وفي معنى الآية: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) رواه الترمذي وأبو داود ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن. وهو كما قال، وله شاهد عند الحاكم من حديث عبد الله بن عمر وصححه ووافقه الذهبي .
قال ابن الأثير رحمه الله: الممسك عن الكلام ممثل بمن ألجم نفسه بلجام. والمعنى: أن الملجم نفسه عن قول الحق والإخبار عن العلم يعاقب في الآخرة بلجام من نار، وذلك في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعين عليه فرضه، كمن رأى كافراً يريد الإسلام فيقول: علموني ما الإسلام؟ وما الدين؟
وكمن رأى رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يحسن الصلاة وقد حان وقتها، يقول: علموني: كيف أصلي؟ وكمن جاء مستفتياً في حلال أو حرام، يقول: أفتوني، أرشدوني، فإنه يلزم في مثل ذلك أن يعرف الجواب، فمن منعه استحق الوعيد، وليس الأمر كذلك في نوافل العلم التي لا يلزم تعليمها.
وفي الآيتين الكريمتين أحكام:
الحكم الأول: يحرم على العالم أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس؛ لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة.
الحكم الثاني: لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله.
الحكم الثالث: قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: يحرم على العالم أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام، بأن يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ )، هكذا قال رحمه الله.
والصحيح: أنه من قول علي رضي الله عنه، كما في البخاري في كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا.
قال ابن حجر رحمه الله: وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد.
الحكم الرابع: قال ابن عرفة رحمه الله في التفسير: لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة.
قال ابن حجر رحمه الله: وعن الحسن: أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.
الحكم الخامس: العالم إذا عين بشخصه لتبليغ علم وجب عليه بيانه، مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم، وإن لم يكن معيناً بشخصه، وقد انفرد بعلمه في عصر أو بلد وجب عليه البيان، وإن شاركه فيه غيره وجب عليهم جميعاً إن كان من التوحيد وأصول الاعتقاد، وإن كان من تفاصيل الأحكام فالوجوب عين أو كفائي.
الحكم السادس: استدل بالآية بعض العلماء على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم؛ لأنها تدل على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه، ولا يستحق الإنسان أجراً على عمل يلزمه أداءه.
الحكم السابع: يجب على العالم البيان ويحرم عليه الكتمان إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه، ودليل ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه: ( بثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا الحلقوم ) رواه البخاري .
قال ابن حجر رحمه الله: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح؛ خوفاً على نفسه منهم.
الحكم الثامن: في الآية دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، ولا يكفي قوله: (قد تبت) حتى يظهر منه مخالفة سلوكه السابق.
الحكم التاسع: قال ابن عاشور رحمه الله: هذه الآية من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه، ولكنه يتناول أفراد سببه تناولاً أولياً أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.