المعنى الإجمالي لهذه الآية:
إن ربنا سبحانه ينادي عباده بوصف الإيمان أي: يا من رضيتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! اعلموا أن الخمر وهي كل ما أذهب العقل، والميسر وهو القمار، والأنصاب جمع نصب وهو ما ينصب للتقرب إلى الله به أو لتعظيمه؛ كتماثيل الرؤساء والزعماء في زماننا، والأزلام وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها في الجاهلية تفاؤلاً أو تشاؤماً، ومثلها في زماننا فتح الكتاب وخط الرمل والحساب بالمسبحة، هذه الأربعة رجس نجس مستقذر من تزيين الشيطان وتسويله، فاجتنبوها على رجاء منكم أن تفلحوا، وإن الشيطان يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين، وصدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم، وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى ربهم، فانتهوا عن ذلك أيها المؤمنون؛ طاعة لربكم وطلباً لسلامة دينكم وصحة أبدانكم وبراءة أعراضكم.
في هاتين الآيتين الكريمتين أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
الحكم الثاني: الأمر بالاجتناب المطلق للخمر؛ فلا ينتفع بها في شرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة.
الحكم الثالث: الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه، فقد روى الشيخان من حديث عمر رضي الله عنه: أنه قال على المنبر: إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة، هذا في زمان عمر رضي الله عنه وقد تستخرج من غير ذلك في هذا الزمان.
الحكم الرابع: الخمر نجسة، نجاسة حسية عند الجمهور، وخالف في ذلك: ربيعة الرأي و الليث بن سعد و المزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين، ورجح قولهم العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنور.
الحكم الخامس: حد الخمر ثابت بالسنة، فقد روى الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين ).
وروى مسلم عن علي رضي الله عنه: (أنه أتي بشارب فجلده أربعين، وقال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي).
الحكم السادس والأخير: قال القرطبي رحمه الله: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج، قماراً أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر بالمعنى الذي فيها، فقال سبحانه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
[المائدة:90] الآية، ثم قال:
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
[المائدة:91]، فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، أوجب أن يكون حراماً مثله، فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر، فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى، قيل له: قد جمع الله بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفها جميعاً بأنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس وأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراق في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم؛ لأجل ما اشتركا فيه من المعاني.
وأيضاً: فإن قليل الخمر لا يسكر، كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حراماً مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراماً مثل الخمر وإن كان لا يسكر.
وأيضاً: فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر، فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر بالإسكار على الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج؛ لأنه يغفل ويلهي، فيصد بذلك عن الصلاة. انتهى كلامه رحمه الله.
نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين، المعتبرين، المتعظين، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.