سور جزء تبارك من السور المكية، التي عالجت القضايات المتعلقة بالعقيدة، كالشرك، والتكذيب بالبعث، وقضايا المجتمع الجاهلي كانحطاط الأخلاق، كما نبهت كثيراً على قضية التعامل مع المال، وحذرت من البخل فيه وإمساكه، وحثت على إنفاقه في وجه الخير المختلفة.
معالجة جزء تبارك لأحوال أهل مكة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
هذا الجزء من القرآن الكريم، الجزء التاسع والعشرون سوره الإحدى عشرة كلها مكية، على عكس الجزء الذي سبقه فسوره كلها مدنية.
وفي هذا الجزء معالجة لأحوال أهل مكة الذين كانوا يعددون الآلهة ويجحدون النبوة ويكذبون بالبعث والنشور، ويمارسون الشرك بالله عز وجل على شتى صوره، مع ما هم عليه من انحطاط في الأخلاق، وكبر قد سكن في نفوسهم، جاءت سور هذا الجزء منبهة على هذه الطباع، وعلى تلك المخالفات، ومنذرة لهم بشؤم المصير، وأن الناس ينقسمون يوم القيامة إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
التنبيه على قضية المال والتحذير من البخل
تكرار التطرق إلى قضية التعامل مع المال في جزء تبارك ودلالته
القضية التي تتكرر في هذا الجزء المبارك بالإضافة إلى الحديث عن البعث والنشور، قضية المال؛ ولذلك نجد في سورة القلم، يذكر الله عز وجل خبر أصحاب الجنة: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18]، هؤلاء الذين ورثوا عن أبيهم جنة، وكان أبوهم إذا حان وقت الحصاد فإنه يقسم ذلك المحصول إلى ثلاثة أثلاث: ثلث له ولأهل بيته، وثلث للفقراء والمساكين، والثلث الثالث يرده فيها، فلما مات أبوهم اجتمع الإخوة وقرروا أن أباهم كان مخطئاً، وأنه كان مسرفاً على نفسه، ولم يكن يعرف كيف يصرف المال في وجهه، فتقاسموا فيما بينهم أن يجذوا تلك الجنة، وأن يحصدوا ما فيها قبيل الفجر، وقبل أن يستيقظ المساكين، وحلفوا أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين، وما دروا بأن الله عز وجل هو المالك وهو الفعال لما يريد، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20]، أي: كالليل المظلم، أو كالليل البهيم.
هاهنا يبين الله عز وجل عاقبة البخل وأنها عاقبة وخيمة، وأن البخيل يفسد على نفسه، بينما المنفق المتصدق يخلف الله عز وجل عليه ببركة ماله وبركة ولده وتيسير أمره، وأنه يعقبه بعد العسر يسراً، إلى غير ذلك من الفوائد.
ولذلك لا بد للمسلم من أن ينظر إلى المال نظرة معتدلة، فلا نتبع تلك الفلسفة التي سادت حيناً من الدهر في طوائف من المسلمين بأن المال شر محض، وخير للإنسان أن يعيش فقيراً معدماً؛ من أجل أن يخف حسابه؛ لأننا نجد في المؤمنين السابقين الأولين، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أغنياء موسرين، كــأبي بكر الصديق و عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام ، هؤلاء جميعاً كانوا من أهل اليسار والغنى، ومع ذلك مسكنهم في جنة عرضها السموات والأرض بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالمقابل تجد بعض الناس المال معبوده من دون الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش )، هذا الإنسان الذي يرى المال غايته وهمه؛ من أجله يوالي ومن أجله يعادي، ومن أجله يحب ومن أجله يبغض، من أجله يعطي ومن أجله يمنع، هذا صنف مذموم مقبوح، فالمسلم يجمع هذا المال من حله، ويعتقد أن المال باب إلى الجنة، وأن المال وسيلة إلى الطاعة، ولولا المال ما بنيت المساجد، ولولا المال ما كان حج ولا عمرة، ولولا المال ما كان غزو ولا جهاد، ولولا المال ما كانت طباعة المصاحف ولا طباعة الكتب النافعة، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة التي أوجزها ربنا جل جلاله في كلمة واحدة، وهي كلمة (قيام) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً[النساء:5]، أي: بها قيام حياتكم، وبغير المال لا تقوم حياة، فالمسلم ينظر إلى المال هذه النظرة ويستعمله في عبادة ربه.
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
بعض الناس تلقاه كافراً، وفي نفس الوقت هو مفلس، فلا دنيا ولا آخرة! خسر الدنيا والآخرة؛ ولذلك بعض الصالحين لما رأى بعض العمال، ممن يحملون الأثقال ويغنون ببعض الكلام الفاحش القبيح، بكى الرجل الصالح، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أشقى الناس من خسر الدنيا والآخرة )، يعني هو في الدنيا حمال، وعينه طالعة وعرقه نازل، وفيه ما فيه، وفي الوقت نفسه لا يجري على لسانه ذكر الله، ولا يسجد لله مرة. وبالمقابل تجد إنساناً آخر في عيشة ناعمة، وفي حال طيبة، ماله كثير وفي حال حسنة وفي سعة وفي رحمة، وفي الوقت نفسه لا يفتر لسانه عن ذكر الله.
نسأل الله أن يجعلنا منهم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.