إسلام ويب

شرح الوصايا العشر [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد الوصية بحق الله وهو التوحيد تأتي الوصية بحق الوالدين، فبر الإنسان بوالديه دليل على شرفه ومروءته وكرم أخلاقه، وأوصى بالأولاد أيضاً وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى ولطفه ورفقه، ونهانا أن نقترب من الفواحش، وهي الذنوب التي وصلت إلى درجة المبالغة في السوء والقبح، ونهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ونهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ثم أوصى بقول العدل حتى على القريب، وبالوفاء بعهد الله، وختم هذه الوصايا بلزوم الصراط المستقيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول الله عز وجل في الوصية الثانية: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151].

    بعد الوصية بحق الله وهو التوحيد تأتي الوصية بحق الوالدين، فالوالدان اللذان قد ملأ الله قلوبهما بمحبة الإنسان والحنان عليه والعطف عليه، وجبلهما على ذلك، حتى لو كان من غير البشر، فالأتان عندما تضع ولدها تدافع عنه وتذود عنه الذئاب، وترفع رجلها عنه، وتحاول رفعه حتى يصل إلى ثديها ليرتضع منها، وهي في ذلك مثلاً لم تعلم إذا كانت أول مرة تضع، ولم تمسها يد بشر، ولم تروض، ولم تعود على أي تصرف، فإن الله سيملأ قلبها بالحنان على ولدها حتى ترفع حافرها عنه، وهكذا في جميع الخلائق، جميع الخلائق سواء منها ذوات السموم، أو ذوات البيض، أو ذوات الأولاد، كلها ملأ الله قلوبها بالحنان على أولادها وفراخها.

    فلذلك كان حق الوالدين على الإنسان حقاً عظيماً، فقد ربياه صغيراً عندما كان مليئاً بالقذر، وكان الناس يقذرونه، فكانا يسهران على تنظيفه وتطهيره، وكان ضعيفاً لا يستطيع أن يرفع الشراب إلى فيه فقاما بذلك حتى وصلت يداه إلى فمه، وكان لا يجد ما يستر به بدنه، فستراه وعوداه على مصالحه، فلهما من الحق عليه الشيء الكثير.

    مقدار حق الوالدين

    إذا كان الإنسان يستشعر ضعفه أيام كان والداه إذا بكى في الليل سهرا عليه، وإذا أزعجهما بكاؤه صبرا عليه، فإذا استشعر الإنسان هذا فإنه سيستشعر ما لهما من الحق عليه، وهذا الحق لا يستطيع الإنسان الوفاء به مهما قدم.

    وقد سمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يحمل أمه على ظهره في الحج وهو يطوف، ويقول: هل كافأتك؟ فقال له ابن عمر : لا ولا زقية واحدة، لم تكافئها (ولا زقية) أي: صيحة واحدة عند وضعك.

    فلذلك لا بد من استشعار حق الوالدين، ولا بد من العناية بهما عناية بالغة، ولا بد أن يخفض الإنسان لهما جناح الذل من الرحمة، ولا بد أن يخاطبهما بالقول الكريم، ولا بد أن يحرص على أداء حقهما في الحياة وحقهما بعد الممات، ولا بد ألا يؤثر عليهما أي إنسان آخر، فكثير من الناس يظن أنه إذا تزوج زوجة يحبها، وله بها تعلق فإنها ستسد له مسد أمه أو مسد والديه، وهذا من الخطأ في التفكير، فمن أحب إنساناً لشيء كرهه لفقده، فالمحبة الحاصلة إنما حصلت من أجل نظارته وجماله، أو من أجل ماله، أو من أجل مكانته، فإذا زال عنه هذا فستذهب تلك المحبة، ولهذا قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي لما طعن فخرج من خصره مثل اليد، فعاش على فراشه يقلب، ولا يستطيع القيام بشيء من مصالح نفسه، فملته زوجته مللاً شديداً، وكانت أمه لا تمله، فإذا تألم بكت أمه، فبدرت دمعتاها قبل دمعتيه، يقطر دمعها قبل أن تقطر دمعته، ولا تنام حتى تستيقن أنه قد نام، ولا تتغذى حتى تغذيه، فقال:

    أرى أم صخر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني

    وأي امرئٍ ساوى بأمٍ حليلة فلا عاش إلا في شقى وهوان

    وقد دخل رجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإذا هو مستوي اليد اليمنى (يابسة) فقال: ما الذي لوى يدك؟ قال: دعوة أبي. فقال: ما ذاك؟ قال: لقد كنت عاقاً بأبي فضربته يوماً بالعصا، فقال:

    وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

    وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

    فأخرجني منها لقى ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

    فاستجاب الله دعاء والده فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن دعوة الوالد مستجابة ).

    ونهى الأم أن تدعو على ولدها في حال غضبها؛ لئلا يستجاب لها فيه، حتى في حال الغضب إذ دعت عليه استجيب لها، فدعوة الوالد مستجابة مثل دعوة المظلوم، ودعوة المسافر في الطاعة مستجابة، ودعوة الصائم حتى يفطر كلها دعوات مستجابات، فلذلك لا بد من رعاية حق الوالدين.

    ولا شك أن انتقال الناس من البداوة إلى الحضارة، ودراستهم في المدارس النظامية، ومخالطتهم لقرناء السوء، كل ذلك مما يزهدهم في حقوق الآباء والأمهات، وهذا من الغلط البين، فأبوك الذي كان سبباً في وجودك حتى لو كان متخلفاً من كل النواحي، وهو قطعاً خير لك من زميلك أو صديقك الذي تعرفت عليه.

    وأيضاً فالإنسان الذي بينك وبينه هذه الثقة والقرابة إذا رآك تحتقر أباك، ولا تؤدي حقه فلا يمكن أن يثق بمحبتك.

    لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق

    إذا كان عاقاً بوالده فكيف أقتنع أنا بأنه سيبرني؟ لا يمكن أن يحصل على ثقتي أبداً، ولذلك لا بد أن نتذكر أن حق الوالدين عطفه الله على حق نفسه في عدد كثير من الآيات، فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، فلا بد من الإحسان إليهما، والمبالغة في إكرامهما.

    وقد قال أهل العلم: "من الأمور ما لا يدخله الرياء وهو: إكرام الضيف، وبر الوالدين". فهذا من القربات التي لا يدخلها الرياء، وينبغي للإنسان أن يبالغ فيها وأن يزيد وأن يظهرها.

    فبر الإنسان بوالديه دليل على شرفه ومروءته وكرم أخلاقه، ودليل على أنه فعلاً يقدر ما وصل إليه من المعروف، والإنسان الذي لا يقدر والديه، ولا يحترمهما ولا يقوم بحقوقهما لا يمكن أن يكون من الذين يعاملون المحسن بالإحسان، ولا يمكن أن يكون من الذين إذا أحسنت إليهم كافئوك؛ لأن أبلغ الناس في الإحسان إلى الإنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم والداه اللذان نزلاه؛ فلذلك قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151] وهذه وصية الله الثانية من هذه الوصايا.

    طاعة الوالدين مطلقة

    والغريب في الأمر أن الله تعالى لم يفصل في الوالدين، سواء كانا صالحين أو فاسدين، عالمين أو جاهلين، غنيين أو فقيرين، قويين أو ضعيفين، لم يفصل الله في ذلك، فأسوأ الوالدين خلقاً، وأقلهم علماً هو داخل في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151]، بخلاف الولد، فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

    فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً، فإذا كان فاسداً لا نفع فيه، والوالد حقه على الولد ثابت حتى لو كان غير صالح، فلا بد من القيام بحق الوالدين، وتذكر أن حاجتهما إلى الإنسان هي عند ضعفهما وافتقارهما، فإذا لم يجداك في وقت الحاجة فمتى يجدانك؟ متى يجدانك تنتظرهما لتجدهما في عرصات القيامة؟

    ولذلك يقول أمية بن الأسكر الثقفي رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنا غير أني مرعش فاني

    يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والسكن مثلان

    إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي مثلان

    أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان

    انعق بضأنك في نجم تحصله من المواضع واحبسها بجمدان

    إن ترع ضأناً فأني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

    فلا بد من مراعاة حقهما عند حاجتهما وافتقارهما وكبرهما، وعلى الإنسان ألا يمل من خطابهما، فقد صبرا عليه في صباه عندما كان لا يعقل، فكان يبكي آناء الليل وأطراف النهار وهما يصبران على أذاه، فلذلك على الإنسان أن يتحملهما، وأن يصبر عليهما، وأن يعلم أنه إذا فارقاه فلن يجد من يتحمل له من المودة والمحبة والإخلاص والدعاء كما يتحمل له والداه.

    وأذكر شيخاً من شيوخ الدعوة الإسلامية، من الدعاة المشاهير في العالم كانت له أم صالحة عابدة، فتوفيت رحمة الله عليها، وهو الشيخ جاسم المهلهل أبو معاذ فجاء إلى إخوانه فقال: إنه كان لي من أُترك في وجهه، وينوب عني في الصدقة والدعاء، ويعوذني وأنا مشغول في هموم الدعوة وأمور الدين، واليوم قد فقدت ذلك الإنسان الذي كنت أترك في وجهه، فدعوا لي وقتاً أحصن فيه نفسي. هذه الوالدة كانت تتصدق عنه، وكانت تدعو له، وكانت تعوذه، وكانت تحصنه وهو مشغول، فلما توفيت تذكر أنه قد بقي لديه فراغ كبير جداً في مكان أمه.

    فعلى الإنسان أن يتذكر ذلك إذا ذهب والداه وماتا، أليس سيبقى لك فراغ كبير جداً في مكانهما؟ فلا بد أيضاً من الإحسان إليهما.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088790041

    عدد مرات الحفظ

    779057950