أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بالعقود سواء كانت مع الخالق أو مع المخلوقين، وأخبرهم أنه أحل لهم بهيمة الأنعام وهي ثمانية أصناف، وحرم عليهم عشرة أصناف من اللحوم، كما حرم على المحرم مزاولة الصيد سواء في مكة أو في غيرها، وأخبر أن التشريع من خصائصه، وأنه يشرع لعباده ما يريده سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
وحكي أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم. أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج، فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة؛ فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث، وحل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد، أي: في مجلدات، يعني: سطران من كتاب الله عز وجل تضمنا أحكاماً كثيرة، وصدق ربنا سبحانه حين قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
المقصود بالعقود
هنا ينادينا ربنا جل جلاله بوصف الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[المائدة:1]، وهذا النداء إما أن يعقبه أمر، أو أن يعقبه نهي، كما قال ابن مسعود: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه.
قوله: بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، العقود هي: العهود، وحكى شيخ المفسرين الطبري رحمه الله الإجماع على ذلك، فما هي العقود التي أمرنا ربنا جل جلاله بالوفاء بها؟
ويشمل كذلك العقود التي بين المسلمين كعقد النكاح، وعقد البيع، وعقد المداينة، وكالتعاقد على نصرة المظلوم، وكل تعاقد وقع على غير أمر محرم، هذه كلها يجب الوفاء بها.
ثم قال سبحانه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ[المائدة:1]، أي: بهيمة الأنعام لكم حلال، والبهيمة: ما لا عقل له؛ فكل ما لا عقل له فهو بهيمة، وسميت البهيمة بهيمة لإبهام أمرها من جهة عدم عقلها، ونقص فهمها، وعدم تمام نطقها، وعدم تمييزها وما إلى ذلك.. فالدواب التي تمشي هي بهائم والطيور من البهائم، لكن العرف خص كلمة البهيمة بذوات الأربعة من دواب البر أو البحر.
وقول الله عز وجل: بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ[المائدة:1]، إضافة للبيان، أُحِلَّتْ لَكُمْ[المائدة:1]، ليست كل البهائم وإنما بهيمة الأنعام، وهي: الأزواج الثمانية: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.
من الضأن اثنين: الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين: التيس والمعزة، ومن الإبل اثنين: الجمل والناقة، ومن البقر اثنين: الثور والبقرة، هذه كلها حلال.
قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ[المائدة:1] أي: إذا كنتم محرمين بالنسك بحج أو عمرة، سواء وصلتم إلى الحرم أو لم تصلوا فلا تستحلوا الصيد، والصيد: هو إمساك الحيوان الذي لا يألف؛ لأن هناك حيوانات أليفة كالإبل والبقر والغنم؛ وهناك حيوانات لا تألف، ولا يستطيع الإنسان أن يمسك بها إلا صيداً، إما باليد أو بوسيلة ممسكة كالشباك والحبائل والرماح، والسهام، والكلاب، والبزاة فهذه كلها وسائل صيد يمكن للإنسان أن يصيد بالكلب، أو أن يصيد بالباز، أو أن يصيد بالمعراض، بواسطة السلاح أو بالشباك أو بغير ذلك.
ثم هناك الحكم الشرعي الديني: إذا قال الله عز وجل: هذا حلال وهذا حرام، هذا واجب وهذا ليس بواجب، هذا أيضاً لله عز وجل ولا يملك أحد سواه أن يشرع للناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشرع للناس بأمر الله، فتشريعه فرع عن تشريع رب العزة جل جلاله، وهو الذي قال: ( ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ).
فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ...)
هذه الآية قد اشتملت على فوائد:
منها: وجوب الوفاء بالعقود كلها ما كان لله وما كان للناس وخاصة الشروط التي تكون في عقد النكاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )، فالشروط التي تكون في عقد النكاح مطلوب من المؤمن أن يوفيها كاملة.
ومن فوائد الآية: حل بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية، واستدل ابن عمر و ابن عباس رضوان الله عليهم وغير واحد من أهل العلم بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه، ومعنى هذا الكلام، لو أنك ذبحت شاة ووجدت في بطنها جنيناً، فهذا الجنين لو خرج حياً لا خلاف بين أهل العلم في أنه يذكى؛ لكن لو خرج ميتاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه )، فذكاة أمه تسري عليه.
ومن فوائد الآية: تحريم الأنواع العشرة من المطاعم التي بينها ربنا في الآية الثالثة؛ لأنه قال: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، عرفنا أن المتلو هو تلك العشرة.
ومن فوائد الآية: أن كتاب الله عز وجل يفسر بعضه بعضاً، فقول الله عز وجل: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، فسر بعد ذلك بآيتين.
ومن فوائد الآية: إباحة الصيد بعد الإحلال؛ لأن الله عز وجل قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، هذا منطوق الآية التي ستأتي في الليلة المقبلة إن شاء الله، لكنها مفهومة من نص هذه الآية نفسها.
قال أهل العلم: كل شيء كان جائزاً، ثم حرم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب فالأمر للإباحة.