هذه الآية قال عنها أهل التفسير: نزلت في شأن غزوة الأحزاب، فقد استبد بالمسلمين الخوف والجوع والبرد، وحاصرهم الكفار من قريش وتميم وغطفان والأحابيش، وتحالف معهم يهود بني قريظة، فنزلت هذه الآية تسلية للمسلمين.
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآية جواباً على رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول، فإنه لما أصيب المسلمون يوم أحد، وقتل سبعون من سراتهم، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وركبتيه، قال عبد الله ابن سلول للمسلمين: علام تقتلون أنفسكم؟ لو كان محمد نبياً لما تعرضتم للقتل، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يبين فيها أن الابتلاء سنة ماضية، وأن المؤمنين في الأمم السالفة قد تعرضوا لمثل هذا.
قيل في الفرق بينهما: بأن البأساء هي ما ينزل بالإنسان من بلاء في خارج نفسه، كأن ينزل به بلاء في ماله، في جاهه، في أهله، أما الضراء فهي ما ينزل بالإنسان من بلاء في نفسه، أو في جسده، من جرح أو قتل، ونحو ذلك.
انظروا أيها الإخوة الكرام، قبل تسع سنوات لما غزت الجيوش الصليبية -جيوش اثنتين وأربعين دولة- بلاد الأفغان وجعلت عاليها سافلها، أبادت خضراءها، يرمون بالقنابل، الواحدة تزن طناً، فجروا كل شيء وأهلكوا الحرث والنسل، الآن بعد مضي ثمان سنوات أو تزيد على هذا الغزو الغاشم والعدوان السافر نراهم يبحثون عن المخرج، ولكن هيهات هيهات!
والله جل جلاله يبين لنا في صورة محسوسة كيف يضاعف الأجر، فيشبه المنفق بالزارع الذي يبذر في الأرض حبة واحدة، وهذه الحبة يخرج منها ساق، وهذا الساق يتفرع إلى شعب سبع، في كل شعبة سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة، فالحبة صارت سبعمائة حبة، وليس هذا فقط، بل قال: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
وفي هذه الآية حث على النفقة وبيان لفضلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل صدقة أحدكم بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوه )، فمثلما يكون عند الواحد منا بهيمة صغيرة لا يزال يطعمها ويسقيها ويرعاها ويتعهدها حتى تصير سمينة كبيرة، كذلك هذه الصدقة التي تعدها صغيرة، فإن الله عز وجل ينميها ويكبرها حتى تكون يوم القيامة حسنات كأمثال الجبال.
تمثيل إبطال الصدقة بالمن والأذى بمحو المطر للتراب الواقع على الصخر
في هذه الآية يبين ربنا جل جلاله أن بعض الناس ينفق ويتصدق، لكن لا لوجه الله، وإنما ينفق -والعياذ بالله- رئاء الناس، من أجل أن يروه، أو من أجل أن يقولوا: هذا محسن كبير، وهذا متصدق جواد، وهذا منفق معطاء.
قال الله عز وجل في هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ[البقرة:264]، الصفوان واحده صفوانة، كالمرجان واحده مرجانة، والسعدان واحده سعدانة، والصفوان هو الحجر الأملس، الناعم، فلو صعدت على جبل الصفا، ستجد حجارته ناعمة ملساء.
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ[البقرة:264]، وهذا الحجر الصفوان الذي عليه تراب إذا نزل عليه المطر هل ينبت زرعاً؟ لا ينبت فيه الزرع، ما زاد المطر على أن لمعه وجلاه وأزال التراب عنه، وكذلك المنان الذي يعطي ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوم القيامة لن يجد لنفقته ولا حسنة واحدة.