بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن كل ملة ونحلة لا بد أن يكون لها من القيم والأخلاق ما يميزها، وكل ثورة نجحت لا بد أن تسعى لإشاعة ما نجحت به وإعلانه للناس.
ومن هنا فحين نجحت الثورة الفرنسية في القضاء على الطبقية والإقطاعية أرادت أن تشيع الجانب الذي نجحت فيه، وأن تشيع قيم الديمقراطية، فدعت إلى ذلك وأشاعته في العالم.
وعندما نجحت الثورة الإيرانية أرادت كذلك تصدير الثورة وإخراجها إلى البلدان الأخرى.
وهكذا فكل صاحب نحلة نجح في عمله فإنه ستأخذه نشوة النجاح، ويريد إشاعة ما نجح فيه، وإظهاره بين الناس لقناعته بصلاحيته وصدقه.
ومن هذا المنطلق فإن المسلمين الذين اقتنعوا بصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبصحة القيم التي جاء بها الإسلام، وبصلاحيتها للتطبيق المستمر في كل زمان ومكان، وبأنها الحل الوحيد المرضي عند الله سبحانه وتعالى، فيجب عليهم السعي لإشاعتها وإعلانها بين الناس، وليدخل الناس في دين الله أفواجاً، وليلتزموا بقيم الإسلام.
وكذلك فإن النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن انهزم المعسكر الشرقي، واخترقت أكبر دولة فيه وهي اتحاد الجمهورية السوفيتية على مستوى القمة، حيث اخترقها الحلف الآخر حلف الأطلسي بـ غورباتشوف حتى وصل إلى اتخاذ القرار ففكك الجمهوريات، وتلاقى ذلك مع أسباب أخرى من الجهاد الأفغاني، ومثل تراجع المد الشيوعي، ومنها إرادة الشعوب المسلمة التي ظلت مظلومة في حكم الشيوعية فترة سبعين سنة، تلاحقت هذه الوسائل كلها فأسقطت المعسكر الشرقي، فأخذ المعسكر الغربي بحظه أيضاً من نشوة الانتصار، وأحس بأنه انتصر وأصبح الخطبة الوحيدة في العالم، فأراد أن يفرض قيمه، وهذا الفرض هو الذي سماه زوراً وبهتاناً باسم "العولمة".
فالواقع أن الاسم الصحيح هو الأمركة، والأمركة معناها أن يكون العالم كله أمريكياً، على قيم أمريكا وقلوب أمريكا، ودين أمريكا، وحضارتها وثقافتها، وأن يأخذ القيم من هذا الشعب المنتصر؛ لأن الشعوب الأخرى أصبحت تنظر إلى أمريكا بإكبار، بل وتأليهه في بعض الأحيان، فكثير من الشعوب المسلمة مع الأسف تظن أن أمريكا تعلم الغيب، وأنها لا يمكن أن تتضعضع ولا أن تذل لأي شيء، والله سبحانه وتعالى علم أن هذا النوع من التصور سيقع لدى ضعاف العقول.
فلذلك حين ذكر مصارع الأمم السابقة في سورة القمر، فذكر إهلاكه لقوم نوح ، وإهلاكه لعاد، وإهلاكه لثمود، وإهلاكه لقوم لوط ، وإهلاكه لـفرعون وأصحابه، قال بعد هذه القصص: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:43-46]، فليس هؤلاء أعظم من قوم نوح الذين ملأوا الأرض كلها، لكن حين أراد الله هلاكهم فتح أبواب السماء بماء منهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر.
وليسوا أعظم من عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]، وقد سلط الله عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً فأهلكتهم.
وليسوا أعظم كذلك من ثمود الذين زادهم الله بسطة وقوة، فعندما طغوا سلط الله عليهم الصيحة التي شقت شغاف قلوبهم فهلكوا في لحظة واحدة.
وليسوا أعظم من قوم لوط، الذين سلط الله عليهم الحاصب فقلب بهم مدينتهم، رفعها حتى سمع أهل السماء نبيح كلابهم ثم ردها فقلبها بهم.
وليسوا كذلك أعظم من فرعون وأصحابه، الذين أجروا الأنهار وفجروها، وهم أول من أقاموا الأنهار الصناعية، ووصلوا القمة في السحر والتطور العلمي والتكنلوجي، فأمر الله سبحانه وتعالى البحر فالتطم عليهم، فأهلكهم في لحظة واحدة.
فكذلك هو قادر على أن يأمر البر بأن يبتلع ما فيه، ويأمر البحر بأن يبتلع ما فيه، ويأمر الفضاء بأن يبتلع ما فيه، لا يُعجزه شيء من ذلك، وأخذه الأخذ الوبيل، الذي يمكن أن يأتي في طرفة عين، ولا يُبقي أثراً بعد عين.
لذلك فإن الذين ينبهرون بهذه الحضارة الغربية، وبالتطور والتقدم التكنلوجي الذي وصلت إليه أمريكا، هم في الحقيقة مغرورون جاهلون بمصارع الأمم السابقة، وجاهلون بقدرة الله سبحانه وتعالى وما لديه من قوة لا نهاية لها ولا حصر، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31].
فأضعف الأشياء الذباب لو سلطه الله عليهم لأهلكهم، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73] مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:74].
وهذه القيم التي يريد الأمريكان إظهارها وإشهارها في المجتمعات كلها، هي القيم الغربية، التي أساسها الانحلال من الفضيلة ومن الدين ومن الخلق، ولذلك فالشعب الأمريكي من أشد الشعوب تخلفاً ومن أضعفه في مجال الأخلاق، والقصص الواقعية التي ليست من نسج الخيال، ولا هي من كلام وسائل الإعلام تدل على هذا، فقد شاهدتُ بعيني محاكمةً حصلت في ولاية متشقن حضرتها كانت عجيبة جداً في تردي الأخلاق والانحلال، فتاة صغيرة تشكو من أبيها وترفع عليه قضية في المحكمة، فيأتي الوالد وابنته والمحامي الذي يحامي على الوالد، والمحامي الذي يحامي على البنت، فترفع الشكوى بأن والدها وجدها مع عشيقها فنغص عليهما وضربها أو آذاهما، فترفع عليها قضية وتريد تعويضاً كبيراً هي والشاب الذي كان معها، فتكلم الرجل ليدافع عن نفسه، فقال: أنا ما أردت التنغيص عليهما، ولكن وجدتهما على فراشي، وأنا عسكري وأحترم فراشي وملابسي، فلو استعملا أي مكان آخر من البيت ما كان لدي أي استنكار. فتحكم المحكمة بمعاقبة شديدة للوالد وبتعويض مالي كبير لابنته ولعشيقها، وهذا غاية في الانحلال والانحراف والتردي بكل المفاهيم.
ومثل هذا تفشي الرذيلة في هذا الشعب، ففي ثلاث ولايات من الولايات المتحدة الأمريكية إباحة مطلقة للشذوذ الجنسي، لأن تقوم الأسر بين امرأتين فقط، أو بين رجلين فقط. وعاصمة العالم في الشذوذ هي مدينة سان فرانسسيكو، وهي من كبريات المدن الأمريكية.
كذلك فإن رئيس هذا الشعب الذي يحكمه الآن، كما تعلمون منذ تولى الرئاسة وفضائحه تظهر في كل شهرٍ فضيحة، وهو يتبجح بذلك ويقر به أمام الناس وتنقله وسائل الإعلام، وقبله جون كينيدي وهو من أشهر الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة الأمريكية يُقر أمام الكونجرس الأمريكي، ويظهر بالتلفزيون يتبجح بأن له أكثر من خمسمائة عشيقة، فهؤلاء على دين ملوكهم، والناس على دين ملوكهم، وكيفما تكونوا يول عليكم، وإذا كان قادة المجتمع هم بهذا النوع من السخافة والتردي الأخلاقي والانحطاط، فكيف بالمزارعين، وكيف بالطبقات المسحوقة من المجتمع؟!
إن الحالة التي يعيشونها من الانفصام الكامل، وقطيعة الأرحام وعدم الأدب بمختلف أنواعه، وانعدام الأخلاق بالكلية تجعلهم بمثابة الحمر الأهلية التي تتهارج في الشوارع، ولذلك انعدم الأمن انعداماً مطلقاً، فلا يستطيع الإنسان أن يخرج ومعه حمولة دولاراً في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا أي شيء ثمين لانعدام الأمن مطلقاً، بل قد حصل في هذه السنة أن طلاب الإعدادية فجروا مدرستهم وقتلوا عدداً كبيراً بمن فيها، فالأسلحة منتشرة، وكل أفراد الشعب وبالأخص بين الشباب من التائهين الضائعين الذين هم أصحاب سكرٍ ومخدرات، ومع هذا يظنون أنهم أرقى الأمم، وينظر الناس إليهم بهذه النظرة، والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن حالهم يوم القيامة، وأنهم يحكمون على أنفسهم بأنهم لا يعقلون، فقد حدثنا عنهم في سورة الملك بقوله: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك:10-11]، من ليس يسمع ولا يعقل وهو يقر بذلك كيف يقلد في التصرفات؟ وكيف يكون أسوة وقدوة حسنة يُقتدى به؟ إنهم في أسفل سافلين، وأرذل الأراذل عند الله، فهم أخس عند الله من دود العذرة ومن الخنازير والكلاب، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، فهم شر البرية، أي: شر ما برأه الله وشر ما خلقه الله، ومن هنا فليسوا أهلاً لأن يُنظر إليهم بنظرة إكبارٍ ولا إعزاز، بل هم أهل للازدراء والإهانة والمذلة، وقد كتب الله عليهم الذلة والصغار والهوان، ولا يمكن إلا أن يبقوا بدار هوان في الدنيا والآخرة، فمن لم يسلم منهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقد كتب الله عليه المذلة والهوان في الدنيا والآخرة، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في النار)، فهم متوعدون بهذا الوعيد من رب العالمين الذي خلقهم، وهو خلقهم للنار، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا[الأعراف:179]، فهؤلاء لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فليسوا أهلاً لأن يقتدى بهم ولا أن يؤتسى بهم، وهم مع ذلك يريدون فرض قيمهم.
فمثلاً القيم التي اشتهرت وأرادوا فرضها في المجتمعات كلها، منها قيمة حقوق الإنسان، وهذه أصبحت من الشعارات البراقة التي يُدعى لها في كل أنحاء العالم، ويتبجح بها الرؤساء والدول أنها ترعى حقوق الإنسان، ما هي حقوق الإنسان؟
حقوق الإنسان في نظرة الغربيين والأمريكيين هي أن يكون الناس مثل الحمر الأهلية، ألا يكون لهم أي دين، ولا أي وازع ولا أي خُلق، ولا أي احترام وألا يكون لهم أي علاقة ولا رحم، ولا توقير للكبير، ولا رحمة للصغير، هذه هي حقوق الإنسان عندهم.
فهذه القيم التي يتبجحون بها هي التي دعا إليها من قبل سارتر في نظريته الوجودية، فهو يرى أن الدين أفيون يمنع الشعوب من الوصول إلى حريته، وأن الأخلاق كذلك تمنع الشعوب من حريتها، وأن الشعوب ينبغي أن تتخلى عن الدين والخلق، فتعيش كالحيوانات العادية، فيكون الدين بزعمه هو الذي يجعل الإنسان يمتنع من الخروج عرياناً بين الناس، فيقول: من حقه أن يفعل ذلك ولكن الذي يمنعه من ذلك هو الحياء، والحياء قيد وتقليد ينبغي أن يتحرر منه وأن ينكسر.
إن القيم التي يدعون إليها كانت من قبل مجرد دعوة، لا يستسيغها أصحاب العقول ولا أصحاب الدين ولا أصحاب المروءة، لكن المشكلة أنها في زماننا هذا أصبحت تُفرض بقوة السلاح، فما أرادته أمريكا تريد أن تفرضه بقوة السلاح، فحقوق الإنسان إذا خالفها أي إنسان فسيؤخذ بالقوة حتى يُقتص منه، مثلما فعلوا في رئيس جمهورية هايتي، ومثلما ضربوا السودان وضربوا أفغانستان وضربوا العراق وحاصروا ليبيا، وفرضوا الحصار على السودان إلى وقتنا هذا، كل ذلك من أجل تحقيق حقوق الإنسان في زعمهم.
وبهذا فكل من امتنع عن شيءٍ مما يريدون فرضه من القيم يجعلونه مستحقاً للعقوبة، فمثلاً: حركة حماس المجاهدة في فلسطين التي تجاهد اليهود الأنجاس، وتريد تطهير بيت المقدس، وتصمد على دين الله التي وعد النبي صلى الله عليه وسلم ببقائها على الحق إلى قيام الساعة، فيما صح عنه في صحيح مسلم أنه قال: (لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)، فهؤلاء سيبقون على الحق ظاهرين، وسيقاتل بقية هذه الأمة المسيح الدجال في تلك البقع، ( وينزل المسيح عيسى بن مريم حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وقت صلاة الفجر، فيصلي مع الناس صلاة الفجر، ويجد الصلاة قد أقيمت فيقول له الإمام: تقدم يا نبي الله فصل، فيقول: ما أقيمت لي وإمامكم منكم، ويقاتل اليهود قتالاً شديداً حتى يقول الحجر والمدر والشجر: يا عبد الله يا مسلم هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر اليهود ).
هذا الشجر هو فهو كبار العوسج، فالغرقد هو كبار العوسج، فهذه الفئة هي في عُرف الأمريكان والغربيين تُسمى بالمتطرفين الإرهابيين، الذين يجب أن يُقتلوا وأن يشردوا، ولهذا يحاولون التخلص من أشخاصهم وتصفية كل من استطاعوا الوصول إلى تصفيته واغتياله بمختلف الوسائل، فلذلك قتلوا عدداً كبيراً من المجاهدين، وهم يطالبون الآن بعدد كبيرٍ آخر، بينما في المقابل ياسر عرفات وزمرته المرتمية في أحضان الصهاينة هم الممثلون الشرعيون والوحيدون للشعب الفلسطيني، وهم الذين تُدفع إليهم كل المساعدات، وتُفرض البلدان العربية على مساعدتهم، وتُقدم لهم كل التسهيلات في مختلف أنحاء العالم، مع أن كثيراً منهم معروفون بالفساد، و عرفات نفسه معروف بالسرقة كثيرة جداً، فهو من أغنى رجالات العالم اليوم، وما ذلك إلا سرقة مما كان الناس يساعدون به المجاهدين في فلسطين، وكذلك كثيراً من أصحابه مشهورون بالمخدرات والفجور كله، لكنهم موافقون لقيم أمريكا الذي تطلبه، فهذه هي القيم التي ترعاها أمريكا وتسعى لترسيخها.
كذلك من القيم فيما عدا حقوق الإنسان قيمة مكافحة الإرهاب التي أصبحت أيضاً شعاراً دولياً، وأصبحت تُعقد له المؤتمرات الدولية: كمؤتمر شرم الشيخ ومؤتمر روما، وكذلك المؤتمرات الإقليمية، كمؤتمر تونس لوزراء الداخلية العرب، ومؤتمر الدار البيضاء كذلك، ومؤتمر الدوحة، كل هذه المؤتمرات يُراد بها مكافحة الإرهاب، والإرهاب عند الأمريكان هو السعي لإظهار الدين أو الدعوة إليه ولو بالكلمة، فمن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، فهو إرهابي يستحق القتل، فهذه هي قيمهم وهذا الذي يريدون فرضه.
كذلك فإن من قيم النظام العالمي الجديد قيمة الديمقراطية، التي يكال فيها بمكيالين، في العالم الغربي هي نظام يكفل الحريات، ويسعى للتداول على السلطة عن طريق الأصوات، وإتاحة الفرص للجميع، لكنها في البلدان الأخرى في العالم الثالث، المقصود بها حصول استقرارٍ يقتضي ثقة الممولين، فقط هذا المطلوب، أن يكون للبلد استقرار يقتضي ثقة الممولين، والممولون هم الغربيون طبعاً، ومن وثقوا فيه فهو ديموقراطي لعب أية لعبة، فـالحسن الثاني مثلاً محل ثقة، وكل الممولين يثقون فيه، والديمقراطية التي لديه ما هي إلا لعبة خفيفة جداً؛ لأن ثوابت المغرب ثلاثة لا ينبغي الكلام فيها: الملك، والعرش أي: توارث الأسرة للحكم في المغرب، والوطن. هذه وحدة المغرب وضمه للصحراء، فهذه ثوابت من تكلم فيها يستحق الشنق والقتل، ومع هذا فهو ديمقراطي مرضي.
كذلك في مصر التي هي الآن محل الرضا من الغربيين، وهذا الرضا طبعاً بين الله سبحانه وتعالى أنه لا يكون إلا على أساس الكفر في قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120]، واحترفت مصر أنواع التزوير بشكلٍ عجيب، حتى أصبحت أستاذة العالم في مجال التزوير، في العام الماضي كانت انتخابات في اليمن، فجيء بأساتذة مصريين لتزوير الانتخابات وصلوا إلى خمسمائة أستاذ، وطبقوا أساليب عجيبة جداً للتزوير، مثلاً: يفجرون أمام البيت الذي فيه صندوق الاقتراع، فيُذعر الناس ويهربون، فيدخل فريق سريع فيأخذ الصندوق الموجود ويضع مثله صندوقاً آخر قد ملئ بالأصوات التي يريدونها في الصندوق.. في الأوراق التي يريدونها، أو يقطعون التيار الكهربائي عن الحي الذي فيه الصندوق بالكامل، وفي تلك اللحظة والناس يبحثون عن مخرج يضعون صندوقاً آخر بدل هذا ويذهبون بالأول، فهناك صناديق جاهزة لديهم، ومع ذلك فمصر دولة ديمقراطية عندهم، مرضية من هذه الناحية.
كذلك من القيم التي يفرضها النظام العالمي الجديد: قيمة تحديد النسل وترقية الأسرة، والمقصود بها تقليل أفراد سكان الأرض حتى يتحكم فيهم الغربيون.
كذلك القيم الأخلاقية في النظام العالمي الجديد، ومن أهمها قيمة العري، فهم يشيعونها ويريدون إظهارها، ومن هنا يكافحون تستر النساء، ويمنعون ذلك ويجعلونه زياً دينياً، فينبغي أن يحارب في إطار العلمانية الحديثة، فعندما تستر طالبة في الجامعة في فرنسا رأسها تُطرد من الجامعة، وعندما تتحجب نائبة في البرلمان في تركيا تُطرد وتسحب منها الجنسية التركية أصلاً، وهذه القيمة يمكن أن يعمموها في المستقبل، فكل بلدٍ امتنع أهله من الرضوخ لهذه القيمة سيضرب ويحاصر، أو يعاقب بأي عقوبة أرادتها دولة أمريكا.
هذه قيمهم.
ووسائلهم لنشرها كثيرة، منها أولاً: البهرج والترويج الإعلامي، فهم الذين يمتلكون القنوات الفضائية التي تغزو الناس في بيوتهم، وهم الذين يملكون الإذاعات التي تبث الليل والنهار في أنحاء العالم، وهم الذين يملكون الجرائد والمجلات التي تنتشر وتغزو الأسواق، وهم الذين يملكون كذلك وسائل الترفيه التي تأخذ بألباب كثيرٍ من الشباب الضائعين، كعالم الفندقة والسياحة وكذلك عالم الفن والمسرح، فسخروا كل هذه لإشاعة وترسيخ قيم النظام العالمي الجديد.
ومن هنا أستغرب عندما أرى شاباً صغيراً في أبي حديد أو توجنين يحلق حلقات جديدة تظهر في أمريكا، فترى شكله على شكل مايكل جاكسون مثلاً، أو أي فنانٍ آخر من الفنانين الأمريكيين يحلق على حلقته، ويلبس ملابس تشبه ملابسه حتى القبعة، فالقبعات التي هي رمز للشلل في الولايات المتحدة، كل شلة لها هيئة معينة للقبعة تلبسها ليكون رمزاً عليها، فنرى هذا في الأولاد الصغار في الأحياء الشعبية المتخلفة في موريتانيا مثلاً، وما ذلك إلا من خلال ما بثوه في وسائل الإعلام وفي الأفلام وغيرها.
كذلك من وسائلهم لترسيخ هذه القيم استغلال خلفاء الاستعمار الذين يحكمون البلدان الإسلامية في مثل هذا، فالبلدان الإسلامية في الأصل ينبغي أن يحكمها خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يرسخون قيمه التي جاء بها، ويرسخون دعوته التي جاء بها، واليوم إنما يحكمها في الغالب خلفاء الاستعمار الذين يرسخون قيم الغرب وينشرونها، ويريدون الحفاظ عليها ويتباهون بها.
ومن هنا فهؤلاء يستغلون من حيث لا يشعر كثير منهم لنشر القيم الكفرية، المخالفة لدين الله والمخالفة للأدب والأخلاق أصلاً.
ومن هنا انتشر عقوق الوالدين في كثيرٍ من المجتمعات، وانتشر كذلك انقطاع الصلة بين الوالد وأولاده، فلا يستطيع نصيحة أحدٍ منهم ولا التأثير عليه؛ لأن هذه القيمة هي الموجودة في الغرب.
أذكر أن رجلاً مسلماً في بريطانيا أمسك بيد ولده الصغير ليمنعه من فعل شيءٍ غير مرضي، فوقع انزلاق خفيف جداً في رسغه، فجاء به إلى طبيبة لعلاجه، فسألته عن السبب فحدثها به، فأمسكته وكلمت الكانسل (البلدية)، فجاء ممثل الكانسل وأخذ الولد، ومنع والده من رؤيته طيلة حياته، وأرسله إلى الكنيسة ليتربى على قيمها.
ولذلك فإن الونشريسي رحمه الله ذكر في المعيار في أحوال أهل الأندلس حين سقطت دولة الإسلام وخضعوا لدولة الكفر، ذكر أن من أخطار البقاء تحت يد الكافر أن لغة المسلمين ستتغير، ويقول رحمه الله: وناهيك بفوات المتعبدات اللفظية على كثرتها وفضلها.
وهذا الحال الحاصل الآن في كثيرٍ من البلدان في كثيرٍ من أولاد المسلمين اليوم لم يعد يستطيع أن يقيم قراءة القرآن، أو قراءة أحاديث التعوذات، أو أحاديث التعبدات الواردة، بل كثير من الشباب إنما يتخاطبون باللغة الانجليزية أو الفرنسية، ويسعى كثير من الحكومات لإحلال هذه اللغة بدل العربية، لتذهب العربية بالأساس من أصلها، فتبقى ألغازاً لدى الناس ولم يتكلموا بها؛ لأنهم يدرسون المواد المهمة بهذه اللغات التي هي غير لغاتهم وغير لغة القرآن، ومن هنا ترسخ تلك اللغات ويُقضى على العربية.
كذلك قال الونشريسي رحمه الله قال: ومتى يأمن ذو بنت أو زوجةٍ وضيئة أن يطلع عليها كلب من كلاب الأعداء البعداء، فيغترها عن نفسها وتخلص إليه، فيحال بينها وبين زوجها أو والدها حيلولة دينية، يقصدها أن ترتد، أو أن يحال بينهما بالنظام والقانون، وهذا الحاصل الذي ذكره الونشريسي في ذلك القرن التاسع الهجري والعاشر ما زال إلى اليوم يظهر ويُرى في كثيرٍ من البلدان.
كذلك فإن من وسائل الغربيين لنشر قيمهم ابتعاث كثيرٍ من وفودهم التي تزور المجتمعات الإسلامية وتُخالط الناس وتعيش بينهم، وتتعلم لغتهم، والناس ينظرون إليها بإكبار وعلى أنها أهل الحضارة وأهل الرقي وأهل التقدم فيحاكون عادةً.
يذكر لي أحد الصادقين إن شاء الله تعالى أنه سمع رجلاً من أهل هذه البلاد يقول لرجل آخر في رمضان وهو يناوله كأساً من الماء يقول: اشرب إن كنت لست مأسوراً بالعادة التي يفعلها الناس، يقصد بذلك الصوم، فيرى أن الصوم مجرد عادة يفعلها الناس.
وهذا كثير جداً ومنتشر، والمنظور إليه ازدياده وانتشاره، وبذلك فإن كثيراً من الغربيين يأخذون إجازاتهم في مثل هذه البلدان المتخلفة التي تنظر إليهم على أنهم أهل الرقي، ويجلسون بين الناس يعيشون معهم أشهراً من السنة، يرسخون هذه القيم الخبيثة.
كذلك فإن من وسائلهم لنشرها وسيلة الإغراء المادي، فهم يغرون الناس عن طريق المال ويقصدون الشعوب المتخلفة الفقيرة، فيبذلون إليها أموالاً هي في الواقع سموم؛ لأن تحت الرغوة السم، فيأتون بأموال هي بمثابة ما يوضع للذئب على الشراك ليأتي فتأخذه الزوبية التي وُضعت له، فكذلك يطمعون الناس بهذه الأموال حتى يحبوهم، وإذا تعلقت القلوب بهم فذلك كافٍ في الخروج من الإسلام؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ[المائدة:51-52].
عرفنا إذاً هذه العولمة وما يُراد بها والقيم التي تدعو إليها بنماذج منها فقط ووسائلهم لنشر ذلك. ونصل إلى بعض خطورة هذه القيم.
إن كل قيمة اكتسبها الإنسان لا بد أن يترك في مقابلها قيمةً أخرى؛ لأن كل قيمة تقابلها قيمةٌ أخرى، فهذا الخلق يقابله خلق أفضل، مثلاً: البخل يقابله السخاء، ولا يمكن الجمع بينهما لأنهما ضدان، والضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان إلا إذا كان لهما ثالث، فلذلك إذا اتصف الإنسان بصفة البخل فمعناه أنه سيرتفع عنه وصف السخاء، وكذلك الذي يتصف بهذه القيم لا بد أن يترك ما يقابلها، وقيم الإسلام قطعاً مضادة مناقضة لقيم النظام العالمي الجديد ولقيم أمريكا والغرب.
فبقدر ما يمسك الإنسان من قيمهم يترك ما يقابل ذلك من قيم الإسلام، وبقدر ما يأخذ به الإنسان من أخلاقهم فسيترك مقابل ذلك من أخلاق الإسلام.
وكذلك من مظاهر الخطورة في هذه العولمة أنها مقتضية لانشغال النخبة في المجال الفكري والثقافي، فالمثقفون عموماً ينخدعون بأن العالم اليوم أصبح كله كالقرية الواحدة، ومن هنا ينبغي الرجوع إلى العلم والمعرفة، والمقصود بالعلم والمعرفة عندهم علوم الغربيين ومعارفهم، ولا يقصدون بالعلم والمعرفة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فالعلم والمعرفة عندهم ما أنتجه الأمريكان والفرنسيون بعقولهم التي هي خواء وما هداهم إليه شيطانهم، فهذا هو العلم والمعرفة عندهم.
وبهذا تنشغل النخبة في أمور تافهة، فلا هي تتعلم دين الله ولا تتعلم شرعه، وتهمل تراث الأمة ولا ترعاه، وتنشغل بأمور تافهة ليس وراءها فائدة.
كذلك من مخاطر هذه العولمة: أنها مقتضية لانبتار الصلات وتقطع الأرحام، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23]، فالذين تتقطع الصلات بينهم قد لعنهم الله، وبذلك أصمهم وأعمى أبصارهم فتنقطع الصلة، وأذكر قديماً أننا كنا ندرس في كلية القانون كتاباً في القانون الدستوري ألفته ماري تريز ، وهو المقرر حسب معتقدي إلى الآن في كلية القانون في جامعة نواكشوط، هذا الكتاب ذكر فيه ماري تريز : أن شعوب العالم الثالث -وتقصد بها الشعوب المسلمة- ما زالت متخلفة؛ لأنها يحكمها النظام القبلي والصلات العشائرية والعائلية، فعلق عليه محققه التونسي في الهامش، فقال: وهذا طبعاً باستثناء تونس فقد تغلبت من زمان على هذه الروابط وتخلصت منها، وهذا فخر عنده.
لكن الواقع أن المقصود أن الشعوب المبهورة بالغرب تجهل أنسابها وتجهل صلاتها وتقطع أرحامها وليس بينها أية صلة، وهذا فخر لديهم أنهم تغلبوا على القبلية وتغلبوا على العشائرية، والواقع أنهم ما تغلبوا على الجانب الذميم الذي يعرض التعصب للباطل، وهذا موجود لديهم، بل هم يتعصبون للكفر بدل أن كانوا يتعصبون للظلم فقط، أما الجانب المحمود في النظام القبائلي، وهو الذي بينه الله في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]هذا الجانب قضوا عليه بالكلية وأزالوه وأهملوه.
ومن هنا فإذا سُئل الشخص عن اسم والده، لا يذكر إلا الاسم المكتوب في جواز السفر فقط، ولا يعرف ما زاد على ذلك؛ لأن الصلات منقطعة والأرحام مشتتة، ليس بينهم أية صلة، بل أذكر أن امرأة في بريطانيا أسلمت، فسألناها عن سبب إسلامها، فقالت: كنت سائقة تكسي في شركة تاكسي، فكنت أبذر المال في الإنفاقات المختلفة، فدعاني أبي وأمي فقالا: إذا أنتِ متِ فلن ننفق على تجهيزك أي شيء لأنكِ مبذرة، فحزنت حزناً شديداً من أجل هذا، فذهبت في الصباح للعمل وهي محزونة، فإذا بعض المصريين الذين يعملون معها في نفس الشركة من سائقي التاكسي يسألونها عن سبب حزنها، فذكرت أن بينها وبين والديها خلافاً، فهما يزعمان أنهما لن يشاركا في إعداد مراسم وفاتها، ولن ينفقا عليها أموالاً في تجهيزها إذا ماتت، فقال: سبحان الله! نحن عندنا معشر المسلمين إذا مات الإنسان فأهله مجبرون على تجهيزه، والتجهيز هو أول مصارف مال الإنسان، والمسلمون يجب عليهم أن يجهزوا من مات فقيراً منهم، فاستغربت فبدأت تبحث عن الإسلام، فتقول: فذهبت إلى جامعة مانشستر فدخلت قسم الدراسات الشرقية، وهو القسم المتعلق بالإسلام، فبحثت عن الإسلام فقرأت بعض قيمه فأعجبني فأسلمت، فسألناها عن أعجب ما رأت في هذا الإسلام، فقالت: أعجب شيء رأيته فيه هذه الصلاة، تقول: أنال فيها سعادة لا أنالها في أي شيءٍ آخر، فكان غضب والديها عليها سبباً لإسلامها وسبباً لهدايتها وتخلصها من كل ما كانت فيه من أنواع الفساد.
كذلك فإن مظاهر خطورة هذه القيم وانتشارها مقتضية لأن تنشأ أجيال جاهلة، تربت على الفساد والإتلاف، فتكون كما قال الله تعالى حكاية عن الملائكة الكرام عليهم السلام: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ[البقرة:30]، فتنشأ أجيال كلها تفسد في الأرض وتسفك الدماء، وتكون مسرفة مفسدة، وهذا الحاصل فإن كثيراً من الشباب في البلدان التي أخذت بقيم النظام العالمي الجديد أصبحوا قتلة ومفسدين، يقتلون آباءهم وأمهاتهم، وقصص ذلك أمام المحاكم المصرية كثيرة جداً، وهي تنشر يومياً في الجرائد والمجلات، وفي مجلة الأمل والحياة وهي مجلة أسبوعية، كل عدد منها يصدر فيه قصة لمن قتل والديه، أو أخاه، أو قتل أخته من هؤلاء الشباب الذين تربوا على أخلاقيات وقيم النظام العالمي الجديد.
هذه إذاً بعض مخاطر هذه القيم.
في مقابلها لا بد أن نبحث عن طريق الصمود أمام هذه القيم، والوقوف في وجه هذه العولمة.
إن الإنسان إذا لم يهتدِ بنور الوحي سيبقى ضالاً يدعوه الشياطين، كما ضرب الله مثلاً له بقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا[الأنعام:71]، فيبقى حيراناً لا يعرف شرقاً من غربٍ ولا جنوباً من شمال، مالم يهتدِ بنور الله، بالوحي.
ولهذا فهذه القيم الخسيسة الخبيثة الذين اطلعوا عليها مع ذلك تبعوها وخُدعوا بها؛ لأنهم ليس لديهم استنارة بصائر، ولم يكن لديهم تنوير ومعرفة.
فأعرف أنه بعد حرب الكويت وبعد خروج العراقيين منها خرج في الجرائد الكويتية دعوة إلى ظهور المظاهر التي تظهر في الغرب، فكتب كثير من الكتاب الذين بعضهم يسمى محمد، وبعضهم يسمى عبد الله وأسماؤهم إسلامية، يكتبون ويطالبون بأن تكون باصات النقل الجماعي التي تنقل في الكويت مثل الباصات التي تنقل في بريطانيا يشاهد الإنسان فيها كل أنواع الفجور، وكل أنواع الاختلاط المذموم، وشرب الخمر والدعارة والسكر، وأن يكون موقف السيارات كذلك فيها محال البارات والمراقص والاختلاط المذموم، هؤلاء من قرأ كلامهم لم يخالطه الشك بأنهم سكارى، وأنهم غير عقلاء حين يطالبون بمثل هذا، لكن الواقع أنهم أصابتهم فتنة فأعمى الله قلوبهم وبصائرهم، وتركهم في طغيانهم يعمهون، ولهذا خُدعوا بهذه الأمور الخبيثة الكريهة، فما وقعوا عليه مما لدى الغربيين إلا أكره ما فيه وشره وأدناه، فهم يطالبون بنقله، لم يطالبوا ببناء جيش قوي للكويت، ولم يطالبوا بإقامة جامعات قوية ذات مستويات رفيعة، ولم يطالبوا بنظافة الشوارع، ولم يطالبوا بإقامة البنى التحتية الكفيلة برقي المجتمع، وإنما طالبوا بأخس ما لدى الغربيين.
لهذا يقول أحد الشعراء في هذه البلاد رحمه الله تعالى في قرار تطبيق الشريعة يقول:
قرارك والذي أوحى الكتاب قرار قد أصبت به الصوابا
أزال سناه عنا كل لبسٍ وبدد ضوءه ذاك السرابا
إلى أن يقول فيها:
وقوم حين بات الشعب يشدو بفرحته به باتوا غضابا
أولئك لا خلاق لهم ولا هم إذا وزنوا يساوون الذبابا
قد اختاروا سوى الديان رباً وغير كتابه اختاروا كتابا
وشورى حضارة الغرب استطابوا وخلوا خلفهم منها اللبابا
زعموا أنهم أرعى لحقٍ الرباب من الذي خلق الربابا
لقد كذبوا وقد ضلوا وخابوا وضل من اقتدى بهمُ وخابا
فهذا الشاعر محمد بن المختار الحامل رحمهم الله أجمعين.
فهؤلاء يريدون القشور ويدعون إليها ويتركون ما لدى الغربيين من الأمور الدنيوية، التي يمكن أن ينتفع بها أهل الدنيا، فهي على الأقل نفع دنيوي، فلا يطالبون بتلك، وإنما يطالبون بأذم ما لدى الغربيين وأدناه، فهم بمثابة الذباب الذي يعدل عن الوقوف.. أو النزول والوقوع على الورود الطيبة، ولا يقع إلا على القذر والأوساخ.
فإذاً أهم مكافحةٍ لهذه العولمة والوقوف في وجهها هو الالتزام بالإسلام عقيدةً وسلوكاً وأخلاقاً وعبادةً وجهاداً وتربية، ومن لم يلتزم بجانب من هذه الجوانب لا بد أن تبقى فيه ثغرة يحتاج إلى تكميلها، فيغزى من طرف تلك الثغرة ومن قبلها، أما من التزم بالإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، فلا يستطيع أحد إضلال من تمسك بالقرآن، كما في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن أنه: ( حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عُصم، ومن تركه من جبار قصمه الله )، فالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مغنٍ للإنسان عن كل ما عدا ذلك.
ولذلك قال مالك رحمه الله حين نُقل إليه أن قوماً يعملون عملاً في العراق يسمى التغبير، وهو نوع من أنواع الرقص، فقال: "لقد قال الله تعالى: اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3]، فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً"، فهؤلاء الذين يزعمون أن هذا الرقص الذي يعملونه عبادة، وأنه فتوحات ربانية، قال: لقد قال الله تعالى: اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3]، فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
وكذلك فإن من وسائل مكافحة هذه القيم أن يُظهرها الإنسان وأن يحذر منها وأن يجاهدها، فالله سبحانه وتعالى أوجب علينا جهاد هذه القيم بالقرآن، فقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، فنحن لسنا بالأمة التي تتخبط في أذيال الشعوب، ولسنا مثل الغرقى الذين يتلمسون أي شيءٍ يمسكون به حتى ولو كان بناء العنكبوت، فنحن لدينا العروة الوثقى التي نتمسك بها.
ومن هنا لا نحتاج إلى التمسك بأذيال بيوت العنكبوت وأشباهها مما هو ضعيف لا يساوي شيئاً عند الله، فعلينا أن نتمسك بديننا وقيمنا، وأن ننشر الوعي في شعوبنا، وننبه إلى خطر ما يغزونا من هذه القيم، فهذه القيم لا تأتي دفعة واحدةً، وإنما تأتي بالتدريج والتقصير. ولذلك في البداية لو جاء العري كقيمة وأُعلن للناس ما تبعه أحد، لكن جاء العري عن طريق الملابس الشفافة الرقيقة، فيلبسها النساء فيكن كاسيات عاريات، وجاء في كشف الرأس إذ لم يكن ممكناً لو دُعي إليه من البداية، لكن يأتي بالتدريج، يكشف فقط مقدمة الرأس ثم الأذنان ثم لا يزال الكشف يتقدم حتى يُقضى على ستر ما أوجب الله ستره.
وكذلك فالحياء الذي هو قيمة من قيم الإسلام، وشُعبة من شعب الإيمان لا يمكن دعوة الناس إلى تركه وإبطاله بالكلية، لكنه يُغزى بالتدريج والتقسيط، فيُدعى الإنسان إلى الاختلاط المذموم، والكلام في الريبة، فيكون ذلك قاضياً على نصف الحياء، ثم يُصبح النصف الآخر مريضاً يتداعى ويتهاوى حتى يُقضى عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
كذلك فإن نشر التوعية بين الناس خير معين على فهم المؤامرة، وأن يعرفوا أنها مؤامرة تستهدف أديانهم، وتستهدف أخلاقهم، وتستهدف قيمهم، ولو تُركت هذه المؤامرة لهدمت البيوت وأدت إلى الأسواء كلها والأضرار.
كذلك من وسائل الإسلام لمكافحة مثل هذه الدعوات المبطلة: أن ينظر الإنسان إلى من يدعو إليها، فقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من شر سيأتي في آخر الزمان، وعبر عنه بأنه ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها )، وأبواب جهنم هي كبائر الإثم والفواحش، فمن أبواب جهنم: باب الزنا، ومنها باب القذف، ومنها باب العقوق، ومنها باب الشرك، وهكذا فهذه هي أبواب جهنم، كل بابٍ منها يعتبر كبيرة، فمن اقترف تلك الكبيرة دخل فيه، فكل كبيرةٍ من هذه الكبائر لها دعاة يدعون إليها، يريدون إشاعتها بين الناس، للخمر والمخدرات دعاة يدعون إليها لإشاعتها بين الناس، وللعقوق دعاة يدعون إليه يشيعونه بين الناس، وللزنا دعاة يدعون إليه يشيعونه بين الناس، وهكذا فكل هذه الكبائر عليها دعاة على أبواب جهنم يدعون إليها، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن صراط الله المستقيم على حافتيه سوران، وفي السورين أبواب مفتحة عليها ستور، وعلى الصراط داعي الله يقول: يا عبد الله لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه )، فهذه الكبائر والفواحش إذا أجاب الإنسان إلى واحدةٍ منها قادته إلى ما هو أعظم منها، حتى تسوء خاتمته ويموت على الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك من وسائل الإسلام لمكافحة هذه الدعوات المبطلة: الحرص على تحديد الولاء والبراء، فهو من عقيدة المسلمين، فيجب على المسلم أن يحدد ولاءه وبراءه، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[المائدة:55-56]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[المائدة:51]، ويقول تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22]، ويقول تعالى: لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ[آل عمران:28]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[النساء:144]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ[الممتحنة:1]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ[التوبة:23-24]، ويقول تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:78-81]، فلذلك يجب على المسلمين أن يحددوا ولاءهم وبراءهم، وأن يوالوا الله ورسوله والمؤمنين، وأن يُعادوا أعداء الله، وأن يتبرءوا منهم، وألا يخالطوهم وألا يحبوهم وألا يقتربوا منهم حتى لو كانوا أقاربهم في النسب: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22].
وهذه المفاصلة هي التزيل الذي لا بد منه، فكل من خالط غيره فسيتأثر به، ولذلك جاء في الأثر: (قل ما شئت فمثله تعملُ، واصحب من شئت فإنك على دينه)، فإذا كانت الأسرة المسلمة تعيش معها أسرة نصرانية أو يهودية، أو يعيش عندها نصراني أو يهودي، فسيؤثر في دينها، وستكتسب منه بعض الأخلاق، وإذا كانت القرية النائية أو أهل المحارث والمزارع يعيش بينهم منصر، فلا بد أن يكتسبوا بعض أخلاقه.
وأذكر أنه في إحدى السنوات كنا في رحلة داخلية، فأتينا مكاناً في ولاية التجانب ووجدنا فيه منصراً ألمانياً يسكن بين الناس، فأردنا تحذيرهم منه، فتكلم لنا شيخ كبير، فقال: هذا الرجل أنا أشهد أنه إن كان للمحسنين بقية فهو من المحسنين، فقلت: سبحان الله! كيف تشهد له بالإحسان وهو كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟ قال: ما أتاه أحد قط يريد حاجة إلا ذهب بها أو بنصفها، فالعبرة فقط بما يبذله من المال، فيشتري من الناس ديانتهم بهذا، وهذه هي الفتنة التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر: ( أن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا )، وهم يودون أن يكفر المؤمنون وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ[الممتحنة:2]، فمهمتهم هذه.
ومن هنا لو بذلوا مالاً فاستطاعوا التأثير به على ضعاف العقول لكان هذا ربحاً عندهم، فمقاطعتهم وعدم الاتصال بهم وعدم الطمع في ما تحت أيديهم وبغضهم وإحياء هذا البغض في نفوس الناس مقتضٍ للسلامة من مخاطر قيمهم.
كذلك من أسس مكافحة ما هم عليه، قراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتفقه في ذلك، فكثير من المسلمين إنما يخالف السنن وهو يظن أنه على هدي من ربه وسنة، فمثلاً حلق اللحى قيمة مجوسية، فرضها كسرى على أتباعه، وقد صح في صحيح البخاري أن رسولي كسرى حين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، رآهما قد حلقا لحيتيهما وأطالا شاربيهما، فقال: ( ويلكما من أمركما بهذا؟ فقالا: ربنا أمرنا بهذا، يقصدان كسرى، فقال: لكن أنا أمرني ربي بإعفاء لحيتي وإحفاء شاربي )، كثير من الناس يخالفون هذه السنة؛ لأنهم لا يعلمون هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقرءوا قط شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، مع أنه من لوازم الإيمان محبة النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، ولا يمكن أن تتحقق محبة النبي صلى الله عليه وسلم لمن لا يعرفه، من لم يقرأ شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقرأ الشمائل للترمذي ، لم يقرأ الشفاء للقاضي عياض فكيف يعرف النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحبه؟ لا بد أن يتعرف الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحبه، وإذا تعرف عليه فسيدرك قيم الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في شخصه تمثيل كامل للإسلام، كما قالت عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( كان خُلقه القرآن )، فإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى تطبيق شرع الله فلينظر إلى سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ودله ومعاملته، فهذا هو الإسلام، ومن لم يقرأ هذا ولم يعتنِ به، لا يمكن أن يعرف الإسلام ولا يمكن أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يتمسك بالسنة عند فساد الأمة.
كذلك من وسائل الإسلام لمكافحة هذه العولمة: الحفاظ على تعاليم الإسلام والازدياد من الخير، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالتعاون، فمثلاً: يجب التعاون على البر والتقوى، وقد فرضه الله في كتابه حين قال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ[المائدة:2]، وهذا التعاون أهم أوجهه التعاون على الحفاظ على الدين؛ لأن التعاون كما يفهمه الناس تعاون فقط على الدنيا، وعلى المكاسب الدنيوية، وهذا ليس أهم أوجه التعاون، أهم أوجه التعاون الحفاظ على دين الله، أن يجد الإنسان من يساعده على الحفاظ على دينه وعقيدته وخلقه، وإنما يُحافظ الإنسان على ذلك إذا وجد من يساعده وينافسه، فمثلاً: هذه المجموعة الطيبة من النساء الطيبات إن شاء الله تعالى بينهن تعارف، اجتمعن فيه على ذات الله وجلسن في ذات الله، واحتسبن خطاهن وخروجهن من بيوتهن وتعطيلهن لبعض مصالحهن، وفقدهن للكثير مما يحتجن إليه في هذه الجلسة، لكنهن يحتسبن في مقابل ذلك عند الله أن يثقل ميزان حسناتهن بكل ما قطعن من الرمل والتراب، وبكل ما مررن به من ذرات الأوكسجين والهواء، ويريدن بذلك الاحتفاظ بدينهن، وأن يجدن من يساعدهن على هذا، وهذه القيمة هي التي رسخها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه )، وهذا يشمل النساء كذلك.
ومثل ذلك ما أخرجه مسلم في الصحيح و مالك في الموطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة: ( أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، وكذلك قال: ( وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ)، ومحبة الله مقتضية لتوفيقه وهدايته، لا يمكن أن يحب الله من هو كافر أو فاجر، فإذا كان هذا سبباً لمحبة الله فمعناه أنه سبب للهداية، فالله لا يحب الظالمين، فمن أحبه الله معناه أنه سيهديه ويوفقه، والتجالس في الله مقتضٍ لحصول محبة الله.
ومن هنا فالتعاون على البر والتقوى من مظاهر مكافحة هذه المظاهر السيئة، ومن أسس ذلك، ولذلك أرى أن على الأخوات الكريمات أن ينسقن جهودهن، وعلى كل مجموعة منهن تسكن في حيٍ أو أحياء متقاربة أن تتعارف فيما بينها، وتنسق جهودها، ويكون لها برنامج لحفظ شيءٍ من القرآن ومن السنة، والتعرف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والحفاظ على أخلاق الإسلام، والحفاظ على الدين، فبدل ما يجتمع أهل الباطل على الموضات الفاسدة، وعلى المشطات المفسدة، وعلى الملابس الشفافة، وعلى الإسراف والترف المحرم الذي يؤدي إلى موت القلوب، يجتمع هؤلاء الأخوات على الثبات على دين الله، وعلى التناصح والدين النصيحة، وعلى التزاور في ذات الله، وعلى القرآن والسنة، ويكون هذا هدياً وسلوكاً وقيمةً من القيم، وإذا حصل ذلك فكل مجموعة في حي حصل بينها هذا التنسيق ستسعى بالتأثير على نساء الحي، ويُكتب لهن أجر ذلك: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَهمْ يَتَّقُونَ[الأعراف:164]، وتكون تلك المجموعة سبباً في رفع العقوبة عن ذلك الحي بكامله.
ولذلك ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره أن أربعة إذا اجتمعوا في مدينة رُفع عنها العذاب بسببهم: إمام عادل لا يظلمُ، وعالم على طريقة الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ونساء متحجبات ملتزمات بالسنة والهدي، فهؤلاء الأربعة إذا اجتمعوا فإنهم يرفعون البلاء ويعصمون من الفتنة.
وقد نظم ذلك أحد علمائنا في قوله:
أربعة من البلاء تعصمُ وهم إمام عادل لا يظلمُ
وعالم على طريقة الهدى ثم مشايخ تبين المهندى
تأمر بالمعروف حين يهجرُ وتُنكر المنكر حين يظهرُ
ثم نساء.. إلى آخر النظم على هيئته، فإذا اجتمعت هذه العناصر الأربعة في بلد، فسيرفع الله عنه البلاء ويعصمه من الفتن بسبب ذلك.
كذلك فإن التنسيق بينهن مقتضٍ لثباتهن وتنافسهن في الخير: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، وإذا شاع ذلك وانتشر فكانت هذه المجموعة التي في عرفات تنافس مجموعة أخرى في توغرغرينا وأخرى في توجرين أو أخرى في تيارد، فإن هذا التنافس سينتج انتشاراً للخير وانتشاراً للدعوة، وتنافساً في الأجر والقرب من الله سبحانه وتعالى، فيكون مثمراً منتجاً، ومن مات قبل أن يرى نتيجته مات على الخير وفي سبيله، كما قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ[النساء:100]، ومن عاش نال بذلك العزة والعصمة من الفتنة.
ومن هنا فاللواتي يبادرن هذه المبادرة، ويقمن بهذا الدور في البداية سيكتب لهن أجر كل من عمل به، وكل من سار في هذا الطريق إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يعصمنا من مضلات الفتن، وأن يسترنا بستره الجميل، وألا يجعل للشيطان علينا سلطاناً، وأن يعصمنا من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر