدي، واعتضدت بفلان أي: استعنت به.

    إنكار الله تعالى على المشركين اتخاذ الشياطين أولياء من دون الله

    يخاطب الله عز وجل في هذه الآية المشركين الذين كانوا يتخذون الشيطان ولياً من دون الله، وكانوا يستعيذون به، كما قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، كان الواحد من المشركين إذا نزل وادياً وخاف من شيء قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه، يستعيذ بالشيطان، فيقول الله لهم: هؤلاء الشياطين الذين تستعيذون بهم، وتنفذون أوامرهم، وتسلكون سبيلهم، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، أي: ما كانوا شاهدين، ولا اعتضدت بهم، ولا أعانوني كما قال الله عز وجل: قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، إذا كان هؤلاء الشياطين لم يشهدوا خلق السموات والأرض، ولم يشهدوا خلق أنفسهم، فما بقي معنى لاتخاذهم أولياءً من دون الله، ودائماً يتكرر في القرآن الاستدلال بالخلق على وجوب إفراد الخالق جل جلاله بالعبادة والولاية، يقول الله عز وجل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40]، أي: هؤلاء الذين تتخذونهم شركاء لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يميتون، ولا يحيون.. ولا يفعلون شيئاً من ذلك، كما قال الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً [فاطر:40].

    فهؤلاء ما شهدوا خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، فما ينبغي لكم أن تتخذوهم أولياء من دون الله؛ لأنهم عبيد مربوبون مقهورون، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

    وهذه الآية تنطبق على كل معبود من دون الله، من عبد صنماً، ومن عبد شجراً، ومن عبد بشراً، نجيبه بهذه الآية: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521189

    عدد مرات الحفظ

    777098026