بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، قيام السموات والأرض، خلق هذه الأرض للبشر، وسخر لهم ما فيها من أرزاق، وقسمها بينهم على حسب حكمته، لا على حسب هواهم؛ فقال سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [النحل:71]؛ فجعل من الناس من يستطيع الإنتاج، ولديه قوة عقلية وبدنية لذلك، ومن لا يمتلك تلك القوة نهائياً، ومن لديه قوة جزئية تمكنه من إنتاج جزء يكفيه، لا إنتاج كل حاجته، فجعل الذين ينتجون أكثر من حاجاتهم يغطون جزءاً مشلولاً من البشرية، والذين ينتجون قدر حاجاتهم فقط أو أقل منها يشاركون في عملية الإنتاج، وما ذلك إلا ليقع التكامل، والترابط بين البشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ارتضى للبشرية الأخوة والتعاون والتكامل؛ فخلقهم من نفس واحدة، وكان بإمكانه أن يخلق مليون آدم، وأن يجعل البشر من سلالات شتى، ولكنه شاء بحكمته البالغة أن يردهم إلى سلالة واحدة، وأن يتحقق بينهم كل ما يقتضي ألفتهم وتعاونهم؛ ولهذا شرع لهم ما ينظم علاقاتهم فيما بينهم، ويحميهم من الخلافات المدمرة لهذه العلاقات.
من أعظم ما يؤدي إلى الاختلاف فيما بين البشر: (الربا).
لقد حرم الله سبحانه وتعالى الربا تحريماً جازماً، فهو حرام بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فمن تحريمه بالكتاب، قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].
ومن السنة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء )، وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالمتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء؛ فإذ اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد )، وما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ).
وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على تحريم الربا، وعلى أن من استحله فهو كافر، يستتاب ثلاثة أيام بلا جوع وعطش ومعاقبة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ومحل هذا إن كان قد تربى في بيئة الإسلام، أما إن كان حديث عهد بجاهلية فإنه يعلم الحكم، ويؤدب لجراءته على الله حين استحل ما حرم الله.
وإن استحلال مثل هذا النوع من الكبائر العظيمة، التي تحريمها من المعلوم من الدين بالضرورة كفر إجماعي، لا يمتري فيه أحد من المسلمين.
وكذلك فإن القياس يقتضي تحريم الربا؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وإن الربا من أبلغ الظلم بالناس؛ لما فيه من استغلالهم، وأخذ ما ينتجونه بدون مقابل؛ فإن كل عمل يقدمه الإنسان إذا أخذ منه دون رضاه، وبغير مقابل فهو ظلم صريح له، وإن الربا الطبقة المسحوقة فيه الضعيفة الكادحة التي تعمل وتنتج، ثم يأخذ أصحاب رءوس الأموال إنتاجها، فهي مظلومة مسحوقة؛ لأنها ما اضطرت إلى الربا إلا لحاجتها وفقرها؛ فلذلك كان هذا الربا داخلاً في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ).
وكذلك فإن الربا مقتض من الإنسان للحرص على العاجلة، وإهمال الدار الآخرة، وهذا إنما جاءت الرسل كلها لمكافحته، فالرسل إنما أرسلوا ليعلموا الناس ما أمرهم الله به، وقد قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وإن المرابي يحرص على هذه الدنيا ويؤثرها على الآخرة، والله تعالى يقول في كتابه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17].
وكذلك فإن المرابي يقدم شهواته على ما أمره الله به ويتبعها، والقياس يقتضي تحريم كل ما تأمر به الشهوة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
إذا عرفنا حرمة الربا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وعرفنا أن تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر مرتد عن دين الإسلام؛ فلنبحث إذاً في تعريف الربا ما هو؟
فهذا الربا الذي جاءت فيه هذه النصوص ليس مقصوراً على ما كان معروفاً بالجاهلية بهذا الاسم، فإن ربا الجاهلية كان أن ( يأتي الرجل الرجل، فيدان من عنده بدين إلى أجل محدد؛ فإذا حل الدين أتاه فقال له: إما أن تقضيني، وإما أن تربي لي )، (إما أن تقضيني)، أي: تدفع إلي ما دفعت إليك، (وإما أن تربي لي)، أي: أن تزيد لي من المال مقابل التأخير، هذا هو ربا الجاهلية الذي كان معروفاً فيها، وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاله، وقال في خطبته بعد فتح مكة: ( أما بعد: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي، وأول دم أضعه دمنا، دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ألا وإن ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول رباً أضعه ربانا؛ ربا العباس بن عبد المطلب ).
فأزال رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا، ومحاه عن الذين أثقلت كواهلهم بفوائد ربوية، وجعل ذلك موضوعاً تحت قدمه، وما وضعه الله ورسوله لا رافع له، ولا يمكن أن يرتفع بعد أن وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت قدميه.
فلنعلم أن الذين عرفوا الربا من أهل العلم ذكروا له تعريفين: أحدهما تعريف بالتقسيم والعد، والثاني تعريف بالحد.
أما التعريف بالعد: فقد قسموا الربا فيه إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النساء.
وربا الفضل هو: أن يباع الشيء بما هو جنس له متفاضلاً، أي: أحدهما أكثر من الآخر، أو أن يباع الشيء بأكثر منه من غير جنسه من ما هو ربوي، أي: من الأجناس التي يحصل الربا فيما بينها.
وربا النساء هو: الربا المتعلق بالتأخير، سواء كان ذلك بتعجيل ما في الذمة أو بتأخيره؛ لأن معجل ما في الذمة مسلف؛ ولأن مؤخر ما في الذمة مسلف كذلك، كما سيتبين من خلال كلامنا عن أمهات الربا إن شاء الله.
أما التعريف بالحد؛ فقد عرفوا الربا بأنه: كل بيع لا يحل؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل البيع مقابل للربا، ووصف الربا بالحرمة، ووصف البيع بالإباحة؛ فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فظاهر هذه الآية تقابل البيع والربا، فهما قسيمان، فكل تعامل مالي محرم فهو رباً، وكل تعامل مالي مباح فهو بيع، وأحل الله البيع وحرم الربا، والبيوع المحرمة قد أوصلها العلماء إلى ثمانية وخمسين بيعاً نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثمانية والخمسون ترجع في جمهورها إلى علل تحريم الربا.
وعلل تحريم الربا ثلاث:
العلة الأولى هي: تحريم الغش، معناه أن يخادع الإنسان غيره؛ ليبيع له ما هو معيب، أو ما فيه نقص، وهو يخفيه عنه، فهذا غش، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا )، وحذر منه غاية التحذير.
العلة الثانية هي: السلف الذي يجر نفعاً؛ لأن القرض لا يكون إلا لوجه الله، وهو من القيم الإسلامية التي حض الإسلام على ترسيخها في المسلمين؛ فإن الشارع رسخ في المسلمين قيمة الإقراض، أن يقرض بعضهم بعضاً؛ لأن ذلك داخل في التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، والقرض الحسن أفضل عند الله تعالى وأثقل في الميزان من الهبة؛ لأن الهبة يسألها من لا يحتاج إليها، وهي أعظم منة، والقرض لا يسأله إلا من هو محتاج إليه، وهو أقل منه؛ فلذلك كان القرض أفضل من الهبة، والقرض لا يكون إلا لوجه الله تعالى، فمن أخذ مقابله نفعاً فقد رابى؛ لكن هذا النفع أنواع:
النوع الأول: نفع حسي، وهو الفائدة الزائدة على أصل القرض، كأن تقرض إنساناً مليوناً فتأخذ منه مليوناً ومائة ألف، فهذه الفائدة الزائدة هي الربا المحرم المادي الذي هو رباً متجسد متجسم.
النوع الثاني: الفائدة المتعلقة بالأجل، فإن تأخير ما في الذمة ينتفع به الإنسان؛ لأنه بمثابة من أقرض؛ فسيستعمل تلك السيولة أو ذلك المال وسيربح منه في تلك الفترة؛ ولهذا فإن مؤخر ما في الذمة مسلف؛ لأنه قد استفاد هذه الفترة؛ فإذا أقرضت أخاك هذا مائة ألف إلى أجل مسمى، فأتيته عند الأجل، فأخرت هذا إلى أجل آخر، فقد أقرضته قرضاً جديداً؛ لأن تأخير ما في الذمة إقراض جديد، فإذا أخذت مقابل ذلك شيئاً فقد رابيت.
ومثل ذلك معجل ما في الذمة؛ فإذا أقرضت شخصاً إلى أجل مسمى، فأتيته قبل الأجل فعجل لك جزء مالك، وعفوت عنه في بقيته، فإنه قد أقرضك؛ لأنه عجل لك هذا المبلغ قبل وقته، وقضاؤه هو عند حصول الأجل، وسيأخذ أكثر مما دفع؛ لأنه محي من ذمته مبلغ أكبر من الذي دفعه، فلذلك مؤخر ما في الذمة مسلف، ومعجل ما في الذمة مسلف، وكل سلف جر نفعاً فهو محرم، وهذه مسألة إجماعية.
العلة الثالثة هي: ما يؤدي إلى الغرر والجهالة؛ فكل ما فيه غرر أو جهالة فهو رباً، وقد ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ) نهياً مطلقاً كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، ونهى عنه في عدة أحاديث أخرى، كنهيه عن ربح ما لم يضمن، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة، وعن بيع المنابذة، والملامسة، وبيع الحصاة، وغير ذلك من البيوع التي كلها داخلة في هذا النوع الذي هو الغرر، وفيها أحاديث عن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فكلها مبينة لأنواع بيع الغرر.
وسبب تحريمه أنه يؤدي بالإنسان إلى الهلع والطمع؛ فالمزابن الذي يدفع الآخر حتى ينال هو ربحاً زائداً يتزاحم مع الآخر بعقله، فيكون كل واحد منهما يريد أن يغلب عقله عقل الآخر؛ ولهذا فإن المزابنة التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتقة من الزبن، وهو الدفع، ومنه اشتقاق الزبانية، وهم خزنة النار؛ لأنهم يدفعون أهل النار دفعاً شديداً نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك فسر ابن عمر المزابنة بأنها: أن يقصد كل واحد من البائع والمشتري غلبة الآخر؛ فإذا كان شخص يبيع شارفاً من الإبل -أي: ناقة كبيرة السن، ذات مخاض- بحقة إلى أجل سنتين مثلاً، أو ثلاث سنين؛ فيشتري منه إنساناً آخر يريد مغالبته بالعقل، فيقول: سآخذ هذه الناقة وأنميها، فتلد لي أنثى فأربيها، فأدفعها له في الحقة، وأنتفع أنا بالشارف، أي: بالناقة. فهذه هي المزابنة التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي راجعة إلى الغرر؛ لأنه بالإمكان أن تموت الناقة الآن، وتبقى الحقة في ذمته؛ ولذلك فإن بيع الشيء بجنسه إلى أجل ممنوع أصلاً؛ لما فيه من المزابنة.
وتوسع الشارع في التحريم فيه حتى منع بيع الأرض بما يخرج منها؛ لأن بيع الأرض بما تنبته ويخرج منها ممنوع؛ لأنه داخل في هذا النوع من الغرر لوجود المزابنة، ومثل ذلك بيع الشجر بالخشب لأنه ينتجه، فكل ما يمكن أن يكون الثمن فيه نتاجاً للمثمن؛ فالبيع فيه ممنوع شرعاً، لما يحصل فيه من المزابنة.
يضاف إلى هذه العلل الثلاث: علة رابعة جزئية، أي: في بعض جزئيات العقود دون بعض، وهي أن الضمان أيضاً مثل القرض لا يكون إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا يحل أخذ مقابل عليه؛ فكل ضمان أخذ عليه صاحبه مالاً فهو رباً.
هذه الأمور الأربعة المذكورة، أو العلل الأربع تنتظم أمهات الربا؛ وهي:
الأم الأولى: سلف جر نفعاً؛ فكل سلف جر نفعاً فهو رباً، وهذا يشمل كثيراً من العقود المتداولة، وسنذكر بعض أمثلتها في واقعنا إن شاء الله.
والأم الثانية هي: مؤخر ما في الذمة مسلف.
والأم الثالثة: معجل ما في الذمة مسلف.
والأم الرابعة: حط الضمان وأزيدك، أي: حط عني قضائي في هذا الوقت على هذا الأجر، وأزيدك في رأس المال مقابل الزيادة في التأجير.
والأم الخامسة: ضع وتعجل، أي: ضع بعض مالك وتعجل بقيته؛ فيكون حينئذٍ متعجلاً لما في الذمة؛ فيكون مسلفاً سلفاً جر نفعاً.
والأم السادسة: أسلفني على أن أسلفك، أي: أن يكون السلف مقابل سلف؛ فيكون الإنسان منتفعاً حينئذٍ من القرض الذي لا يجوز إلا ابتغاء مرضاة الله.
والأم السابعة: المزابنة، وهي: قصد المغالبة في البيع.
هذه هي أمهات الربا التي تتنظم كثيراً من صوره، وقد حرص العلماء على تفصيلها وبيان أوجهها.
ولقد ذكر العلماء لذلك كثيراً مما يمكن أن يعتني به الناس لحفظ تفريعات هذه الشريعة؛ فمن أهم ما قعدوه بناء على هذا: أن بينوا أركان العقد، وشروط كل ركن، فبينوا أن العقد المالي الذي هو: البيوع وما يتعلق بها له ستة أركان:
الركن الأول: البائع، والثاني: المشتري، والثالث: السلعة، والرابع: الثمن، والخامس: الإيجاب، والسادس: القبول، فهذه ستة أركان على سبيل البسط، وأما على سبيل الاختصار فيمكن أن تقول: العاقدان، والمعقود عليهما، والصيغة، وأهم ذلك الصيغة؛ لأنها الركن الأساسي من العقد، وهي الركن الإجماعي، فعند الحنفية ركن البيع واحد وهو: الصيغة فقط، أما ما سوى ذلك فهو مكملات له وشروط، وعند الجمهور كل هذه المذكورات أركان.
والصيغة يشترط لها ثلاثة شروط:
الشرط الأول: توارد الإيجاب والقبول على محل واحد، معناه: أن يكون ما نطق به البائع، وما نطق به المشتري واردين على محل واحد؛ فإذا قال لك إنسان: بعني هذا الجهاز بألف، فقلت: بعتك هذا الجهاز بألف، فإن الصيغة غير صحيحة؛ لأن الإيجاب والقبول فيها لم يتواردا على محل واحد؛ فهو يقصد هذا الجهاز الكبير، وأنت قصدت هذا الجهاز الصغير، فلم يتوارد اللفظان على محل واحد، فلا تصح الصيغة حينئذ، ويكون هذا العقد بيعاً فاسداً.
الشرط الثاني: اتصال الإيجاب بالقبول، فإن انفصل الإيجاب عن القبول بما يدل على الإعراض فإن العقد لا ينعقد بذلك، كما إذا قال لك إنسان: بعتك هذا الجهاز بألف؛ فخرجت ولم تتكلم، وبعد أسبوع أتيت فقلت: قبلت منك هذا الجهاز بألف، أو قبلت منك الجهاز الذي عرضته بألف؛ فهذا العقد غير صحيح؛ لعدم اتصال الإيجاب بالقبول؛ فحين أعرضت عنه ولم تقبله كان بالإمكان أن يبيعه لمن سواك، أو أن تطرأ حوالة الأسواق فيتغير الثمن، أو أن يتلف الجهاز من أصله، كل ذلك محتمل، وقد حرم الشارع كل ما يؤدي إلى الغرر.
الشرط الثالث: استمرار أهلية الأخير من العاقدين حتى نهاية نطقه؛ فإن الإيجاب بالإمكان أن يصدر أولاً، وبالإمكان أن يصدر القبول قبله، وهذا في تصوير الجمهور للإيجاب والقبول، أما عند الحنفية فالإيجاب هو: ما صدر أولاً، والقبول: ما صدر ثانياً مطلقاً، فقول المشتري: اشتريت منك هذا الجهاز بمائة فهذا قبول عند الجمهور، وإيجاب عند الحنفية، فإن الحنفية يسمون الإيجاب ما صدر أولاً، والجمهور عندهم الإيجاب هو: ما صدر من البائع صاحب السلعة، والقبول: هو ما صدر من المشتري صاحب الثمن، فإذا كان ما ..... منهما في النطق قد اختلت أهليته بأن مات أو حجر عليه، أو أصيب بمرض مخوف يمنع أهليته، أو صدر عليه حكم يقتضي إفلاسه، فإن العقد لم ينعقد؛ لأن القبول ما صدر وهو متصل بالأهلية، والأهلية لا بد منها في العاقدين.
إذاً: هذه الثلاثة هي شروط الصيغة، وإن اختل واحد من هذه الشروط كان العقد محرماً، وداخلاً في إطار الربا.
أما شروط العاقدين، فهي ستة:
الشرط الأول منها: تمييزهما، ومعناه: أن يكونا مدركين لمعنى البيع؛ فغير المميز كالمجنون المطلق، أي أن الصبي الذي لا يميز لا ينعقد البيع معه بحال من الأحوال، ولا يستثنى من هذا إلا ما كان من الأجهزة التي تكون معدة للعقد بواسطة عقل إلكتروني، فإن التعامل فيها في الواقع مع صاحبها، كماكنة الصرف التي يدخل فيها الإنسان رقمه السري، وبطاقته الخاصة؛ فيسحب من رصيده فيها مبالغ مالية، أو كالماكنات التي تكون على الشوارع، وفيها الأشربة، ويضع الإنسان فيها نقداً، فيستخرج مقابله شراباً، أو عصيراً، أو شاياً، أو غير ذلك، فالعقد هنا ليس مع الماكنة، وإنما هو مع صاحبها؛ لأنه قد وضع فيها برنامجاً محدداً لذلك.
الشرط الثاني من هذه الشروط: البلوغ؛ فإن الصبي المميز يصح عقده، لكنه لا يلزم؛ فهو موقوف على رضا وليه؛ لأنه المالك الحقيقي المتصرف في أمره، وهو لا يمكن أن يكون تام التصرف إلا بعد إذن وليه، ويستثنى من هذا الشيء التافه في شراء الصبية للحلاوات ونحوها من المحلات؛ فالأشياء التافهة جرت العادة على أن يتعامل فيها الصبيان؛ وذلك داخل في ابتلائهم، في قول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فابتلاؤهم هو بامتحانهم بجعل بعض المال اليسير تحت أيديهم لينظر تصرفهم فيه، هل هو تصرف الرشداء، أو تصرف السفهاء؟ فهذا النوع من التعامل يجوز انعقاده ويمضي مع الصبيان؛ لأنه مما جرت العادة به، والعادة في ذلك غير مخالفة للشرع؛ لأن الله أمر بابتلاء اليتامى بمثل هذا.
الشرط الرابع: الحرية، والمقصود بذلك الإذن من المالك لرقيقه في البيع والشراء؛ لأن له حقاً في ماله في أي وقت شاء، فلا بد من إذنه؛ لكن البيع من أصله صحيح، وهو موقوف على رضا المالك، فإن فوضه فكان الرقيق مأذوناً فبيعه نافذ مطلقاً، ومثل ذلك ما جرت به العادة من التعامل؛ فإن الشرع أقره، أما ما لم تجر به العادة، ولم يأذن فيه السيد، فهو موقوف على رضاه ولا يمضي إلا بإذنه.
الشرط الخامس: الرشد؛ فإن تصرف السفيه كذلك موقوف على رضا وليه الحازر عليه، فالعقد صحيح، ولكنه غير لازم، ولا يلزم إلا بعد إنفاذ الولي له.
الشرط السادس: الملك، والمقصود به: الصفة الشرعية التي تقتضي من الإنسان تصرفاً، سواء كانت ملك يمين بأن كان الإنسان يملك هذا الجهاز ملكاً صحيحاً، أو كانت بالإذن في التصرف، كالوكيل على البيع؛ فهو غير مالك للجهاز، ولكنه مالك لبيعه؛ لأنه وكيل على ذلك، فهذا شرط كذلك للعاقدين.
أما شروط المعقود عليه، فهي:
الشرط الأول: الطهارة؛ فالنجس لا يحل العقد عليه مطلقاً، وبيعه داخل في الربا المحرم، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان من جلود الميتات إذا دبغت، وهذا عند طائفة من أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، وفي رواية: ( فقد طهر )، وكذلك السرجين، وهو السماد الذي أصله نجس؛ فإن أهل الزراعة يحتاجون إليه، وقل ما يجدونه دون مقابل؛ فيحتاجون إلى شرائه وبيعه، فرخص في ذلك للضرورة، ومثل هذا إذا اضطر الإنسان لدم لفقره عنده مثلاً، واحتاج إلى شراء الدم من بنوك الدم؛ فإنه يحل للمحتاج أن يشتريه، ويحرم على البائع بيعه، وهذا نوع من العقود سنتعرض له؛ فبعض العقود تكون حراماً على أحد الطرفين، حلالاً للآخر؛ فالمضطر للدم لأن لديه مريضاً قد أصيب بفقر دم، أو سيتعرض لعملية جراحية في القلب، أو في الكلى، أو زراعة كبد، أو نحو ذلك، فإذا لم يشتري له دماً لحقنه به، فسيموت ذلك المريض قطعاً، فهو مضطر لشرائه، فيحل له أن يشتريه، ولكن لا يحل للبائع بيعه، نعم يجوز التبرع به، لكن لا يحل بيعه.
ويستثنى من ذلك كذلك: ما تغير بعلاج كيميائي ينقله عن أصله، كالمواد التي أصلها نجس، ثم عولجت بالكيمياء، حتى تغيرت أصولها، وعادت مادة جديدة؛ فالكريمات التي يدهن بها. كثير منها يؤخذ في الأصل من المشيمة من الشارلي وغيره؛ فهذه قد عولجت كيميائياً حتى تغيرت عن أصلها؛ فأصبحت مادة جديدة، والراجح في مثل هذا الإباحة، ومثل ذلك: ما يتغير عن أصله بالكلية، من علف البهائم الذي يؤخذ من المجازر، وبقايا الميتات، ويصنع ويعالج بالكيمياء، حتى يتغير عن أصله، فإن الراجح فيه الإباحة حينئذٍ.
الشرط الثاني: أن يكون منتفعاً به؛ فما لا نفع فيه لا يحل بيعه ولا شراؤه، وبيعه من الربا المحرم، ويدخل في ذلك: المحرم الذي أشرف على الموت، كالحمار الذي قد أشرف على الموت؛ فهذا لا نفع فيه، فبيعه حرام رباً، ومثل ذلك بيع الدخان ووسائله؛ فإنه لا نفع فيه شرعاً، فأنواع السجائر، ومثلها آلاتها، وما لا يستعمل إلا فيها، لا نفع فيها شرعاً؛ فبيعها حرام رباً؛ لأنها لا يترتب عليها أي نفع شرعاً؛ فإن وصول المنافع أربع تكفل الله بها لآدم في الجنة، فقال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]؛ فضمن له ألا يجوع وهذه هي المطاعم، وألا يعرى وهذه هي الملابس، وألا يظمأ وهذه المشارب، وألا يضحى، أي: ألا يبرز للشمس وهذه المساكن؛ فهذه هي أصول المنافع، وما عداها فهي مكملات لها، والتدخين ليس فيه نفع من هذه المنافع؛ فهو محرم من ناحية التداول في البيع والشراء، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، لعدم الانتفاع به.
ولا يستثنى من هذا إلا ما يمكن أن يخضع لبعض التجارب فيستفيد منه بعض الناس دون بعض، كبيع العقارب للمخابر التي تستخرج سمومها، وبيع الحيات للمخابر التي تستخرج سمومها، فإنها تعمل منها العقاقير ونحوها مما فيه نفع؛ فهذا ليس بيعاً لما لا نفع فيه؛ بل هو بيع لما ينتفع به بعض الناس دون بعض.
ومثل ذلك: الحشائش التي تستعمل لاستخلاص بعض المواد العلاجية منها، ويستفاد منها في صناعة الأدوية؛ فهذه لا يستفيد منها أكثر الناس، ولا يحل بيعها لهم، وإنما يحل بيعها لأصحاب المصانع الذين يستخلصون منها موادها الأساسية النافعة في تركيب الأدوية، أو غيرها من الأمور النافعة؛ فيعلم من هذا أن الأوراق الملفوفة التي تلف لتكون وعاء للتدخين لا يحل بيعها؛ لأنه لا نفع فيها.
ومثل ذلك: وسائلها الخاصة بها التي لا تستغل في غيرها؛ فلا يحل بيعها؛ لأنها لا ينتفع بها في غير ما لا نفع فيه، ولا يحل التعامل به، وأما المواقد التي توقد بها النار كالكبريت، والموقد الغازي؛ فهذه ينتفع بها في غير التدخين؛ فيجوز بيعها وشراؤها، والعقد فيها صحيح ليس رباً؛ لأنها بالإمكان أن ينتفع بها بوجه شرعي آخر.
الشرط الثالث: ألا يكون منهياً عنه، فإن كان قد ورد نهي بخصوصه، فلا يحل بيعه حينئذٍ، ولا العقد عليه مطلقاً، ومن ذلك النهي عن بيع الكلب، فقد صح في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلاب، وقال: ( فإن جاء يطلب ثمنه فاملئوا له كفه تراباً )، فهذا يقتضي حرمة بيع الكلاب مطلقاً، ولو كانت منتفعاً بها، ولو كانت مما يحل استغلاله ككلب الصيد، وكلب الزرع، وكلب الرعي؛ فهذه الكلاب يجوز استخدامها؛ لكن لا يحل بيعها لإطلاق النهي عن بيع الكلاب.
ومثل ذلك: بيع آلات اللهو؛ فإنها وإن كانت مما له ثمن رائج بين الناس، لكنها لا يحل بيعها شرعاً، لما جاء من النهي عنها في قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6]، ويستثنى من ذلك ما كان نافعاً في غير اللهو، أي: ويستعمل في غير اللهو؛ فإنه يجوز بيعه وشراؤه، كالآلات التي تستعمل للهو وغيره، كآلات التسجيل والتلفزات، وغيرها، فهذه يمكن أن تستعمل للهو، ويمكن أن تستعمل لغيره، فيحل بيعها للجانب الآخر، تغليباً لجانب الإباحة على جانب الحظر في مثل هذا.
الشرط الرابع: ألا يكون مجهولاً، والمقصود بذلك: أن يعلم علماً ينفي الغرر؛ فلا يحل بيع الحمام المحلق في الهواء، أو الحمام الذي في البرج، أو ما لا يستطيع الإنسان حصره ومعرفة عدده؛ فهذا لا يحل بيعه لجهالته، والجهالة راجعة إلى الغرر الذي بيناه من قبل، وكل ما يؤدي بيعه إلى جهالة؛ فإن بيعه من الربا البين؛ ومن ذلك بيع الملابس المستعملة التي تأتي في صورة الأكوام، فيها الجيد والرديء؛ لكن الإنسان يشتريها وهو مقدم على مغامرة، لا يدري هل ما يشتريه سيربح منه، ويجد فيه نفعاً، أو هو غيره صالح لذلك؛ فهذه لا يحل بيعها ولا شراؤها هكذا، للجهالة البينة فيها، التي تقتضي غرضاً واضحاً، وإنما يحل بيع الملابس بعد نشرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، وكل ذلك خشية الغرر، والغرر الحاصل في الملابس المستعملة أعظم من هذا؛ لأن كثيراً من الناس يشترونها، وهي في أوعيتها، لا يراها، ولا يعرف أنواع الملابس أصلاً، ولا يعرف درجة الانتفاع بها.
بل قد سألني سائل في هذه الأيام بين في سؤاله أن كثيراً من الناس قد يشتريها لا يريدها لذاتها، وإنما يريدها لما قد يوجد فيها من النقود، أو من الساعات، أو نحو ذلك؛ فيكون هذا من الميسر البين، الذي بين الله سبحانه وتعالى تحريمه، وقرنه بالخمر في كتابه.
الشرط الخامس: أن يكون المعقود عليه مقدوراً عل تسليمه وتسلمه، أي: أن يكون البائع قادراً على تسليمه، وأن يكون المشتري قادراً على تسلمه، بخلاف بيع الشارد الذي لا يتمكن الإنسان من تسليمه وتسلمه، أو المغصوب، أو نحو ذلك، فهذا لا يتمكن الإنسان من تسليمه وتسلمه، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، والعقد عليه حينئذٍ من الربا البين؛ لأن المقدم عليه مغامر قد يحصل على نفع، وقد لا يحصل على شيء.
الشرط السادس: عدم الحرمة، وهذا هو الشرط الأخير في المعقود عليه، ألا يكون محرم الاستعمال؛ فإن كان محرم الاستعمال لذاته كالخمر؛ فإنه لا يحل العقد عليه أصلاً، والعقد عليه باطل، ومثل ذلك الخنزير، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، وذلك العقد كله باطل، وهو من الربا البين، حتى لو ترتب على ذلك بعض الأمور التي تغير الأصل، كمن يشتري الخمر وهو يريد أن يجعلها خلاً، أو يطبخها في الحلويات حتى يزول عنها الإسكار، فإن العقد من أصله حرام، لا يحل له شراؤها كذلك؛ لكن إذا حجرها مالكها، أو وضع نبيذاً أو سويقاً حتى تحجرت، أو تخللت فيحل حينئذٍ بيعها بعد أن تتحجر أو تتخلل، لكن قبل أن تتحجر أو تتخلل لا يحل بيعها ولا شراؤها، وهو من الربا البين.
بخلاف العطور التي فيها مادة الكحول، فإنه يحل بيعها وشراؤها؛ لأن مادة الكحول ليست هي الخمر، فالخمر مادة مركبة، فيها الكحول وغير الكحول، ومن القواعد الفقهية المسلمة: أن الشيء مع غيره غيره معه، وبلفظ آخر: الشيء مع غيره غيره لا هو مع غيره، فمادة الكحول إذا خلطت بالسكر وبالماء، وبالجليكوز، وغير ذلك من المواد حصلت منها مادة الخمر؛ لكن إذا كانت وحدها، أو مخلوطة من مادة أخرى لا تصل إلى حد الإسكار فليست بخمر، فلذلك يحل بيعها كما يحل بيع السكر، والماء، والعنب، ونحو ذلك من المواد المشاركة في تكوين الخمر، والمواد العلاجية التي تكون كحولية، أو كحولاً مستخلصة، أو مخدرة في أصلها؛ لكنها عولجت بطريقة تكون علاجاً لبعض الأمراض، أو مساعدة في ذلك، فهذه يحل بيعها وشراؤها؛ لأن الأصل في شرائها وبيعها إنما هو في الانتفاع المحدد المنصوص.
وإن كان بعض الناس قد يستغلها لأغراض فاسدة؛ فإن ذلك لا يقتضي تحريمها، كالذين يشترون مادة الإسبيرين لجعلها في أشربة مسكرة، أو نحو ذلك، فهذا لا عبرة به، ومثل ذلك الذين يستخدمون بعض الأدوية للتخدير، فيستغلونها ويجعلونها مخدرة، فإن هذا لا يحرم بيعها؛ لأن الأصل فيها أنها معدة لانتفاع محدد، فتباع لأجل ذلك الانتفاع.
إذاً هذه هي الشروط، وإذا عدنا إلى واقعنا؛ فإننا سنجد كثيراً مما يشمله هذا الركن المحرم، هذا الربا المحرم في واقعنا الذي نعيشه.
إن في واقع الناس من أنواع فساده الذي استشرى وانتشر: الفساد الاقتصادي، وقد كان هذا الجانب محلاً لمؤامرات عديدة على الأمة الإسلامية، وما ذلك إلا لعلم أهل الفساد بخطورة المال، وأنه عصب الحياة، فأرادوا بذلك إفساد حياة المسلمين من هذا الوجه المؤثر فيها، فأنتم تعلمون أن الحياة كلها مترابطة، فلا يمكن أن يستقيم الاقتصاد إلا بالسياسة، ولا أن تستقيم السياسة دون الاقتصاد، ولا أن يستقيم الاجتماع إلا بالمال، ولا أن يستقيم المال إلا بالاجتماع، فكل حياة البشر متكاملة؛ ولهذا أنشئت في زماننا هذا علوم جامعة بين الجوانب المتعددة من حياة الناس، فأنشأ ليموأنبار وزير الاقتصاد الفرنسي الأسبق علم الاقتصاد السياسي، الذي أصبح اليوم مادة تدرس في الجامعات، وذكر فيه بعض ارتباط الاقتصاد بالسياسة، وأنشأ كذلك في زماننا هذا مادة علمية تدرس في الجامعات، تسمى: علاقة الاجتماع بالسياسة، أو المؤثرات الاجتماعية في السياسة، وهكذا، فنظراً لخطورة المال في حياة الناس خضع لكثير من المؤامرات.
من أخطر ما يتعلق به الربا في جانب التعامل مع الله سبحانه وتعالى؛ فالعبد إذا نجا في جانب تعامله مع الله، فإن الله سيصلح له الجوانب الأخرى؛ فلذلك إذا كان الإنسان مرابياً، أو آكلاً للربا، أو مكتسباً بالكسب الحرام، فإن جانب علاقته بالله لا يمكن أن يصح، ولا أن يتحقق؛ فلا يمكن أن يستجاب له دعاء، وهو يعيش من الربا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ).
إن الذي يأكل من الحرام لا يمكن أن يستجاب دعاؤه، ولا يمكن أن يوقف للتقرب إلى الله بالوسيلة، التي هي الأعمال الصالحة المقربة من رضوان الله؛ ولهذا فإن كثيراً من الناس يحبون الخير، يحبون قيام الليل، وصيام النفل، وقراءة القرآن، والإكثار من ذكر الله؛ لكنهم لا يستطيعون ذلك؛ لأنه قد حيل بينهم وبينه بأكل الحرام.
جاء رجل إلى الحسن البصري فشكا أنه لا يستطيع قيام الليل، ولا صيام النفل، وكلما أراد ذلك حال دونه عارض، أو مرض، أو نحو ذلك، فقال: يا بني! أنت مكبل بالمعاصي، قد كبلك أكل الحرام فحال بينك وبين قيام الليل، وصيام النفل.
إن كثيراً مما يشكوه الناس اليوم ..... القلوب، وشفائف التعامل مع الله، وغلظ العاطفة في التعامل معه، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم إمكانية التضحية والإخلاص في سبيل الله، أكثره -إن لم نقل كله-، ناشئ عن أكل الحرام؛ ولذلك جاء في الأثر: ( كل ما شئت فمثله تعمل، واصحب من شئت فإنك على دينه )، وجاء في الحديث: ( كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ).
كذلك في التعامل مع الناس: إن هذا المال كثيراً ما سعى لإفساد العلاقات بين الناس، وكثيراً ما سعى لإراقة الدماء، وكان سبباً فيها، أو لانهدام البيوت، وتقطع الصلات والعلاقات، وتقطيع الأرحام، وغير ذلك من الجرائم الكبرى، فالحسد الذي هو من أعظم أمراض القلوب وأخطرها، كثيراً ما ينشأ بسبب هذا المال، وكذلك الخلافات التي تنشأ بين الناس على أساسه كثيرة جداً، وأكثر ما يكون ذلك في المال المحرم، الذي هو ناشئ عن رباً.
أما المال الحلال فقليلاً ما يتعلق به الحسد، وقليلاً ما تتعلق به العداوات التي تؤدي إلى إراقة الدماء، وتقطيع الأرحام، ونظراً لهذا فإن التعامل المحرم بين الناس يؤدي إلى كثير من المشكلات الاجتماعية؛ فالمرابي الذي بيده فضول من المال يستريح على أريكته، ويستغل الآخرين، فهم يكدون في الهواجر الحارة، وفي الليالي الباردة، ويستغلون أفكارهم وعقولهم، وطاقاتهم لينمو له ماله، وليزيدوه له، ولا يعطيهم في الغالب إلا قدر حاجتهم فقط؛ لأنهم ما اضطروا للعمل إلا من أجل قضاء بعض حاجياتهم، وتلبية بعض غرائزهم، فيحاول هو أن يقتر عليهم؛ لتبقى هذه الطبقة هكذا دائماً محتاجة إليه.
ومن هنا يقع التنافر بين طبقات المجتمع، فالمرابون طبقة إقطاعية في المجتمع تستغل الآخرين، وينظر إليها المجتمع على أنها من مصاص الدماء، ومن أكالي لحوم البشر؛ فتكون هذه الطبقة محاربة معاداة في أوساط الناس؛ ولذلك لا تجد مرابياً إلا وله عداوات كثيرة، وله كثير من الناس يحسدونه على ما بيده، وينظرون إليه بهذه النظرة؛ لأنهم يعلمون أنه يحتال لاستغلالهم واستغلال من سواهم؛ ليجعلهم جميعاً يعملون لتنمية أمواله هو، ويستريح هو، فيقضي هو حاجياته، ويصل إلى شهواته دون أن يبذل جهداً في ذلك، وكذلك فهي مقتضية لكثير من تفشي الاتكالية وإضاعة الجهد، فإذا تفشى الربا في مجتمع من المجتمعات، فإن طاقاته وعقول ذوي المال فيه ستتحجر وتتجمد؛ لأن الأصل أن الله سبحانه وتعالى -كما ذكرنا- قسم الأموال، وقسم الأفكار، فقد يكون هذا الشخص يملك رأس مال، لكنه لا يملك عقلية تجارية، ولا يعرف المجالات التي يمكن أن يوظف فيها ماله، فيعود إليه بأرباح هو محتاج إليها، ولا يعرف كذلك الأمور التي يحتاج إليها المجتمع التي تقضي بعض حاجاته، وتوفر بعض ما يحتاج إليه.
وهذا الآخر آتاه الله عقلية تجارية عالية، وأعطاه فهماً واستيعاباً لمجتمعه وواقعه، فيعرف ما يحتاج إليه المجتمع من أوجه الخدمات، ويعرف المناطق المهمة، أو الاستراتيجية في العمل، ويعرف كذلك الأسواق الواسعة، ومدى استيعاب الأسواق، وتخميناته لا تخطئ في هذا المجال، لكنه لم يعط رأس مال، فيقع التكامل بينهن وبين سابقه بالطرق الشرعية، كالشركة والقراض، وعقود التمويل ونحو ذلك، أما إذا عدل هذا إلى الربا فإنه سيعطل عقليته، ويبقى قد قضى جميع مآربه من خلال عقول الآخرين وأعمالهم.
ولذلك من الشعارات التافهة التي تشيع في بعض البلدان الإسلامية مع الأسف: أخي المواطن لا تفكر! فالحكومة تفكر عنك، فكذلك يكون المرابي لا يفكر في شيء؛ لأن عماله يفكرون له في المجالات، وهو ما عليه إلا أن يخلد إلى الراحة، وأن يذهب إلى مناطق الترفه، وهو يعلم أن وراء أمواله من يخدمها وينميها، وبهذا يكون كثير من رموز المجتمع وقادته ملوكاً على الأسرة لا ينفعون، ولا يشاركون في تنمية ثروات هذه الأرض، وخيرات هذه الشعوب.
أما الجانب السياسي فإنه كذلك؛ فعند تضخم المؤسسات السياسية والدول، فإن التفكير سيكون فيها محصوراً على طبقات محدودة، فالقرارات التي تتخذها وزارات كثيرة، تكون في كثير من الأحيان ناشئة عن أفراد ليسوا من الوزارة أصلاً ولا لهم بها علاقة، أو عن أفراد محدودي الدور في الوزارة، وأما الطبقات العليا التي تأخذ الرواتب الكثيرة، فإنها قد قضي كل مآربها، فلا تحتاج إلى السهر على التفكير، وبهذا تبقى عالة على المجتمع كالدود الذي يأكل خيرة ما في الورد، ويمتص النبعة عنه، ويتركه؛ ولهذا فالمؤسسات السياسية المتضخمة تكون كلاً وعبئاً على المجتمعات؛ لأنها كما يراها الناس تمتص عرقهم، وتمتص خيراتهم، وتأخذ خيرات بلادهم، وتستنزفها، وتأخذ الديون بالربا المضاعف على الأجيال اللاحقة؛ لترتاح هي في حياتها كلها، ومع ذلك لا تبذل أي جهد، ولا تفكر أي تفكير في مصالح المجتمع.
قد حصل في دولة من الدول الإسلامية أن رجلاً انتخب رئيسًا لبلدية مدينة من المدن، فأراد أن يجدد إشارات المرور، لم يرد ذلك، لكن أتاه رجل من التجار الذين هم أصحاب هلع وطمع، فقال له: قد انتخبت على البلدية فما هي المشاريع الجديدة التي لديك؟ لعلي أساعدك فيها، فقال: ما لدي تفكير في هذا المجال، وأنا الحمد لله بخير، والبلد هي طيبة، ومداخيلها من الضرائب تكفي؛ فهو لا يفكر إلا في ما يدخل جيبه فقط، فقال له الرجل: إن الناس قد انتخبوك وهم يعلقون آمالاً على توليك لهذه البلدية؛ فلا بد أن تقدم شيئاً، وأنا أقترح عليك اقتراحاً، فقال: ما هو؟ فقال: أن تجدد إشارات المرور في المدينة كلها، فقال: هذا اقتراح مفيد، لكن من أين لي التمويل؟ قال: الأمر سهل، كل السيارات التي تمر على الطريق خذ عليها ضريبة، فاجعلها ضريبة على كل سيارة، سمها: ضريبة إشارات المرور، فقال: كم ستكون هذه الضريبة؟ قال: أنا سأجدد لك كل إشارات المرور جميعاً، كل مكان محتاج لإشارة، أضع لك فيه إشارة بمبلغ إجمالي قدره كذا للسنة، وضع على ذلك الهامش التي تريده لنفسك وللبلدية، فوضع هذه الضريبة المضاعفة التي فيها القدر الذي يتطلبه هذا التاجر، والقدر الذي يريده هو لنفسه، والجزء اليسير الذي يتركه لعمال البلدية، وبعض موظفيها، فالمواطن إذاً هو المتضرر هنا في مثل هذا، فهذا مثال بسيط لهذا النوع من التضخم الذي يقع في المؤسسات السياسية، فيكون القادة، وذوو المكانة العالية فيها قد كفوا كل احتياجاتهم، فلا يحتاجون إلى التفكير في مصالح الناس، إنما يحتاجون إلى التفكير فيما يدخل جيوبهم فقط، وبذلك يمتصون خيرات الآخرين، فلا يستغرب أن تقوم الثورات في مثل هذا، ولا أن يستنكر الناس، وأن يعبروا عن امتعاضهم لما يحصل بأي وسيلة يرونها مناسبة لذلك.
ثم إن الذين يرابون إذا مارسوا ذلك زمانًا فسينحصر المال في عدد يسير من الناس؛ لأن أصحاب الربا جبلهم الله على سوء الخلق، فكل مراب لا بد أن يكون سيئ الخلق، وإذا كان سيئ الخلق، فسيسعى للانفراد وحده؛ لأنه قد جبل على إيثار الدنيا على الآخرة؛ فلا يرضى أن يشاركه أحد في أي مشروع من المشروعات التنموية، كل مشروع له ريع أو فائدة فلا بد أن يتخصص به هو؛ ولذلك حصل في بلد من البلدان الإسلامية أن مشروعاً كبيراً للإنتاج كان متوقفاً، وقد اشتكى عماله وموظفوه إلى محكمة الشغل؛ لأنهم فصلوا فصلاً تعسفياً؛ لأن المشروع قد أفلس، ولم يبق إلا ماكنات معطلة دون إنتاج، ووضعوا قضيتهم لدى محام ليدافع عن ذلك، فجاء رجل فطلب من الحكومة أن تبيعه هذا المشروع، أي: الآليات والأجهزة، والاسم التجاري للمصنع، فبيع له ذلك المشروع؛ نظراً لمكانته الاجتماعية، فأتاه أحد المرابين الكبار؛ فقال له: أريد أن تشاركني في هذا المشروع، وأدفع لك نصف التكاليف، فقال: لا أحتاج إلى مشارك فيه، فقد سددت المبلغ كله ولله الحمد، وعندي ما أسير به المشروع، فذهب المرابي فعمل فعلة من فعلات المرابين، ذهب إلى محكمة الشغل، فقال: أنا أشتري منكم ماكنة واحدة من ماكنات المشروع بما يمكن أن تقضوا به رواتب جميع الموظفين، والمحامي الذي كلفوه بالدفاع عن قضيتهم، ويبقى ريع بعد ذلك، فهلعت محكمة الشغل وباعت له ماكنة من الماكنات المهمة في المصنع، ودفع لها المال، فدفعته إلى الموظفين السابقين، وفصلتهم بحقوقهم، ودفعت إلى المحامي نصيبه، وأخذت المحكمة الرسوم المستحقة، وبقي الجزء المتبقي سيرد إلى خزينة الدولة.
بعد فترة يسيرة جاء الرجل الذي اشترى المصنع يريد إقامته؛ فأتاه المرابي فقال: حنانيك، إنني شريك لك بخمسة أضعاف المبلغ الذي دفعته، فأنت دفعت عشرين مليوناً، وأنا دفعت مائة مليون، فتعجب من أين هذا، وكيف يحصل، فأراه حكم المحكمة، والبيع الذي تم بينه، وبين محكمة الشغل، فتعطل المشروع نهائياً بسبب هذا، فهذا المرابي لم يكن لينفق هذه المائة مليون في سبيل الله، ولا في بناء مسجد، ولا في مدرسة، ولا في أي مشروع نافع للناس؛ لأنه قد جبل على سوء الخلق بسبب رباه؛ لكنه يدفعها ليضر بها الآخرين، وليعطل هذا المشروع، وليمنع إقامته.
كذلك فإن انحصار المال في أيدي ثلة قليلة محصورة من الناس، يقتضي حصول الشقاء والفقر في الطبقات الأخرى من الناس؛ فالمجتمعات التي ينتشر فيها الربا لا تجد فيها من المسلمين المتوسطي الحال إلا من هو مدين يشكو من الديون، والتكاليف الباهظة لحياته كلها؛ فلا تجد موظفاً يرضى براتبه، ولا تجد تاجراً يرضى بربحه، ولا تجد منتجاً في أي مجال من المجالات يرضى بما لديه؛ والسبب أن التضخم الحاصل، ونمط الحياة الذي أصبح سائداً في بلدهم إنما يشارك في تشكيله أولئك القلة المرابون الذين أمسكوا بزمام الأموال، وأخذوا بمصابها على الناس، ومنعوهم من الوصول إلى حقوقهم، وبهذا يقع التشرد، وتعطيل الوظائف، ومن ليس صاحب دين يحجزه عن السرقة فإنه سيبادر للسرقة؛ لأنه محتاج إلى ما يصل به المعاش الوسط الذي أصبح الناس ينظرون إليه أنه الحد الأدنى من المعاش.
كذلك من آثار هذا الربا في المجتمعات: محقه للاقتصاد بالكلية، فإن الربا ينفق، ثم ينفق، ثم يحرق، فما من أمة من الأمم إلا ولها من وسائل العيش، ومما جعل الله لها في الأرض ما يكفيها لقضاء حاجياتها الأساسية؛ لكنها إذا استعجلت فعدلت عن التنمية التي شرع الله لها، وبحثت عن الأوجه المحرمة، فستغرق وستمتلئ أيديها في البداية بالمال، لكن هذا المال مفسد لأخلاقياتها، ولعقولها، ولتفكيرها، فستتعود عليه، ولا تستطيع بعد ذلك أن ترجع إلى المستوى الذي كانت تعيش عليه.
ولاحظوا هذا في أنفسكم، ألا إن كثيراً منكم اليوم لو قارن بين صرفه وإنتاجه لوجد صرفه أكثر بكثير من إنتاجه، وسيرى أن الذي يصرفه أكثر مما ينتجه لشهر؟ أنا أتحقق أن نسبة (20%) أو أكثر من سكان البلد هنا صرفهم أكثر من إنتاجهم، وعلى هذا فكل إنسان منا لديه عجز في ميزانيته الشهرية، هذا العجز من أين يسدده؟ فهو لا يمكن أن يرجع إلى حياة البساطة؛ لأنه قد تعود بسبب هؤلاء الذين عملوا في الربا، فنقلوا المجتمع نقلة يعتبرونها نوعية إلى مستوى معاشي معين؛ ولأنهم قد وصلوا إلى هذا المستوى يصعب على الناس أن يرجعوا إلى مستوى دونه، يصعب على أي أحد منكم اليوم أن يستطيع أن يرجع إلى أن يعيش على مستوى إنتاجه وما لديه؛ لأنه يرى هذا المجتمع قد أبعد النزعة وسار أشواطاً طويلة في نمط العيش الذي اختارته الثلة المرابية في المجتمع، وتظن أنها نقلت المجتمع نقلة نوعية، فجاءت بالوسائل- وسائل الترفيه - والمكملات التي كثير من الناس ليس بحاجة إليها أصلاً.
لاحظوا انتشار أنواع من السيارات الفارهة في البلاد الآن، انتشار الهواتف المتحركة، هواتف البيوت، التلفزيونات الملونة التي لم يعد أحد اليوم يشتري تلفزيوناً غير ملون؛ بسبب كثرة الانتشار، مع أنها من الوسائل الكمالية، ومع ذلك فإن كثيراً من أفراد الناس لا يجدون ما يتعشون به أو يتغدون، أو يحققون حاجياتهم الأساسية، ومن كان رشيداً في نفسه لم يطاوعه مجتمعه للرجوع إلى مستواه المناسب الذي ينبغي أن يعيش عليه، وما هذا إلا بسبب فساد هؤلاء المفسدين المرابين الذين أتوا بالمال من غير حله، ووضعوه في غير محله، ونقلوا المجتمع إلى هذا المستوى من مستويات المعاش، فأفسدوا على الناس حياتهم في الواقع.
كذلك فإن من أضرار هذا الربا: المحقية، أنه يمحق الخيرات في الواقع، فما جعله الله في الخيرات من البركات يزول بمخالفة حكم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يبارك فيما شاء من خلقه، وينزع البركة مما شاء من خلقه، فإذا خولف شرعه في أمر من الأمور؛ فلا تتوقع أنه سيجعل البركة في ذلك الأمر الذي خولف فيه شرعه وحكمه.
إن أي عقد خالف فيه صاحبه شريعة الله، لا يمكن أن تترتب عليه بركة أبداً؛ لأن البركة بيد الله، ولا يمكن أن يطلب ما عند الله بمخالفته، فإن ما عند الله لا يطلب بمخالفة شرعه؛ ولهذا فإن ظهور الفساد في الأرض، وانتشار الجرائم فيها سببه عدم التقيد بحكم الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41]، وظهور الفساد في البر من أمثلته: نقص المياه، وأنتم تعلمون أن الناس اليوم الذين يفكرون تفكيراً استراتيجياً في العالم يذكرون أن الحرب القادمة هي حرب مياه، وفي البحر كذلك، فنقص الثروات السمكية، والتضخم الاقتصادي فيها، بارز جداً في زماننا هذا واضح، فهذا البلد- مثلاً - من البلدان الغنية في المجال السمكي، وثروته السمكية لا تقارن بحاجياته؛ فالشعب لا يصل إلى ثلاثة ملايين، والثروات السمكية هي أحسن ثروة سمكية معروضة في سوق السمك العالمية في ألمانيا، وأسعارها خيالية في العالم، وبالإمكان أن تغطي كل احتياجيات المواطنين في البلد، لكن نظراً لحصول الربا نزع الله البركة منها؛ فأصبحت أثمان السمك كل يوم تتردى، وأصبح الذين يسوقونه في الأسواق العالمية يشترطون فيه الشروط المجحفة التي لا بد أن تنصاع الدول وأن تنقاد لها، وأصبحت الحكومات عاجزة أمام الضغوط القوية، فعندما تريد حكومة من الحكومات رفع سعر الأسماك مثلاً، يكون الضغط الأول الذي يوجه إليها أن هذه الأسماك ليست على المقاييس الصحية العالمية، وحينئذٍ ستقاطع الأسماك الفلانية بالكلية، فتبادر الدولة حينئذٍ لاسترضائهم وإقناعهم بأن الوسائل والمقاييس هي المعتبرة، وتتراجع عن ما كانت تطلبه من رفع السعر، وهكذا فينتزع الله البركة من الخيرات بسبب الربا، ولو أننا اقتصرنا على ما لدينا من الأرزاق على الوجه الحلال لكانت البركة فيه بادية.
إن كثيراً من أسلافنا وآبائنا الذين لم يكونوا يعرفون الربا، وكانوا يعيشون في هذه الأرض القاحلة؛ كانوا يجدون من البركات الشيء الكثير في بلادهم، فيعيشون على ما يزرعونه بأيديهم، وما يحتلبونه من ضروع بهائمهم التي تعيش في المراعي التي أنبتها الله لها، ويستنبطون المياه من الآبار التي يحفرونها، وبذلك يحققون كل احتياجاتهم، ويعيشون حياة الكرامة، دون أن تضرب عليهم الذلة والمسكنة، وأما اليوم فديوننا الخارجية التي نسبة (70%) منها رباً، أضعافاً مضاعفة، لا يمكن أن تقضيها مواردنا إلا بعد مائة وخمسين سنة، فهذا أثر من آثار محق الربا.
والمشكلة الأكبر من المحق هي مشكلة الإحراق، فإن الربا محرق لأهله يوم القيامة، فأهل الربا يأتون يوم القيامة يقومون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، إذا أراد أحد منهم أن يقوم فإنه يصرع فيسقط، ولا يستطيع أحد منهم المشي يوم القيامة، ومن المعلوم أن المشي على الصراط أمر شاق، إذ هو مدحضة مزلة، فالمستقيم في سيره والمعتدل في استقامته يفكر جداً كيف يمر على الصراط؛ فكيف بالذي كلما قام صرع، كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وهذا مصير آكل الربا، قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، فهم يحشرون يوم القيامة كالمجانين الذين كلما قاموا صرعوا، نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك فإن إحراق هذا الربا لأصحابه قد بين النبي صلى الله عليه وسلم وجهاً من أوجهه؛ فذكر أنه يؤتى بالمال الذي أخذ من رباً، فيحمى عليه في نار جهنم، فتبسط أشداق أصحابه بمجاديف النار، فلا يوضع الدرهم فوق الدرهم، ولا الدينار فوق الدينار، و يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35].
كذلك من آثار هذا الربا وأضراره: أنه يقتضي سداً لكثير من المنافذ النافعة، ( إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم مغاليق للخير مفاتيح للشر )، فإذا فكر رجل عاقل تفكيراً نافعاً للناس فعمل مشروعاً منتجاً مثمراً أفاد كثيراً من الناس؛ لأنه سيوظف موظفين، ويوسع السوق كذلك للإنتاج، وحتى السوق الاستهلاكية؛ فإنه سيشتري من السوق ما يحتاج إليه مما يكمل مشروعه؛ فإذا جاء مراب فرأى هذا الباب الذي فتح وحاول الدخول منه، فإنه سيكون وبالاً على ذلك الباب، وإغلاقاً له بالكلية، ألا ترون أن الذين سبقوا في بعض المشاريع النافعة في هذا البلد -ولنضرب أمثلة من المشاريع السهلة- مثلاً: أفران الخبز، أول ما نشأت ربح منها أصحابها أرباحاً طائلة، لكنه عندما قامت مشاريع ربوية، فأقامت أفراناً ممولة عن طريق الربا، حصلت مشكلة الخبز، وتراجعت الاستثمارات في هذا المجال، ودخله أقوام أفسدوا، وهذا الإفساد لا يقتصر فقط على ما يتعلق بالجانب الاقتصادي منه؛ بل ما يتعلق أيضاً بالجانب الاجتماعي، وما يتعلق بالغش ونقص كثير من المواد، ونقص كثير من التحصيلات، يظهر فيه حتى بنقص الوزن، وبزيادة السعر، وبغير ذلك.
ومثل هذا كثير من المشاريع الأخرى التي تقام، كمشاريع البقالات التي تعرض فيها المواد الغذائية بطريقة عرض جديدة على المجتمع، أول ما نشأت كانت نافعة مفيدة، وكانت له ثمار اقتصادية لا بأس بها، ثم لما جاء المرابون ودخلوا من هذا الجانب حصل الضيق والفساد، وغيرت تواريخ المواد، وأصبحت هذه البقالات لا يوثق بالتعامل مع كثير منها، كما تشاهدونه في حياتكم.
إن كثيراً من الناس يتعاطون الربا عن جهالة وهم لا يدرون ما يأخذون ولا ما يعطون، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى، ولا يحل للإنسان أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه؛ فالله تعالى يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].
وإن كثيراً من الذين يتجرؤون على الإفتاء في مجالات المال والاقتصاد ليسوا أهلاً للإفتاء في هذا الجانب، وإن كانوا فقهاء، أو درسوا بعض النصوص في جوانب شرعية أخرى؛ لأنهم لم يستوعبوا العملية الاقتصادية المعقدة في زماننا هذا، ومن لم يستوعبوا باباً من الأبواب لا يحل له الإفتاء فيه؛ لقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود أنه قال: ( من أفتي على غير ثَبَت فإثمه على مفتيه )؛ ولذلك فلا يحل للناس أن يتجاسروا على الإفتاء في هذه القضايا المعقدة، والتي هي لأهل الاختصاص فقط وللذين يستوعبونها ويستنبطونها، ولا يمكن أن يتكلم فيها من سواهم؛ لأنهم لا يستوعبونها، ولا يعرفون ملابساتها وخفاياها؛ ولهذا فكثيراً ما ترون في زماننا هذا فوضى بارزة في الإفتاء في مجالات الربا والعقود، ترون كثيراً من الناس يفتون بإباحة ما حرم الله من العقود، وليس ذلك عن جراءة على الله، ولا عن جهل بالحكم، ولكن عن جهل بالواقع، وجهل بتصور المسائل، وهؤلاء قد أثموا من حيث لا يشعرون لإفتائهم بأمر لا يستوعبونه، ولا يدركون خفاياه، ولا ملابساته المترتبة عليه.
إن كثيراً من الناس كذلك إذا أفتاه مفت أياً كان، ولو كان لا يثق بدينه، ولو كان لا يثق بعلمه، أو إذا مات لا يرضى أن يصلي عليه، أو أن يغسله، إذا أفتاه بما يوافق هواه من إباحة أية صفة بادر إليها، واعتمد على فتوى هذا المفتي الذي يعرف في قرارة نفسه أنه لا يثق به، وهذا لا ينجي بين يدي الله؛ بل إن كثيراً من الناس اليوم يذهب إلى بعض طلاب العلم، أو الذين اشتهروا بدراسة بعض المسائل الفقهية؛ فيستغفلهم فيستفتيهم في قضايا لا يستوعبونها؛ فيأخذ منهم فتوى بأن هذا الأمر لا بأس به، وهو يعلم أنه قد استغفلهم وخدعهم، وأتاهم من باب لا يحسنونه، ومع ذلك يعتمد على هذا، وإذا سئل يقول: أفتاني مفت بكذا.
بل مع الأسف قد شاهدنا بعض الذين يمتهنون الربا يعلنون للناس كذباً أنهم يعتمدون على فتاوي من كبار العلماء الذين لا يمكن أن يفتوا بمثل هذا، وهم ينفون ذلك فعلاً، وبهذا لا يحل للمسلم أن يغتر بمثل ادعاء فتوى من عالم من العلماء؛ بل إذا قال لك أحدهم: أفتاني فلان، فقل له: هات فتواه، ولا تصدقه؛ بل قد جربنا الكذب الصريح من كثير منهم.
كذلك فإن كثيراً من المسائل المتفشية بين الناس في العقود هي داخلة إلى القواعد الربوية السابقة.
فمثلاً -مما يرجع إلى قاعدة كل قرض جر نفعاً فهو محرم- ما يفعله كثير من الناس من إسلاف الآخرين إلى أجل مسمى، ويأخذ على ذلك فائدة ربوية، وهذا هو ربا البنوك والمؤسسات الربوية، وهو الربا الصريح الواضح، أن يأخذ زيادة على القرض، فهذا النوع الذي يسمى اليوم بالفوائد هو الربا الصريح.
ومثله: ما يتعاطاه بعض الناس من الحيل التي يحتال بها على الربا؛ فإن بعض الناس إذا أتيته تستقرضه مالاً وهو لا يثق بذمتك؛ فإنه يقول لك: أنا لا أستطيع أن أقرضك هذا المال؛ لأني لا آخذ الربا، ولا أثق، ولا أريد أن يبقى مالي معلقاً بذمتك؛ ولكن سأشتري لك مقابله سلعاً معينة، وأحسبها عليك بالمبلغ الفلاني، وهو مبلغ فيه رباً زائد، وهذا من الحيلة على الربا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله اليهود حين حرم الله عليهم الشحوم جملوها فباعوها، فأكلوا ثمنها )؛ فهذا احتيال صريح على الربا؛ فأنت ما جئت تريد تلك المادة التي سيبيعها لك، وليست من حاجتك، وإنما تشتريها لقصد السيولة المترتبة عليها، وهو يعلم أنه قد خرج من يده مبلغ مالي سيعود إليه عند الأجل بزيادة؛ فقد رابى وهو يظن أنه غير مراب.
كذلك فمن الصور المنتشرة في زماننا هذا: ما يسميه بعض الناس بالمثنية، وهي: أن تأتي إنساناً يشتهر بهذا النوع من الصفقات، فتأخذ منه- مثلاً - مبلغاً من المال، هو في الواقع قرض، ولكنك تقضيه فيه بسلع معينة، ثمنها أضعاف ما أخذته منه في الأجل، فمثلاً تأخذ منه مائة ألف، وتتحمل له بأطنان- مثلاً - من السكر، أو نحو ذلك؛ فإذا جاء الأجل ستقضيه بأطنان السكر التي ثمنها أضعاف ما أخذت منه، أو ضعفه، أو فيه زيادة على الأقل؛ بل إن كثيراً من الناس يحسب ذلك بالحساب الدقيق، ويعد النسبة؛ فيقول: على الألف مائة- مثلاً - أو على كل مائة ألف عشرة آلاف، أو نحو هذا؛ فيكون هذا من الربا الصريح، وهذا النوع من العقود منتشر كثيراً، ومع الأسف وجدناه في أريافنا البعيدة من المدينة، وهذا مما يؤسف له، أن ينتشر الربا في الأماكن النائية التي أهلها أهل فطرة وسلامة، ولكن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخبر أنه في آخر الزمان سينتشر الربا، ( فمن لم يأكله ناله من غباره )، فهذا غباره البين.
كذلك من هذه الصفقات: صفقات الشركات، كـ(سوني ماكس)، وغيرها، التي تبيع بضائع لا يحل استبدالها، ولا إرجاعها، ولا يمكن أن تفتشها أنت، والسلعة المخرجة من المحل لا تستبدل، ولا تسترجع، ويكون هذا مكتوباً في الوثيقة التي توقع عليها، وهذا شرط ليس في كتاب الله، وهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أصدق، وشرط الله أوثق، وهو رباً صريح.
كذلك من أنواع الربا في هذا المجال: ربا الشروط، هناك كثير من الناس يعقد عقوداً هي في ذاتها صحيحة، ولكنه يبطلها وينجسها بشروط ربوية؛ كأن يشترط على الإنسان أنه إن تأخر في السداد فسيلزمه كذا، وقد لا يتأخر هو في السداد أصلاً، لكنه إذا تأخر في تسديد المبلغ، فسيضاف إليه نسبة خمسة في المائة، أو عشرة في المائة، أو عشرة آلاف- مثلاً - على كل مبلغ محدد، فهذا الشرط شرط ربوي، وإضافته مفسدة للعقد إلا إذا تراضى الطرفان على إسقاطه؛ لأنه شرط باطل شرعاً.
ومثل ذلك ضمان بجعل، وهذا قد انتشر في زماننا هذا؛ فمنه: الضمانات البنكية، فإن كثيراً من الناس يريدون استيراد بعض البضائع المصنعة في الخارج، والأسواق أو المحلات المنتجة لا تقتنع بذممهم، ولا يمكن أن تسلم إليهم أموالها دون ثمن، فيأتون إلى بنك ربوي؛ فيأخذون منه ضمانة بنكية، وهذه الضمانة يتحمل فيها البنك بالسداد إلى مبلغ كذا، ويأخذ عليها مقابلاً، وكل دفعة تتأخر أنت عن أدائها للبنك؛ فسيأخذ عليك مقابلاً أيضاً، فهذه العملية تجمع أنواعاً من أنواع الربا المحرم، منها: أولاً: ضمان بجعل، فالضمان لا يحل إلا لوجه الله.
ومنها كذلك: الشرط الباطل الذي أضيف إليها بأن من تأخر عن سداد دفعة تلزمه الزيادة الفلانية، وبعض الناس يتذرع لمثل هذا العقد بالضرورة، أنه مضطر لاستيراد هذه المادة، أو أنه سيبني باخرة في اليابان، ولن تبنى له هذه الباخرة إلا بالضمانة البنكية، لكن يقال له: ما ضرورتك إلى الباخرة أصلاً، وما ضرورتك إلى المواد المصنعة التي تستوردها.
إن هذا نظير ما حصل لأحد القضاة حين أتاه شاهد وقد كان يعلم الصبيان، ويأخذ أجراً على تعليمهم، فرد شهادته؛ فقال: علام ما ترد شهادتي أيها القاضي؟ قال: لأنك تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: وأنت أيها القاضي! تأخذ أجراً على القضاء، فقال: أنا مكره، فقال: أكرهوك على القضاء؛ فهل أكرهوك على أخذ الدراهم؟
إن الإنسان الذي يتذرع في مثل هذا بالإكراه إنما يغره الشيطان، والإنسان الذي يتذرع كذلك بالضرورة يغره الشيطان؛ فليس المحل محلاً للضرورة، أنت إنما تريد أرباحاً مضاعفة، وربحاً زائداً، وبالإمكان أن تربح ربحاً على قدر الإمكان؛ فأنت لا يجب عليك أن تبحث عن أعلى الأرباح وأكبرها، ما أوجب الشارع عليك ذلك؛ فلماذا تضطر نفسك إلى الحرام من أجل أن تربح الربح الفلاني؟ بنسبة (70%) أو (60%)؟ ما الذي حملك على هذا؟ ألا يكفيك ربح (10%) أو (5%) وأنت في مكانك لم تقع في محرم؟!
كذلك من هذه الأوجه المحرمة المنتشرة: قضية صناديق الادخار، التي يقصد بها في أصل فكرتها الاقتصادية أن كثيراً من ذوي الدخل المحدود لا تدخل دخولهم في الناتج القومي للبلد، ولا تدخل في الدائرة المالية، فمثلاً: الذين يبيعون الماء على الحمر الأهلية، هؤلاء من المنتجين في هذا الشعب، كل يوم يحصل لهم مبلغ قليل، هذا المبلغ لا يعد داخلاً في دائرة الاقتصاد لهذه الدولة، ولا يدخل في الناتج القومي، ومع ذلك هو إنتاج لا بأس به لكثرة أعدادهم، وكثرة ما ينتجون، فجاء التفكير الاقتصادي بإدخال هذه المبالغ داخل إطار الدخل القومي للبلد، وإدخالها لدائرة المال، ودائرة المال هي: أن صاحب الحانوت يبيع فيأخذ المال من المستهلك ويسلمه للبنك، والبنك يسلمه للبنك المركزي، ويدور، ثم بعد ذلك يقوم البنك المركزي ويضمن به البضائع للتاجر، ويستوردها لتعود العملية كما نشأت؛ ففكر هؤلاء المفكرون الذين لو صرفوا تفكيرهم فيما يرضي الله تعالى لأبدعوا، وأجادوا وأفادوا، فكروا في أن يعمم الربا على كل أفراد المجتمع المنتجين، حتى لا ينجو منه صاحب حمار يبيع الماء؛ فأقاموا صناديق الادخار، وطريقتها بسيطة جداً، تصورها هو كالتالي:
إذا كنت تنتج يومياً ألف أوقية، تدخر يومياً ألف أوقية، وأنت محتاج إلى نفقة حمارك وهي مائة أوقية، وإلى نفقتك الشخصية وهي مائة أوقية، وإلى ثمن تذكرة الباص- مثلاً - وهي ثلاثون أوقية بالذهاب فقط؛ لكن بالذهاب والإياب ستون أوقية، فلتضع هذه الألف التي توفرها يومياً في الصندوق، ونحن نقرضك كل يوم ما تحتاج إليه، سواء لم تنتج هذا اليوم أو أنتجت، ولكن كل ما أنتجته لا بد أن تدخله في الصندوق؛ فستكون مشاركاً في العملية الربوية من أصلها؛ لأن هذا المال الذي تدفعه هو الذي يقرضه أصحاب البنوك لزبائنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم ( لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء )، فستكون مشاركاً من حيث لا تشعر.
ومثل ذلك: صناديق الواحات، التي قد انتشرت في كثير من الولايات الداخلية، وهي في الأصل تفكير غربي؛ لأن كثيراً من الممولين الغربيين الذين يزعمون أنهم يريدون تشجيع الإنتاج والزراعة في هذا البلد، قالوا: إن مجرد إقراض وزارة التنمية الريفية لا يمكن أن يستفيد منه المزارع العادي؛ لأن التنمية الريفية يمكن أن تقيم شركة، مثلاً سونادير فتقيم بعض السدود، وتقدم بعض المساعدات القليلة لبعض المزارعين، لكن هذا لا ينتفع منه إلا نسبة ضئيلة من المزارعين، فسنحاول الاتصال المباشر بالمزارعين عن طريق إقامة شركات خاصة، وهذه الشركات لها أهداف شتى، في كثير من الأحيان تكون لها أهداف دينية تنصيرية، أو تهويدية، وأهداف أخرى لنشر بعض القيم، أو لإزالة بغض الغربيين من النفوس المسلمة، وتحبيبهم إلى الناس؛ فأتوا بهذه المشاريع.
وصورتها: أن كل أصحاب قرية من القرى الريفية لديهم مكان للزراعة، وسد يزرعون منه، يؤمرون بإقامة تعاونية مشتركة، وتوضع لها ميزانية، هي ميزانية المشروع بكامله، أو هذا المشروع يكلف اثني عشر مليوناً، فلا بد أن يوفر أصحاب القرية منه الثلث وهي أربعة ملايين، والبقية يدفعها صندوق الواحات، وتسدد له أقساطاً دون زيادة، لكن لا بد أن يفتح الحساب في بنك ربوي من البنوك المعتمدة لدى مؤسسة الواحات؛ لأن هذه البنوك الربوية هي التي تتعامل مع البنوك الربوية في الخارج، والبنوك الربوية دائرة واحدة؛ فالواقع أن المال كله لا بد أن يمر بالحلقة المتنجسة من حلقات الربا، لا بد أن يمر بمكان النجاسة وهي البنوك الربوية في الخارج؛ فلذلك إذا جاء أصحاب القرية فدرسوا هذا المشروع دراسة ظاهرية؛ قالوا: هذا عقد صحيح لا إشكال فيه؛ فنحن دفعنا هذا المال في البنك، وهم أقرضونا ثمانية ملايين، ونحن دفعنا أربعة ملايين، وسنسدد لهم ثمانية ملايين أقساطاً خلال أربع سنوات، أو خلال عشر سنوات -مثلاً- ولن يأخذوا منا إلا ما أعطونا، هذا هو تفكير السطح الذي لا يدرك صاحبه جلية الأمر، ولا حقيقته.
لكن الواقع أنهم أخذوا تلك السيولة -وهي: أربعة ملايين- التي قدمتموها؛ فوضعت في البنك، وفتح لها الحساب، والمبلغ المدفوع لكم ليس مبلغاً واقعياً؛ لأنه مثل مبالغ البنوك كلها، أصلها مجرد أرقام، فالبنوك إنما تتعامل بالأرقام، ورءوس أموالها المسجلة لا تمثل شيئاً من واقع الأمر؛ ولهذا فإن المال الذي تقرضه، هو المال الذي تدفعه أنت؛ فأنت في حسابك كمودع، وأخوك يأخذ من حسابه كمقترض، وهم إنما يقرضونهم من حسابك أنت؛ لأنهم ليس لديهم سيولة ولا رصيد قار أبداً، ولا يمكن أن يقع هذا.
فإذاً كثير من الناس يستغفلون فيقعون في مثل هذه العقود من غير قصد، وهم ينظرون إلى ظاهر الأمر، ويتجاهلون أو يجهلون باطنه؛ فيقعون في الربا من حيث لا يشعرون.
إن هذا الربا قد أثر في العالم كله، في مختلف مجالات حياة الناس، ففي المجال العلمي الثقافي: أقيمت الدراسات، وأنشئت المدارس الكبرى والجامعات لتدريس هذا الربا وترسيخه في النفوس. وفي المجال الإعلامي أصبح الترويج للمؤسسات الربوية أساس ومحور المؤسسات الإعلامية كلها، وفي مجال العمران والحضارة أصبحت المؤسسات الربوية في كل مدينة من مدن العالم هي التي تملك أطول المباني في كل بلد، وأنا ما زرت بلداً قط فرأيت عمارة شاهقة تطول البلد كله إلا عرفت أنها مؤسسة ربوية، وسبب هذا التطاول في الربا هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة: ( وترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )؛ فهؤلاء هم الذين يقدمون على مثل هذا الربا، فيفسدون به، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويأكلون الربا أضعافاً مضاعفة.
وكذلك في مجالات السياسة، والاجتماع، أثر هذا الربا بارز جداً وواضح، وإنه لمن مشكلات العالم التي تحتاج إلى حل، ولا يكفي لحلها أن نذكر أن الله حرم الربا، وأن نحدث الوعي لدى الناس بتحريم الربا فقط؛ بل لا بد أن نبين الحل الشرعي الصحيح؛ فالإسلام دين كامل لا يقبل التجزئة، والله تعالى لا يقبل أن يرد عليه عباده بعض ما شرع لهم ويقبلوا بعضه، والذي حرم الربا هو الذي أوجب الأمانة، وأوجب الصدق في التعامل، وحرم الغش، وحرم الخداع والمزابنة، وأوجب الوفاء بالعقود وحرم الإخلاف؛ فإذا لم ترسخ هذه القيم في نفوس الناس فلا فائدة من توعيتهم بتحريم الربا؛ لأن الذي سيأمر أصحاب الأسواق والمتاجر بالكف عن الصفقات المحرمة الربوية، دون أن يرسخ في أذهانهم وعقلياتهم القيم الإسلامية الرفيعة، والتي تقتضي منهم إيثار الآخرة على الأولى، وتقتضي منهم كذلك الأمانة والنزاهة، وتقتضي منهم عدم الغش، وتقتضي منهم إصلاح أحوالهم وأحوال الناس، لا يمكن إلا أن يصادم كبكباً، وأن يضرب بقوله عرض حائط، وبسبب ذلك يرد عليه قوله؛ لأن الناس ينظرون إلى قوله على أنه أمر لا يمكن تحقيقه في الواقع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع عنا الوباء، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة، وأن يجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً تجبى إليه الثمرات، ويأمن أهله من كل ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى، وأن يحقق آمالنا، وأن يجعلنا من الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، وأن يصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر