بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنحمد الله تعالى على هذه النعمة العظيمة الجسيمة، حيث جمعنا في مسجد من مساجده، على ذكره، في انتظار فريضة من فرائضه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتحابين فيه، والمتجاورين فيه، والمتجالسين فيه، والمتباذلين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ولا بد في بداية الحديث في ظلال الآيات الكريمات من سورة الأنعام أن نتذكر الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن نستحضر النية في تدبر كلامه ومدارسته، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
فهذه جوائز عظيمة من الله سبحانه وتعالى وتحصل بالنية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
إن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الأنعام دفعة واحدة في العهد المكي، ولم ينزل عليه إذ ذاك من السور دفعة واحدة من الطوال سواها، فجاءت مخالفة لما كان يعهده من قبل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبلها يجد من التنزيل شدة، وكان إذا أتاه جبريل بالقرآن يحاول تحريك شفتيه به يخاف أن ينساه، فضمن الله له ثباته في صدره، وأنزل عليه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:16-19]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل يستمع له وينصت، فإذا انطلق جبريل قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأه جبريل، وقد تعهد الله له بحفظه، فكانت سورة الأنعام بداية تغيير، حيث جاءت بالآيات الطوال، وبالعدد الكثير من الآيات في هذه السورة، ونزلت دفعة واحدة، فحفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنزلت عليه.
وجاء فيها أمر جديد آخر، وهو التفصيل في الأحكام، حيث كانت السور المكية يتعلق أكثرها بالتوحيد، وبرد ما كان عليه أهل الجاهلية، فجاء في سورة الأنعام تفصيل كثير من الأحكام، كأحكام الذبائح، والصدقات، والحرث، ورد دعاوى المشركين فيما يتعلق بالميتة، وكذلك مجادلتهم فيما يتعلق بالأولاد وقتلهم.
لقد أنزل الله تعالى الوصايا العشر، فجمع خمساً في آية وأربعاً في آية، وواحدة في آية، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام.
وقد أوصانا الله سبحانه وتعالى بهذه الوصايا، ورتب عليها كثيراً من الخير، فرتب عليها زيادة العقل أولاً، ثم رتب عليها زيادة التذكر والعبرة، ثم رتب عليها زيادة التقوى، فهذه ثلاثة أمور رتبها الله على الأخذ بهذه الوصية.
وقد افتتحها الله سبحانه وتعالى بأعظم ما يوصى به، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى جل شأنه، وفي مقدمتها جاء تعليم الأسلوب الذي ينبغي أن يجادل به الناس، وأن يدعوا به وهو أسلوب المخالطة والاندماج، لا المقاطعة والغلظة والفظاظة، فقد قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا[الأنعام:151]، معناه: قل يا محمد! للمشركين والمنافقين وجميع الناس: تعالوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد الانفصال عن الناس، ولا عدم خلطتهم، بل يريد خلطتهم لكن بالتأثير الإيجابي الصحيح وهو المجادلة بالتي هي أحسن، والدعوة إلى المنهج الصحيح، ورد ما هم عليه من الباطل، فلذلك قال: قُلْ تَعَالَوْا[الأنعام:151].
وهذا الدعاء الذي وجه إليهم لا شك أنه إلى نفع، وقد قال ابن عباس : إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يصرفك عنه، فلذلك قال: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].
أتل: أي: أقرأ ما حرم ربكم عليكم، فهذه وصية الله بكبريات المحرمات التي حرمها على الناس جميعاً.
وهذه الآية استدل بها كثير من المفسرين على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لأن الخطاب في الأصل لهم، ولذلك قال: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151]، فدل هذا على أن الكفار يحرم عليهم ما ذكر هنا من المحرمات، وعلى هذا فهم مخاطبون بفروع الشريعة.
وهذا الذي تدل عليه آيات أخر، منها قوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ[المدثر:42-47].
فإنه هنا ذكر عنهم أن سبب دخولهم النار عائذاً بالله منها أنهم لا يصلون: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر:43]، وأنهم لا يزكون: وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ[المدثر:44]، وأنهم يكذبون: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ[المدثر:45]، وأنهم لا يؤمنون بالله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ[المدثر:46-47]، فدل هذا على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وعموماً فإن الخطاب لا يختص بهم، بل هو في البداية موجه إلى المؤمنين؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11]، فالخطاب أولاً موجه إليكم يا من تتلقون عن الله وتقبلون منه فأنتم أولى به، وأنتم أهله، ولذلك اختصكم الله تعالى بالتشريف ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونذارته، فلذلك لا بد أن تتلقوا كلام الله بلهفة وشوق؛ لأنه كلام الملك الجبار، وقد أرسل به إليكم أفضل الرسل وخير الملائكة وأنزله في خير الكتب، وتكلم به الجبار جل جلاله، وقد بين لكم هنا ما حرم ربكم عليكم.
مَا حَرَّمَ[الأنعام:151]، أي: الذي حرم، ما: موصول اسمي، والعائد محذوف وهو موصوف بالفعل، وهذا من المواضع التي يقاس فيها حذف الضمير العائد على الموصول إذا كان منصوباً بفعل، فأصل الكلام: ما حرمه ربكم عليكم، والمقصود بذلك: كبريات المحرمات لا كلها، فإن هذه الشريعة من سنة الله فيها أن تأتي بالتدريج والتقسيط، ولو جاءت الشريعة دفعة واحدة لاقتضى ذلك نسخها وتبديلها كما كانت الكتب السابقة تنزل، فإن كل نبي من الأنبياء كان ينزل عليه شرعه جملة واحدة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول نبي لم ينزل عليه الشرع جملة واحدة، بل جاء بالتقسيط والتدريج في ثلاث وعشرين سنة، فلذلك قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً[الفرقان:32]، فهذا المألوف لديهم، فأجابهم الله بقوله: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً[الفرقان:33-34]، وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً[الإسراء:106].
فلذلك جاءت الأحكام فيه سواء كانت فيما يتعلق بالمحرمات، أو ما يتعلق بالواجبات، أو ما يتعلق بالمباحات، جاءت بالتدريج والتقسيط، وهذه الكبريات هي أصول ينبثق عنها ويتفرع عنها ما سواها، فلذلك صدق عليها أنها ما حرم ربنا علينا.
وهنا قال: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ[الأنعام:151]، ولم يقل: (ما حرم الله عليكم)، وما لفتة ذلك البلاغية؟ لفتته البلاغية أن الله ما حرم شيئاً إلا رحمة بعباده، فهو الرب جل جلاله، والرب هو الموصل إلى الكمال بالتقسيط والتدريج شيئاً فشيئاً، فهذه المحرمات لو وقع فيها العباد لكانت الضرر عين الضرر بهم، فلذلك ما حرم الله شيئاً بعباده إلا لتمام رحمته بهم، ولا يحل ولا يحرم إلا لحكمة، وهذه الحكمة تتعلق بمصالح العباد، فلهذا قال: (ربكم)، والرب هو موصل الإنسان إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، فقد أنشأه أولاً من تراب، ثم بعد ذلك من سلالة من ماء مهين، ثم بعد ذلك جعله علقة، ثم جعله مضغة، ثم جعل المضغة عظاماً، ثم كسا العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر، وهو تناميه بعد ميلاده من الصبوة إلى الكبر إلى الهرم والشيبة إلى الموت، ثم بعد ذلك يبعثه خلقاً جديداً يوم القيامة، فهذا هو الرب، وهذا ما لا يمكن أن يدعيه مخلوق، فلا يستطيع مخلوق أن يدعي المشاركة في الخلق، وأبلغ دليل في الرد على ذلك أن يقال له: هذا الطعام الذي تزدرده وهذا الماء الذي تشربه أين يذهب بعد أن تدخله في فمك؟ هل لك مشاركة في تصفيته؟ هل لك مشاركة في توزيعه؟ ما من عضلة من عضلاتك ولا شعرة من شعرك ولا شيء من جسمك إلا يصل إليه نصيبه منه بكل دقة، فهل لك مشاركة في ذلك؟ وهل تعرف نصيب الشعر من غذائك؟ هل تعرف نصيب الأظافر منه؟ هل تعرف نصيب اللون منه؟ هل تعرف نصيب سواد العين وبياضها منه؟ لا تستطيع التأثير في شيء من ذلك، فهذا شأن الرب جل جلاله.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لتمام رحمته بنا إذا جاء تحريم أمر شاق مما تعوده الناس يقرنه ببعض أسمائه وصفاته التي تقتضي تحبيب ذلك الذي جاء الشرع به من عنده.
فهنا لما كان الأمر شاقاً بالتحريم ربط ذلك بنعمته علينا أنه هو ربنا، والأم تمنع ولدها مما هو ضرر عليه، وتفطمه إذا حان فطامه، والرب هو أرحم الراحمين، وهو اللطيف البر، فلذلك كل ما حرمه على عباده وكل ما فطمهم عنه فذلك لمصلحتهم هم، فلهذا اقترن التحريم بذكر الرب جل جلاله: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].
وهذا التحريم ربط هنا بقوله: (عليكم)، و(على) في الأصل للاستعلاء، ومعنى ذلك أن هذا التحريم جاء من أعلى، فليس هو من القوانين التي يضعها الناس فيما بينهم، وليس هو من الأمور التي تتبدل فيها المصلحة فتكون اليوم مصلحة وغداً مفسدة، فهو جاء من أعلى لا يستطيع أحد الفرار منه: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].
أول ذلك: أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً[الأنعام:151].
توحيد الله سبحانه وتعالى هو أول واجب على الإنسان، وأول ممنوع على الإنسان هو الشرك بالله، وهذا الإشراك عممه هنا تعميماً عجيباً فقال: (ألا تشركوا)، فنفى الفعل بلا، ونفي الفعل من قبيل العموم فهو مقتض لجميع أنواع الإشراك.
والشرك في الأصل ينقسم إلى نوعين: إلى شرك أكبر وشرك أصغر، فالشرك الأكبر هو المخرج من الملة نسأل الله السلامة والعافية، وهو ضد الإيمان؛ لأن الإيمان ضده الكفر، فإذا أشرك العبد في الإيمان فقد هدم إيمانه وأزاله، وهذا الشرك الأكبر أربعة أنواع:
فالنوع الأول منه: الشرك في العبادة: أن يصرف الإنسان شيئاً من عبادته لمخلوق، كأن يسجد للصنم، أو أن ينذر لمخلوق، أو أن يقدم قرباناً لمخلوق مما يتقرب به إلى الله جل جلاله، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يستحق العبادة إلا الله جل جلاله وحده؛ ولذلك لا يستطيع الإنسان أن يعظم أبويه، ولا أن يعظم الملائكة ولا الرسل كتعظيم الإلهية، فهذا حق من حقوق الله وحده، وقد استأثر الله به، فلا يستحقه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولكن لهم حقوق أخرى في التعظيم ليست كحقوق الإلهية، فالإله له حقه الأعلى في التعظيم وهو العبادة، والملائكة والرسل والصالحون والمقربون من عباد الله سبحانه وتعالى لهم حق آخر يسمى التقدير والاحترام والتعظيم بحسب ما هم عليه من القرب من الله سبحانه وتعالى، لكن ليس لهم حق في العبادة.
ومن هنا فإن هذا النوع من أنواع الشرك وهو الشرك في العبادة هو الذي خالف فيه قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعصبوا له، فكانت عباداتهم منطبعة بالعادات، وكانوا يعبدون من دون الله عدداً كثيراً من الأصنام، منها الآلهة التي يتقربون إليها ويذبحون لها، حتى يذبحون لها أولادهم، ومنها كذلك الهوى، فقد كانوا يقلدون الهوى ويتبعونه، فهو إله لديهم من الآلهة، فكلما أحب الإنسان شيئاً بادر إليه واستجاب له، وكلما اشتهى اشترى، وكلما طمع في شيء ورغب فيه قلده، فكان هذا الهوى إلهاً من آلهتهم ومعبوداً لديهم؛ لأنهم يقدمونه على كل أوامر الدين ونواهيه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ[القصص:50]، ومن أضل ممن اتخذ إلهه هواه! أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً[الفرقان:43]، أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ[الجاثية:23]، فقد جعلوا الهوى إلهاً من دون الله.
وكذلك من هذه الآلهة التي كانوا يقدرونها ويحترمونها من كان من رجال الدين لديهم، سواء كان من كبارهم وعلية القوم والملأ فيهم، أو كان من الذين ينتسبون إلى العلم، فيقدسونهم تقديساً زائفاً، فأهل العلم ليس لهم حق التحليل ولا التحريم، وإنما هم أمناء، لا يحل لهم أن يحرفوا بقدر أنملة عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، وعما جاء به أي رسول من عند الله، وإذا خالفوا ما ائتمنهم الله عليه بكلمة واحدة فإنهم يعرضون لما لا عين رأت، ولا أذن سمعت من أنواع الأذى والهوان، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك فقد قال الله تعالى: وَلَوْ تقَوَّلَ عَلَينَا بعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[الحاقة:44-47]، فلا يستطيعون أن يقولوا على الله بغير علم، ومن فعل ذلك منهم كان مع إبليس في لعنة الله نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك فإن من آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله أيضاً بعض القيم التي كانت لديهم، فمنها القبيلة، فقد كانت مشرفة لديهم مقدسة، فيقاتل الإنسان على أساس الحمية للقبيلة لا يدري هل هي ظالمة أو مظلومة، ولا يسأل عن ذلك، وهذا يشمل كل علاقة نسبية، فقد كانوا ينتصرون لذوي أرحامهم لا يسألونهم من ماذا غضبوا؛ ولهذا كانت الدماء تراق لأتفه الأسباب، فقد اقتتل عبس وذبيان مدة أربعين سنة؛ بسبب أن فرساً غلبت أخرى، وهذه حرب داحس والغبراء، وفيها يقول قيس بن زهير بن جذيمة :
تعلم أن خير الناس ميت على جبر الهباءة لا يريم
ولولا ظلمه لأقمت أبكي عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر بغى والبغي مرتعه وخيم
ويقتتل بنو بكر وبنو تغلب ثلاثين سنة؛ بسبب أن ناقة وطئت بيضة لحمامة فكسرتها، وهذه حرب البسوس، وهكذا حروبهم كلها: حروب الفجار، وحروب الكلاب، وغيرها من الحروب المشهودة المشهورة في أيام العرب، كلها من باب الحمية للقبلية ولبعض القيم التي لديهم، فقد جعلوها آلهة تعبد من دون الله، ولذلك يضحي الإنسان في سبيلها بدمه وماله.
إذاً هذا هو النوع الأول من أنواع الشرك وهو الشرك في العبادة.
النوع الثاني: هو الشرك في الدعوة، وهو دعاء غير الله، والتوكل عليه، والاستغاثة به، وطلب النفع منه بما لا يستطيع أن يفعله، فهذا النوع هو من الشرك الذي كان سائداً لديهم، وهو من الشرك الأكبر المخرج من الملة، وقد قال الله تعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا ينَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].
ولنفهم معنى هذا النوع من الشرك، علينا أن نفكر أن اعتقاد المخلوقين أن الله جل جلاله لا يحجبه صوت عن صوت، ولا سمع عن سمع، وأن السموات السبع والأرضين السبع في قبضة يمينه، فإذا دعاه أي داع في السموات أو في الأرض استجاب له وسمعه، سمع الله لمن حمده. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ[النمل:62].
فالمؤمنون جميعاً يؤمنون بأنه إذا دعاه الإنسان في بنجلاديش في الفيضانات، أو الإنسان في الفلوجة تحت قصف الطائرات، أو الإنسان في أفغانستان في الأنقاض، أو الإنسان في أي مكان من أنحاء الأرض فإن الله يسمعه ولا تحجبه لغة عن لغة، يسمع دعاءهم جميعاً في وقت واحد جل جلاله، وهذا اعتقاد كل مؤمن.
لكن في مقابل هذا الاعتقاد إذا أردنا معرفة النوع الثاني من أنواع الشرك وهو الشرك في الدعوة، نتصور أن كثيراً من الناس يدعون من دون الله أشخاصاً، أو ملائكة، أو أنبياء، وإن كانوا محلاً للتقدير والإعجاب، وإن كانوا معظمين بتعظيم الله لهم، لكن ليس لهم حق في أن يدعوا من دون الله، فإذا أردت أن تفهم ذلك فانظر لو أن إنساناً مثلاً دعا رسولاً من الرسل، ليكن إبراهيم أو محمداً صلى الله عليه وسلم، أو نوحاً أو آدم، أو أي رسول من رسل الله، عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، فيمكن أن يسمع نداء شخص واحد إذا كان قريباً منه، لكن هل يمكن أن يسمع أصوات الخلائق بلغات مختلفة، في أماكن شتى؟ لا يمكن أن تعتقد ذلك، فأنت تعتقد أن الذي لا تحجبه سماء عن سماء، ولا أرض عن أرض، ولا جبل ما في وعر، ولا بحر ما في قعر هو الجبار جل جلاله وحده، وأن من سواه تخفى عليه الأمور فلا يطلع إلا على ما أطلعه الله عليه.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة في صحيح البخاري : (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو فليدعه).
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر إلى تبوك في غزوه للنصارى الغزاة العتاة المحتلين للشام وبيت المقدس، وقد أمره الله سبحانه وتعالى بقتالهم وغزوهم، فخرج إليهم في وقت الشدة والمحنة، مضحياً بارزاً لله عز وجل، واهباً نفسه ومن معه لله تعالى، خرج في وقت غزوة العسرة، فنزل بتبوك، فأضل ناقته، وهذه الناقة لها شأن عظيم، هي التي جاء عليها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، وعاشت معه بقية حياته، لم تهرم، ولم تشخ، ولم يتغير شيء من حالها، وكان لا يحمله عند نزول الوحي عليه أية دابة سواها، وإذا ركب فرساً أو بغلاً أو حماراً وقت نزول الوحي فلا بد أن يمس بطنه الأرض إلا القصواء وحدها، فكان إذا ركبها فنزل عليه الوحي وضعت أرجلها بالأرض وقامت، وأمسكت عن الاجترار حتى ينفصم الوحي عنه، وهي معجزة من معجزاته خصه الله بها، لكنه في هذه الغزوة أضلها أي فقدها. فطلبها الناس في كل مكان فلم يجدوها، فقال المنافقون: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء، فكيف يخفى عليه مكان ناقته؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: (أيها الناس! إنما أنا عبد الله ورسوله، لا أعلم إلا ما علمني ربي، وإن الناقة في وادي كذا في شجرة كذا قد حبسها الشوك)، وذهبوا فوجدوها في المكان الذي أخبر به رسول الله.
فهذا الحديث صريح في أنه لا يعلم إلا ما علمه الله، ولا يمكن أن يطلع على دعاء من لم يطلعه الله على دعائه، ولا يمكن أن يسمع إلا ما أسمعه الله، ولهذا قال الله له: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ[الأنبياء:45]، إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ[النمل:80]، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ[فاطر:22-23].
لذلك لا بد من إخلاص الاستغاثة بالله سبحانه وتعالى وحده، وألا يدعو الإنسان من دونه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولا رجلاً صالحاً من الصالحين، فهذا حق من حقوق الإله جل جلاله، وحق الإله لا يمكن أن يشرك فيه معه غيره بحال من الأحوال.
وأذكر أن امرأة من الصالحات سألت، وكانت من قبل تربت على المألوف من المجتمع، من المغالاة في الصالحين والأنبياء والملائكة أكثر من حقوقهم، فسألت عن ذلك، فقلت لها: ألك زوج؟ فقالت: نعم. قلت: ألك والد؟ قالت: نعم. قلت: أليس للوالد حق غير حق الزوج؟ قالت: نعم. وللزوج حق غير حق الوالد؟ قالت: نعم. فقلت: أيهما أحب إليك؟ قالت: أبي أحب إلي. قلت: إذا طلبك حق الزوج هل تعطيه إياه؟ قالت: لا، فكذلك الإنسان المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً يعطيه حقه، ولكن لا يمكن أن يعطيه حقوق الإلهية، هذا لا يمكن أن يكون.
فلذلك لا بد من الفصل التام بين حقوق الإلهية وما للمخلوقين من الحقوق، وليس معنى هذا الاعتداء على حقوق المخلوقين، وكيف بأشرف المخلوقين محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء والملائكة والصالحين، هؤلاء أشرف الخلائق، ولهم حقوق لا بد من احترامها وهي على الرأس والعين: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32]، فلا بد من تعظيمهم واحترامهم وتوقيرهم وأداء حقوقهم إليهم، ولكن ليس من حقوقهم حق الإلهية، فهذا حق الرب جل جلاله، ولا بد من الفصل التام بينه وبين حقوق المخلوقين، ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ[فاطر:14]، ولم يطعن فيهم، فيمكن أن يكون بعضهم من الصالحين، وبعضهم من الأولياء المقربين، وبعضهم من الأنبياء، وبعضهم من الملائكة: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:14]، ليس لهم ملك شيء في هذا الكون ولذلك يموتون، فمن يموت لا يمكن أن يكون مالكاً لشيء من أمر الكون؛ لأنه لو كان مالكاً له لصحبه معه، فلذلك قال: مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا[فاطر:14-15] لو قدر أنهم سمعوا وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:15]، وهذا الكفر هو الذي بينه الله في سورة البقرة بقوله: إِذْ تَبرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ[البقرة:166]، وبينه كذلك في سورة الإسراء، فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً[الإسراء:57].
بنو إسرائيل يدعون أنبياءهم من دون الله، فقد كانوا يدعون إرميا و عزيراً وعيسى ابن مريم، فأنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ[الإسراء:57] هم من المتقربين إلى الله، الذين يرغبون في مرضاة الله، ويسارعون إلى وجهه الكريم وإلى رضاه يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ[الإسراء:57] هم يدعونهم من دون الله، وهم أنفسهم يبتغون الوسيلة إلى الله ((أَيُّهُمْ أَقْرَبُ))، يتنافسون في القرب منه. وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً[الإسراء:57].
ثم إنه قال: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:15]، فأحال الله العلم إلى نفسه فهو العليم الخبير جل جلاله، فإذا جاءك البيان من عند أعلم العالمين، وجاءك التفصيل الشافي بأدق العبارات وأفصحها فهل تطلب علماً بعد هذا؟ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:15]، أي: هذا النبأ الذي لا يمكن أن يعتريه ريب ولا شك، وهو نبأ الجبار جل جلاله.
النوع الثالث من أنواع الشرك: هو شرك التشريع، فالله سبحانه وتعالى وحده هو العالم بمآلات الأمور، وهو العالم بما هو مصلحة للعباد، فهو الذي يستحق أن يحل ويحرم، فلا يمكن أن يحل أحد من دونه ولا أن يحرم؛ لأن المخلوق يمكن أن يعرف مصلحته اليوم ثم تنقلب مفسدة غداً.
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
والله تعالى يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14].
فلا يمكن إذاً أن تخفى عليه خافية، فقبل خلق آدم وقبل خلق السموات والأرض علم الله حالنا الآن، وجلستنا هذه وما فيها من الضعف والمسكنة والمذلة، وما لأعدائنا من القوة، كل ذلك علمه قبل تشريعه للأحكام، فلذلك كانت أحكامه عن حكم وحكمة وعلم، فهو وحده الذي يستحق التشريع، فالحكم له وحده: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ[يوسف:40]، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10]، فالله سبحانه وتعالى هو الحكم العدل وحده، فالشرك في الحاكمية بإباحة أو تحريم ما لم يأذن به الله هو إشراك به، وهو شرك أكبر ومخرج من الملة، وقد قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59]، فلا يمكن أن يحل ولا أن يحرم، ولا أن يبيح إلا الله جل جلاله وحده.
فكل قانون يضعه العباد من غير إذن الله سبحانه وتعالى فهو من هذا الشرك في الحاكمية؛ لأنه من تشريع ما لم يأذن به الله، ولذلك سمى الله تعالى قانون الملك في أيام يوسف عليه السلام ديناً، فقال: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[يوسف:76]، فكل قانون يوضع من غير شرع الله فهو دين يضعه أصحابه، ويبدلون به دين الله سبحانه وتعالى.
النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة: الشرك في المحبة، فإن من حقوق الإلهية أن يحب الله أشد مما يحب كل من دونه، فهو الذي يستحق المحبة. وأسباب المحبة ثلاثة:
هي أولاً: الكمال والجلال والجمال، فكل جميل محبوب، والله جل جلاله هو المتصف بجميع صفات الكمال والجلال، وهو سبحانه وتعالى الذي لم يتصف بأي نقص ولا بأي عيب، فلا يمكن أن تعرضه سنة ولا نوم، ولا موت، ولا عجز، ولا فقر، ولا يمكن أن يتصف بأي نقص، فهو المتصف بصفات الكمال، وهو المنزه عن جميع النقائص، فهذا سبب يقتضي تمام محبته.
السبب الثاني من أسباب المحبة: الرجاء، أن تكون ترجو لديه نفعاً، فكل من لديه نفع يمكن أن يوصله إليك تحبه من أجل النفع الذي ترجوه منه، فالله جل جلاله هو الذي بيده النفع كله، وهو الذي بيده السموات السبع والأرضون السبع، والأرواح في قبضة يمينه، والقلوب بين إصبعين من أصابعه، ونواصي الناس جميعاً بيده، وأرواحهم جميعاً بيده متى شاء أخذها ومتى شاء ردها، فهو وحده إذاً الذي يستحق المحبة من هذا الوجه، فجميع الخلائق من دون الله لا يملكون لك نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً.
وعلامة ذلك ما بينه الله في قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:188]، فالمخلوق لو كان يملك نفعاً أو ضراً لخص نفسه وأقاربه كما تعلمون، فإن كثيراً من الذين يتولون الوظائف يبدءون بأقاربهم، ويخصصون أصحابهم وزملاءهم.
فالمخلوق إذاً مجبول على البخل، ومجبول كذلك على محبة النفع لنفسه، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً[الإسراء:100]، فالإنسان مولع بالبخل، فلذلك لو كان يملك خزائن الله التي لا تغيض لبخل بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من مال لطلب إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).
فلهذا الرب جل جلاله هو المرجو وحده، فهو الذي يستحق المحبة.
والسبب الثالث من أسباب المحبة: هو الإحسان في الماضي، فالرب جل جلاله هو الذي خلقك من العدم، وهو الذي صورك في أحسن صورة، وكان بالإمكان أن يجعلك على شكل قرد، أو على شكل نملة، أو على غير ذلك، فصورك في أحسن صورة وأكملها وهي صورة البشر، وهو الذي دفع عنك الأضرار كلها ومنها الكفر، والفسوق والفجور، ولم يجعلك جباراً عاتياً، وكان بالإمكان. وكثير من الناس يظن أن النعمة أن يجمع له ما بين أقطار الأرض من الخيرات، ولو جمع لك أنت ما بين أقطارها من الخيرات لكنت جباراً كفرعون، لكن الله أنعم عليك بنعمة الفقر؛ لتكافح ما لديك من الغرور والجبروت، فهي نعمة، فلا يمكن أن يصيبك شيء من عند الله إلا وهو نعمة عليك، إذا أصابك بحمى فهي نعمة فيها كثير من العلاج لبدنك والتجديد لدمك وإحداث الحرارة في ظاهرك، وفيها إخراج للعرق الذي يذهب بالأملاح والأضرار من بدنك، وفيها كذلك تقوية لكثير من وسائل المناعة في جسمك، وإذا أصابك بشوكة ففيها نعمة عظيمة عليك؛ لأنها ستخرج من دمك ما كان فاسداً، وتقوي جهاز المناعة لديك، وإذا أصابك بأي مرض ففيه مصلحتك، وإذا أصابك بالمصيبة الأخرى وهي الموت فذلك مصلحتك؛ إذ لو عشت لكفرت أو طغيت أو بدلت أو غيرت أو دخلت في فتنة من الفتن، فلا يصيب الإنسان من عند الله إلا ما هو نفع له، كل ما يأتي من عند الله فهو خير للمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)، فالإنسان قد يتمنى ما فيه الضرر عليه، حتى أن يكره شيئاً وفيه النفع له، وعسى أن يحب شيئاً وفيه الضرر له، كما بين الله ذلك في سورة البقرة.
وهاهنا قصة عجيبة وواقعية، وهي أن شاباً كان يريد السفر في البعثة الصيفية في إحدى المدن العربية، وقطع التذكرة وأخذ التأشيرة، وطوى أمتعته وحزم كل ما يريده من العدة، ونام على فراشه وهو ينتظر الصباح والإقلاع في وقت باكر من صباح اليوم الموالي، فلم توقظه أمه حتى ذهب الوقت وأقلعت الطائرة، فغضب غضباً شديداً على أمه، لا لأنها لم توقظه للصلاة، بل لأنها لم توقظه للسفر، وغضب على أمه وانفرد في غرفة وأغلق عليه الباب وفتح التلفزيون، فإذا فيها نبأ عاجل بتحطم تلك الطائرة التي كان حريصاً على السفر فيها قد تحطمت فوق البحر.
فلذلك يكره الإنسان الشيء كراهة شديدة وفيه المصلحة له، ويحب الشيء الحب الشديد وفيه الضرر عليه لو حصل، فلذلك لا يعلم مصالح العباد إلا الرب جل جلاله وهو الذي يحققها له، فهو يستحق أن يحب، وقد قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ[البقرة:165].
فلو أن إنساناً أعطاك مليوناً لا يريد منك جزاءً ولا شكوراً عطية، ألست ستحبه؟ بلى. لو وظفك في وظيفة سامية راقية وأعطاك ثقته، ألست ستحبه؟ بلى. والمخلوق لا يعطيك ولا يوظفك، كل ذلك من عند الله، فالله هو الذي أعطاك خلقك، وأنعم عليك بكل هذه النعم، لم يعطك أحد شيئاً، المخلوق فقير لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74]، فلذلك لا يملك لك أحد منهم لا ضراً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً.
وقد كانت عجوز من أهل هذه البلاد تتطفل، فجاءت إلى أمير من أمراء القبائل تسأله، فأعطاها ملحفة تلبسها، فأخذتها وانصرفت، فناداها فقال: ألم أنعم عليك وأعطك هذه الملحفة التي يطلبها كثير ممن سواك؟ فقالت: لو كنت تستطيع أن تمسكها لأمسكتها. قال: كيف ذلك؟ قالت: الرب انتزعها لي منك. فضحك وقال: صدقت العجوز.
فهو يتعب ويعمل حتى يعرق جبينه من أجل تحصيل دريهمات ونقود، ثم يذهب فيشتري بها تلك الملحفة يريدها لأخص أهله وأقربهم إليه، ثم ينتزعها الله منه فتذهب في وجه آخر، لو وفق لكانت لم تذهب؛ لأنه يكون قد صرفها في كفة حسناته وقدمها لآخرته، وحينئذٍ يكون مرزوقاً بها، لكن إذا لم يفعل فقد استعمل من حيث لا يشعر، واستغل من حيث لا ينتظر؛ لينفق على شخص آخر.
وقد عجب إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو في العراق، قال: "عجباً لأهل بغداد يتعبون في زراعة الأرض، وفلاحتها، فيخرج لهم القمح منها، فيحرصون عليه حرصاً شديداً، ويضعونه في أوعيتهم، ويغلقون عليه مخازنهم، ثم بعد ذلك يخرجونه بالكيل للنفقة، ولا يعلمون أن فيه أرزاقاً للنمل، وأرزاقاً للذباب، وأرزاقاً للبعوض، وأرزاقاً للسمك في الماء، فكل ذلك سيخرج من أيديهم شاءوا أو كرهوا"، فأرزاق كل ذلك يقدرها الله وينتزعها، كما ينتزع الله للنمل أرزاقه من طعامنا ومن مخازن بيوتنا، وينتزع للفارة نصيبها، وينتزع لكل مخلوق حظه، كذلك المخلوقون من البشر كلهم ينتزع الله له حظه، قبل الناس أو أبوا، رضوا أو كرهوا، لا بد أن ينتزع الله لهم انتزاعاً: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[هود:6].
وهذا الحب هو الذي تنال به حلاوة الإيمان، كما صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
إذاً هذه أربعة أنواع هي أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة، وهو الذي يتجه إليه النهي في البداية، فأول ما يتجه إليه النهي عن الإشراك: الشرك الأكبر.
ثم دونه الشرك الأصغر، وهو أنواع منوعة:
فمنها: القسم بغير الله، ( ومن حلف بغير الله فقد أشرك ) وهذا الشرك الأصغر، ومنها تعلق التمائم التي ليست من القرآن ولا من ذكر الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، فالمقصود بذلك ما كان من غير ذكر الله ولا من القرآن ولا من السنة، فهذا شرك أصغر لا يخرج من الملة، وإذا كان من القرآن لا يكون من التمائم، ولا يدخل في مسمى التمائم.
وكذلك منها أيضاً: الطيرة، كمن خرج فرأى أعور أو أعمى فتطير بذلك وقطع رحلته، أو سمع اسمه ينادى به فقطع رحلته، أو خرج من بيته فسمع من يناديه من قفاه فقطع رحلته ورجع، فهذه الطيرة، وهي من الشرك لكنها شرك أصغر لا يخرج من الملة.
وهناك نوع من أنواع الشرك، وهو كل تطلع إلى القدر، كالضرب في الأرض للتطلع على أقدار الله، وما يقدره من الأرزاق ونحو ذلك.
ومثل هذا أيضاً من الشرك الأصغر: الرياء، وهو أن يعمل الإنسان العمل الذي يتقرب به إلى الله يريد به وجه لله لكنه يحسنه أمام الناس، فلو بقي وحده لم يحسنه كما يفعل أمام الناس، فهذا النوع من الشرك، لكنه شرك أصغر لا يخرج من الملة، والرياء على الراجح مبطل لذلك العمل الذي راءى فيه الإنسان، لكن الإبطال هنا أخروي لا دنيوي، فهو في الدنيا تصح صلاته ويصح صومه ويصح حجه، لكنه في الآخرة لا يجد لذلك أثراً: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً[الفرقان:23].
ويقول الشيخ محمد عالي بن ... رحمة الله عليه:
بل الرياء مبطل للعمل وأجره حتى كأن لم يحصل
أو مبطل للأجر دون العمل فحج من راءى به لم يبطل
الحج لم يبطل بذاته، لكنه ليس له ثواب، فلا يجده الإنسان في كفة الحسنات يوم القيامة.
إذاً هذا هو أول ما نهانا الله عنه وهو الشرك، فقال: أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً[الأنعام:151]، وقد عمم ذلك في قوله: (شيئاً)، فهي نكرة في سياق النفي وهي تقتضي العموم، أي: أي شيء من الأشياء حتى لو كانت معظمة شرعاً، حتى لو كانت الكعبة، أو المقام، أو الحجر الأسود، أو كانت نبياً من الأنبياء، أو ملكاً من الملائكة، أو صالحاً من الصالحين، فكل ذلك معظم شرعاً، ولكنه داخل في قوله: أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً[الأنعام:151].
نكتفي بهذا القدر، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر