(تعس) بمعنى: كب لوجهه، أو بمعنى: هلك، فهي تدعو على ولدها لما تعثرت في مرطها -أي: في ثوبها- قالت: ( تعس مسطح )، وفي هذا دليل على قوة عقيدة الولاء والبراء عند الصحابة رضوان الله عليهم، فإن هذه المرأة الصالحة قدمت حبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته على حبها لولدها، وهذا متكرر.
ولذلك فإن عمر رضي الله عنه لما ركض خلف أبي سفيان من أجل أن يقتله، و العباس رضي الله عنه يحمي أبا سفيان حتى دفع به في خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر رضي الله عنه وفي يده سيف وقال: يا رسول الله! هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه من غير عهد ولا عقد، دعني أضرب عنقه، فقال له العباس : مهلاً يا عمر ، فلو كان من بني عدي ما قلت الذي قلت. يعني: إنما قلت هذا لأنه من بني أمية بن عبد شمس، ولو كان من أهلك لما قلت هذا الكلام، فقال له عمر مصححاً: مهلاً يا عباس ! فوالله إن إسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ وما ذاك إلا لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في العطاء فقد كان عمر رضي الله عنه يعطي ولده عبد الله ألفين، ويعطي أسامة بن زيد ألفين وخمسمائة، فقال له عبد الله ولده: يا أبتي! ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه. يعني: أنا و أسامة في السن أتراب، و أسامة ما شهد مشهداً وأنا غائب، فقال له عمر رضي الله عنه: يا بني! ما فعلت ذلك إلا لأن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وكان أبوه زيد أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. فـعمر رضي الله عنه يقدم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه.
وكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بينا هي في ليلة من الليالي مع النبي عليه الصلاة والسلام فرحة مسرورة لكونه معها في فراشها يكلمها ويؤانسها، فقال لها: ( يا عائشة ! دعيني أناجي ربي )، يعني: أريد أن أقوم للصلاة والذكر والقرآن، ( فقالت: يا رسول الله! والله إني لأشتهي قربك، ولكن ما تحب أحب إلي مما أحب )، يعني: الذي يريحك ويرضيك أحب إلي مما يريحني ويرضيني.
ومثله أيضاً ( أبو أيوب رضي الله عنه لما نزل بالطعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء فأخذه وما أصابته يد النبي صلى الله عليه وسلم، ووجد الطعام كما هو، فقال: يا رسول الله! نستغفر الله مما كان، وربما ارتكبنا جرماً منعك من أن تأكل طعامنا، فقال له عليه الصلاة والسلام: لا، ولكن في طعامكم شيء من تلك الشجرة -يعني الثوم- وإني أكرهه، فقال له أبو أيوب : وأنا أكره ما تكره يا رسول الله )، فلم يعد يجعل في طعامه ثوماً منذ ذلك اليوم.
ومثله ما ثبت في الصحيح أن أنساً رضي الله عنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء -يعني القرع- يتتبع أثره في الصحفة، فوالله ما زلت أحب الدباء منذ يومئذ )، يعني: منذ أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء بشهية، صار يحب الدباء من أجل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له.