بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدار دار امتحان وابتلاء، ويبلو فيها عباده المؤمنين، ومن نجح منهم في الامتحان نال بذلك الخلود في دار المقام، ومن رسب في الامتحان، لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، وقد جعل الله سبحانه وتعالى المؤمن في هذه الدار ضيفاً غريباً؛ لأنه عابر سبيل، وهذه هي حياة المؤمن الطبيعية في الحياة الدنيا, فليس له أن يركن إلى شيء من متاعها، ولا أن يرغب في التعمير فيها والبقاء، فهي دار زوال، ولذلك فلو كان في التعمير والبقاء فيها خير لناله خير البشر وأزكاهم وأحبهم إلى الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش في عمره الدنيوي فوق هذه الأرض إلا ثلاثاً وستين سنة، وكذلك عدد كبير من خيرة أصحابه, فـأبو بكر الصديق لم يعش إلا ثلاثاً وستين سنة، و عمر بن الخطاب لم يعش إلا ثلاثاً وستين سنة، و علي بن أبي طالب لم يعش إلا ثلاثاً وستين سنة، و الزبير و طلحة لم يعيشا إلا ثلاثاً وستين سنة، و بلال بن رباح لم يعش إلا ثلاثاً وستين سنة.
وكذلك عدد كبير ممن بعدهم من أئمة الهدى، منهم من عاش دون ذلك، ومنهم من عاش في هذه الحدود، وهذا يدل على أن المهم في هذا العمر هو النجاح في الامتحان إذا نحج الإنسان فيه ولو بلحظة واحدة، فذلك كاف كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي أتاه وهو في الصف أمام العدو، فقال: ( يا رسول الله! أسلم وأقاتل، أم أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عمل قليلاً وأجر كثيراً )، فهذا الرجل نحج في الامتحان مع أنه لم يعش بعد إيمانه، وبعد أن أبصر الطريق إلا لحظات محصورة.
ومثل ذلك ما حصل يوم بدر لفتى من الأنصار زودته أمه بتمرات، فكان يأكلهن في وجاه الصف، فسمع رسول صلى الله عليه وسلم يزجي الصف وهو يقول: ( تقدموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال: عرضها السماوات والأرض، بخ بخ! إني لشحيح إذا عشت حتى آكل هذه التمرات، فرمى بقيتهن، وتقدم فقاتل فقتل )، فلذلك لا بد أن يحرص المؤمن فيما يعمره سواء كان قليلاً أو كثيراً فوق هذه الأرض، أن يكون ناجحاً في الامتحان، وأن يعرف أنه ليس كسائر الحيوانات التي تعيش ولا معنى لعيشها، ولا لحياتها.
فأنتم عندما ترون الكبش يضجع ويذبح تستشعرون حياة البهائم، وأنها لا معنى لها، وعندما ترون أن ما يتنافس فيه المتنافسون من أهل الدنيا من متاعها إنما هو عبارة عن رزق لبقاء الرمق في البدن، تحسن الفأرة جمعه، وتحسن النملة جمعه، وتحسن الخلائق كلها جمعه، كل ذلك يدلكم على أن هذا الإنسان كائن شريف، وأنه لم يخلق لمثل هذا، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب للمؤمنين جميعاً: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].
فلذلك لا بد أن يأخذ المؤمن لنفسه مسافة عن هذه الحياة الدنيا، وأن يتذكر عرضه على الله في كل وقت، وأن يستعد للخروج من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأن يقدم زاده ومزاده إلى ما هنالك، فالإنسان إذا قدم إلى دار مستقره دون أن يكون له زاد، ولا متاع، ولا لباس؛ لا شك أنه خاسر، لكن إذا كان قد قدم متاعه وزاده وكل ما لديه، كل ما نال نعمة قدمها، فإنه سيجدها مضاعفة عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو القرض الحسن الذي ينميه الله جل جلاله؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق امرؤ من كسب طيب إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه، أو فصيله حتى تكون كالجبل )، ولذلك لا بد أن يدرك الإنسان القيم التي تنظم الحياة الطبيعية للمؤمن في هذه الدار، فمن هذه القيم:
أولاً: غرابته- أن يستشعر أنه غريب - وأن يحرص على هذه الغرابة: ( كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل )، فإذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، وهو مستعد للموت في كل لحظاته، وفي كل أوقاته، فهذه قيمة من القيم المنظمة لحياة المؤمن في هذه الدار.
وكذلك رجاء لقاء الله جل جلاله، أن يرجو لقاء الله، مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت:5]، فيكون المؤمن محباً للقاء الله سبحانه وتعالى، صاحب أنس به وشوق إليه جل جلاله، فيشتاق إلى لقاء ربه جل جلاله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يبرأ ويعيش ويعمر، وبين أن يلقى ربه جل جلاله، قال: ( اللهم في الرفيق الأعلى )، فعرفت عائشة ذلك، وعندما أخبرها في مرضه أنه لم يمت نبي قط إلا خير، وإنه قد خير، قالت: إذاً والله لا يصحبنا، فعرفت أنه سيختار ما هو خير، سيختار لقاء الله جل جلاله.
وهكذا الحال في كل من أحسن عملاً، فلا يرجو من الدنيا، ولا من البقاء فيها إلا ما يزيد به حسناته، ويرجح به كفتها، وما سوى ذلك من الدار الدنيا يعتبره وحلاً ووسخاً، فلا يحرص من الدنيا إلا على ما يثقل كفة الحسنات، فلحظة واحدة يبقى فيها ليقول: لا إله إلا الله يستغلها ولا تفوت عليه الفرصة، لحظة واحدة يحضر فيها درساً، أو يسمع موعظة، أو يقدمها، لحظة واحدة يركع فيها لله جل جلاله، يقرأ فيها حرفاً من القرآن فيكون له بالحرف الواحد عشر حسنات، ( لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، كل ذلك يحرص عليه؛ لأنه يريد أن يثقل كفة موازين حسناته، ويعلم أن الإنسان يوم القيامة وزنه الحق، وأنه بالقسط والعدل.
فإذا عاش المؤمن على هذا الوجه كانت حياته مستقيمة.
إن لنا صفتين من صفات أهل الإيمان هما موضوع هذا الدرس اليوم، وهما: الخوف والرجاء، لا بد أن يتحلى بهما كل مؤمن، ولا بد أن يعيش بينهما فيكونان كجناحي الطائر إذا مال إلى أحدهما اختل توازنه، ونقصت سرعته، فيسعى لأن يعيش بينهما حياة سعيدة، فيخاف الله جل جلاله خوفاً شديداً لقوة إيمانه به، ومعرفته به، فيعلم أنه الجبار المهيمن العزيز الحكيم، ويعلم أنه الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وأنه الذي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41]، ويعلم أنه جل جلاله هو المتصرف في الكون كله، لا معقب لحكمه، وأن أمره بين الكاف والنون، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو المتصف بصفات الكمال التي تقتضي مهابته، والخوف منه، فهو ذو الجلال والإكرام.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في الصحيح: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، يعلم أنه هو الذي السماوات السبع والأرضون السبع بقبضته يوم القيامة، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، يقود السموات السبع، والأرضين السبع بيمينه فيهزهن ويقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ فإذا عرف الإنسان هذه الصفات خاف الله جل جلاله خوفاً شديداً، وبالأخص إذا عرف أنه يراه، ويطلع على حركات قلبه، وخطرات عينه، وعلى كل ما هو فيه، لا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، يعلم السر وأخفى، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد.
إذا أدرك ذلك لا شك أنه سيخاف الله خوفاً يمنعه من معصيته، وهذا هو الخوف المعتدل المطلوب في المؤمن، فليس المقصود أن ينشغل المؤمن بالخوف الشديد والخشية حتى يمنعه ذلك من العبادة لله، وحتى يزول عقله، وينشق شغاف قلبه، وحتى يموت من الرعب، فهذا المقام غير معتدل ولا هو مطلوب، بل المطلوب أن يحصن الإنسان من خوف الله ما يمنعه من مزاولة معصيته، فالقدر الذي يحول بين الإنسان وبين المعصية من الخوف، هو الذي يطلب من الإنسان أن يأطر نفسه عليه، وأن يدربها عليه، وأن يعودها عليه، ويسهل تحصيل ذلك، فالإنسان ما دام قلبه حياً يعرف المعروف وينكر المنكر، يسهل عليه أن ينتفع بالذكرى والعبر، ولا بد أن يعول في كل يوم من الأيام على أنه محتاج الآن للموعظة، ومحتاج في هذا اليوم لأن تجري دمعتاه من خشية الله.
فلا بد أن يفعل ذلك في برنامجه اليومي، إذا رأى جنازة تحمل كان ذلك واعظاً، وسيد الواعظين الموت، وإذا رأى مريضاً تذكر نعمة الله في الدفع، وإذا رأى محروماً تذكر نعمة الله في الرزق، وإذا رأى مرزوقاً تذكر فضل الله سبحانه وتعالى وابتلاءه لأولئك، ( فالأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من عمل بماله هكذا وهكذا وهكذا ) عن يمينه وبين يديه، وعن شماله، ومن خلفه، فلذلك يتذكر الله سبحانه وتعالى بكل هذه النعم.
ثم ينظر في آيات الله المسطورة في القرآن بين يديه كل يوم، فيرى أنها رسالة وهي أحدث الكتب بالله عهداً، وهي كلام الله جاء من عنده، نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، فأداه إلينا كما أنزل من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، وهو كما أنزله الله جل جلاله. وكذلك في الآيات المنظورة، فلا بد أن يعتبر بها ويتدبر، إذا استيقظ آخر الليل فسمع المنادي ينادي بالصلاة خرج إلى المسجد وهو يقرأ خواتيم سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:190-194].
فهو بهذا يعتبر في عجائب هذا الكون، ويعلم أنها آيات من عند الله سبحانه وتعالى، وأن هذه الآيات إنما يسيرها الله تخويفاً لعباده، كما قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، فيزيده ذلك خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وهو يرى هذه المجرات الضخام العظام، ويرى السماوات السبع الطباق، ويرى الأرض مبسوطة مفروشة للخلائق، ويرى ما تنفلق عنه، ويخرج عنها من الحب والثمار والأشجار معروشات وغير معروشات، ويرى البهائم والخلائق فوقها، وهي أمم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، فيزيده ذلك يقيناً وخوفاً من الله جل جلاله.
كذلك مما يحصل للإنسان هذا المقام من مقامات الخوف: أن يبقى دائماً باستشعار رؤية الجبار له، فالإنسان إذا استزله الشيطان لمواقعة المعصية، أو مالت به الشهوة إلى المعصية، أو عرضت له شبهة، أو وسوسة، فذكر الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يزيل الشبهات والوساوس جميعاً، ويقطع الشهوات، وهذا الذكر مقامان:
المقام الأول: مقام تذكر المشاهدة أن الله يراه، فإذا ذكره فلا بد أن يقطع ذلك عليه شهوته، ولا بد أن يقطع عليه شبهته، وكل ما هو من عمل الشيطان يقطعه ذكر الله؛ لأن ذكر الله هو الذي تطمئن به القلوب، وكيد الشيطان كان ضعيفاً، ولهذا قال الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24]، فالنسيان من عمل الشيطان، وإنما يقطع عمل الشيطان ذكر الله جل جلاله: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وكذلك المقام الثاني: هو مقام تذكر العرض عليه، تذكر الموت، ( اذكروا هادم اللذات: الموت )، وفي رواية: ( اكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت )، وهادم اللذات معناه: قاطعها، فالهدم معناه: القطع بسرعة، فالموت قاطع للذات كلها، فإذا تذكره الإنسان تذكر غصص حلقه عند نزع الروح منه، وتذكر عندما تبلغ التراقي، عندما تلتف الساق بالساق، تذكر حشرجته عندما يضيق تنفسه في داخل صدره، وتتحرك خاصرتاه عند الموت، ويتذكر خروج الروح من هذا البدن، وارتفاع البصر ينظر إليها في اختفائها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الروح إذا عرجت تبعها البصر )، وكذلك يتذكر سكرة الموت وشدته، ( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات )، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند موته، كان بجنبه إناء من الماء فكان يدخل فيه يده، ويمسح بها وجهه، ويقول: ( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ).
وتذكر الموت يوسع على الإنسان إذا كان في ضيق، ويضيق عليه إذا كان في سعة، ( فما ذكر الموت في سعة إلا ضيقها، ولا ضيق إلا وسعه )، إذا كان الإنسان في مشكلة وضيق، وتذكر الموت، تذكر أن كل ما دون الموت سهل، وأن كل ما يفقده دون روحه سهل، وأن كل ما يفقده دون روحه فهو مخلوف، وأن كل ضيق يجده في هذه الحياة أشد منه ينتظره من ضيق الموت، كما وصفه عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سأله ابنه عبد الله فقال: (يا أبت! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً عاقلاً عند الموت يصف لك الموت، وها أنت ذاك الرجل العاقل فصف لنا ما تجده، فقال: أجد كأني موضوع على قرقر صفيح، أي: على حجارة مرصوصة، وكأن السماء توضع على صدري، وكأن عظامي يجر فيها الشوك، وكأن روحي تخرج من خرت إبرة)، فهذا الوصف الشديد للموت الذي يصفه به هذا الرجل العاقل المنتبه عند الموت لا بد من استحضاره، فإذا تذكر الإنسان الموت ضيق كل سعة، ووسع عليه كل ضيق.
وهذا المقام الثاني من مقامات التذكر، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، تذكروا، وحذف مفعول ما يتذكرونه هنا؛ لتعميمه، فهو شامل للمقامين، مقام تذكر رؤية الجبار ومشاهدته، ومقام تذكر العرض عليه والموت، فكل ذلك مشمول في قوله: تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:202]، أي: إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202].
فلذلك لا بد من تذكر الإنسان للموت، وإذا وجد في نفسه قسوة، وأنه لا يبالي ولا يهتم، فليعلم أن قلبه مرض مرضاً يحتاج إلى علاج، فلا بد أن يعالج نفسه بالسهر في قيام الليل والذكر، والعزلة عن الناس إلا من خير، والصمت إلا ذاكراً.
فهذه الثلاثة هي علاج القلب المريض: السهر في الطاعة، والعزلة عن الناس إلا من خير، والصمت إلا ذاكراً، فهذه الثلاثة إذا جمعها الإنسان كانت علاجاً لداء قلبه، وهي أساس العلاج لمرض القسوة، الذي يصاب به كثير من الناس وهو لا يشعر، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاء المحجوبون عن الله جل جلاله، وأشدهم بلاء من لا يشعر بالحجب، فكثير هم أولئك الذين حجبوا عن الله ولا يفكرون في مشاهدته، ولا يفكرون أنه يراهم، ولا يتذوقون طعم عبادته والإيمان به، وكثير من أولئك أيضاً حجبوا عن الحجب فلا يشعرون أنهم محجوبون، بل يظنون أنهم على نعمة وخير، وهم مشغولون لياليهم وأيامهم بما لا خير فيه، وقد حجبت عنهم مصالحهم، وخذلوا حين سلطوا على أنفسهم فلم يستشعروا بنقص فيهم.
ولذلك تجدون أهل المعاصي إذا ولغوا فيها، ووالعوا وبالغوا؛ يستمرون عليها، ويستنبؤونها ويستحلونها، فلا يشعرون أن لديهم نقصاً، وإن كان دينهم قد ذهب بكامله، كثير من الناس يشعر بالنقص القليل في أمر دنياه، إذا نقص شيء من راتبه أو مصروفه، أو ضاق عليه أمر المعاش شعر بالنقص، لكن إذا نقص شيء من دينه لم يستشعر ذلك، ولذلك يقول الحكيم:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزكي بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور
أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
إذا ذهب الدين بكامله لم يشعر أنه نقص شيء من حياته، فهو يشعر بالرفاه والسعادة الدنيوية؛ لأن الله حجبه عن هذا النقص في دينه فلم يشعر به، وهؤلاء هم الذين قدرهم الجبار جل جلاله، لم يحب منهم الطاعة فضلاً عن معصيته، إذا كانت طاعتهم مقيتة مكروهة لدى الله، فكيف بمعصيتهم، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].
بعد هذا مما يعين الإنسان على تحصيل هذه الخشية- أيضاً -: أن يجعل من نفسه على نفسه بصيرة، فيحاول مراقبة حركاته وسكناته، فيراقب عمل عينه، فإذا نظرت إلى الحرام ردها وزجرها وزبرها، ويخلو بها، ويحاول توبة وتقريع عينه على نظرها إلى الحرام، وقطع هذا الأمر بالكلية، وهو يعلم ما ورائياته، فكثير من الذنوب ما سببها إلا نظرة، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
وكما قال الآخر:
فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
ورأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
كذلك إذا سمع حراماً بالغ في تقريع أذنه ومنعها منه، وهكذا في عمل اليد، وعمل اللسان، وعمل الرجل، وعمل الفرج، وجميع الجوارح، فيحاسبها جميعاً على ذلك ويتشدد معها، فيكون رقيباً على أعمال جوارحه جميعاً، وكلما وقع في معصية ساءته ليكون ذلك داعياً للتوبة النصوح، فهذا قطعاً من علامات الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المؤمن، قال: ( من سرته حسنته، وساءته سيئته فذلك المؤمن )، ليس المؤمن هو المعصوم الذي لا يقع في المعصية، وليس المؤمن هو المشغول بالطاعة دائماً، المؤمن من سرته حسنته، وساءته سيئته.
كذلك مما يعين الإنسان على تحصيل هذا القدر من الخشية، ومن خوف الله جل جلاله: تعلم العلم النافع، فقد قال الغزالي رحمه الله: ما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالعاصون منهم من معصيته سببها جهله بالله، لو كان يعرف الله جل جلاله لما تجاسر على معصيته، ولما بارزه بالمعصية. (وإما عن جهل بشرعه)، كثير من الناس يعملون أعمالاً يظنونها قرباً وهي معصية لله جل جلاله لن تكون في كفة الحسنات أبداً، وكثير من الناس يعملون أعمالاً يظنونها صحيحة بمقتضى الشرع، إما تقليداً، وإما اجتهاداً حيث لا يصلحون للاجتهاد، فيعملون بتلك الأعمال وهي في كفة السيئات، وليست في كفة الحسنات، فلذلك مما يعين الإنسان على خشية الله أن يعرف الله جل جلاله، وأن يعرف شرعه، ليعرف ما خوطب به، وما يطاع الله به، وما يجتنب من نواهيه ومعاصيه.
كذلك مما يعين على تحصيل هذه الخشية: الصحبة الصالحة، فالإنسان إذا كان له قرناء يأطرونه على الحق أطراً، ويصافونه فإذا رأوا منه تقصيراً في طاعة، أو قسوة في قلب، أو استغراقاً في أمر الدنيا، أو ضحكاً وسروراً، أو انكماشاً وانقباضاً، أو ضلوعاً في أي مصيبة من المصائب الدنيوية؛ نبهوه ونصحوه، وانتشلوه ومنعوه من الاستمرار على ما هو عليه، وإذا رأوا منه جهلاً في بعض الأمر علموه، ويرى حالهم فيكون لسان حالهم أصدق من لسان مقالهم، فيدلونه على الله بهيئتهم وحالهم، كما قال ابن عطاء الله الإسكندراني رحمه الله: لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله.
فالذين يدلون على الله سبحانه وتعالى بحالهم ومقالهم صحبتهم نافعة للإنسان محصلة للخوف من الله جل جلاله، وقد أمر الله بها، فجعل مجرد النظر إليهم عبادة، فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، فالذي يصاحب من هو على خوف من الله سبحانه وتعالى، أو يزوره سيكتسب منه هذه الصفة.
ولكم مثال واحد تشاهدونه في أنفسكم: إذا أردت أن تخشع في الصلاة فانظر إلى خاشع فصل إلى جنبه، فلا بد أن تخشع، لا بد أن يصل إليك شيء من الخشوع، وهكذا في كل أمر، إذا أردت أن تتعظ فاجلس إلى جنب من تنفعه الموعظة، فإنه عندما يتأثر ويرتعش، أو يقشعر جسده، أو يبكي، فتصل إليك عدواه بذلك لا محالة.
والعكس كذلك من جاور غافلاً، فلا بد أن تصل إليه الغفلة، إذا كنت تصلي إلى جنب إنسان يتثاءب فسرعان ما يسرع التثاؤب إليك، وإذا كنت تجلس إلى غافل عن الله سبحانه وتعالى فسرعان ما تأتيك القسوة من قبله، فالمخالطة مؤثرة لا محالة، ومنها تكسب الخشية، فأي واحد من الشباب إذا أحس بقسوة في قلبه فليزر أحد الشيوخ، فإذا أتاه وهو في قيامه لليل، أو زاره في أي وقت من الأوقات ورأى انشغاله بالله جل جلاله كان بينهما .... يمكن أن يدخل عليه ويزوره في هذه الأوقات، أو زار طلاب العلم فرأى اشتغالهم وما هم فيه، فإن ذلك نافع لقلبه مقتض منه للتوبة النصوح، والرجوع عما هو مقبل عليه من الشهوة أو الشبهة، وهكذا في كل الأمور، فهذه الصحبة لا بد منها، وفيها يقول الحكيم:
لا تصحب الكسلان في حاجاته كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد
فلذلك مما يعينك على خشية الله: زيارتك لأهل الخشية ومشاهدتك لما هم فيه، وكان كثير من سلفنا الصالح إذا أحسوا قسوة ذهبوا فزاروا بعض المعروفين بخشية الله جل جلاله، فيرون ما هم فيه، وانقطاعهم، فيذكرهم ذلك بالله جل جلاله، ويقبلون عليه.
وكذلك مما يعين على تحصيل هذه الخشية: أن تتخذ من ملابسك ونعمة الله عليك شاهداً وبرهاناً، تذكر أن كل هذه نعم من الله سبحانه وتعالى، وأنه الذي كساك هذا الثوب، وأنه خلق خلقتك وأعطاك هذا البشرة، وأعطاك هذا اللون، وأعطاك هذا الشعر، وأعطاك هذا السمع، وأعطاك هذا البصر، وأعطاك هذا الجهاز العصبي الذي تتحرك به، وأعطاك هذا العقل الذي تفكر به، فتذكر هذه النعم، واجعلها برهاناً عليك، فإنها تحول بينك وبين المعصية، إذا تذكر الإنسان أن كل صنف من ثوبه الذي يلبسه سيشهد عليه في مزاولته للمعصية، وأن كل صنف من ملابسه يسجد لله جل جلاله مع ظله أيضاً، وظلالها جميعاً تسجد لله، وهي خائفة منه، فإن ذلك مما يزيده خشية الله، وبالإمكان أن يتخذ الإنسان من ملابسه صاحباً، إذا تذكر أنها لا تعصي الله، وأنها سجدت له، وأنها تسبح بحمده، وتذكر ما حوله، وذهب إلى شجرة، فتذكر أن كل ورقة من أوراقها تسبح الآن بحمد الله جل جلاله، وأنها تسجد له هي وظلالها، فكل ذلك مما يعينه على خشية الله جل جلاله، ويحدث لديه هذه الخشية المنشودة التي تمنعه من الوقوع في المعصية.
ولذلك جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم! إن نفسي لا تطاوعني على ترك المعصية فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاذهب إلى مكان لا يراك فيه فاعصه، قال: كيف أجد مكانًا لا يراني فيه، ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره؟! قال: إنك لجسور، إذا كنت تحت نظر الملك، وهو ينظر إليك ثم تخالف أمره وتعصيه، قال: زدني، قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضة وسمائه ثم اعصه، قال: رحمك الله كيف أخرج من أرضه وسمائه؟! إلى أين أخرج؟! قال: إنك لجريء، إذا كنت ضيفاً عنده تحت سلطانه ثم تبادر إلى معصيته في داره وتحت سلطانه وبرهانه، قال: زدني، قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج إليه من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه، ثم اعصه حينئذ، قال: كيف أخرج من نعمته وأنا من نعمته، خلقي من نعمته، سمعي من نعمته، بصري من نعمته، عقلي من نعمته، روحي من نعمته، كيف أخرج من نعمته؟! لا يمكن أن يتم ذلك أبداً، قال: إنك للئيم، إذا أخذت نعمته وخيره فاستعنت بها على معصيته فهذا غاية اللؤم.
فلذلك لا بد أن نحصل هذا الخوف، وأن يسعى كل إنسان منا إلى طلبه، فالإنسان منا يحب أن يحصل صفات الكمال، إذا كان طالباً يحب النجاح في الامتحان، وهو يتذكر أنه إذا أحرز شهادة ونجح في الامتحان سيزيد ذلك من شخصيته واعتباره، إذا كان قد تخرج ونال شهادة يحب وظيفة ثانية، يريد بها مكانة لدى الناس؛ فلا بد أن تستشعر أن النقص الذي فيك أعظمه ما كان في إيمانك وعلاقتك بالله، فاحرص على تحصيل الخوف من الله أشد من حرصك على تحصيل أية شهادة، أو أية وظيفة، فالشهادة الكبرى والنجاح الأكبر أن تحصل الخوف من الله بالقدر الذي يمنعك من معصيته، القدر الذي تستطيع به أن تكف لسانك، وأن تكف سمعك وبصرك، وأن تكف جوارحك كلها عن معصيته، إذا أحرزت ذلك فهذه شهادة كبرى وخير كبير.
ثم بعد هذا الصفة الثانية: هي رجاء الله جل جلاله، وهذا الرجاء لا بد من تحقيقه؛ لأنه الذي يمنعك من الإيغال في الخوف حتى تموت وينشق غلاف قلبك، فإنك إذا تذكرت مصافحة الملائكة، وإحاطتهم بك، وأن معك واحداً وعشرين من الملائكة، غير الملائكة الكروبيين وغير الملائكة السيارين في الأرض، وغير الذين ينزلون بقطر المطر، وغير الذين يسيرون، وغيرهم من أنواع الملائكة، إذا تذكرت ذلك لا شك أنك ستأخذك رعدة وارتعاش شديدة، وأنت تستشعر هذا الخلق الذي يملأ الكون، وتستشعر أطيط السماء بهم كأطيط الرحل، ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع ).
لا شك أن وسائل الخوف كثيرة، وأنك كلما رفع عنك الحجاب، وكلما ازددت معرفة؛ كلما ازددت خوفاً من الله، لكن نريد الخوف المعتدل الذي لا يوقعك في زوال العقل، ولا يوقعك في حصول المرض والانكماش، أو الانقباض عن الناس، أو عدم الإيجابية في الحياة، ولا يحصل ذلك إلا بتحصيل الرجاء، فلا بد أن تتعرف أيضاً إلى كرم الله جل جلاله، وإلى سخائه، وإلى حلمه، فهو الحليم جل جلاله، يعصيه الناس ويرزقهم مع معصيتهم له، يزعمون له صاحبة وولداً، فيفتح عليهم تكنلوجيا وأنواع الخيرات الدنيوية، يقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء، ويقولون: يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، فيعطيهم المال والولد، ويوسع عليهم في الأرزاق، فهو الحليم جل جلاله، هذا حلمه، وأنت ترى وتسمع معصيته آناء الليل، وأطراف النهار، وهو يراها ويسمعها، ولكن حلمه جل جلاله هو الذي يؤخر العقوبة، فتذكروا رحمته جل جلاله التي كتبها على نفسه، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وهي تسبق غضبه، ( إن رحمتي سبقت غضبي )، وفي رواية: ( تغلب غضبي ).
فرحمة الجبار جل جلاله أمرها عظيم، ( أنزل رحمة واحدة في الدنيا فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، وادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، فالرحمة الواحدة في الدنيا من آثارها: الليل والنهار، والشمس والقمر، والمطر والنبات، وكل ما نتنفس فيه من الهواء، وغير ذلك، كل النعم التي نعيش فيها هي من آثار رحمة واحدة، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:73]، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50]، إذا تعرفت إلى رحمة الله، وعرفت أنه هو الرحمن الرحيم، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وأنه هو أرحم الراحمين جل جلاله، وأنه أرحم بعبده من المرأة بولدها، وأنه جل جلاله من تمام رحمته بعبده توفيقه للطاعة، ومن تمام رحمته به قبول الطاعة منه، ومن تمام رحمته به ألا يجازيه بقدرها، بل يضاعفها أضعافاً مضاعفة، فلا يطاع إلا بأمره وإذنه، ولا يعصى إلا بعلمه جل جلاله، ولكن رحمته هي التي تسير هذا الكون، وبها يحصل للناس ما ينتفعون به من معايشهم في هذه الحياة، وهي التي يرجون بها مقابلته وملاقاته يوم القيامة، لولا هذه الرحمة بأي وجه نلقى الله جل جلاله يوم القيامة، ونحن المفرطون المقصرون، نعرف أن حجة الله قائمة علينا في كل لحظاتنا، وفي كل حركاتنا وسكناتنا وأفعالنا، فلله الحجة البالغة، ولكن مع ذلك نلقاه برحمته جل جلاله، ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ).
فهذه الرحمة هي التي نلقى الله بها، وهي التي توسع آمالنا في الله عز وجل، فنحن نرجو رحمته ونخاف عذابه، ونعلم أن رحمته وسعت كل شيء، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم إنك قلت وقولك الحق، ورحمتي وسعت كل شيء، وأنا شيء. فيريد أن يدخل في رحمة الله الواسعة، فلذلك تذكر رحمته، وتذكر عفوه الكبير الذي يهدم أسوار الذنوب، كل ما بنيته أنت من الذنوب، وكل ما ساعدك الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وإخوان السوء على بنائه من معصية الله جل جلاله، هو سور محيط بك، يمنعك من الحركة على طريق الحق، ومن السير إلى الله جل جلاله، والشيطان يبني هذا البنيان، وفي كل يوم يزيد طبقة أو طبقات من طبقات البنيان، فلا يزال البناء يصعد، فإذا جاءت لحظة واحدة من عفو الجبار جل جلاله نسفت هذا المبنى بكامله، فلم يبق له أثر، فيقول الشيطان: يا ويلاتاه! بنيت هذا السور لسنوات طوال فجاءت لحظة واحدة من عفو الله فهدمته.
بنى ما بنى حتى إذا ظن أنما بناه وطيد راسخ الأس محكم
أتى العفو من كل القواعد ما بنى فخر عليه سقفه المتهدم
ولو أن ألفاً من بنات جنوده بنو كل يوم ألف بيت مرمم
لهدت بيوت الكل توبة مخلص على ما جناه صح منه التندم
كذلك تذكرك لماضيك وما أنعم الله به عليك في الماضي، كم من المشكلات دخلتها، فأخرجتك منها رحمة الله، كم من الأمراض والبلايا أصبت بها، فأخرجتك منها رحمة الله.
حسن الظن بمن عودك كل إحسان وقوى عودك
إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غدك
فمعرفتك به وبإحسانه إليك في الماضي، وتذكرك لما أنعم به عليك منذ خلقك، ونعمه متواترة عليك، كلما وجدت ضائقة وشدة، جاءتك رحمة من رحماته فأنقذتك، إذا تذكرت ذلك وسع عليك في المستقبل، لعلمك أنه سبحانه وتعالى يرحم عباده، وأن رحماته متواترة، ويقوي رجاءك به عبوديتك له، وأنك مملوك له، ولذلك يقول أحد العلماء:
قوى رجائي أنني عبده والعبد من سيده نخوته
وأنني من أمة المصطفى والمصطفى فازت به أمته
كذلك مما يحصل هذا الرجاء لله جل جلاله: تذكرك لمعصية العاصين، وغفلة الغافلين، تذكرك لكفر الكفار والجاحدين، فتذكر أن الله أنعم عليك بالإيمان، وأنك لست مثلهم، ولا مثل حالهم، ولا ترضى لنفسك ما هم فيه أبداً، فذلك كله مما يربأ بك عن طريقهم، ويقتضي منك تحصيل الرجاء في الله جل جلاله، وهذان الجناحان، وهما: الرجاء والخوف، لا بد أن يعيش الإنسان بينهما دائماً، وأن يسعى لتحصيلهما دائماً، كل يوم يسعى لزيادة رجائه لرحمة الله وخيره وفضله وسخائه وكرمه، وكل يوم يسعى لزيادة خوفه من الله جل جلاله فيكون دائماً حريصاً على جمع الصفتين؛ لأنه إذا فقد الخوف فإنه سيأمن مكر الله، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وإذا فقد الرجاء فإنه سييأس من روح الله، وقد قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، قال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وقد قال العلامة محمد مولود بن أحمد فار رحمة الله عليهما:
وأمن مكر الله والقنوط كلاهما بسخطه منوط
فلا بد أن تحرص على تحصيل الخوف والرجاء معاً، ولذلك جاءت الأساليب القرآنية بهذا، فلم تقرأ في سورة من سور القرآن ما يزيدك رجاء إلا ووجدت فيها- أيضاً - ما يزيدك خوفاً، تقرأ الوعد فتجد إلى جانبه الوعيد، وتقرأ ما يأتي من الترغيب، فتجد إلى جانبه الترهيب، وتقرأ صفات الله والثناء عليه فتجدها شاملة للأمرين، حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:1-3]، كلما قرأت في صفاته جل جلاله وأسمائه تجد ما يزيدك رجاء، ثم تجد ما يزيدك خوفاً قبله أو بعده.
ولذلك من أمثلة هذا إذا قرأت في سورة الليل قول الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل:14]، هذا تخويف من الله جل جلاله، قال بعده: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15-16]، فتقول: الحمد لله أنا لست الأشقى الذي كذب وتولى، أنا مؤمن مصدق الحمد لله، فترجو ويزداد مقام الرجاء لديك، لكن عندما تتعدى هذه الآية، تقرأ بعدها:
وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21]، فتقول: أنا أيضاً لست كذلك، فلست الأشقى، ولست الأتقى، وقد جاء الوعيد في حق الأشقى، وجاء الوعد في حق الأتقى، فبقيت أنت بينهما، ترجو وتخاف.
وهذا الرجاء والخوف تعامل به نفسك، وتعامل به غيرك من المؤمنين، تعامل نفسك بالرجاء، ولذلك تسعى لتحصيل الطاعات، وتعاملها بالخوف، ولذلك تخاف ألا تتقبل منك الطاعات، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، يؤتون ما آتوا هذا من باب الرجاء؛ لأنهم يقرضون الله قرضاً حسناً، لكن (وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)، فهم يخافون أن لا يتقبل الله منهم.
وكذلك في معاملتك مع الناس ترجو لهم وتخاف عليهم، فأنت الآن إذا وقفت على قبر صاحبه لم يشهد له الوحي بأنه من أهل الجنة، نحن لا نتكلم هنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين حل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، والذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، إنما نتكلم عن ما دون ذلك من الناس، هل تستطيع أن تجزم لصاحب هذا القبر الآن في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار، لا تستطيع أن تجزم بذلك؛ لأنك لم تر البواطن، ولم يكشف لك الغيب، ولم يأتك الوحي بذلك، لكن ترجو له وتخاف عليه، ترجو له أن يتقبل الله إيمانه وحسناته، وتخاف عليه أن يكون من الذين ساءت خاتمتهم، أو رد الله عليهم أعمالهم، وهكذا في تعاملك مع الأحياء، فالإنسان من حيث هو نرجو له- إذا كان مؤمناً - ترجو له أن يتقبل الله منه، وأن يجعله من أهل الجنة، وتخاف عليه معصيته لله جل جلاله أن تحيق به، فتقذف به عن مقام المغفرة، فتعامل نفسك، وتعامل الناس بالخوف والرجاء معاً.
وهكذا في كل شئونك، حتى في أمور دنياك تتعامل بالخوف والرجاء معاً، فالمزارع يأخذ زاده وما لديه من الزرع، ويحفر له ويرميه في الأرض ثم يستره، ولا يستطيع استخراجه، لو تندم الآن لما استطاع أن يلتقطه من الأرض ويخرجه منها، لكنه يرجو أن يخرجه الله له، ويخاف أن لا ينبت له شيء منه، وكذلك التاجر لا بد أن يخاطر ويغامر، يشتري بضاعة بثمن غال، وهو لا يدري هل سيسترجع هذا الثمن، أو يزيد أو ينقص، لكنه يعمل بمقتضى الرجاء والخوف، فهو يخاف أن لا يكتب له رزق من وراء ذلك، ويرجو أن يكتب له الربح من ورائه، وهكذا الطالب يدرس، وهو لا يدري هل ينجح في الامتحان، أو لا ينجح؟ فهو يتعامل بالرجاء والخوف، وهكذا الإنسان في بنائه لأسرته، لا يدري هل ينجح هذا المشروع ويرزق أولاداً صالحين، أو يكون المشروع فاشلاً، وهو بين الرجاء والخوف، وهكذا في كل شئون حياتنا وعباداتنا ومعاملاتنا لا بد أن ترتبط بهذين الجانبين: بالرجاء والخوف دائماً، وإذا أحسن الإنسان الموازنة بين الرجاء والخوف، فإن حياته تكون طبيعية ليس فيها ميل وراء شهوة ولا شبهة، وفيها تحكم من زمام نفسه، وإقناع لها بهذا المنهج السوي المعتدل، والذي يتبع جانب الخوف دائماً كثيراً ما ينغلق ويعتزل الناس أو يتشدد عليهم، فيعامل نفسه بالرجاء، ويعامل الآخرين بالخوف، وهذا خطأ في التصور، الذي يعامل نفسه بالرجاء ويظن أنه- ولله الحمد - على خير كثير، وأنه هو المهدي وهو المستقيم، وهو الملتزم، وأن من سواه على شر ومعصية وفسوق، بل ربما كفرهم، وربما سعى لإزهاق أرواحهم، هذا مختل التوازن؛ لأنه لم يأخذ نفسه بالرجاء والخوف، ولم يأخذ الآخرين بالرجاء والخوف، بل أخذ نفسه بالرجاء، وأخذ الآخرين بالخوف فقط، وهكذا في كل الأمور.
هذا الميزان يمكن أن نزن به حياتنا جميعاً، ما من عمل تعمله، إذا استطعت وزنه بميزان الرجاء والخوف، وبه يحصل لك الاستقامة، والتوازن، والاعتدال في منهجك كله، في معاملتك مع الله، ومعاملتك مع نفسك، ومعاملتك مع الناس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا من خوفه، ما يحول به بيننا وبين معصيته، ومن رجائه ما يزيدنا طاعة له، وتعلقاً به.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر