يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بالتثبت في الأخبار، ويحذرنا من نشرها وإشاعتها قبل التثبت منها، وأن ذلك مدعاة للندم، وقد لا ينفع الندم حينها؛ والتثبت يكون بأمرين: حسن الظن بالمؤمنين، والإشهاد والبينة على الخبر
الشيخ عبد الحي يوسف: وأحرى أن يدخل في هذا الذنب من يروج حديثاً ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم ثبوته، ولا سنده، فمجرد أن جاءه بالبريد الالكتروني يعمد إلى طبعه ونشره، وهذا في الآونة الأخيرة قد كثر، فهل ورد تحذير في الشرع من مثل هذا الصنيع؟
الشيخ محمد الخضيري: لا شك، بل هو من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وهذا من الأحاديث المتواترة لفظاً ومعنى، بل قال في حديث آخر: ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحدكم )؛ لأن الكذب عليه يتصل بالشريعة، وافتراء على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، (( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ))[النجم:4]، فجاء التحذير الشديد والوعيد الغليظ لمن اجترأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نحن نقول: من نقل شيئاً من هذه الأحاديث دون أن يتثبت فيخشى أن يدخل في هذا الوعيد.
الشيخ عبد الحي يوسف: بل هو داخل: ( من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَين )، وفي رواية: ( فهو أحد الكاذبِين ).
فيا من تروج على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تسأل أهل العلم، وقبل أن تتثبت، وقبل أن تستفرغ وسعك، وتبذل جهدك في معرفة صحة نسبة هذا الكلام، أو هذا الفعل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أنت داخل في هذا الوعيد،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
[الحجرات:6].
الشيخ محمد الخضيري: وهنا لا ينفع الندم، ولنفترض أنه قيل لك: والله فلان قال فيك كذا وكذا، أو فلان ينوي أن يفعل بك كذا وكذا، أو فلان تحدث بكذا وكذا، فاتخذت موقفاً ضده، وقاطعته، أو تكلمت عليه، أو رددت عليه في جريدة أو في موقع إلكتروني، ثم تبين أن هذا كله لم يقع منه، وأنه كذب، ماذا يكون حالك بعد ذلك؟ انقطعت العلاقة والأخوة التي بينك وبين أخيك، وشوهت سمعتك قبل أن تشوه سمعة أخيك؛ لأنه في النهاية سيقال: فلان قد كذب؛ لأنه لا صحة لما روجه، ولا لما أذاعه.
وهنا أريد أن أقول: ألا يمكن أن نتعود على أن يكون لنا عقول عندما نسمع الأخبار، عقول من عدة جهات:
الجهة الأولى: إذا سمعنا خبراً نظرنا، هل مثل هذا الخبر يليق بذلك الشخص الذي نقل عنه، ويتوقع أن يحدث منه أو لا يتوقع؟ عندما يقال لك: إن الشيخ فلاناً قد رئي في مكان مثلاً فيه راقصات، أو على حال لا تصلح، أو أفتى بفتوى فيها غرابة ونكارة لم يعهد مثلها، فأول ما تبدأ تنظر في مضمون الخبر، ثم إن وجدت فيه نكارةً فزد من التثبت، واسأل، ولا تنشره، ولا تهيئ لنفسك أن تتحدث به، حتى تتيقن أن مثل هذا الكلام قد صدر من ذلك الرجل.
الشيخ عبد الحي يوسف: نعم، ولذلك لام الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قال:
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
[النور:15].
الشيخ محمد الخضيري: في قصة الإفك.
الشيخ عبد الحي يوسف: وفي العادة أن الإنسان يتلقى بالآذان، لكن قال: (تلقونه بألسنتكم) دلالةً على أن الواحد منهم ما كان يتثبت، وإنما مباشرةً كأن الخبر يقع على لسانه فيلقيه مباشرةً، فيعمد على إشاعته.
الشيخ عبد الحي يوسف: ولذلك نقول: بأن الشائعة لا بد فيها من التعامل بأمرين اثنين:
أولاً: طلب البرهان الداخلي، وهذا في قول ربنا جل جلاله:
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً
[النور:12].
الشيخ محمد الخضيري: هذا برهان داخلي.
الشيخ عبد الحي يوسف: نعم، لو أني سمعت عن أبي عبد الله كلاماً، أقول: هل يمكن لي أن أفعل ذلك؟ معاذ الله! وهو خير مني، يعني كما قال أبو أيوب لـأم أيوب : يا أم أيوب ! أسمعت ما يقول الناس في عائشة و صفوان ؟ قالت: نعم، وهو الله الكذب. قال: أكنت فاعلته؟ قالت: معاذ الله! قال: فـعائشة خير منك، و صفوان خير مني، فمدحهم فالله عز وجل على هذه الخصلة العظيمة.
ثانياً: طلب البرهان الخارجي وهو المذكور في قوله:
لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
[النور:13]، فإذا نقل إلي شخص كلاماً أقول له: ما دليلك؟ ما برهانك؟ بل في زماننا هذا يمكن للصور أن تزور، وللأفلام أن تدبلج، والكلام يمكن أن يقطع ويركب بعضه على بعض، ولذلك ما أحرانا لمزيد من التثبت، ومزيد من الاستيثاق، ومزيد من التريث والتمهل، ولا يضرك، وما كلفك الله أن تتكلم.
الشيخ محمد الخضيري: ثم إذا كان هذا الخبر قد ثبت بالفعل عمن نقل عنه، فهل يليق أن تنقله؟
الشيخ عبد الحي يوسف: معاذ الله!
الشيخ محمد الخضيري: ليس كل كلام يصح أن ينقل ويشاع،
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
[النساء:83]، فقد يبلغك عن رجل من أهل الفضل خطيئة أو سيئة أو زلة من الزلات، ويثبت لديك ذلك ثبوتاً قطعياً، لكن هل يحسن بك، ويجمل منك أن تتحدث عن أخيك الفاضل الصالح الطيب، الذي قد سبقت له حسنات في أهل الإيمان أن تشيع هذا الأمر المنكر عنه؟ فتسقط رجلاً من الصالحين من أعين المؤمنين؟ لا ليس صحيح هذا.
وكذلك بعض هذه الأخبار التي يكون فيها إخافة للناس، أو فيها إشاعة للفاحشة، فتقول: قد شاع في بلدنا الزنا، والآن مومسات يمشين في الشوارع، وبإمكانك أن تمشي في شارع كذا فتمسك أي واحدة، فهذا الكلام يجرئ الناس على الفاحشة، ويدلهم على الفساد، نسأل الله العافية،
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[النور:19].
الشيخ عبد الحي يوسف: هذه الآية المباركة حري بكل واحد منا أن يضعها نصب عينيه، إذا كان الله عز وجل قد ذم بعض أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلها تكلفاً، وهم الذين عاصروا أنوار الوحي، واكتحلت أعينهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لامهم الله عز وجل، وذمهم بنقل الأخبار، وعدم التثبت، فحري بنا نحن أن نتقي الله عز وجل فيما نقول.
يا أيها الذين آمنوا! يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، إن جاءكم إنسان لا يعرف عنه خير، أو أنه مستور الحال لا يعرف عنه خير ولا شر، إن جاءكم هذا الإنسان؛ بنبأ قبل أن تذيعوه، وقبل أن ترتبوا عليه أحكاماً وإجراءات فتبينوا، فتثبتوا، تريثوا، تمهلوا فإن العجلة من الشيطان كراهة أن تصيبوا قوماً بألسنتكم، أو بأيديكم، أو بسهامكم الطائشة، أو بأفعالكم، أو بأحكامكم، أو بإجراءاتكم، فبعد ذلك يأتي الندم حيث لا ينفع الندم.
أسأل الله عز وجل أن يسلمنا، وأن يسلم الناس منا، اللهم سلمنا وسلم الناس منا، اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أطاعك من خلقك، ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.