وهنا مسألة وهي: ما حكم زواج المسلم بالكتابية في هذا العصر؟
الجواب: قال ابن كثير رحمه الله: وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأساً؛ أخذاً بهذه الآية الكريمة، وجعلوها مخصصة للتي في سورة البقرة:
وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
[البقرة:221]، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بين الآيتين؛ لأن أهل الكتاب قد يفصل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى:
لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ
[البينة:1]، وقوله سبحانه:
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا
[آل عمران:20]، انتهى كلامه رحمه الله.
ثم إنه لا بد من ذكر أمور حتى يكون الأمر صواباً إن شاء الله:
الأول: أن من الصحابة الكرام، كـعبد الله بن عمر من كان يرى عدم جواز نكاح نساء أهل الكتاب، وكان يقول: وأي شرك أعظم من أن تقول النصارى: المسيح ابن الله.
الثاني: المقرر عند المالكية رحمهم الله: جواز نكاح الكتابية الحرة مع الكراهة.
قال مالك رحمه الله: أكره نكاح نساء أهل الكتاب؛ اليهود والنصارى، قال: وما أحرمه، وذلك أنها تأكل الخنزير وتشرب الخمر ويضاجعها ويقبلها وذلك في فيها، وتلد منه أولاداً فتغذي ولدها على دينها، فتطعمه الحرام وتسقيه الخمر.
الثالث: قال ابن قدامة رحمه الله: إذا ثبت هذا -أي: جواز نكاح نساء أهل الكتاب- فالأولى ألا يتزوج كتابية؛ لأن عمر قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلقوهن، فطلقوهن إلا حذيفة .
الرابع: قال العلامة الشيخ المطيعي رحمه الله في تكملة المجموع: فرع فيمن تنصروا بعد تحريف كتب موسى وعيسى: فإنه لا يجوز زواج نسائهم ولا يجوز فرض الجزية عليهم، فإذا ثبت هذا، فإن عدم جواز من تنصر قومها بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم أولى، وذلك مثل الشعوب الذين يدخلون في النصرانية على يد المبشرين من أهل الفلبين وإندونيسيا والسودان. انتهى كلامه رحمه الله.
الخامس: كثير من أهل الكتاب اليوم خاصة في بلاد أوروبا وأمريكا لا يؤمنون بدين أصلاً، وقد يسر بذلك وقد يجهر به؛ فلا يعد هؤلاء كتابيين، وقد كان علي رضي الله عنه يستثني نصارى بني تغلب من حكم أهل الكتاب، ويقول: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر.
السادس: الظاهر أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا ينكحون الكتابيات إلا عند الحاجة، وقد سئل جابر رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: تزوجناهن بالكوفة عام الفتح -يعني: فتح العراق- إذ لم نجد مسلمة فلما انصرفنا طلقناهن.
والذي يظهر، والعلم عند الله تعالى: أنه لا يجوز نكاح الكتابية في زماننا هذا؛ لأمور هذا بيانها:
أولاً: أن الصحابة الكرام كانوا أهل علم وتقى؛ فإذا تزوج الواحد منهم كتابية فالغالب أنها تسلم؛ تأثراً به واقتداءً بحاله، مثلما فعل عثمان رضي الله عنه حين تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية فأسلمت عنده رضي الله عنها.
أما مسلمو زماننا فقليل منهم من يفهم الإسلام وقليل من يعمل بتعاليمه وأحكامه، وحال الكثيرين أنهم يتأثرون ولا يؤثرون.
ثانياً: الغالب على نساء أهل الكتاب خاصة الأوروبيات والأمريكيات الفجور لا العفاف، وقد شرطت الآية العفة، فقال سبحانه:
وَالْمُحْصَنَاتُ
[المائدة:5]، أي: العفيفات، والعفيفات فيهن شذوذ وندرة. وقد قال علماؤنا: العبرة للأعم الأغلب لا للشاذ النادر، وقد تزوج حذيفة رضي الله عنه يهودية وأمره عمر رضي الله عنه بطلاقها، فقال حذيفة : أتزعم أنها حرام؟ قال عمر : لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن. يعني: العواهر.
ثالثاً: الزواج بالكتابية في زماننا هذا فيه مفاسد دينية واجتماعية كبيرة، إذ قد تؤثر على زوجها في دينه، وربما مال إليها قلبه فتفتنه، والغالب أنها تنشئ الأولاد على دينها، وقد تطعمهم الخمر والخنزير وتصحبهم إلى الكنيسة، ولربما ينشأ الأولاد بسبب التناقض فيما يرونه من حال أمهم وأبيهم على غير دين أصلاً.
رابعاً: القانون الحاكم في هذا الزمان ليس هو قانون الإسلام، والعزة لغير المسلمين، فإذا تنازع الزوجان فالفيصل بينهما قانون وضعي وضيع يرجح جانب المرأة غالباً، وكم من رجال مسلمين تزوجوا بكتابيات ففقدوا أولادهم ونزعوا منهم قسراً؛ لينشئوا على غير ملة الإسلام.
خامساً: في بلاد أوروبا وأمريكا نساء مسلمات كثيرات، فإذا عمد المسلمون هناك إلى الزواج من الكتابيات فمن يتزوج أولئك، خاصةً إذا علم أن زواج المسلمة بالكتابي غير جائز إجماعاً، مما قد يؤدي إلى تعريض المسلمات للفتنة حين يبقين بلا زواج.
وفي هذه الآية أحكام:
الحكم الأول: إباحة طيبات الرزق، وهي ما تستطيبه الأنفس السوية الكريمة.
الحكم الثاني: إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى. قال ابن كثير رحمه الله: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء.
الحكم الثالث: مفهوم الآية: أن ذبائح الكفار غير أهل الكتاب كالمجوس والملاحدة لا تؤكل، وهو إجماع، وكذلك الزواج بنسائهم حرام، قال تعالى:
وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
[البقرة:221].
الحكم الرابع: إباحة إطعام أهل الكتاب من ذبائح المسلمين، وهذا من باب المكافأة والمجازاة.
الحكم الخامس: مشروعية الزواج بالحرائر العفيفات من أهل الكتاب.
الحكم السادس: حبوط العمل وبطلان ثوابه إذا كان العامل جاحداً أحكام الله وشرائعه أو ارتد عن دين الله.
الحكم السابع: أن المعاصي قد تقود إلى الكفر.
نعوذ بالله من الكفر والفقر، ونعوذ بالله من عذاب القبر، لا إله إلا هو، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.