الحكم الأول: قال الإمام القرطبي رحمه الله: الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم الصديق رضي الله عنه بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار، ثم إن الصديق لما حضرته الوفاة استخلف بعده عمر رضي الله عنه.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: من الواضح المعلوم من ضرورة الدين: أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الله في أرضه، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به.
وقال ابن جماعة : يجب نصب إمام يقوم بحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين، وإنصاف المظلومين من الظالمين.
الحكم الثاني: يكون الإمام إماماً بالنص أو بالعهد أو باتفاق أهل الحل والعقد على بيعته، أو أن يتغلب على الناس بسيفه وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر ويدين له الناس.
الحكم الثالث: يشترط في الإمام الأعظم الذي يتولى حكم المسلمين شروط عشرة:
أولها: الإسلام، فلا تنعقد الإمامة لكافر، قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها، فلو طرأ عليه كفر، وتغيير للشرع، أو بدعة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك.
ثانيها: الذكورة، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: ولا خلاف في ذلك بين العلماء. انتهى كلامه رحمه الله.
فمعلوم أن الله عز وجل قد خص الرجال بالنبوة:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً
[يوسف:109].
وخصهم بالإمامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم )، ولفظة (القوم) خاصة بالرجال، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )، فالإمامة العظمى، والإمامة الصغرى، والقضاء، والجهاد، ووجوب الجمعة والجماعة، كل ذلك خاص بالرجال دون النساء.
ثالثها: الحرية، فلا يجوز أن يكون عبداً ولا خلاف في هذا بين العلماء.
رابعها: البلوغ، فلا تجوز إمامة الصبي إجماعاً؛ لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة.
خامسها: العقل، فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه، وهذا لا نزاع فيه.
سادسها: العدالة، فلا تجوز إمامة الفاسق، ويدخل في اشتراط العدالة: اشتراط الإسلام؛ لأن العدل لا يكون غير مسلم، واستدل لذلك بقوله تعالى:
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
[البقرة:124].
سابعها: أن يكون ممن يصلح للقضاء بين المسلمين، عالماً بأحكام الشرع.
ثامنها: أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى، ونحو ذلك؛ ودليله قوله تعالى في طالوت:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
[البقرة:247].
تاسعها: أن يكون ذا خبرة ورأي، حصيفاً بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية بيضة المسلمين، كما قال القائل:
وقلدوا أمركم لله دركم! رحب الذراع بأمر الحرب مطلعاً
عاشرها: أن يكون ممن لا تأخذه رقة في إقامة الحدود ولا فزع في ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء.
الحكم الرابع: يجوز نصب المفضول إماماً مع وجود الفاضل، ويدل على ذلك: علم عمر رضي الله عنه بأن في الستة أهل الشورى فاضلاً ومفضولاً.
الحكم الخامس: قال القرطبي رحمه الله: لو خرج خارج على إمام معروف بالعدالة وجب على الناس جهاده، فإن كان الإمام فاسقاً والخارجي مظهراً للعدل لم ينبغِ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يبين أمره فيما يظهر من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول؛ وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح، حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواجب على المسلمين أن يسارعوا إلى دفنه، وأن يبادروا إلى تجهيزه، لكنهم رضوان الله عليهم أخروا هذا الواجب لما هو أوجب، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وتشاوروا في أمر الخلافة، حتى اجتمعت كلمتهم على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصديق أبو بكر ؛ لأنه من المهاجرين الصادقين، وقد قال الله عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
[التوبة:119]؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه على الصلاة بالناس لما اشتد عليه مرضه صلوات ربي وسلامه عليه؛ ولأن أبا بكر رضي الله عنه كان ثاني اثنين إذ هما في الغار، وقد أثنى عليه رب العالمين في كتابه، ونوه نبينا صلى الله عليه وسلم بفضله، فاجتمعت الكلمة على صحة خلافته.
نسأل الله عز وجل أن يولي علينا خيارنا، وألا يولي علينا شرارنا، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.