يخبر الحق تبارك وتعالى أن كثيراً من علماء اليهود والنصارى يتحيلون على الناس لأخذ أموالهم واكتنازها، وأنهم يرغبون الناس عن دين الله ويبغضونه لهم، ثم أخبر أن لهم ومن يفعل فعلهم عذاباً أليماً يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ...)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
قوله سبحانه: بِالْبَاطِلِ [التوبة:34]، الباطل ضد الحق. أي: يأكلون أموال الناس أكلاً ملابساً للباطل. أي: أكلاً لا مبرر له.
والباطل يشمل وجوهاً كثيرة: منها: تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس.
ومنها: القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحق حقه المعين له في الشريعة.
ومنها: جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم.
ومنها: أكل أموال اليتامى وأموال الأوقاف والصدقات.
قول الله عز وجل: وَيَصُدُّونَ [التوبة:34]، الصد عن سبيل الله: هو الإعراض عن متابعة الدين الحق في خاصة النفس، وإغراء الناس بالإعراض عن ذلك، فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم؛ إذ يغيرون العمل بها ويضللون العامة في حقيقتها حتى يعملوا بخلافها، وهم يحسبون أنهم متبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضاً بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أتباع ملتهم أن الإسلام ليس بالدين الحق.
قال بعض العلماء: الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته. وهو قول ابن عمر و جابر بن عبد الله و عكرمة و السدي رحمة الله عليهم أجمعين.
وقال آخرون: هو كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أديت منه الزكاة أو لم تؤد. وهو قول علي رضي الله عنه.
وقال آخرون: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
قال شيخ المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذكر عن ابن عمر من أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعيد الله إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة، وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الورق على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ربع عشرها، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف ألوف من الكنوز لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر؛ لأن ما كان فرضاً إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، أو للتطهر منه برده إلى صاحبه، فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره، بل يكون اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب رجل ماله رده على ربه.
يقول ابن جرير رحمه الله: وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها، وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاص كما قال ابن عباس . انتهى كلامه رحمه الله.
يقول الله عز وجل: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيراً من العلماء والقراء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[التوبة:34]، يأخذون الرشوة في أحكامهم، ويحرفون كتاب الله، ويكتبونه بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، ويأخذون عليه ثمناً قليلاً من سفلتهم، قيل: كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أنه من النفقة في سبيل الله والتزلف إليه سبحانه، وهم من خلال ذلك يكنزون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي رضي الله عنه عن الراهب الذي استخرج كنزه.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[التوبة:34]. أي: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم لهم يوم القيامة موجع من الله.
وهؤلاء هم رءوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء والعباد وأرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر رحمه الله: ذكر الله في هاتين الآيتين انحراف الإنسان في ماله وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعاً، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله وإخراجها للصد عن سبيل الله.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، والنهي عن الشيء أمر بضده.
فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ...)