هناك مسألة ليست موجودة في واقعنا لكن نذكرها من باب العلم بالشيء، وهي لو أن عبداً قذف حراً، هل يجلد ثمانين أم يجلد أربعين؟
قال جمهور العلماء: يجلد أربعين؛ قياساً لحد القذف على حد الزنا، ففي حد الزنا قال الله عز وجل:
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ
[النساء:25]، والكلام هنا عن الإماء، وقد ألحق العلماء العبد بالأمة بجامع الرق في كل، فقالوا: لو أن عبداً زنى فعليه خمسون جلدة، وهنا أيضاً قالوا: لو أن عبداً قذف حراً فإنه يجلد أربعين جلدة.
ولكن جماعةً أخرى من العلماء فيهم عبد الله بن مسعود ، و قبيصة بن ذؤيب ، و عمر بن عبد العزيز قالوا: بل يجلد ثمانين؛ أولاً لأن النص في الزنا، أما نص القذف فهو باق على عمومه، يشمل العبد والحر، فلو أن حراً قذف حراً فعليه ثمانون جلدة، ولو أن عبداً قذف حراً فعليه أيضاً ثمانون جلدة.
قالوا: وللفرق بين الحدين، فإن حد الزنا حق لله، أما حد القذف فهو حق للآدمي، فهناك في حد الزنا الله عز وجل جعله على النصف، أما ههنا فهو حق للآدمي، لا يتنصف، فلو قذف فإنه يجلد ثمانين شأنه شأن الحر.
هناك مسألة مهمة جداً، وهي: أن ألفاظ القذف على نوعين:
النوع الأول: القذف الصريح، كما لو قال قائل لآخر: يا زاني، أو قال: يا ابن الزانية، فهذا قذف صريح عند الناس جميعاً لا يحتمل إلا معنىً واحداً وهو الرمي بالفاحشة الموجبة للحد.
النوع الثاني: القذف بالتعريض، كما لو قال قائل لآخر في خصومة: الحمد لله أنا لست بزان، ولما ذهب إلى المحكمة قال لهم: أنا ما قلت شيئاً، أنا أتكلم عن نفسي، أقول: والله ما فعلت هذه الجريمة، في النوع الأول وهو القذف الصريح أجمعوا على وجوب الحد، أما النوع الثاني: فهل فيه حد أو ليس فيه؟ وحكمه مثل حكم الطلاق، فلو أن إنساناً قال لامرأته: أنت طالق، أو قال لها: أنت مطلقة، أو قال لها: أنت طلقانة، فلا يمكن أن يقول: والله أنا ما قصدت، ولا يمكن أن يقول: والله أنا كنت أمزح معها كما يقول بعض السفهاء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة )، وفي لفظ: ( النكاح، والطلاق، والعتاق )، لكن لو قال لها: حبلك على غاربك، أو قال لها: أنت خلية، أو أنت برية، أو الحقي بأهلك، أو اذهبي إلى بيت أبيك، أو نحو ذلك، يسأل عن نيته: هل كان يقصد بهذا الكلام طلاقاً أو لا؟ لأن (الحقي بأهلك) الرسول صلى الله عليه وسلم استعملها في الطلاق؛ فإنه لما تزوج امرأة فقال لها: ( تعالي أول ما دخل عليها، فقالت له: إنا من قوم نؤتى ولا نأتي، قال لها: الحقي بأهلك )، فلذلك كان أهلها يدعونها بالشقية، وقوله: ( الحقي بأهلك )، أراد بها صلى الله عليه وسلم الفراق.
ولما تخلف عن غزوة تبوك كعب بن مالك ، و هلال بن أمية ، و مرارة بن الربيع ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بألا يكلموهم، وأن يقاطعوهم، ثم بعد ذلك أمر نساءهم بأن يعتزلنهم، فقال كعب بن مالك لامرأته: الحقي بأهلك، يعني طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم فهو يقصد اجلسي عند أهلك؛ لأنه أمركن صلى الله عليه وسلم باعتزالنا، فالحقي بأهلك تحتمل هذا وتحتمل هذا، والمعول على النية لقول فقهائنا: الأمور بمقاصدها، وأخذوا هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.