إسلام ويب

علو الهمةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرف الله تعالى الإنسان وفضله، وهذا التفضيل إنما حصل بما يكتسبه الإنسان من الصفات والخلال الحميدة، فإذا علت همة الإنسان سما حتى جاوز الملائكة، وإذا انحطت همته هبط حتى فضلت عليه البهائم، والهمة العالية لا بد لها من وقود، فهي فطرية بعضها ومكتسبة البعض الآخر، فإذا سعى الإنسان بتعويد نفسه عليها، واقتدى بمن علت همتهم وصل إلى ما رام، ولا بد من اصطحاب الإخلاص ونيل رضوان الله في طريقه لتحصيل الهمة العالية.

    1.   

    أثر علو الهمة في اكتساب الصفات الحميدة والتحلي بها

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن شرف الإنسان وفضله ليس راجعاً إلى ذاته وخلقته، بل هو راجع إلى ما يكتسبه من الصفات الحميدة، التي بها يتفاضل هذا الجنس، وبها يتقرب أفراده إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه الصفات المكتسبة التي هي نتيجة الأعمال هي التي يتفاوت الناس بها في منازلهم، وفي درجاتهم عند الله وعند الناس، وإن هذه الصفات تحتاج إلى وسائل لتحقيقها، وأهم هذه الوسائل وأعظمها هو الاستعداد للتحلي بهذه الصفات، والاستعداد للتحلي بالصفات الحميدة مبدؤه هو الهمة التي تنبعث في قلب المؤمن فتدعوه إلى التحلي بتلك الصفات الحميدة، ومن لم يجد هذه الهمة في نفسه يكتب الله له ما شاء بقدره، ولكن لا حمد له هو في ذلك؛ لأنه غير مكتسب، أما من وجد الداعية والميل في نفسه لاكتساب هذه الصفات فإن الله يكتب له الثواب ولو لم يتصف بتلك الصفات، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100].

    ومن هنا فإن هذه الهمة يكتب للإنسان ثوابها ولو لم يصل إلى مبتغاه منها، فمجرد أن تنبعث الداعية في نفس المؤمن وأن يريد الخير فإن الله يكتب له ثواب ذلك؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة )، فمجرد الهم تكتب به الحسنات؛ ( نية المؤمن أبلغ من عمله )، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).

    1.   

    المبادئ الأولية لعلو همة الإنسان

    ومن هنا احتجنا إلى أن نراجع هذه المبادئ الأولية، التي نتعداها في تدريسنا للعلوم، ونتعداها كذلك في ترسيخنا لمبادئ الإيمان الأخرى رغم حاجتنا إليها.

    الإخلاص لله تعالى

    فهذه المبادئ الأولية منها: انطلاق الدافع العقدي الذي يقتضي من الإنسان أن يعمل مخلصاً لله وحده، لا يشرك به شيئاً.

    ومنها: الدفع، الذي يدفع الإنسان إلى الأمام؛ فالإنسان ماكينة متحركة تحتاج إلى وقود، ولهذا فإن النفوس ميالة إلى الدعة والراحة، وكذلك فإن الأبدان تابعة لها؛ فالبدن من تربة فيركن إلى الهدوء والراحة، أما إذا انبعث هذا الدافع القلبي، فإنه هو الذي يحرك الإنسان ويسمو به ويجعله يصمد ويصبر ويثابر، ويسعى للوصول إلى الدرجات العلى، ولا يرضى بالشيء اليسير.

    إن تنمية هذا الدفع في نفوسنا له ما وراءه؛ فلا يمكن أن يحقق الإنسان التضحيات الجسيمة، ولا أن يتحلى بالصفات العظيمة، ولا أن يجمع العلوم النافعة، ولا أن يجمع الدراهم النافعة في الدنيا أيضاً، ولا أن يتحلى بأي وصف حميد إلا إذا وجد هذا الداعي الذي هو وقوده وبه منطلقة، فالإنسان بمثابة السيارة إذا لم تجد وقوداً يشتعل في كانونها ليدفعها إلى الأمام لا يمكن أن تتجاوز محلها؛ فطبيعته وأصلة الركود والاستقرار والثبات وعدم التطور، لكنه إذا وجد دافعاً يسير به فسينطلق إلى أقصى الحدود؛ كما قال النابغة الجعدي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    ( بلغنا السما مجداً وجوداً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

    فقال: إلى أين يا أبا ليلى ؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله )، فيحتاج الإنسان إلى مثل هذا الوقود الذي ينطلق به في حياته كلها، ويحتاج كذلك إلى تجديده؛ لأن به تجديد الإيمان؛ فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذا الإيمان يجد ويخلق )، فالإيمان يجد ويخلق بالقلوب، وكذلك الطباع الحميدة؛ قد يتحلى الإنسان بطبيعة حميدة ولكنه بالإهمال والنسيان يتغشاها الران والغبار، فتغطى تلك الصفة الحميدة فيه، ولا يكتشف أنه قد انحرف عن مساره وتعدى مداره إلا بعد أزمنة متطاولة.

    ومن هنا احتاج الإنسان إلى أربعة أمور في سيره هي في مثابة عجلات السيارة:

    العجلة الأولى: الإخلاص لله؛ لأنه القوة التي لا تقهر ولا تهزم، فإذا اتصل الإنسان بديان السموات والأرض، وتوكل عليه واعتمد عليه في أموره كلها فإنه لا يمكن أن يغلب؛ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، فالاتصال بالله سبحانه وتعالى هو القوة الأولى للإنسان، ومن كان قلبه حياً متصلاً بالله سبحانه وتعالى استطاع أن يتعدى كل الأزمات وكل النكبات، واستطاع أن يقفز فيقطع المراحل المتعددة.

    الازدياد والتعود على الهمة العالية

    العجلة الثانية: الهمة العالية التي تسمو بالإنسان للمراتب السنية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتعود وزيادة اكتساب، وزيادة دربة ومهارة.

    مرافقة أهل الخير ومنافستهم

    العجلة الثالثة: رفقاء الخير الذين ينافسون الإنسان ويعينونه؛ فلا يمكن أن يقطع الإنسان المسافات الشاسعة على أمل يريد الوصول إليه إلا إذا وجد من يساعده ويشاطره الفكرة نفسها، ويشاطره الهمة، ولهذا فاحتسب نفسك في سفر طويل، تسير فيه على رجليك الضعيفتين، وتحمل زادك على عاتقك، إذا لم تجد من يقوي همتك على ذلك السفر فما هي إلا ليالي قليلة تتعب فيها فتنقطع الطريق أمامك، وترجع أدراجك، وتعدل عن فكرتك التي كانت بين يديك، وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم.

    لكن إذا وجدت من ينافسك في الخير ويساعدك على الوصول إليه، وتقتضي منك منافسته أن تبذل وأن تضحي وأن تجاهد، ويقتضي منك ذلك التعاون معه؛ أن تستفيد منه وأن تفيده؛ فإنك ستصل إلى مرادك بتلك المنافسة؛ ومن هنا قال الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، ولم يقل: أنا وحدي؛ فلا يمكن أن تقوم دعوة بفرد، ولا يمكن أن يصل فرد إلى مبتغاه وحده؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً[النساء:71]، ولم يقل: انفروا فرادى، وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122].

    وهذه العجلة أهميتها إنما تتضح من مخالطة المجتمعات؛ فالداعي إلى الكسر مجاب، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ[الأنعام:116]، فإذا لم تجد من يساعدك على طريق الحق ويجاهد للوصول إليه ويكون أسوة ومثلاً ومقتدىً تقتفي أثره ويساعدك للوصول إلى غاياتك فستنهزم أمام هذه المجتمعات التي هي بمثابة السيل الهادر الذي يضرب كل ما أمامه ويفرق.

    ومن هنا فإن كل بدعة ظهرت، وكل باطل اشتهر بين الناس لا يمكن أن يقضى عليه بعمل أفراد، وإنما يقضى عليه إذا حصل تكافل بين الجميع، وحصلت عناية مشتركة.

    ومن أبسط الأمثلة على ذلك: قصة حصلت في صدر هذه الدعوة: عندما اجتمعت قريش على منابذة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به ومن ناصره من بني هاشم وبني المطلب، فكتبوا صحيفة مبناها على عداوة الله ورسوله وقطيعة الرحم، وعلى أن يحصروهم ولا يناكحوهم ولا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم.

    وكانت هذه الصحيفة ملأى بهذه الشروط، لكن عندما قام خمسة أشخاص، فأبرموا أمرهم بليل، واتفقوا على أن يتكلم أحدهم قبل غيره، وأن يصدقه الآخرون من جهات مختلفة نقضت الصحيفة بفعل هؤلاء، قام هؤلاء الخمسة في نقض أمر قد اجتمع عليه أهل الأبطح جميعاً، فنجحوا ووصلوا إلى مبتغاهم؛ لأنهم نسقوا جهودهم واجتمعت كلمتهم، وتبادلوا الأدوار، وكان كل شخص منهم يقوم في موقفه المناسب، وحينئذ قال أبو جهل : (هذا أمر أبرم بليل)، فكذلك إذا كان للإنسان من يساعده على هذا الأمر ويشد أزره ويقتضي منه التضحية والبذل فإن ذلك مدعاة لاستمراره عليه، ولهذا قال الشيخ محمد المامي رحمه الله في نصيحته لأهل هذه البلاد لإقامة دولة الإسلام:

    أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا

    فينصب قائمٌ بالعدل منكم فلستم بعده تتخالفونا

    وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا

    إلى أن يقول:

    أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملونا

    ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزونا

    كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرونا

    اصطحاب الزاد والراحلة في طريق تحصيل الهمة العالية

    العجلة الرابعة من هذه العجلات هي: الزاد والراحلة، والسبيل السابلة، التي فسر بها الرسول صلى الله عليه وسلم الاستطاعة في قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً[آل عمران:97]، فقد جاء عنه في تفسير الاستطاعة أنها ( الزاد والراحلة، والسبيل السابلة )، والمقصود بالزاد: التقوى والإيمان، وأن يكون الإنسان مستعداً استعداداً فطرياً لأن يصل إلى مبتغاه، فكثير من الناس عمدته في الوصول إلى مبتغاه مجرد التمني والتظني، وهذا لا يوصل إلى نتيجة؛ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ[البقرة:96]، فليس الوصول بالتمني ولا بالتظني، إنما هو ببذل الجهد والعمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج عنه البخاري تعليقاً، ووصله ابن أبي عاصم في السنة: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ).

    فالذي يظن أنه سينال مراده دون بذل ولا تضحية لا يمكن أن ينال ذلك.

    والمقصود بالراحلة: ما يستعين به الإنسان من الوسائل، ومن أعظمها: هذا الوقت الذي هو ملاك الأمر، فمن لم يجد وقتاً تذوب أفكاره في نفسه، حتى لو كان صاحب همة عالية؛ لكنه لم يجد وقتاً لاستغلالها لا يمكن أن يطبق شيئاً مما يريده، ولهذا جعل الله تعالى حجة على الناس، فقال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].

    وكذلك من هذه الوسائل الفهم للمهمة التي يقصدها الإنسان؛ فكثير من الناس يتعلق أمله بشيء لا يبلغه، وسبب عدم بلوغه إياه أنه لم يفهم ما هو، ولم يعرف مراده بالضبط، ومن لا يعرف مراده لا بد أن يبقى في دوامة دائرية لا يدري من أين بدأ، ولا يدري من حيث عاد.

    أما (السبيل السابلة) فهي الهدف الواضح الذي تقصده، والوسيلة التي تنقلك إلى ذلك الهدف، فلابد أن تحدد لنفسك هدفاً للوصول إليه، وما لم تحدد لنفسك هدفاً في هذه الحياة فستكون مثل البلهاء الذين يقول أحدهم:

    جئت لا أدري من أين جئت ولكني أتيت

    فالإنسان الذي يأتي هذه الحياة دون هدف يعيش في هذه الحياة ما كتب الله له ثم ينطلق منها دون أن يترك أثراً؛ لأنه ليس له هدف في الحياة ومقصد يريد الوصول إليه.

    أما من كان له هدف يريد الوصول إليه؛ فهدفه مانع له من الانحراف يميناً ويساراً؛ لأن الهدف واضح في ذهنه أمامه يقصده؛ كمن يريد الوصول إلى جبل يراه أمامه فهل سيضيع الطريق يميناً أو شمالاً؟ لا يضيع ذلك؛ لأن الجبل نصب عينيه وهو يقصده بذهابه وخطواته المعدودة إليه، فكذلك هنا إذا كانت أهدافك سامية واضحة مرئية نصب عينيك؛ فإنك لن تضيع طريقك إليها وستصل إليها مهما طال السفر، "لا بد من صنعاء ولو طال السفر" فستكون في سيرك جاداً، وستستغل الفرص المتاحة لذلك.

    بالنسبة لهذه العجلات الأربع ينبغي أن يكون الهواء فيها متساوياً، فلا ينبغي أن يكون جانب أعلى من جانب؛ لأن ذلك يقتضي عدم التوازن؛ فالإنسان كما ذكرنا مثل السيارة؛ فإذا نقص الهواء في بعض العجلات وازداد في بعض فلن يكون السير مستمراً متصلاً، فلا بد أن يكون التوازن بين هذه العجلات بارزاً، وأن تكون عين الرقابة عليها عيناً موحدة.

    والعجلة الأولى: عجلة الإخلاص، سبق التحدث عنها، وإن كانت لا يفي بمقتضاها كلام، ولا يكفي من تدبرها شيء، فعلينا أن نفكر دائماً في تعاملنا مع الله وفي إخلاصنا له، وفي نياتنا في جلوسنا وفي حركاتنا وسكناتنا، وكلامنا، وتفكيرنا، لابد أن نخلص لله في كل ذلك.

    1.   

    أقسام الهمة العالية

    أما العجلة الثانية وهي التي بين أيدينا، وهي: عجلة الهمة؛ فهي تنقسم إلى قسمين: إلى صفة فطرية، وصفة مكتسبة.

    الهمة العالية الفطرية في الإنسان

    أما الصفة الفطرية فهي: أن كل إنسان -أياً كان- عاش في هذه الحياة لابد أن يكون هماماً؛ ولذلك جاء في الحديث، ( أصدق الأسماء حارث وهمام )، فالإنسان بطبعه عامل، يفكر فيما ينفعه ويفكر فيما يخافه، ويسعى للوصول إلى المنافع، وهو مجبول بطبعه على محبة ما ينفعه، وكراهة ما يضره، فهذا القدر من الهمة فطري في الإنسان، لكنه مع ذلك قابل للتطوير؛ لأن النفع والضر مفهومان واسعان، تشعبهما كثير، فالنفع والضر كلاهما حمال كثير الوجوه، والإنسان كذلك إلى أن يحدد المفهوم الصحيح للنفع، والمفهوم الصحيح للضر؛ حتى يتبين ذلك ويتصرف على أساس البينة الواضحة.

    إن كثيراً من الناس إذا ذكر النفع تذكر المادة والدريهمات، وإذا ذكر الضر تذكر ما يصيب بدنه أو عقله، ولم يتذكر ما يصيب دينه، والواقع أن هذا المفهوم خاطئ في تحديد النفع والضر، فكم من دريهمات قادت إلى الهلاك، وكم من أمراض ومضرات بدنية قادت إلى الدرجات العلى من الجنة، ولذلك يقول الحكماء:

    لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينة

    كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنة

    فيوسف عليه السلام عندما أخذه إخوته، وهم أقرب الناس إليه، وأنتم تعرفون قول العرب:

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند

    ورموه في بئر بعد أن خلعوا عنه قميصه، ويمكث في هذه البئر ما شاء الله أن يمكث، ثم يستخرج ويباع بثمن بخس عبداً، ثم يحاول أهل مصر فتنته في دينه، ثم يسجن فترة طويلة مع المجرمين، هل كان هذا مضرة على يوسف أو نفعاً له؟ لقد كان غاية النفع؛ لأنه فتح الله له أنواع الخير في هذه الفترة، ثم بعد ذلك ملكه على مصر، ثم جمع شمله بأهله ووالديه على خير ما يكون؛ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ[يوسف:100].

    لذلك فإن علينا أن نحدد ما هو نفع وما هو ضر، فالنفع لا يكون إلا بموافقه شرع الله، وذلك أننا عاجزون عن تحديد ما هي المصلحة لنا في الدار الآخرة، وفي مستقبل الدنيا، ما مضى من عمرك بالإمكان أن تعرف بعض المصالح التي فيه فتقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا، أو لم أفعل كذا، أما المستقبل فإياكم و (لو) ( فإن (لو) تفتح عمل الشيطان )، المستقبل لا تتطلع عليه بـ(لو) ولا بغيرها؛ فهو إلى الله، لكن عليك أن تعرف فيه أن ما أدى إلى رضوان الله وطلب ما عنده والإقبال عليه فهو المصلحة، وأما ما يخطر في بالك أنه المصلحة فما هي إلا أزمنة يسيرة ينقلب لديك فيها الميزان، وترى أن ما كان مصلحة عندك فهو عين المفسدة، وإنما كان مفسدة أو مضرة عندك في وقت من الأوقات هو عين المصلحة، يشاهد ذلك كل واحد منا في حياته اليومية، ويتمنى لو فعل أشياء، ثم يتبين له لو فعلها لكان عين المضرة عليه.

    من هنا نعلم أن المصلحة ما وافق حكم الله، وأن المضرة ما خالف شرع الله؛ فالله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير، يعلم السر وأخفى، كل المصالح التي تفكر فيها أنت أو من سواك، تجلس لها البرلمانات، وتناقشها اللجان، وتعد لها الوثائق والقوانين، هذه المصالح لا تحقق مصالحك؛ لأن الخلفيات التي تقام على أساسها هذه الأعمال خلفيات محصورة، استشرافهم للمستقبل سيكون احتمالاً من ألف احتمال أو أكثر، فلذلك لا يمكن أن يحيطوا علماً بهذه المصالح المستقبلية، لكن علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى هو الذي يحيط بهذه الاحتمالات علماً، ومن هنا إذا شرع فلا معقب لحكمه وهو العليم الخبير؛ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]، إذا شرع شرعاً فمعناه أنه هو المصلحة المتمحضة، وإذا نهى عن شيء فمعناه أنه هو المفسدة المتمحضة، مهما نظر الناس وبحثوا وقننوا فلن يصلوا إلى هذه المصلحة ولا إلى هذه المفسدة إلا من هذا الطريق.

    لذلك فإن الذي يقتضي من الإنسان البحث في المصالح والمفاسد هو في الأصل فطرة ربانية يفطره الله عليها، تقتضي منه محبة للمصالح وبغضاً للمفاسد، لكنها لا تقتضي منه توفيقاً للوصول إلى المصالح والهرب من المفاسد، بل ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، فالفطرة تحب بها المصلحة وتكره بها المفسدة، ولكن لا تعرف بها المصلحة والمفسدة.

    الهمة العالية المكتسبة في حياة الإنسان

    أما النوع الثاني من أنواع الهمة هو: النوع المكتسب، وهو أهم ما ينبغي أن يتحدث فيه؛ لأنه بالإمكان أن يحدث لدى الإنسان الذي كان قد عدمه بالكلية، من ليس لديه همة بالكلية فبالإمكان أن تقنعه فتحصل لديه هذه الهمة، ومن كانت لديه همة فيها نقص أو ضعف فبالإمكان أن تقوي همته بكلمات يسمعها ومبادئ تزرع في تطوره وإدراكه؛ ومن هنا احتجنا إلى التحدث في هذا الجانب، وكانت حاجتنا إليه ملحة.

    أما هذا الجانب المكتسب من الهمة فإن الداعية التي تدعو الإنسان إلى التفكير التي تقتضي منه البحث في المصالح والمفاسد تقتضي منه كذلك الموازنات في نظراته، وأن ينظر بعينين لا بعين واحدة؛ فالله تعالى جعل له عينين ليدرك المصالح إلى جانب والمفاسد إلى جانب، وليكون بذلك معتدلاً في سيره مستقيم النظر؛ لهذا فقلما تتمحض المصلحة في شيء بل من النادر جداً أن تتمحض، إنما تتمحض في مثل قول: لا إله إلا الله، مثلاً، أما فيما سوى ذلك فقلما تتمحض فيه المصلحة، لكن من حكمة الله أن يدمج فيه بعض الإيجابيات والسلبيات، فتتفاوت درجات الناس باعتبار هذا الميزان، الذي يفاضل بين الإيجابيات والسلبيات ويرجح الإيجابيات ويقصي السلبيات ويرتكب أخف الضررين وأخف الحرامين فهذا هو الموفق، والذي تنعكس لديه الموازين فيأخذ بكبرى المضرتين وبأكبر الحرامين فهذا منتكس الفطرة، مائل التصور، ليس مستقيم الهمة.

    فلهذا احتاج الإنسان إلى أن يحدث في نفسه هذا التصور الذي هو مبدأ الهمة العالية المكتسبة، وأساسه أن يقوم الإنسان نفسه فيتذكر لماذا خلقت؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات:56-58]، أول من يفكر فيه من يريد اكتساب همة جديدة أن يفكر لماذا خلق؟ لماذا جاء إلى هذه الدنيا؟ ما دوره فيها؟ ما مهمته التي من أجلها أتى؟ ما رسالته التي يحملها؟ ما أمته التي ينتمي إليها؟ من قائده الذي يريد أن يبعث تحت لوائه؟ ما هي السنة والمنهاج الذي يريد أن يتبعه؟ فإذا حدد الإنسان هذه الأمور بلحظات تفكير يسيره؛ فهذا بدية زرع هذه الهمة العالية عنده، فإذا تذكر أنه ليس كالبهيمة، وتذكر أنه إنسان كريم شريف على الله، خلقه الله بيمينه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وقال فيه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[الإسراء:70]، عرف أنه ليس كمثل الحيوان البهيمي، وليس دابة تقاد إلى الردى، إنما هو إنسان كريم شرفه الله وكرمه؛ ومن هنا فلن يقيم على الضيم وهو يراد به، ولن يرضى باليسير كما قال امرؤ القيس :

    ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليلاً من المال

    ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

    والمقصود بالمجد المؤثل هنا: رضا الله سبحانه وتعالى، فهذا هو المجد المؤثل الحقيقي.

    إذا عرف الإنسان أنه مخلوق لله ومملوك له، وهي الرتبة الثانية بعد معرفته لتشريف الله له، عرف أنه مملوك وليس ذا حرية مطلقة في تصرفاته رضي بما شرع له بارئه ومالكه، إذا عرف أنه جاهل؛ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً[النحل:78]، عرف أنه محتاج إلى الازدياد من العلم، وأن العلم الحقيقي هو علم الله الذي لا يمكن أن يقع فيه الخطأ، إذا عرف أنه فقير وتذكر قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطر:15]، تذكر أنه محتاج إلى أن يتقرب من الغني الحميد الذي يملك له الحياة والموت والنشور، والعذاب والنعيم، وأن كل ذلك إليه سبحانه وتعالى وحده.

    1.   

    مقومات الهمة العالية وتطعيماتها

    إن الذي يتذكر هذه المبادئ سيجعل ذلك أرضية صلبة لينطلق منها في زيادة همته، ثم بعد هذا ينظر إلى الجرعات التي يطعم بها بعد هذا حتى تقوى همته.

    والجرعة الأولى جرعة تذكر حال أمته وما هي فيه وما هي محتاجة إليه.

    تذكر الانتماء إلى أمة الإسلام العريقة الماجدة

    فإذا تذكر الشاب أنه ينتمي إلى أمة عريقة هي أمة الإسلام، وأنه يسلك طريق أفضل الرسل، وأكرمهم على الله، وأنه قد بايع الله تعالى بيعة مؤكدة في التوراة والإنجيل والقرآن، وإنه إن وفى لله بهذه البيعة بأي شيء يبذله وبأي شيء ينفقه فإن أجره على الله، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121]، وتذكر حقوق هذا الأمة التي تعلق به الآمال وتعتده من جنودها ومن الذي سيستعيدون لها حقها المغصوب وتذكر أن أنداده من أولاد الأمم الأخرى هم الذي رفعوا راية تلك الأمم، وتقدموا باللواء؛ كما قال علي رضي الله عنه:

    لمن راية سوداء يخفق ظلها إذا قيل قَدِّمها حُضَين تقدما

    فإذا تذكر الشاب هذه الأمور فإنه لابد أن تنبعث في روحه الهمة المكتسبة.

    تذكر المضحين والمنافسين الآخرين في الميدان

    التطعيم الثاني بعد هذا: إذا تذكر أن أقواماً آخرين يبذلون ويضحون، وأن لهم من النظراء الجاهزين من إذا تأخر هو تقدموا؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[المائدة:54]، فإذا تذكر أن أولئك بالمرصاد، وأنه هو ما دام راكداً في مكانه فهو حجر عثرة في وجوه هؤلاء وستدوسه الأقدام ويتعداه الركب، وتذكر أن القطار منطلق وأنه هو إما أن يتبوأ مكانه من القطار فسيصل، أو يبقى على الأثر فيفوته الركب بالكلية؛ فهذا داع كذلك لزيادة همته، وهذان الداعيان متناقضان تماماً:

    الداعي الأول: بذل أعداء الدين وأعداء الله وما يبذلونه من تضحيات جسام، والداعي الثاني: بذل أولياء الله وما يبذلونه كذلك من التضحيات، وهذان الداعيان المتناقضان فعلهما عجب؛ فهما بمثابة التيار الكهربائي الموجب والسالب، يجتمعان فيؤثران ولو انفرد أي واحد لم يؤثر وحده، إذا تذكر الإنسان حال أعداء هذه الأمة وما يبذلونه، وتذكر أن الذي وصلت إليه هذه الأمم الراقية إنما وصلت إليه بفعل أبنائها، وأن الهجوم الشرس على دين الله تعالى هو مستهدف به، وهو الذي ينبغي أن يقف في وجهه كان هذا الداعي هو الداعي السالب، أما الداعي الموجب فهو أن يتذكر أن إخوانه من جنود الله سبحانه وتعالى يعملون، إذا نام هو فلله جنود آخرون؛ كما قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، إذا تذكر أن لله جنوداً آخرين، وأنه إذا قصر هو فسيقوم بالعمل من سواه فهذا هو الداعي الموجب، ويجتمع الداعي الموجب والسالب فيتكون التيار الكهربائي في نفس المؤمن، وهذا التيار الكهربائي هو الذي تنطلق به شرارة الهمة الأولى المكتسبة.

    إمداد النفس بالترغيب والترهيب وشحذ الهمة بهما

    ثم يأتي بعده إمداد آخر: وهو إمداد الإنسان بالترهيب والترغيب، وهذان بابان عظيمان جاء فيهما كثير من النصوص؛ فالله سبحانه وتعالى جمع لنا بين الترهيب والترغيب؛ لعلمه بما فطر عليه هذه النفوس وخلقها؛ فهو الذي خلقها وفطرها وهو أعلم بأحوالها، ولهذا خوفها بالترهيب وطمعها بالترغيب حتى استقامت واستمرت على هذا المنهاج، تذكروا قول الله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38]، هذه الحوافز التي جمعها الله في هذه الآية الواحدة؛ فيها ترغيب وترهيب، وفيها ثلاث حوافز عجيبة:

    قال: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ[محمد:38]، وهذا يشمل الإنفاق من كل الطاقات مما آتاك الله من علم ومن مال ومن لسان ومن مكانة اجتماعية ومن سلطة ومن نفوذ، ومن غير ذلك؛ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ[محمد:38]، أنت محتاج لا محالة؛ فأنت تاجر وتعلم أنك محتاج إلى هذا الإمداد الرباني، تعلم أنك ستحشر إلى الله حافياً عارياً أغرل، ليس معك إلا عملك، ومن هنا تتذكر أن ما تقدمه إنما تقدمه لنفسك؛ لهذا قال: مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ[محمد:38].

    ثم قال: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ[محمد:38]، هل تستطيع قطع العلاقة الدبلوماسية مع الله؟ لا تستطيع ذلك؛ لحاجتك وافتقارك إليه في كل أمورك، وإذا كان الأمر كذلك كنت محتاجاً إليه في كل اللحظات لا يمكن أن تجد لحظة واحدة تستغني فيها عن الله؛ فلابد أن تقدم له بعض ما آتاك وهو يطالبك بتقديمه.

    ثم ذكر الحافز الثالث فقال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38]، فأنتم جميعاً موظفون عند الله، في ديوان اسمه: ديوان نصرة دين الله، هذا الديوان يكتتب الله فيه الأفراد ويوظفهم فيه وراتبهم الجنة؛ فهم متفاوتون في ذلك بحسب ما يقدمون، لا بحسب السن ولا بحسب الضخامة، ولا بحسب النحافة، إنما تفاوت درجاتهم ورتبهم العسكرية في ديوان خدمة الدين بحسب ما يقدمون ويبذلون، فإذا بذل إنسان وضحى تضحيات جسيمة وصل إلى هذا المستوى المطلوب حتى لو لم يعمر إلا لحظات؛ كما في حديث الرجل الذي قال: ( يا رسول الله! أسلم وأقاتل، أم أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأخذ سيفه فقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراًك يه ذكل لوماسية مع الله سية مع الله )، ما عاش في هذه الحياة إلا لحظات بعد إيمانه وتبصره، لكن هذه اللحظات كانت خيراً من مئات السنين من أعمار الآخرين، استطاع فيها أن ينتصر على نفسه وأن يقدم نفسه فداءً لدين الله، وأن يكون وقوداً لقطار هذه الدعوة المتحرك، في لحظة من اللحظات.

    فإذا تذكرت أن تفاوت درجات الناس عند الله إنما هو بحسب ما يقدمون؛ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، فهذه هي الرتبة عند الله بحسب ما تقدمه، وتذكرت أن الله يخاطبك فيقول: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38]، إذا لم ترض لنفسك بالتقدم فالأمر سهل! لست الوحيد من جنود الله فعند الله الخلف، ومن أبلغ الحوافز للموظف أن يقال له: إذا لم تحسن عملك فسنصرفك عنه، ونأتي بمن يكون خيراً منك ليؤدي العمل على أكمل الوجوه، فهذا من أبلغ الحوافز التي تقتضي من الإنسان التضحية.

    تذكير النفس بمسئوليتها تجاه هذا الدين

    ثم التطعيم الآخر بعد الترغيب والترهيب وتذكرهما: تذكر الإنسان أن لهذا الدين مسئولية وأمانة؛ فقد أداها النبي صلى الله عليه وسلم على أكمل الوجوه، ونحن جميعاً نشهد بذلك، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، فلا يمكن أن يقول أحد في موقف القيامة أمام الأشهاد: ما جاءنا من بشير ولا نذير، لا أحد يجرؤ على أن يعلن هذا الموقف، فنحن نقر جميعاً أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقد وصلتنا إلى دورنا، وبلغتنا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمنهج الحق الذي جاء به؛ فقامت الحجة لله بذلك، فإذا كان الأمر كذلك فماذا فعلنا في هذه الأمانة التي اؤتمنا عليها؟ إن من أقر أنه أودع ثم أقر بالتفريط فلا عذر له؛ لأنه قد تمكن من الأمانة ووصلته وجعلها في جيبه، ثم فرط فيها بعد ذلك، إن هذا من أكبر الحوافز التي تدعو الإنسان إلى زيادة همته وعلوها.

    رسم الأهداف العظيمة والوسائل الموصلة إلى علو الهمة

    إن هذا التطعيمات التي تقتضي من الإنسان أن تزداد همته ينبغي أن يضاف إليها: ما يتعلق بالأهداف والوسائل؛ فالأهداف والوسائل متفاوتة متباينة.

    إن الهدف الأسمى والأكبر هو رضا الله الأكبر الذي لا سخط بعده، الذي يحتاج إليه جميع الخلائق؛ فكل الناس محتاجون إلى أن يتجاوز الله عنهم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي تعهد الله له بالمغفرة: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا[الفتح:1-2]، ومع ذلك كان يقول: ( أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ).

    فنحن محتاجون إلى رضوان الله الذي يستر الزلات ويقيل العثرات، وما من أحد في غنىً عن هذا الرضا، فهو الهدف الأسمى، والناس يعلمون أن هذا الرضا إنما ينال بما يقدمه الإنسان؛ لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ[الفتح:18]، وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100]، فهذا رضوان الله إنما حل على هؤلاء بسبب أعمالهم، وبسبب ما بذلوا وقدموا، وبسبب ما علم الله في قلوبهم، فإذا حددت أنت هدفك وعلمت أنك محتاج إلى رضوان الله سبحانه وتعالى ومضطر إليه، وأنك قد فرطت في جنب الله الشيء الكثير الذي لا تستطيع إنكاره، وستنسى كثيراً منه لكنك تعلم عندما يناجيك الباري سبحانه وتعالى يوم القيامة فيطلعك على الصحائف ستتذكر كثيراً من الأعمال التي كنت نسيتها، فإذا كان الأمر كذلك فإن من أبلغ ما يدعوك لزيادة همتك هو أن تفهم مزية رضوان الله الأكبر وسبب الوصول إليه.

    ثم بعد ذلك الأهداف الوسطى، ومن هذه الأهداف أن تكون في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه.

    كثير من الناس يحب أن يكون في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يفهم مزية هذا الهدف، النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يحب لأمته ولا لأتباعه إلا ما هو خير لهم، ولا يرضى بمعصية الله، ولا يرضى بمخالفة ما جاء من عند الله، والانتساب إليه صلى عليه وسلم يقتضي من الإنسان أن يكون من الغر المحجلين الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يكون في الزمرة، التي هي أول من يدخل الجنة، وأن يكون من الذين يدعون يوم القيامة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة:24]، وأن يكون من الذين يقال لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر:73]، وأن يكون من الذين يقال لهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، وأن يكون من أولئك الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ[الأنبياء:101-103].

    إننا في هذه الدنيا قد لا نكتشف مزية بعض الناس، بل يموت بعض الناس فلا يشعر به أحد ولا يفتقده أحد، لكنه يوم القيامة يكون من أولئك الذين يقال لهم: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ[الأنبياء:103]، ولهذا قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:83]، فإذا فهم الإنسان أن المزية عظيمة جداً، وأن الدرجات متباينة، ( وأن أهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكواكب الدرية )، وأنه بقدر خشوع الإنسان في صلاته وبقدر استقامته وإخلاصه تكون رؤيته للباري سبحانه وتعالى يوم العرض عليه، وأنه بقدر حسن خلقه يكون قرب مجلسه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ سيقتضي ذلك منه زيادة في الهمة.

    ألا ترون أنكم الآن تقتربون لسماع الصوت وتتنافسون في ذلك؟ تقتربون في الصف الأول؛ لما سمعتم فيه من الفضل والأجر، وتتنافسون فيه ولو لم تجدوا إلا أن تستهموا عليه لاستهمتم عليه، لكن الصف الأول يوم القيامة هم الذين في الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، هؤلاء هم أهل الصف الأول الذين بذلوا وضحوا فوصلوا إلى ذلك المقام العالي.

    إن من تذكر معنى أن يكون في قرة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة اقتضى هذا منه علو الهمة، وأن لا يرضى بالشيء اليسير.

    تذكر تنافس الملائكة في عبادة الله وعدم عصيانه

    ومن هذه التطعيمات المهمة فيما يتعلق بعلو الهمة: أن يتذكر الإنسان أن المنافسة الحاصلة في عبادة الله سبحانه وتعالى التي من أجلها خلق منافسة عظيمة جداً جداً، ألا ترون أن لله سبحانه وتعالى عباداً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ إنك تنافس في عبادة الله وخدمته من قبل جبريل وميكائل وإسرافيل وغيرهم من الملائكة، فهذا يقتضي منك أن تضحي وألا تقصر أبداً، كيف تقصر وأنت تريد أن تنافس في خدمة وعبادة جبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم من الملائكة والأنبياء؟ إنها مزية عظيمة تقتضي منك كثيراً من البذل والتضحية.

    اغتنام الفرص قبل فواتها

    ومما يقتضي علو هذه الهمة وزيادتها: أن تتذكر يا عبد الله! أنك في حياتك الدنيا قد أتيحت لك هذه الفرص، وهي بين يديك ولها وقت محدد، وتاريخ ينتهي فتكون كالدواء المنتهي التاريخ، أو كالحليب المنتهي التاريخ، فيطلب منك اتخاذ موقف مشرف في لحظات يسيرة، فإذا تعدت هذه اللحظات واتخذت هذا الموقف وأضعافه معه لم يقبل منك ولم يكن له مزية؛ فالمواقف امتحانات يمتحن الله بها عباده، تعرض عليك المعصية فإذا رفضتها وكنت ربيط الجأش صابراً فهذا وقت النجاح، إذا انسقت وراءها ثم جئت تستقيل بعد ذلك فقد يغفر لك وقد لا يغفر، إذا رأيت تضحية في سبيل الله بارزة عرضت عليك فاعلم أنها فرصة نادرة جداً، فإذا لم تبادر إليها فاعلم أنها بالإمكان أن تفوت؛ ولذلك يقول الحكماء:

    وإذا سئلت الخير فاعلم أنها نعما تخص بها من الرحمن

    إذا رأيت فقيراً محتاجاً هو من عيال الله فقد أتاح الله لك الفرصة لأن تقدم شيئاً لآخرتك، وجدت رسولاً أميناً سيحمله على عاتقه حتى يسلمه إليك في الجنة، لكنك تفرط في هذه الفرصة وتقول: الفقراء سواه كثر، لكن إلى متى تعيش أنت؟ ومن يضمن لك أن تجد محتاجاً؟ من يضمن لك أن تبقى حتى وقت آخر تتدارك فيه ما فاتك؟ ولهذا قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:10-11].

    ومثل هذا الزهد في العلم؛ يزهد كثير من الناس في أوقات ثمينة يمكن أن يتعلم فيها لكنه يقول: علي التزامات في هذا الوقت، والمحاضرات كثيرة، وإذا فاتتني هذه فسأدرك محاضرة أخرى، لكن من يضمن لك البقاء؟ ما يدريك لعل الملائكة الذين يجلسون على أبواب المساجد يكتبون قد أذن لهم بكتبة الناس في هذا الوقت في سجلات سترفع إلى رب العزة والجلال، فإذا لم تكن فيها فقدت خيراً كثيراً.

    إن الذين يسوفون ويتمنون على الله الأماني ويرضون بأن يؤخروا عمل اليوم لغد يوشك أن يقعوا في دائرة الإهمال؛ حيث يدعوهم غد إلى غد آخر حتى ينتهي العمر بذلك.

    إن الفرص التي تتاح لقراءة القرآن، ولذكر الله، ولصلاة ركعتين تفوت كثيراً من الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، صحة بدنك وقوتك الآن نعمة عظيمة، سيأتي الوقت الذي تجد فيه نفسك مسجىً على السرير في المستشفى، أو مريضاً تشكو ألماً حاداً فبادر قبل أن يأتي ذلك الوقت، ما دمت معافىً في بدنك فانتهز هذه الفرصة.

    والنعمة الأخرى هي الفراغ؛ فما دمت في فراغ من وقتك يمكن أن تستغله فيما ينفع فاعلم أنها نعمة نادرة، وأنه بالإمكان أن تأتيك الأشغال وأن تتراكم عليك؛ فإذا وجدت فرصة لاستغلال هذا الوقت فبادر قبل أن يفوت الأوان، ولهذا جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بادروا بالأعمال ستاً؛ فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مضنياً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال ؛ فـالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمر ).

    هذه الفرص النادرة التي نجدها قل من الناس من يستغلها، ليتذكر كل واحد منا أنه في الليالي التي ينامها على فراشه يستيقظ وهو معافى في وسط الليل، يستيقظ وكان بالإمكان أن ينتهز هذه الفرصة ويمكن أن تكون في وقت النزول، وديان السموات والأرض ينادي: ( ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من يدعوني فأستجيب له؟ ) وكثير من الناس إذا استيقظ في هذا الوقت رد رأسه على الوسادة، وعاد إلى النوم الذي كان فيه فتفوته هذه الفرصة النادرة العجيبة، قامت عليه الحجة ونال المساعدة العظيمة لاكتساب أجر عظيم ففاته هذا الأوان.

    كثير من الناس إذا سمع أحوال الأمة وتذكر ما فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم اليوم من الهموم والغموم، وتذكر أن نصيبه هو من هذه الهموم أقل، نحن لا نقول: إن أحداً من هذه الأمة خالٍ من الهموم مطلقاً، بل لا أحد إلا وله نصيب من هذه المصائب، لكن عليك أن تتذكر أن المستوى الذي أنت فيه من نعمة الله يفقده كثير من أفراد هذه الأمة، وهذه مسئوليتك عنهم؛ فبادر قبل أن تكون الدائرة عليك.

    إن الذين لم ينصروا أهل الأندلس حين استغاثوا بهم وطلبوا منهم النصرة على أعدائهم الكفار لم تمض سنوات قليلة حتى داهمهم العدو في ديارهم، وكذلك في أيام المستعمر كان المستعمر إذا احتل بلدة من بلدان الإسلام ولم يجد أهلها من ينصرهم ولا من يساعدهم نظروا إلى من وراءهم وهم ينعمون بالعافية، لكن ما هي إلا سنوات يسيرة حتى تسقط تلك البلدان الأخرى التي لم يقم أهلها بالواجب.

    وهنا أتذكر فتوى أفتى بها الشيخ محمد النيفر مفتي تونس عندما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830م، أفتى بجرحة شهود الجزائر وقضاتها، قال: لأنهم استطاعوا الهجرة ولم يهاجروا، فما مضى إلا خمسون سنة حتى احتلت تونس، فتنطبق عليهم نفس الفتوى، انطبقت فتوى المفتي على نفسه؛ لأنه هو أيضاً لم يهاجر، وتتسلسل القضية؛ فكل بلدة تسقط بعد الأخرى قد قامت عليها الحجة من قبل؛ لأن الدائرة ستعود، والقبض والبسط كفتا ميزان، وهذه المصائب تدور دواليك بين الناس؛ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[آل عمران:140]، فإذا تذكرت حال إخوانك المستضعفين المستذلين الذين يضطهدون في دينهم فلم تبذل لهم فستدور الدائرة عليك وتكون أنت الضحية في المستقبل، إذا لم تقوموا لله بالحق لإخوانكم المستضعفين فاعلموا أن الدائرة ستدور عليكم، ويأتي اليوم الذي تكونون فيه كحال الكويتيين وقت الأزمة عندما خرجوا من بلادهم وتركوا ما خولوهم الله وراء ظهورهم، فما هي إلا ليلة واحدة يصبح فيها الأغنياء فقراء، والآمنون خائفين ويخرجون من ديارهم، لا يصحبون إلا ما خف من المتاع، دارت عليهم دائرة من عوائد الدهر التي ليس أحد بمأمن عنها، بعد ما كان من سواهم يلجأ إليهم، فأصبحوا هم يلجئون إلى من سواهم، وليس الحال مختصاً بهم، بل الحال سيدور على الجميع، إن هذا مما يقتضي علو هذه الهمم.

    كذلك إذا تذكر الإنسان الأمثلة التي يقتدى بها في هذا المجال؛ فهي مما يحفز الهمم، ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: (إن سير الصالحين جند من جنود الله يثبت بها الله قلوب عباده)، ومصداق ذلك من القرآن قول الله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].

    1.   

    أهمية التربية في غرس القيم والهمم لدى المربي والمتربي

    إذا زرعت هذه الهمم للإنسان وقد مضى به عمره فقد بقيت عنده روافد ستبقى معه طيلة حياته، أما إذا زرعت فيه هذه الهمم وهذا الإيمان وهذه القيم في صباه قبل تمام السادسة من عمره فإن ذلك مقتض بأن يبقى مع حياء طيلة عمره، وأن تبقى معه تلك القيم يجد منها وازعاً يزعه عما لا ينفع طيلة حياته.

    وكذلك على المربين والمدرسين والمعلمين أن يجتهدوا في زرع هذه الهمم في النفوس، وأن يعلموا أن كلمة يقولها الأستاذ ولو لم يكن هو متصفاً بها قد تؤثر فيمن يسمعها تأثيراً بالغاً، وبالأخص أن كثيراً من الناس يتأثرون بالنصح، فإذا رأوا من ينصحهم ومن يظن بهم الخير، ومن يقدرهم أثر فيهم أثراً بالغاً، ولا تزال المواقف تذكرنا بمواقف السابقين؛ فما أزال أتذكر بعض الشباب الذين ينتفعون بالنصح، فيأتون يسترشدون فيرشدهم من ليس أهل للإرشاد، ولا هو متصف بذلك ولكنهم ينتفعون بذلك؛ فيرى منهم قرة عين، ويرى منهم مثابرة وعمل يقتضي منه هو أن يتشجع ويزداد في عمله.

    ومن هنا فإن كثيراً من الدعاة المعاصرين الذين دأبوا على تربية الناس، وكانت لهم تجارب بارزة في هذا المجال يقولون: إن الذين نتلقاه من الذين نربيهم خير مما نعطيهم، فكثير من الأساتذة المربين تزداد مواقفهم وتزداد صلابتهم بسبب مواقف من دونهم؛ لأنهم يستحيون أن يكونوا من الداعين إلى هذا والآمرين به ثم يتنازلون.

    وأذكر موقفاً للشيخ عبد الله بن داداه رحمه الله أنه طلب من عامل أعمدة من خشب؛ فأتاه بها فإذا هي عوجاء، فقال: هذه العمد عوجاء، فقال: يا شيخنا! الدنيا كلها عوجاء. فوضع الشيخ يده على رأسه وتذكر أنه يطلب الكمال في غير موضعه، يطلب الكمال في الدنيا التي هي مبنية على شفا جرف هار، فاستفاد من هذه الكلمة العجيبة التي صدرت من هذا الإنسان.

    وأذكر أن أحد التجار خرج إلى المسجد ليصلي وترك مكانه - في مكان عمله في سوقه - فلما رجع من المسجد وجد أن شخصاً مختل العقل يجلس في مكانه؛ فغضب غضباً شديداً، فقال له: قم! بكلام فيه جفاء، فالتفت إليه هذا الأبله وقال له: أحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة، فوقع الرجل وسقط من طول قيامه، وتذكر الحال وأنه لا يدري هل هو أقرب إلى الله أم هذا الإنسان الذي يطرده من مكانه؟

    وأتذكر قصة أخرى قصها علي أحد المربين، يقول: إنه في تربيته للشباب الذين يربيهم، يرى منهم مواقف تجعله يزداد إيماناً وزكاءً وتربية من أولئك الشباب؛ فيستفيد منهم أكثر مما يفيدهم.

    وهذه المواقف كثيرة جداً، ومثلها ما حصل لـأبي الأعلى المودودي رحمه الله عندما كان يخطب في مؤتمر الجماعة الإسلامية في باكستان، فأطلق الرصاص في القاعة؛ فدخل الناس تحت الكراسي وقالوا له: اجلس.. اجلس، فقال كلمة مدوية، قال: إذا جلست أنا فمن يقوم، فقام الناس جميعاً وكأن شيئاً ما حصل واستمر المودودي في خطبته.

    وكذلك يقول أحد الذين يعرفون البنا رحمه الله: أنه أتاه ذات ليلة فوجده في آخر الليل وقد أكمل قيام الليل، واضطجع على فراشه يريد النوم، لكنه لم يستطع النوم لبعض الأعمال التي يقوم بها؛ فإذا هو يلصق الطوابع البريدية على الرسائل، فقال له: حتى هذا الوقت! وقت الراحة، ألا تنام فيه؟ فقال: إذا أردت أن أنام تذكرت شباباً صغاراً لا يقال عن أحدهم مرشد ولا ...، يأتون إلي في هذا الوقت من الصباح الباكر وهم يعملون لنصرة دين الله، فإذا لم أنافسهم في ذلك كنت على الأثر.

    فهؤلاء الذين يربون الناس يأخذون العبر في مثل هذه المواقف؛ فتزداد هممهم وتزداد تضحياتهم بسبب أن من دونهم يظهر منه بعض هذه المواقف، ألا تذكرون ما حصل لـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوم بدر عندما نظر إلى من حوله فإذا هم فتيان صغار لا عهد لهم بالحروب، وما لهم تجربة ولا عرفوا في معارك سابقة، فخشي على نفسه لعلمه أن قريشاً تريد أن تنال منه، لكنه ما رأى هؤلاء الفتيان الصغار يستبقون إلى أذنيه كل واحد يقول: يا عم! إذا رأيت أبا جهل فأرنيه، فيقول: سبحان الله! وما حاجتك إليه، قال: بلغتني عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأريد أن أقتله، فإذا هم يستبقون إلى أبي جهل ويقتلونه وهو يرى، فــعبد الرحمن الذي هو من السابقين المهاجرين ومن الذين بذلوا وضحوا من قبل الفتح وقاتلوا، ومع هذا يجد نفسه مبهوراً أمام هؤلاء الشباب الصغار الذين يستبقون إلى أبي جهل ويضربونه بسيوفهم.

    إن مثل هذه المواقف تقتضي أن يكون عامل علو الهمة متعدياً، فإذا ازداد الشباب تضحية وبذلاً وازدادت هممهم فذلك مقتض لأن يزداد الكبار همة؛ إذ ينظرون إلى هؤلاء الصغار وما يبذلونه فيقتضي منهم ذلك زيادة وبذلاً ومساهمة في هذا الخير وهم يرون من دونهم يقوم بهذا العمل؛ فيستحي الكبير ألا يكون مثل الصغير على الأقل.

    فلهذا أقول: إن علينا أن نحاول أجمعين أن تزداد هممنا علواً، وأن تزداد تضحياتنا وبذلنا في سبيل الله، وأن نحاول أن نقتفي آثار الذين سبقونا، وأن نحاول اللحاق بهم إلى ذلك سبيلاً.

    نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً، وأن يزيدنا بذلاً وتضحية في سبيل الله، وأن يزيدنا علماً وعملاً، وأن يجعلنا من المخلصين المخلصَين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767946685