بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يتكلم كلاماً يليق بجلاله متى شاء أن يتكلم، بما شاء أن يتكلم به، والكلام صفة كمال في حقه سبحانه وتعالى، وقد أنزل الكتب المتضمنة لتشريعه، وهي نوع من أنواع كلماته؛ فكلماته تنقسم إلى قسمين: إلى كلمات تكوينية وكلمات تشريعية.
الكلمات التكوينية: التي يخلق بها خلقه، ويدبر بها أمره، وهذه لا حصر لها ولا نهاية، كما قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وكما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27]، وهذه الكلمات التكوينية هي التي لا تبديل فيها، ولا نسخ، ولا تغيير؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [الأنعام:34]، أي: للكلمات التكوينية.
وقد بين الله سبحانه وتعالى عظم شأن الكلمات الكونية، فقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وقال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فكل مرادات الله عز وجل تتحقق بين الكاف والنون، فلا يحتاج إلى معالجة، ولا يمكن أن يأخذه نصب ولا لغب ولا تعب، فخلق السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهن، كله كخلق نفس واحدة، كما قال الله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، فقدرة الله لا تتفاوت، قدرته على الكائنات جميعاً كقدرته على فرد واحد من أفرادها، خلق هذا الكون الذي ترونه باتساعه وما فيه مساو لخلق ذبابة واحدة، أو فراشة واحدة مما ترونه يطير.
وقد كانت هذه الكلمات الكونية قبل خلق الكون، ولا ينزل بها الوحي، ولا ينزل بها الملائكة، وإنما يتكلم الله بها إذا شاء، وإذا تكلم بها، فإن أهل السماوات من الملائكة يفزعون لشدة كلامه وهوله، فلا يستطيع أحد منهم أن يفهم شيئاً منها إلا جبريل عليه السلام، فهو أمين الله على وحيه، فإذا فزع عن صدور الملائكة قالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، فيفزع عن صدورهم بعد نهاية ذلك الفزع، يفزع عن صدورهم؛ أي: يزال عنها الفزع بعد حصول الفزع في وقت كلام الله جل جلاله، ثم بعد ذلك يصدقون به ولو لم يسمعوه؛ لأنهم يعلمون أن قوله الحق، فيقولون: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].
وهذه الكلمات لا انقطاع لها، فهي مستمرة، كل شيء في هذا العالم فهو بها، وكل حركة وسكون فهي بهذه الكلمات.
والنوع الثاني من الكلمات هو الكلمات التشريعية: وهي التي يأمر بها الله وينهى، فيطيعها المهتدي ويعصيها العاصي، والكلمات الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر، إذا قال للبر: مت، سيموت من حينه، وإذا قال للفاجر: مت، سيموت من حينه، ولا أحد يستطيع تعقيباً عليها، فالكمات الكونية لا يستطيع أحد رد كلمة منها، أما الكلمات التشريعية فإنها أمر الله الذي يأمر به عباده، فمن وفقه الله للطاعة امتثل تلك الأوامر، ومن خذله أعرض عن تلك الأوامر وخالفها.
وهذه الكلمات التشريعية لم تكن قبل خلق الكون، إنما أنزلت لحاجة الكون إليها بعد أن كان الكون، وهي التي ينزل بها جبريل عليه السلام بالكتب المنزلة على الرسل، وهي وحي من عند الله، وهي أنواع، يأتي على أحد عشر نوعاً، فتارة يأتي به الملك في صورة رجل فيكلم النبي، فيعي عنه ما يقول، وتارة يأتيه في صورة لا يراها، فينزل على صدره مباشرة، فيسمع مثل صلصلة الجرس، وهو أشد ذلك، ثم يعي بعد هذا ما قال الملك، وتارة يأتي بالرؤيا في النوم، وتارة يأتي على طريقة الحوار، وتارة يأتي باللمة الربانية، أي: الخاطر الذي يلقى في قلب الإنسان، فلا يستطيع تأخيراً ولا تقديماً عند مجيئه، وتارةيت يتيأتي يأتي هذا الوحي كتباً مكتوبة في ألواح أو في صحف، فتنزل من عند الله تعالى، كما كتب الله التوراة لموسى بيمينه، كتبها الله بيمينه بالألواح، وتارة يأتي بصوت يسمعه النبي من شجرة، كما حصل لموسى في تكليمه لله في طور سيناء، في الجانب المقدس من الوادي، فسمع الصوت من تلك الشجرة، فكل هذه هي أنواع من أنواع الوحي، وقد أخرج البخاري في الصحيح، في ثاني حديث في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف التنيسي، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني فأعي عنه ما يقول، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً ).
وهذه الكلمات التشريعية منها الكتب المنزلة التي يجب الإيمان أنها من كلام الله، وهذه منها الكتب الأربعة التي جاء ذكرها في القرآن، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومنها صحف موسى، وصحف إبراهيم، وغير ذلك من الصحف التي أنزلت على الأنبياء، وقد ختم هذا النوع من الكلمات بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا نبي بعده، فانقطع الوحي من السماء إلى الأرض، لا يمكن أن يأتي أي شيء من هذا الكلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفاه الله والوحي أشد ما يكون تتابعاً.
وظاهرة هذا الوحي ظاهرة عجيبة جداً، ففيها من الإعجاز للبشر وحتى للخلائق الأخرى أشياء عجيبة جداً، فقد سبق أن الملائكة وهم الأقوياء الأشداء لا يتحملون سماع كلام الله جل جلاله، سواء منهم من كان في السماء الدنيا، أو في السماء التي فوقها، أو في السماء التي فوقها، أو فوق السماوات بمسافات شاسعة، لا يتحملون سماع ذلك الكلام الجليل، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، والبشر يقويهم الله تقوية لسماع كلامه، من أراد منهم تقويته لذلك؛ ولذلك يختار الرسل من أشد الخلائق في أجسامهم وقواهم، وما منهم أحد إلا وهو أقوى من أهل زمانه جميعاً، يقوون بثلاثة أنواع من أنواع القوة: القوة الأولى: قوة جسمية، تشمل قوة البدن، وقوة السمع، وقوة البصر، وقوة الحركة، وقوة جميع الأجهزة البدنية.
والقوة الثانية: قوة في العقل، والفهم، والاتعاظ، تقتضي من الإنسان أيضاً تمام الشخصية بحيث يثق بنفسه، وبفهمه، وباستيعابه، وبقوته.
والقوة الثالثة: قوة روحية تقتضي اتصالاً بالله سبحانه وتعالى وربانية، وانقطاعاً عن الخلائق، وعدم تعلق قلب بأي أحد من الناس.
وهذه القوى الثلاثة قوى الله بها أنبياءه؛ فاستطاعوا أن يتحملوا الوحي، وأن يفهموه، وأن يؤدوه كما أنزل عليهم.
وهذه الظاهرة - التي هي ظاهرة الوحي - كما ذكرنا- تتأثر بها البهائم وحتى الجبال، كما قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، وعندما سأل موسى ربه أن يراه قال: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، فصار الجبل دكاً من جلال الله جل جلاله؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي وهو يركب دابة لم تستطع أن تتحمله، إلا القصواء وحدها، وهي ناقته، وكان إذا نزل عليه الوحي لا يحمله من الدواب سواها، فإذا نزل الوحي وقفت واستقرت أرجلها مكانها، ولم تستطع الحركة، وكفت عن المضغ والاسترجاع، فتقف حتى ينتهي الوحي، ويحس البشر كذلك الذين لا يوحى إليهم عند نزول الوحي وحضرته إحساساً عجيباً، ويتأثرون تأثراً بالغاً؛ فقد ثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه - وكان من أشداء الأنصار- قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسند ركبته إلى فخذي، فأنزل عليه الوحي، فكأنما ارفضت فخذي) من شدة الوحي، ركبة النبي صلى الله عليه وسلم تمس فخذه هو، فلما نزل الوحي على النبي كأنما تشظت فخذه من شدة الوحي، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه الوحي، يسمع مثل أزيز النحل، وكان أبو بكر ربما سمع عند النبي مثل غلي المِرجل، أصوات يسمعونها، وهم لا يفهمونها، ولا يدركون مأخذها، وهي الوحي، من شدته.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر عند نزوله تأثراً بالغاً، فقد أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه؛ فأنزل الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة:16] )، (كان مما يحرك شفتيه) أي: كثيراً ما يحرك شفتيه،(كان يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه) أي: كثيراً ما يحرك شفتيه، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، ومنه قول الشاعر:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم
(لمما نضرب الكبش ضربة) الكبش: قائد الكتيبة، و (لمما نضربه)؛ أي: كثيراً ما نضربه.
وكذلك في صحيح مسلم في حديث الرؤى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مما يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، كان إذا سلم من صلاة الفجر مما يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، أي: كثيراً ما يقول ذلك، يقول: ( من رأى منكم رؤيا؟ )، فتارة يفسر الرؤيا، وتارة يعرض عنها، فقال له رجل: ( يا رسول الله، رأيت كأن رأسي قطع فتدحرج فتبعته، فقال: لا تقصص علي ألاعيب الشيطان بك )، فبين أن هذا ليس رؤيا، وإنما هو حلم من الشيطان.
وهذه الشدة التي كان يعالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي تتمثل أيضاً ببعض المظاهر التي تظهر عليه - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- عند نزول الوحي، فمنها آثار جسمية عليه، كما قال: ( شيبتني هود وأخواتها )، أخواتها؛ أي: السور التي هي مثل هود جاء فيها أمره بالاستقامة: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، فقد جاء ذلك في سورة هود، فشيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة هذا الأمر الذي أمر به: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:112-113]، فأدى ذلك به إلى حزن شديد عند نزول هذا النوع من الأوامر، وكذلك تأثر آخر وقتي يقع عند نزول الوحي، كما صح في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه، أنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجعته - أو قفوله- من الطائف نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، فأحرم منها، فجاء رجل وعليه جبة مضمخة بطيب، فقال: ( يا رسول الله، أحرمت بعمرة وعلي هذه الجبة، فمرني: ماذا أصنع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم )، ثم دعاني عمر، فقال: انظر إليه، فإنه يوحى إليه الآن، فإذا هو قد اربد وجهه وتحدر منه العرق، وإذا هو يغط غطاً شديداً، ( فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فأمره أن ينزع عنه الجبة، وأن يغسل الطيب، وأمره ببقية ما يلزمه )، فـيعلى بن أمية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه، وهذا الوحي الذي نزل في ذلك الوقت ليس من القرآن، إنما هو فتوى لذلك السائل فيما يصنع، فنزل عليه الوحي بمن هو متضمخ بطيب، فقد سبق محظور الإحرامِ الإحرامَ ماذا يصنع؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى تلك الشدة التي اربد منها وجهه - أي: تغير لونه وصار إلى الغبرة - وكذلك غط غطاً شديداً من شدة الهول، كأنه يحمل عبئاً ثقيلاً.
وظاهرة هذا الوحي إلى الأرض بدأت بهبوط آدم و حواء عليهما السلام، فقد كان الوحي يأتي آدم بالرسالة، وهو محل إجماع، فقد أجمع المسلمون على أن آدم كان يوحى إليه؛ ولذلك فهو رسول من رسل الله، وقد جاء التصريح بذلك في بعض الأحاديث التي فيها ذكر أن آدم أرسل إليه يوم الجمعة، وفيها كذلك - من أدلتها- ذكر الاجتباء، فقد جاء في القرآن، وقد قال ابن عباس: إن الاجتباء كان من خصائص الرسل في الأمم السابقة حتى أنزل على هذه الأمة جملة، فمن خصائص هذه الأمة أن الله اجتباها، من قبلها كان الاجتباء مختصاً بالأنبياء؛ ولذلك قال الله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122]، (( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ )) فكان هذا اختياراً للنبوة، وكل الأنبياء الذين جاء فيهم ذكر الاجتباء في القرآن فهم من الرسل، وهذه الأمة جاء فيها الاجتباء العام في قول الله تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]، فخص الله هذه الأمة بما خص به الرسل من قبل، وهذا من فضل هذه الأمة، فقد شرفها الله بأنواع التشريف، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] )، فخاطب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما خاطب به الرسل، فالرسل قال لهم: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله لها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172].
وأنزل الوحي على حواء أيضاً، لكن اختلف في رسالتها، أو نبوتها، فإن كثيراً من أهل العلم يرون أن النبوة تختص بالرجال دون النساء، ويرون أن ذلك من الخصائص التي بها مُيز الرجال، فمنها الرسالة والنبوة، أو الرسالة دون النبوة، ومنها الإمامة العظمى، ومنها كذلك إمامة الصلاة في حق الرجال، ومنها كذلك الأذان، ومنها القضاء، إما على الإطلاق، أو على الخلاف، فعند ابن جرير الطبري: يصح قضاء المرأة مطلقاً، وعند الحنفية: في الأمر الذي تشهد فيه فقط، ولا يصح قضاؤها في الأمر الذي لا تشهد فيه، كالحدود، والقصاص، والأنساب، وغير ذلك، فالأمر الذي تشهد فيه النساء - وهو الأمر المالي أو ما يؤول إلى المال- عند الحنفية يمكن أن تكون قاضية فيه، وعند جمهور أهل العلم لا يمكن أن تكون المرأة قاضية مطلقاً، والأذان يستثنى منه الإقامة، فتجوز للنساء، وهي من سنتهن، لكن تقيم المرأة سراً، كما قال خليل رحمه الله: (وإن أقامت المرأة سراً فحسن) (حسن) أي: سنة.
وقد اختلف أهل العلم في حواء عليها السلام، في رسالتها، أو نبوتها، أو ولايتها، وهذا الخلاف نظيره الخلاف في مريم ابنة عمران، فلم تذكر أنثى باسمها الصريح في القرآن إلا مريم وحدها، لم تذكر حواء باسمها، ولم تسمَّ امرأة فرعون، ولم تسمَّ أية امرأة أخرى إلا مريم بنت عمران، فجاءت تسميتها في القرآن ثلاثين مرة، جاء اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم يرد فيه اسم أنثى غير مريم وحدها، فقالت طائفة من أهل العلم: هي أيضاً تتصف بصفة الرسالة والنبوة، وقد جاء ما يدل على ذلك في مواضع من القرآن فيها ذكر خطابها، ومكالمة الملك لها، ومجادلتها للملك، وجاء التصريح بأنه روح القدس: رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، وروح القدس هو جبريل، وإذا كلم إنساناً، فهذا دليل على أنه موحىً إليه، وذلك دليل على النبوة
وكذلك الخلاف في لقمان، وذي القرنين، و الخضر، هؤلاء الثلاثة من الرجال أيضاً اختلف فيهم، في نبوتهم، ورسالتهم، وقد قال السيوطي رحمه الله:
واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول
لقمان ذي القرنين حوا مريم والوقف في الجميع رأي المعظم
ثم أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم هو نوح عليه السلام، وقد كان عمره الرسالي طويلاً، فقد مكث في النذارة ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأنزل الله عليه الوحي، وقد جاء بيان بعض الوحي الذي أنزل إليه بالقرآن، فبين الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وكذلك أمره بصناعة السفينة، وأمره بجعل الخلائق فيها، والعلامة التي جعل الله له لبدء الطوفان، إذا فار التنور، وبعد ذلك تتابع الرسل، في كل أمة نذير، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، وهذه النذارة لا تختص بلغة من اللغات، ولا بشعب من الشعوب، ولكن أغلب الرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن، أو جاء التحدث عنهم في السنة، كانوا في المنطقة المركزية في الأرض، وهي جزيرة العرب، وبلاد الشام، ومصر، وبلاد العراق، فهذه المنطقة هي مركز الأرض ووسطها، وكل الرسل السابقين الذين جاء لهم ذكر أو قصص كانوا في هذه المنطقة، إما أن يكونوا في جزيرة العرب، كآدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل، أو أن يكونوا في الشام كأغلب الرسل من ذرية إبراهيم، أو أن يكونوا في مصر كيوسف، ومن بعده من بني إسرائيل إلى موسى، أو أن يكونوا في العراق كبداية أمر إبراهيم، وكيونس بن متى، عليهم السلام، فهذه المنطقة هي المركزية في العالم، وهي التي جاء التحدث عن ذكر الرسالات فيها، ولا يقتضي ذلك أن المناطق الأخرى ليس فيها رسل لله، لكن يقتضي أن حاجتنا نحن في التاريخ إنما هي إلى أولئك الذين بعثوا في هذه المنطقة؛ ولذلك لم يقص علينا في القرآن أسماء كل الرسل، بل ورد منهم خمسة وعشرون اسماً في القرآن فقط، وهذا يقتضي أن الذي نحتاج إليه هو ما كان مسمىً في القرآن، وما سوى ذلك قد لا نحتاج إليه في حياتنا، ولو جهلناه لما توقف على ذلك نقص في ديننا، ولا في دنيانا؛ فلهذا لم يبين لنا، ولو توقف عليه نقص في الدين أو في الدنيا لجاء الخبر به صريحاً؛ لأن كل ما نحتاج إليه جاء التصريح به بالوحي.
فالوحي هو عبارة عن تكميل للبشر، فالإنسان أعطاه الله وسائل للإدراك، منها: السمع، والبصر، والحواس التي يدرك بها الحسيات، ومنها: العقل الذي يدرك به المعنويات، ومنها الروح التي يدرك بها الوجدانيات، كاللذة، والألم، والرضا، والغضب، هذه أمور لا تدرك بالحس، ولا تدرك بالعقل، وإنما تدرك بالروح؛ ولذلك تدركها البهائم، فالبقرة إذا وطئت في النار تألمت، وهكذا إذا عطشت ذهبت إلى الماء، فهذا أمر وجداني يحس به الكائن الحي في نفسه.
وبعد ذلك يأتي الوحي تكميلاً للنقص الحاصل لدى البشر؛ لأن البشر عقولهم، وحواسهم، وأرواحهم، نقطة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، فنحن سبقنا العدم، وسيأتي بعدنا العدم؛ فلذلك لا يمكن أن تفهم عقولنا القديم، ولا أن تفهم الباقي، العقل دائماً يبحث عن النهايات والبدايات؛ لأنه هو له بداية ونهاية، إذا فكرتم في نعيم الجنة، فستجدون أن العقول تفكر: إلى متى هذا؟! كأنه سيمل، والواقع أنه ليس كذلك؛ فأهل الجنة لا يملون شيئاً من نعيمهم، وإذا فكرتم أيضاً في عذاب النار تجدون العقل يبحث عن النهاية، والواقع أنه - نعوذ بالله - ليس فيه نهاية؛ فلهذا لا يدرك العقل البدايات ولا النهايات؛ لأنها أمور هو غير مفطور عليها، فهو بمثابة الماء إذا صب في هذه العلبة أخذ شكلها، وكان على مقاسها، فكذلك العقل صب في قالبنا نحن، ونحن وجدنا بعد عدم، وسنعود عدماً بعد وجود، فكذلك صارت عقولنا مصبوبة على هذا الشكل، لا تدرك إلا ما كان قبله عدم وبعده عدم؛ فاحتجنا إذاً إلى مقوٍّ خارجي؛ فكان الوحي؛ ولهذا قال الإمام الغزالي: (العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج)، فالجميع هبة من عند الله وتنويرٌ للإنسان، فالعقل بمثابة وحي من الداخل، يدرك به الإنسان مصالحه ومفاسده، ويفكر في الأمور، فيراها بعين البصيرة، والوحي عقل من الخارج؛ لأنه تتميم للعقل، وقد جاء من الخارج، فجاء من عند الله سبحانه وتعالى، وهو من علمه.
واستمرت الرسائل إلى أهل الأرض، والتشريع فيها يكون بحسب الطور الذي تمر به البشرية، فالله تعالى خلق البشر في البداية من أسرة واحدة: آدم وحواء، وأهبطهما إلى الأرض، وكانت حاجيات هذه الأسرة مستوردة جميعاً: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، والحديد أنزله، وثمانية أزواج من الأنعام أنزلها من السماء، كل حاجيات الأسرة الأولى في الأرض كانت مستوردة من الخارج، ثم بعد هذا بدأت الصنعة في البشر، فعلم الله آدم الزراعة، وعلم إدريس الحياكة والخياطة؛ لنسج الملابس، وبدأ الرسل يعلمون الناس طرق المعاش، فبدأ التطوير لوسائل عيش أهل الأرض، فكلما تطورت البشرية بزيادة العدد، وزيادة الإنتاج، والتقدم الحضاري، تأتي أحكام موافقة لذلك العصر، ففي عهد الأسرة الأولى - أسرة آدم عليه السلام - كان يجوز نكاح الأخ لأخته دون أي حظر، ولا كراهة؛ لأن ذلك يضطر إليه، ضرورة بقاء الجنس البشري تقتضي زواج ابن آدم من أخته، لكن بعد هذا حرم التزوج بالأخوات، وأذن في مرحلة أخرى تعدى ذلك، يجوز الزواج في ذلك الوقت بالعمات والخالات، ثم في مرحلة أخرى زادت البشرية، فحرم نكاح العمات والخالات، كما حرم نكاح الأخوات، وهكذا باستمرار، كلما تطورت البشرية يأتي تشريع يوافق الطور الذي تمر به، وفي علم الله أن ذلك التشريع إنما يصلح لذلك الوقت المحدد في علم الله، ثم يأتي الطور الجديد فينسخ ذلك التشريع بتشريع آخر، حتى إذا وصلت البشرية إلى نضجها، وخاضت كل تجارب حياتها، وعلم الله أنها لم يكن ليقع فيها اكتشاف كبير، ولا تطور هائل مخالف لما يغير حياة الناس، فالتطورات ستبقى؛ ولذلك نحن اليوم نعيش عصر التكنولوجيا، والتطور التكنولوجي موجود، وقد كان في القرن الماضي تطوراً في كل مجالات الحياة، ما من مجال من مجالات الحياة في القرن الماضي إلا وكان فيه تطور، الملابس كانت تتطور، المباني تتطور، الطرق تتطور، الأجهزة تتطور، وفي نهاية القرن الماضي بدأ التوقف في كثير من مجالات الحياة، توقف العلم الحديث فيها، والآن بقيت أربعة مجالات فقط هي التي تشهد تطوراً مطرداً، هي:
مجال الاتصالات: فإلى الآن ما زال هذا المجال خصباً، وما زال التطور فيه قائماً.
ومجال المعلوماتية والتخزين: تخزين المعلومات، الكمبيوتر والبرامج، هذا ما زال أيضاً يتطور.
والمجال الثالث: المجال التربوي والتعليمي: فإلى الآن ما زالت التربية مستمرة حتى تعويد الصم على القراءة والبكم، وحتى البهائم، فما زال التطور قائماً في هذا المجال.
والمجال الرابع: مجال الفضاء، واكتشاف المجموعات الشمسية الأخرى، أو الكواكب المحيطة بنا، فهذا إلى الآن ما زال قائماً، لكن ضعف جداً عن القرن الماضي، تشهدون أن هذا القرن مدة عشرين سنة - مثلاً- كانت فيها رحلات قليلة جداً إلى الفضاء، بخلاف ما كان قبل هذا الوقت في القرن الماضي.
ومن المجالات التي وصلت إلى قمتها في نهاية القرن تماماً: مجال الطيران مثلاً، ومجال صناعة السيارات، فقد تطورت فوصلت إلى نهاياتها، فآخر شيء: خذ صناعة الطيران، مثلاً الكونكورد، وقد توقفت صناعة الطيران عند هذا الحد تقريباً، الذي يقع الآن مجرد تحسينات في مجالات أخرى، لكن هذا المجال توقف علمياً.
ومجال الطب والعلاجات أيضاً التطور الذي يشهده داخل في التطور التربوي؛ لأنه مؤثر في التربية، وهو إلى الآن كذلك في هذا القرن شهد ركوداً وتأخراً؛ فلهذا وصلت البشرية إلى نضجها في العهد النبوي، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ناحية العقلية وصلت البشرية في ذلك الوقت إلى مستوى عجيب، فعقلاء العرب، وعقلاء الروم، وعقلاء فارس، وعقلاء الأمم المختلفة، وصلت إلى تطور عجيب في ذلك الوقت؛ ولهذا فإن قواعد أولئك هي التي يطورها الناس اليوم ويبنون عليها، إذا ذهبت إلى أهل القانون حيث الإنتاج العقلي في حل المشكلات، تجد أنهم يأخذون من مدونة السوزينيانوس، ومن شريعة الآشوري، وغيرها من المدونات القديمة جداً العتيقة التي كتبت في تلك العصور، وإذا رجعت إلى الأعراف والعادات وجدت أن المرجع فيها أيضاً إلى تلك القرون التي سبقت النبي صلى الله عليه وسلم، والقرن الذي بعث فيه، وإذا رجعت إلى المدح والذم - ما يمدح به ويذم- لا تجد فيه تطويراً جديداً بعد أهل الجاهلية في وقت الرسالة النبوية: الشجاعة، الكرم، الجود... إلخ، هي نفس الصفات التي يمدح بها، وفي المقابل أيضاً الصفات التي يذم بها هي نفس الصفات التي يذم بها العرب في وقت البعثة النبوية.
كذلك في المجال الاجتماعي، والتكافل، ونحو ذلك، توقف نضج البشرية عند ذلك الحد الذي جاء فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يقع ائتلاف بين البشر مثل ما حصل في العهد النبوي بين المهاجرين والأنصار، كان الإنسان يؤثر على نفسه، كما قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، ووصل ذلك إلى مستوى يستغربه الناس اليوم مع التطور الحضاري، والتطور في الأخلاق، يعجب الناس كيف وصل الصحابة في ذلك العصر إلى هذا المستوى من الإيثار الذي تراجع في الناس اليوم، ففي غزوة اليرموك قال رجل من المسلمين: أخذت ماءً فبحثت عن ابن عمي - كان معه في المعركة- فقلت: إذا وجدته فيه رمق سقيته، فأتيته، فإذا هو يئن، فقلت: أأسقيك ماءً؟ فسمع جريح حوله صوت الماء، فأشار إليَّ أن اسقه، فإذا هو عمرو بن سعيد بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فقال: نعم، فسمع جريح حوله صوت الماء، فأشار عمرو: أن ابدأ به، فذهبت إليه، فلما أتيته مات، فرجعت إلى عمرو، فوجدته قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فوجدته قد مات.
ثلاثة من الصحابة يموتون بالإيثار في شربة الماء في وقت الشدة، وهذا مستوى لا يمكن أن يتصور الآن في البشر اليوم؛ فلذلك المستوى الاجتماعي الذي وصل إليه الصحابة بتربية النبي صلى الله عليه وسلم تقف دونه الكمالات الاجتماعية في البشر.
ومثل ذلك: التطور العقلي والفهم العجيب جداً، فالصحابة رضوان الله عليهم يسمعون خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظونها، مثلما نحفظ نحن اليوم الدرس في الشريط، يحفظون الدروس والخطب في أدمغتهم، ويسمعون قراءة السورة الطويلة في الصلاة فيحفظونها، قد أخرج مالك في الموطأ عن فـرافصة قال: (ما حفظت سورة يوسف إلا من كثرة قراءة عثمان لها في الصبح)، وكذلك المرأة التي حفظت سورة (ق) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب بها، ناهيك عن قوة أجسامهم إذ ذاك، فقد كان صوت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر في الخطبة يسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد، أي: مسافة نصف كيلو تسمع منها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم من غير مكبر، نصف كيلو! انظروا إلى قوة الأجسام! والعباس بن عبد المطلب كان ينادي غلمانه من الغابة وهو في المدينة، فيسمعونه، هذه مسافة اثني عشر كيلو الآن، يناديهم، فيجيبونه ويأتونه من اثني عشر كيلو! ولذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لما انهزم الناس أن يصيح فيهم: ( يا أهل السمرة )، يذكرهم ببيعة الرضوان، فصاح العباس بذلك، فرجع الناس إليه، ومثل هذا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فإنه قال: (واصباحاه) ثلاثاً وهو بالغابة، فسمعها أهل المدينة، وسبق الخيل على رجليه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفرس، وهو يسير على رجليه، قوة عجيبة وصلت إليها البشرية إذ ذاك.
وإذا ذهبنا إلى قوة العقول سنجد عجباً، وقد نبه العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله إلى قوة عقول الصحابة، فقال:
نور به عن تهج صحبه غنيت وغير أصحابه منا وحا وهجا
نحن الآن نتعلم الحروف والكتابة، والصحابة لم يحتاجوا إلى ذلك؛ للنور النبوي، قال:
نور به عن تهج صحبه غنيت وغير أصحابه منا وحا وهجا
ولهذا فإن علياً رضي الله عنه كان يخطب على المنبر يوم جمعة، فافتتح خطبته على قافية العين، فقال: (الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى)، فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين، هالك عن زوجة وأبوين وابنتين)، فقال علي: (صار ثمنها تسعاً)، واستمر في خطبته، (صار ثمنها تسعاً)، إذا أردنا تحليل هذه الكلمة، جملة واحدة: (صار ثمنها تسعاً) نجد أنه أجاب: أن هذه التركة أصلها من أربعة وعشرين؛ لأنها اجتمع فيها السدس والثمن، وإذا اجتمعا في تركة فلا بد أن تكون من أربعة وعشرين، وأربعة وعشرون هو أكثر الأصول (أصول التركة)، وأنها عالت، والأربعة والعشرون لا تعول إلا عولة واحدة، وهي عالت بثلاثة أجزاء من أربعة وعشرين، فصارت سبعة وعشرين؛ وذلك أن الزوجة لها الثمن؛ لأن الميت له بنتان، والبنتان لهما الثلثان بنص القرآن، والأبوان لهما السدسان، وهما الثلث، فأربعة وعشرون للبنتين، منها ستة عشر، وهي الثلثان، وللأبوين ثمانية، وهي السدسان، وللزوجة ثلاثة، وهي الثمن، لكن تمت الأربعة والعشرون دون نصيب الزوجة؛ لأن ستة عشر إذا أضيف إليها ثمانية، كم بقي من أربعة وعشرين؟ لم يبق شيء، فكانت الثلاثة التي هي نصيب الزوجة ثمناً من أربعة وعشرين، فصارت تسعاً من سبعة وعشرين بالعول؛ فلذلك قال: (صار ثمنها تسعاً) أي: ثمن الزوجة الذي تستحقه بالميراث صار تسعاً؛ لأنه ثلاثة، أصلها من أربعة وعشرين، فصارت من سبعة وعشرين، وأربعة وعشرون فيها ثلاثة ثمان مرات، وسبعة وعشرون فيها ثلاثة تسع مرات؛ لهذا قال: (صار ثمنها تسعاً).
نحن الآن تعبنا في تحليل هذه الجملة الواحدة؛ لتفهموها، مجرد الفهم، وقد فهمتم أن ثلاثة هي نسبة التسع من سبعة وعشرين، وهي نسبة الثمن من أربعة وعشرين، هذا علي بن أبي طالب فهم هذا السؤال، وأجابه، ولم ينقطع كلامه، واستمر في خطبته دون أي تأثير، نحن الآن نتكلم دون ارتباط بقافية، ولا فاصلة، ومع ذلك ينقطع كلام أحدنا لو أن صائحاً صاح في جانب المسجد، ويتأثر الشريط الذي يلقيه من المعلومات.
ولكن الصحابة رضوان الله عليهم بتربية النبي صلى الله عليه وسلم وصلوا إلى هذا المستوى الذي إذا قيست إليه مستويات البشرية اليوم، سنجد بوناً شاسعاً، وكأن تراجعاً حصل في عقول الناس؛ لأن قياس العقل اليوم يرجعه أهل علم النفس التربوي إلى الروائز، ويجعلونه مائة وستين درجة، يقولون: العقل مائة وستون درجة، فعوام الناس عقولهم فوق الخمسين (واحد وخمسين، اثنين وخمسين من هذه المائة وستين)، والموهوبون هم الذين يصلون إلى المائة، والنوادر جداً هم الذين يصلون إلى مائة وستين وما حولها؛ ولذلك فالقرون الأولى من هذه الأمة كانت نسبة الفهم فيها والذكاء عجيبة جداً، فعدد كبير من الصحابة وصلوا إلى رتبة الاجتهاد، ثم جاء بعدهم التابعون، فقلت النسبة قليلاً، ثم جاء أتباع التابعين فقلت النسبة، أتباع التابعين الذين نقلت إلينا مذاهبهم مثلاً، وكانوا أهل اجتهاد، عددهم عشرة، أو أحد عشر، كما قال السيوطي رحمه الله:
والشافعي ومالك والحنظلي إسحاق والنعمان وابن حنبل
وابن عيينة مع الثوري وابن جرير مع الأوزاعي
والظاهري وسائر الأئمة على هدىً من ربهم ورحمة
تقريباً هؤلاء في تلك العصور التي بعد التابعين.
فنسبة الذكاء في العصور الأولى من هذه الأمة كانت نسبة مرتفعة جداً؛ ولذلك تلاحظون الابتكارات والاكتشافات التي حصلت في أيام الصحابة ومن بعدهم، وهي عجيبة جداً، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجال السياسة -مثلاً- ابتكر قضية الشورى على وجه عجيب: ترك الأمر في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وبعد ذلك المشورة في الاختيار في السابق منهم، فتنازل ثلاثة لثلاثة، وتنازل واحد لاثنين بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصرت الخلافة في عثمان وعلي، والاختيار لـعبد الرحمن بن عوف الذي تنازل لهما بشرط أن يكون هو الذي يختار السابق منهما، فكان هذا ابتكاراً جديداً في المجال السياسي يمنع الخلاف، ويحقق المنشود فيما يتعلق باختيار القائد الأعلى، وكذلك في المجال الاقتصادي أخرج عنه البخاري في الصحيح، أنه قال: (لقد عرض لي رأي لئن أعانني الله عليه لا تحتاج بعدي امرأة إلى رجل) كان عمر في آخر أيام حياته يفكر في رأي عرض له؛ لئن وفق له لم تحتج بعده امرأة إلى نفقة رجل.
وكذلك من ابتكاراته في المجال الاقتصادي عندما فتح الله العراق والشام ومصر على المسلمين، ظن الصحابة أن الأرض هي بمثابة كل الأموال التي غنموها فأرادوا أن يخمسوها: خمس لله يصرف في المصارف المعروفة، وأربعة أخماس للفاتحين، فقال عمر: لا، إذا فعلنا فسنحرم من يأتي في العصور اللاحقة من المسلمين، بل نجعلها لبيت المال وقفاً عاماً، ونجعل عليها خراجاً، من أراد أن يبني عليها يدفع الخراج عن كل متر، كل ذراع يدفع خراجاً عنه، من أراد الزراعة يدفع الخراج عن كل ذراعين، وهكذا، فاستمر الحال على هذا، وهي إلى اليوم وقف، سواد العراق، وأرض الشام، وأرض مصر، إلى اليوم وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرض خراج، والحال فيها مستمر كذلك، فلا تملك، إنما تبقى ملكاً عاماً؛ ولهذا هذه الفكرة لو فهمها الشيوعيون الذين ينادون بترجيح الملك العام على الملك الخاص، لكانت خيراً مما انتهجوه، ولو فهمها الرأسماليون أيضاً، لكانت خيراً مما انتهجوه؛ لأنها التي تقضي على الاستحواذ والاستبداد، وتقتضي نوعاً من الاشتراك، ليس الاشتراكية المذمومة، ولكنه نوع من الاشتراك يقتضي مشاركة الأجيال اللاحقة في خيرات الأرض.
كذلك فإن ذكاءهم في هذه الشريعة عجيب جداً، ومن أغربه كتابتهم للمصحف، فقد اختار عثمان رضي الله عنه ثمانية رجال كتبوا له ستة مصاحف، وهؤلاء الرجال كتبوا المصاحف على وجه تقرأ منه كل القراءات، فإذا أخذتم أي مصحف الآن وانتزعتم عنه النقاط والشكل - الصحابة كتبوها بدون نقط، وبدون شكل- أمكن قراءة كل القراءات منه، وهذا الشكل عجيب جداً؛ ولذلك فرسم الصحابة معجز مع أنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بست وعشرين سنة، ومع ذلك فيه إعجاز عجيب جداً، فحذفهم للألفات، وكتابتهم لهاءات التأنيث بالتاء، وعدم نقط الحروف أدى إلى توسيع دائرة القراءة، فالقرآن نزل على سبعة أحرف، وقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأوجه وحفظه الناس عنه، فهم يجتمعون فيقول أحدهم: أنا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ كذا وكذا، ويقول الآخر: سمعته يقرأ خلاف هذه القراءة كذا وكذا، فكيف نكتب كتابة تقرأ منها القراءتان مثلاً؛ فيكتبونها: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )) يحذفون الألف؛ فتصلح القراءة للجميع: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9]، (وما يخادعون إلا أنفسهم) يكتبونها بحذف الألف؛ فتقرأ منها القراءتان، وهكذا: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً) وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، قالوا: نحذف الألف، وطبعاً ليس فيه نقط، فــ(عند) و (عباد) خطهما واحد، تقرأ بالجميع، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ [الصف:14]، (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصاراً لله) كتابة واحدة، يقرأ منها الجميع، وهكذا، فكان هذا معجزاً، وهو توفيق عجيب جداً، وفق الله له أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معجز حقيقة، باهر جداً للأذكياء من الأمم، وللمثقفين إلى الآن.
ومثل هذا حفظ عدد منهم، ( فـأبو هريرة رضي الله عنه كان يشكو في الأصل من عدم الحفظ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه، قال: إني أسمع منك علماً كثيراً، ولكني لا أحفظه، فقال: ابسط رداءك، فبسط رداءه، فحثا له فيه ثلاثاً، فرده عليه؛ فما سمع شيئاً فنسيه بعد )؛ ولذلك أخرج له بقي بن مخلد في مسنده الكبير خمسة آلاف وسبعمائة وأربعة وسبعين حديثاً، عدد كبير جداً من الأحاديث يحفظها، ولم يكونوا يروون الأحاديث بالمعنى، كانوا يروونها كما سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم على نفس اللفظ، وهكذا.
فالذكاء البشري توقف في ذلك الوقت، وكل ما يأتي إنما هو تطوير وإعمال للوسائل الموجودة؛ ولذلك القرون الأولى من هذه الأمة فيها من المخترعات ما يأتي كل المخترعات اليوم تطويراً له، فالساعة مثلاً (توزيع الوقت بالساعة) ابتكر في أيام هارون الرشيد، هو خامس خلفاء بني العباس، وكذلك اكتشاف قارات الأرض كان في زمن المأمون ابنه، وهو سابع خلفاء بني العباس، وكذلك كثير جداً من الأمور الطبية، كاكتشاف الأجهزة: الجهاز الهضمي، وغيره من الأجهزة البشرية، وتحديد أجزاء العين، ونحو ذلك من الأمور، كلها اكتشفت في عهد المأمون؛ فكان الذكاء الذي ظهر في الأرض في تلك العصور الأول من هذه الأمة ذكاءً خارقاً، وقد تراجع الذكاء بعده في الناس، وإن كان في كل عصر يأتي نوادر يأتون بزيادة، حتى في هذه الأمة، مثلاً من الأذكياء الذين اشتهروا في عصور متفاوتة من هذه الأمة عدد من الذين أتوا بأشياء جديدة، وقد كان أبو العلاء المعري وهو ضرير -أعمى- وكان نحيف الجسم، لكن ملئ بالذكاء، فكان يعجب بذكائه، حتى إنه قال في لاميته:
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقد أتاه طفل صغير من أهل زمانه، فأنشد هذا البيت بين يديه، وقال: إن العرب الأوائل قد جعلوا حروف الهجاء تسعة وعشرين حرفاً، فهات الثلاثين (الحرف المكمل للثلاثين)، إذا كنت تأتي بما لم يستطعه الأوائل، فتوقف هو عند هذا الحد.
ومن ذكائه ما حدث به عن نفسه أنه كان في مسجده، وكان يقرأ عليه تلميذه الخطيب، فكان يقرأ عليه في كتاب، فسمع نبرة صوته قد تغيرت، هو ضرير أعمى لا يبصر، سمع نبرة صوته تغيرت، فضرب على يده، وقال: اكفف، لقد تغير صوتك، كأنك شاهدت أمراً تحبه، قال: أجل، رأيت رجلاً من جيراني، وكان من أهل أذربيجان، وعهده بأذربيجان قديم، من أكثر من عشر سنوات ما رأى أحداً من أهل بلده، فرأى رجلاً من جيرانه دخل المسجد، فتأثر صوته، فقال: قم إليه، فقام إليه، فسلم عليه، وكلمه ساعة، فعاد إليه، فقال: بأي لسان تكلمتما؟ قال: بالأذربية، أي: بلغة أذربيجان، فقال: لقد حفظت ما قلتما، لقد قلت له كذا وكذا، وقال لك كذا وكذا، فجعل يشرح له تلك الكلمات بلغة لم يفهمها.
وهكذا الإمام الباقلاني محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني أيضاً كان في زمانه معجزة في الذكاء والحفظ؛ ولذلك اختاره الخليفة حين أراد مفاوضة الروم، فأرسله إليهم، قد كان ملك الروم لا يدخل عليه رسول من أية جهة إلا سجد بين يديه، أو ركع له، فقال: إن رسول المسلمين لا يمكن أن يركع لي، فدعا أهل مملكته، فقال: احتالوا على طريقة يركع بها بين يدي، فقال أحد أذكياء الروم: الأمر يسير، نجعل سلماً بمثابة المنبر في الباب - درج- فيه ثلاث درجات إلى الخلف، وثلاث درجات إلى الأمام، فيكون الباب قصيراً لا يستطيع الدخول منه إلا أن يركع، فيركع بين يديك، فجعلوا الدرج في الباب، فستروه بجنس الفراش الذي هو مبسوط في الغرفة، فلما جاء الباقلاني رأى الباب قصيراً؛ فعرف أنها حيلة، ورأى الدرج قد ستر بالفراش، فولاهم بظهره، وجاء راكعاً إلى الجهة الخلفية - يوليهم بظهره- فوضع الملك يديه على عينيه حياءً من هذا المنظر، فلما جلس بين يديه عرفه بالجالسين، فإذا البابا عن يمينه، فقال: هذا البابا المقدس، وأثنى عليه، فانصرف الباقلاني إلى البابا يسأله: كيف حالك؟ وكيف زوجك؟ وكيف أولادك؟ فضج كل من في المجلس، وقالوا: إننا لنعظمه عن مثل هذا الكلام - هو مقدس عندهم- فقال: سبحان الله! تعظمون هذا عن مثل هذا الكلام، ولا تعظمون عنه الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع! تزعمون له صاحبة وولداً، فأقام عليهم الحجة من خلال كلامهم، من أول جلسة.
وإذا عرفنا أن التطور البشري قد توقف في العهد النبوي، عرفنا لماذا ختم الله الشرائع بالشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عرفنا أن النظريات الاقتصادية، والنظريات السياسية، والنظريات الاجتماعية، والذكاء في الناس، والعلم، والحفظ، كلها وصلت إلى قمتها، وحتى الخطابة في اللغة، كلها وصلت إلى قمتها، وحتى الشعر، توقف لم يزد فيه بحر واحد إلا بحر المتدارك الذي جاء به الأخفش، توقفت بحور الشعر في ذلك العصر، واليوم حتى شعر التفعيلة، وشعر الأهازيج التي ظهرت في الأندلس لم تأت بجديد؛ لأنها على نفس الوزن الذي كان معروفاً، كلها بحور معروفة، لكن فقط لا يراعى فيها قدر البيت، ولكن التفعيلة هي هي؛ فلذلك توقفت الغاية، وانتهى كلام الله التشريعي، وختم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، وهو هذا القرآن الذي وصفه الله وصفاً عجيباً، فقال فيه: الــم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، فبين أنه ليس فيه ريب ولا شك أنه من كلام الله، لا يشبه كلام المخلوقين، ولو اجتمع الخلائق جميعاً أن يأتوا بسورة من مثله لما قدروا، وقد تحدى الله الثقلين - الإنس والجن - بذلك في العهد النبوي، ومنذ ذلك العصر إلى الآن لم يأت أحد بسورة من مثله، ولو كان أحد حاول ذلك فجاء بها، لنقل ذلك إلينا تواتراً ولاطلعنا عليه، كما نحفظ الآن أشعار أهل الجاهلية، فنحن الآن نحفظ - مثلاً- قصائد امرئ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقصائد عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
وشعر النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
وشعر علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب بُعيد الشباب عصر حان مشيب
وشعر زهير بن أبي سلمى:
أمن أم أوفى دِمنةٌ لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم
إلى آخره، ولو كان في ذلك العصر محاولة، أو في أي عصر من العصور محاولة جادة لمحاكاة القرآن، لوصلت إلينا، ولحفظها الناس، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، وفيها البون الشاسع بينها وبين القرآن، فـمسيلمة الحنفي لما أراد محاكاة القرآن سمع أن في القرآن سورة الفيل، وأعرابي من أهل نجد سمع سورة البقرة فاستطالها - إذا هي طويلة جداً، مائتان وست وثمانون آية- فصلى خلف إمام، فقرأ سورة البقرة، فطالت عليه الصلاة، فصلى خلف آخر، فقيل: سيقرأ بسورة الفيل، فقال: إذا كانت سورة البقرة بهذا الطول، فكيف ستكون سورة الفيل؟! يظن أنها على قدر المسمى الذي سميت به السورة، فقطع صلاته، وامتنع من الصلاة، سورة الفيل من السور القصار، من المفصل، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5]، وقد حاول مسيلمة أن يبتكر سورة يحاكي بها سورة الفيل، فقال: (الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذَنَب قصير)، فلم يأت بفائدة، وكذلك سمع قول الله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:1-4]، فحاول محاكاة هذه السورة فقال: (والطاحنات طحناً، فالعاجنات عجناً، فالطابخات طبخاً)، فأتى بما يضحك منه العقلاء.
فلذلك بقي هذا القرآن معجزاً، متحدىً به أن يؤتى بسورة من مثله، وأقصر سورة منه سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة الإخلاص ثلاث آيات، وسورة النصر ثلاث آيات، والله تحدى الثقلين - الإنس والجن - أن يأتوا بسورة من مثله؛ فلم يستطيعوا، وهذا التحدي باق إلى رفع القرآن، وهو معجز، وهو متضمن لحاجة الناس في كل أمورهم، ما يحتاجون إليه من التشريع، وما يحتاجون إليه من الأخلاق، وما يحتاجون إليه من العقائد، وما يحتاجون إليه من المعاملات، وما يحتاجون إليه من القصص والتاريخ، وما يحتاجون إليه من الذكر والدعاء، كل ما يحتاج إليه الناس في هذا القرآن: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]؛ ولذلك قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء:9-10].
وبين الله سبحانه وتعالى كذلك عصمته، وحفظه، فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُون * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ * فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:192-224]، وبين الله سبحانه وتعالى حفظه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقال: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:52-54].
وقد بين الله تأثيره العجيب على الأسماع، فإن الناس إذا سمعوه لا يملكون إلا الاستسلام له، إلا من صرفه الله عنه، فقد قال الله تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، فالمأفوكون الأفاكون يصرفهم الله عنه، منهم من لا يستطيع سماعه، فيفر منه كما يفر من الأسد، ومنهم من يسمعه باستهزاء، فقلبه مشغول عنه، ومنهم من يسمعه فتقوم عليه الحجة به، فيلعنه في أذنه، نسأل الله السلامة والعافية، والذين ينتفعون به هم أهل الهدى، الذين اختارهم الله للانتفاع بالقرآن، وقد بين الله تأثيره عليهم، فقال: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر:23]، وقال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء:106]، فتأثيره على العقول عجيب، حتى البهائم تتأثر له، وحتى الكفار يتأثرون له تأثراً عجيباً؛ ولذلك بين الله تعالى تأثر النصارى به، فقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:82-84]، وهذا مشاهد في كل العصور، ففي العصر النبوي كان راهب يتعبد في صومعته، فمر حوله راكب في الليل، فإذا هو يقرأ القرآن، يقرأ سورة النساء، فلما أصغى إليه - يستمع إلى قراءته- مر بقراءة قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا [النساء:47]، فخرج يجري من الصومعة، وهو يضع يده على وجهه يخاف أن يقلب على قفاه، حتى أسلم.
وهذا التأثر يحصل حتى للعوام من الأعراب الجهال، فإن رجلاً من أهل البادية من الأعراب قرأ عليه قارئ سورة النجم، فلما وصل إلى موضع السجدة فيها سجد الأعرابي، فقال له القارئ: أعرفت أن هذا من مواضع السجود في القرآن؟ قال: أوَفي القرآن مواضع سجود؟ قال: نعم، وإنها لإحداها، قال: ما عرفت ذلك، لكن الكلام ساقني للسجود، هو لم يسمع قط أن في القرآن موضعاً يسجد فيه، لكن سمع الكلام، فقرأ عليه قول الله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:48-61]، فلما أكمل الآية سجد الأعرابي.
وهذا التأثر بهذا القرآن ما زال قائماً إلى الآن، وأذكر أننا مرة من المرات كنا في وقت صلاة من الصلوات عند مكان مشهور في باريس يسمى "قوس النصر"، فحان وقت إحدى الصلوات الجهرية، لا أذكر هل هي المغرب أو العشاء، فأذنا، وأقمنا الصلاة، ومعي عدد يسير من المسلمين، فقرأت من بداية سورة الرعد، فإذا الكاميرات من كل جانب يصورون، وإذا عدد من النصارى صلوا معنا، فلما سلمنا سألهم الشباب: هل أنتم مسلمون؟ قالوا: لا، ولكن أعجبنا بما صنعتم، وأعجبنا هذا الكلام، هذا الكلام الذي سمعوه عجيب، مؤثر جداً، وهذا التأثير منه أيضاً الشفاء من الأمراض، سواء كانت أمراضاً بدنية، أو أمراضاً عقلية، أو أمراضاً روحية، أو حتى الأمراض العاطفية، ففي هذا القرآن شفاء منها، كما قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وقد حصل لطبيب أمريكي مشهور كان يعالج مرض القلب بالملهيات ووسائل إدخال السرور، فعرف أن الأصوات المطربة مؤثرة تأثيراً كبيراً؛ فكان يجمع أشرطة الغناء في العالم، ويسمعها للمرضى المصابين بمرض القلب، ويلاحظ نبضات القلب، وارتفاع الموجات وانخفاضها، وبينما هو يجمع الأصوات المطربة سمع شريطاً من القرآن بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمة الله عليه، وكان هذا الشريط في سورة الرعد أيضاً، فجاء به، فكان يشهد تأثراً عجيباً للمرضى عندما يسمعون هذا القرآن (هذا الشريط) فركز عليه، ووجد أن قمة التأثر تحصل عند مقطع منه، فكتب ذلك المقطع، فإذا هو: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فسأل عن ترجمة هذا المقطع؛ فترجمت له الآية، فأسلم بسبب ذلك.
وهذا التأثير تشهده البهائم أيضاً، فقد كان الفضيل بن عياض لا يؤتى بدابة تصرع الراكبين إلا قرأ في أذنها: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، فتستكين لها، الدابة التي تصرع كل من ركبها إذا قرئت في أذنها هذه الآية بصدق، تستكين لها.
فهذا التأثير العجيب في هذا القرآن هو من أوجه إعجازه، ولا شك أن تدبره مأمور به شرعاً، فقد قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعقدون المجالس لسماعه وتدبره، وكان معاذ بن جبل يقول: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، فهو إيمان؛ فلذلك اختار لكم مشايخ الأئمة أن تكون جلسات، أن نأخذ جلسات متعددة في مقاطع من القرآن، نتدبر فيها، ونراجعها، لعلنا نتطفل على مائدة الملك الديان، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )، وستكون الحلقات اللاحقة إن شاء الله في القرآن، سنتكلم عن علومه باختصار، وبالأخص ما يتعلق بالتفسير منها، ونتابع التدبر في بعض الاختيارات من مقاطعه.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يزيدنا إيماناً وإخلاصاً ويقيناً، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يوفقنا أجمعين لما يحب ويرضى.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
السؤال: أول سؤال وصلني هنا هو: ما حكم استعمال حبوب منع الحمل بالنسبة للمرأة المريضة؟
الجواب: أن الأصل هو منع استعمال كل ما هو مخالف لخلق الله، ولسنن الله في خلقه، والله تعالى أجرى سنته في خلقه أن النكاح سبب لوجود العقب والنسل، وأنه يطلب لذلك، وهذا أحد ست نيات يقوم بها المسلم إذا أراد عقد النكاح، فينوي ست نيات:
النية الأولى منها: نية امتثال أمر الله تعالى في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3].
والنية الثانية: امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )، وفي قوله: ( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء ).
والنية الثالثة: طلب النسل؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية ).
والنية الرابعة: إعفاف نفسه؛ فهو واجب عليه، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]، وقال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهمْ [النور:30].
والنية الخامسة: إعفاف الطرف الآخر؛ فهو من التعاون على البر والتقوى، وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
والنية السادسة: بناء البيت المسلم الذي تقام فيه أحكام الشرع الموجهة إلى الأسرة، فهذه الأحكام لا يمكن أن تطبق إلا في آلتها، وآلتها هي الأسرة التي وجه الشارع إليها هذه الأحكام، وعلى هذا فإن طلب النسل هو مما يبتغى بالنكاح، وقد فسر به كثير من أهل التفسير قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ [البقرة:187]، فقد قال كثير من أهل التفسير: مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ [البقرة:187]، هو النسل، وقالت طائفة أخرى: هو ما يحصل للإنسان من الشهوة.
وعلى هذا فالأصل ألا يحد النسل، وألا يمنع، بل إتلافه في الأصل محرم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم وأد البنات، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: ( إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )، وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين حال المشركين الذين يقتلون بناتهم ويدفنونهن في الأرض، قال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58-59]، وقد بين الله سبحانه وتعالى كذلك ضرر قتل الأولاد، فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، ومنع الحمل قريب من هذا، فهو بمثابة الوأد الخفي، لكن مع هذا قد تحصل ضرورة تقتضي تأخير الحمل، كإرضاع ولد صغير يخشى عليه من الغيلة، والغيلة هي: وطء من ترضع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ثم أذن فيها بعد ذلك لما سمع أن الروم يفعلونها فلا تؤثر على أولادهم، فأذن فيها؛ فدل ذلك على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عنها لم يكن من قبيل التحريم، وإنما كان من قبيل الاجتهاد في الأمور الدنيوية، فلما علم أن التجربة أثبتت عكس ذلك رجع عنه، فأذن في الغيلة، والعرب كانوا يزعمون أن الغيلة تقتضي ضعفاً للأولاد، حتى ولو لم تنقص مدة رضاعهم، ويذكرون المغيل - أي: الصبي الذي وُطئت أمه وهو في سن الرضاعة - يذكرونه بالضعف، وقد قال امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً فألهيتها عن ذي تمائم مُغيَل
وعلى هذا؛ فإن الأصل عدم منع الحمل مطلقاً، وإذا اضطر إليه لسبب طبي، فتلك نازلة بعينها يفتَى فيها.
وأما استعمال الحبوب التي تمنع الحمل ففيه ضرر كبير على الأبدان؛ لما تؤدي إليه من استمرار الاستحاضة؛ ولأنه سبب لزيادة الإخصاب، فيقتضي ذلك وجود التوائم، وهو سبب أيضاً لتغير لون الوجه، فكل ذلك ضرر بالمرأة، فلا يجوز استعمال هذه الحبوب في هذا الضرر، إلا إذا كان ذلك في نازلة بعينها وأُفتيت فيها بخصوصها، وكذلك الحقن التي تمنع الحمل، فيها ضرر كبير أيضاً، فهي تقتضي خروج الشعر في وجه المرأة، كأن تنبت لها لحية، أو شارب مثلاً، وهي سبب من أسباب سرطان الثدي؛ فلذلك فيها ضرر عظيم، ومثل ذلك استعمال الواقي الذي يستعمله الرجال، ففيه أضرار كبيرة أيضاً؛ لأنه يصنع من مادة البلاستيك، وهذه المادة فيها أحماض، وهي مضرة بداخل بدن الإنسان، وأيضاً فكثيراً ما تكون فيه ثقوب لا ترى بالعين المجردة، فيتسرب منها بعض السائل، فيؤدي ذلك إلى حمل، وإذا حصل كان مشكلة عويصة؛ لأن الزوج سينكر أن يكون الحمل منه؛ لأنه لا يشعر بأنه تسرب منه شيء، فكل ذلك يقتضي حرمة استعمال الواقي، وهو العازل أيضاً.
وإذا احتيج لتأخير الحمل، فيمكن أن يكون ذلك بالطرق الأخرى التي ليس فيها هذا الضرر، كالعزل، فقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، وهذا إقرار من الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر؛ لأنه كان في وقت نزول الوحي، فلم يأت وحي بتحريمه، فهذا يدل على أن الله أقرهم عليه، وكذلك الوقاية الطبية المعروفة، وهي أن الرحم ينتج بيضتين؛ فكل عنق من عنقيه ينتج بيضة، فينتج هذا العنق بيضة، وهذا العنق بيضة أخرى في الشهر القادم، وهذه البيضة إذا لم تلقح كانت هي الحيضة، وإذا لقحت، فهي الحمل، وهي تنزل في اليوم الرابع عشر من بداية الدورة، فإذا عدت المرأة من بداية الدورة أربعة عشر يوماً، فاليوم الرابع عشر منها بإذن الله هو الذي تنزل فيه هذه البيضة، وإذا نزلت تكون قابلة للتلقيح خلال ثمان وأربعين ساعة، فإذا امتنع الزوج عن الوقاع في هذه الفترة، وهي ثمان وأربعون ساعة، فبإذن الله لن يقع حمل؛ لأن هذه الفترة هي التي تكون البيضة فيها قابلة للتلقيح، وإذا لم تلقح، استحاضت حيضة، فترجع دماً.
السؤال: ما الفرق بين فرائض الصلاة، وأركان الصلاة؟
الجواب: الفرائض -في اللغة- تطلق على الواجبات والرسوم التي يأخذها الملوك على الناس، فالضرائب التي كان الملوك يأخذونها على الناس تسمى الفرائض، ومنه قول الشاعر:
فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً هلمَّ فإن المشرفيَّ الفرائض
فإنك دون المال ذو جئت تبتغي ستلقاك بيض للنفوس قوابض
فالفرائض معناها: الرسوم والضرائب التي يأخذها الملوك على الناس.
وسميت بها فرائض الله؛ لأنها لازمة واجبة، لا يستطيع الإنسان التخلف عنها؛ ولذلك يطلق الفرض على ما وقع، فلزم محله، فاستقر فيه، ومنه الفرض في القوس؛ أي: تقدير مكان لتثبت فيه سيتها، فالمكان الذي يثبت فيه الوتر في القوس يحز فيه تحزيز، وهذا التحزيز يسمى "فرضاً".
وعلى هذا فإن كل ما قدره الشارع من الأحكام التي أوجبها يسمى فرضاً، ولكن هذا اصطلاح للفقهاء، ولهم خلاف في مدلوله، فمذهب جمهور أهل العلم: أنه لا فرق بين الفرض والواجب، فالواجبات هي الفرائض، وذهب الحنفية إلى التفريق بينهما، فقالوا: الفرض: ما وجب بدليل قطعي، والواجب: هو ما وجب بدليل ظني، فمثلاً فرائض الصلاة عند الحنفية منها -مثلاً- تكبيرة الإحرام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير، وتحليلها السلام )، ومنها القيام في تكبيرة الإحرام، ومنها الركوع، ومنها الرفع من الركوع، ومنها السجود والرفع منه، والسجدة الثانية، فهذه هي فرائض الصلاة عند الحنفية، أما واجبات الصلاة التي ليست فرضاً عندهم، فمنها: الفاتحة، ومنها التكبير - ما عدا تكبيرة الإحرام- ومنها السلام، فهو واجب ليس بفرض عندهم، ويبنون على هذا أن الفرائض لا تصح الصلاة إلا بها، وإذا نقص منها شيء بطلت الصلاة، والواجبات لا يصح تعمد تركها، ومن تعمد تركها بطلت صلاته، لكن إذا سقطت من غير تعمد صحت الصلاة معها، كمن أحرم وهو يريد قراءة الفاتحة، ولكنه نسيها فقرأ سورة سواها، أو لم يقرأ شيئاً حتى سلم، فصلاته صحيحة عند الحنفية، وإن كان لو تعمد ترك الفاتحة لبطلت صلاته، لكن إذا لم يتعمد فلا حرج، ومثل ذلك السلام، إذا أراد أن يسلم فأكمل التشهد، فانتقض وضوءه، أو طلعت عليه الشمس، أو غربت عليه، أو حصل أي أمر يقتضي نهاية طهارته، كنهاية يوم وليلة بالنسبة للمسح على الخفين عندهم، أو ثلاثة أيام بالنسبة للمسافر، فانتهى وقت المسح، فعند أبي حنيفة تبطل الصلاة بذلك، وعند صاحبيه: أبي يوسف ومحمد بن الحسن لا تبطل الصلاة، ويسقط السلام عن الإنسان، وصلاته صحيحة، وعند أبي حنيفة تبطل صلاته؛ لأن ما غير الفرض في أوله غيره في آخره عنده لا عندهما؛ أي: عند أبي حنيفة لا عند صاحبيه.
وأما أركان الصلاة، فالأركان جمع ركن، والركن: جانب الماهية القوي، فركن المسجد أي: جانبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر