إسلام ويب

العولمة - الوسائل والأهدافللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • طرأ في هذا العصر أخيراً ما يسمى بالعولمة، ومعناها: الدعوة إلى قيم وأخلاق ومبادئ تناكف وتناقض الإسلام، واستخدم أربابها لنشر هذه القيم، وسائل وسبلاً وطرقاً كثيرة، وخطر هذه القيم يكمن وراء شعاراتها البراقة، وهناك وسائل للصمود أمام هذه القيم الكفرية، منها: الالتزام بالإسلام منهجاً وسلوكاً، وإحياء عقيدة الولاء والبراء، والحفاظ على تعاليم الإسلام وغيرها من الوسائل الكفيلة لرد هذه القيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن كل ملة ونحلة لا بد أن يكون لها من القيم والأخلاق ما يميزها، وكل ثورة نجحت لا بد أن تسعى لإشاعة ما نجحت به وإعلانه للناس.

    ومن هنا فحين نجحت الثورة الفرنسية في القضاء على الطبقية والإقطاعية أرادت أن تشيع الجانب الذي نجحت فيه، وأن تشيع قيم الديمقراطية، فدعت إلى ذلك وأشاعته في العالم.

    وعندما نجحت الثورة الإيرانية أرادت كذلك تصدير الثورة وإخراجها إلى البلدان الأخرى.

    وهكذا فكل صاحب نحلة نجح في عمله فإنه ستأخذه نشوة النجاح، ويريد إشاعة ما نجح فيه، وإظهاره بين الناس لقناعته بصلاحيته وصدقه.

    ومن هذا المنطلق فإن المسلمين الذين اقتنعوا بصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبصحة القيم التي جاء بها الإسلام، وبصلاحيتها للتطبيق المستمر في كل زمان ومكان، وبأنها الحل الوحيد المرضي عند الله سبحانه وتعالى، فيجب عليهم السعي لإشاعتها وإعلانها بين الناس، وليدخل الناس في دين الله أفواجاً، وليلتزموا بقيم الإسلام.

    وكذلك فإن النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن انهزم المعسكر الشرقي، واخترقت أكبر دولة فيه وهي اتحاد الجمهورية السوفيتية على مستوى القمة، حيث اخترقها الحلف الآخر حلف الأطلسي بـ غورباتشوف حتى وصل إلى اتخاذ القرار ففكك الجمهوريات، وتلاقى ذلك مع أسباب أخرى من الجهاد الأفغاني، ومثل تراجع المد الشيوعي، ومنها إرادة الشعوب المسلمة التي ظلت مظلومة في حكم الشيوعية فترة سبعين سنة، تلاحقت هذه الوسائل كلها فأسقطت المعسكر الشرقي، فأخذ المعسكر الغربي بحظه أيضاً من نشوة الانتصار، وأحس بأنه انتصر وأصبح الخطبة الوحيدة في العالم، فأراد أن يفرض قيمه، وهذا الفرض هو الذي سماه زوراً وبهتاناً باسم "العولمة".

    المعنى الصحيح للعولمة

    فالواقع أن الاسم الصحيح هو الأمركة، والأمركة معناها أن يكون العالم كله أمريكياً، على قيم أمريكا وقلوب أمريكا، ودين أمريكا، وحضارتها وثقافتها، وأن يأخذ القيم من هذا الشعب المنتصر؛ لأن الشعوب الأخرى أصبحت تنظر إلى أمريكا بإكبار، بل وتأليهه في بعض الأحيان، فكثير من الشعوب المسلمة مع الأسف تظن أن أمريكا تعلم الغيب، وأنها لا يمكن أن تتضعضع ولا أن تذل لأي شيء، والله سبحانه وتعالى علم أن هذا النوع من التصور سيقع لدى ضعاف العقول.

    فلذلك حين ذكر مصارع الأمم السابقة في سورة القمر، فذكر إهلاكه لقوم نوح ، وإهلاكه لعاد، وإهلاكه لثمود، وإهلاكه لقوم لوط ، وإهلاكه لـفرعون وأصحابه، قال بعد هذه القصص: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:43-46]، فليس هؤلاء أعظم من قوم نوح الذين ملأوا الأرض كلها، لكن حين أراد الله هلاكهم فتح أبواب السماء بماء منهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر.

    وليسوا أعظم من عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]، وقد سلط الله عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً فأهلكتهم.

    وليسوا أعظم كذلك من ثمود الذين زادهم الله بسطة وقوة، فعندما طغوا سلط الله عليهم الصيحة التي شقت شغاف قلوبهم فهلكوا في لحظة واحدة.

    وليسوا أعظم من قوم لوط، الذين سلط الله عليهم الحاصب فقلب بهم مدينتهم، رفعها حتى سمع أهل السماء نبيح كلابهم ثم ردها فقلبها بهم.

    وليسوا كذلك أعظم من فرعون وأصحابه، الذين أجروا الأنهار وفجروها، وهم أول من أقاموا الأنهار الصناعية، ووصلوا القمة في السحر والتطور العلمي والتكنلوجي، فأمر الله سبحانه وتعالى البحر فالتطم عليهم، فأهلكهم في لحظة واحدة.

    فكذلك هو قادر على أن يأمر البر بأن يبتلع ما فيه، ويأمر البحر بأن يبتلع ما فيه، ويأمر الفضاء بأن يبتلع ما فيه، لا يُعجزه شيء من ذلك، وأخذه الأخذ الوبيل، الذي يمكن أن يأتي في طرفة عين، ولا يُبقي أثراً بعد عين.

    لذلك فإن الذين ينبهرون بهذه الحضارة الغربية، وبالتطور والتقدم التكنلوجي الذي وصلت إليه أمريكا، هم في الحقيقة مغرورون جاهلون بمصارع الأمم السابقة، وجاهلون بقدرة الله سبحانه وتعالى وما لديه من قوة لا نهاية لها ولا حصر، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31].

    فأضعف الأشياء الذباب لو سلطه الله عليهم لأهلكهم، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73] مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:74].

    صور من الانهيار الأخلاقي للدولة التي تدعو إلى قيم العولمة الجديدة

    وهذه القيم التي يريد الأمريكان إظهارها وإشهارها في المجتمعات كلها، هي القيم الغربية، التي أساسها الانحلال من الفضيلة ومن الدين ومن الخلق، ولذلك فالشعب الأمريكي من أشد الشعوب تخلفاً ومن أضعفه في مجال الأخلاق، والقصص الواقعية التي ليست من نسج الخيال، ولا هي من كلام وسائل الإعلام تدل على هذا، فقد شاهدتُ بعيني محاكمةً حصلت في ولاية متشقن حضرتها كانت عجيبة جداً في تردي الأخلاق والانحلال، فتاة صغيرة تشكو من أبيها وترفع عليه قضية في المحكمة، فيأتي الوالد وابنته والمحامي الذي يحامي على الوالد، والمحامي الذي يحامي على البنت، فترفع الشكوى بأن والدها وجدها مع عشيقها فنغص عليهما وضربها أو آذاهما، فترفع عليها قضية وتريد تعويضاً كبيراً هي والشاب الذي كان معها، فتكلم الرجل ليدافع عن نفسه، فقال: أنا ما أردت التنغيص عليهما، ولكن وجدتهما على فراشي، وأنا عسكري وأحترم فراشي وملابسي، فلو استعملا أي مكان آخر من البيت ما كان لدي أي استنكار. فتحكم المحكمة بمعاقبة شديدة للوالد وبتعويض مالي كبير لابنته ولعشيقها، وهذا غاية في الانحلال والانحراف والتردي بكل المفاهيم.

    ومثل هذا تفشي الرذيلة في هذا الشعب، ففي ثلاث ولايات من الولايات المتحدة الأمريكية إباحة مطلقة للشذوذ الجنسي، لأن تقوم الأسر بين امرأتين فقط، أو بين رجلين فقط. وعاصمة العالم في الشذوذ هي مدينة سان فرانسسيكو، وهي من كبريات المدن الأمريكية.

    كذلك فإن رئيس هذا الشعب الذي يحكمه الآن، كما تعلمون منذ تولى الرئاسة وفضائحه تظهر في كل شهرٍ فضيحة، وهو يتبجح بذلك ويقر به أمام الناس وتنقله وسائل الإعلام، وقبله جون كينيدي وهو من أشهر الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة الأمريكية يُقر أمام الكونجرس الأمريكي، ويظهر بالتلفزيون يتبجح بأن له أكثر من خمسمائة عشيقة، فهؤلاء على دين ملوكهم، والناس على دين ملوكهم، وكيفما تكونوا يول عليكم، وإذا كان قادة المجتمع هم بهذا النوع من السخافة والتردي الأخلاقي والانحطاط، فكيف بالمزارعين، وكيف بالطبقات المسحوقة من المجتمع؟!

    إن الحالة التي يعيشونها من الانفصام الكامل، وقطيعة الأرحام وعدم الأدب بمختلف أنواعه، وانعدام الأخلاق بالكلية تجعلهم بمثابة الحمر الأهلية التي تتهارج في الشوارع، ولذلك انعدم الأمن انعداماً مطلقاً، فلا يستطيع الإنسان أن يخرج ومعه حمولة دولاراً في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا أي شيء ثمين لانعدام الأمن مطلقاً، بل قد حصل في هذه السنة أن طلاب الإعدادية فجروا مدرستهم وقتلوا عدداً كبيراً بمن فيها، فالأسلحة منتشرة، وكل أفراد الشعب وبالأخص بين الشباب من التائهين الضائعين الذين هم أصحاب سكرٍ ومخدرات، ومع هذا يظنون أنهم أرقى الأمم، وينظر الناس إليهم بهذه النظرة، والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن حالهم يوم القيامة، وأنهم يحكمون على أنفسهم بأنهم لا يعقلون، فقد حدثنا عنهم في سورة الملك بقوله: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك:10-11]، من ليس يسمع ولا يعقل وهو يقر بذلك كيف يقلد في التصرفات؟ وكيف يكون أسوة وقدوة حسنة يُقتدى به؟ إنهم في أسفل سافلين، وأرذل الأراذل عند الله، فهم أخس عند الله من دود العذرة ومن الخنازير والكلاب، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، فهم شر البرية، أي: شر ما برأه الله وشر ما خلقه الله، ومن هنا فليسوا أهلاً لأن يُنظر إليهم بنظرة إكبارٍ ولا إعزاز، بل هم أهل للازدراء والإهانة والمذلة، وقد كتب الله عليهم الذلة والصغار والهوان، ولا يمكن إلا أن يبقوا بدار هوان في الدنيا والآخرة، فمن لم يسلم منهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقد كتب الله عليه المذلة والهوان في الدنيا والآخرة، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في النار)، فهم متوعدون بهذا الوعيد من رب العالمين الذي خلقهم، وهو خلقهم للنار، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا[الأعراف:179]، فهؤلاء لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فليسوا أهلاً لأن يقتدى بهم ولا أن يؤتسى بهم، وهم مع ذلك يريدون فرض قيمهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088459531

    عدد مرات الحفظ

    776856169