بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[البقرة:269]، وقد جعل الله تعالى الحكمة من وسائل الدعوة، فيحتاج المسلمون إلى تعلم الحكمة؛ لأنها أولاً خير كثير، كما أخبر الحكيم الصادق بذلك، ومن أصدق من الله حديثاً، ويحتاجون أيضاً إلى تعلمها لأنها وسيلة من وسائل دعوتهم وقد أمرهم الله جميعاً بهذه الدعوة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأنها طريقه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]؛ فاحتاج الناس إلى تعلم هذه الحكمة نظراً وتطبيقاً.
ولا يمكن أن يكون الإنسان حكيماً بمجرد النظر، ولا يمكن أن يكون حكيماً إلا بعد التطبيق؛ لأن الحكمة علم وخبرة؛ فجانبها العلمي هو الازدياد من الحجة؛ فإن الحجة تحصل بها الحكمة؛ ولذلك أطبق أهل التفسير على أن تفسير قول الله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[البقرة:269] أن معنى ذلك: أن من أوتي العلم فقد أوتي خيراً كثيراً، وكذلك في الآيات التي عطفت الحكمة فيها على الكتاب أطبق أهل التفسير على أن المقصود بالحكمة فيها السنة كقول الله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ[الأحزاب:34]، وكقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[آل عمران:164]، فالحكمة في هذه الآيات إنما يقصد بها السنة، فلذلك يحتاج المسلم من الناحية النظرية إلى تعلم العلم ليكون حكيماً.
ومن الناحية التطبيقية يحتاج إلى ممارسة حكمة العلم التي بها يتم نوره وبها تتنزل السكينة في قلبه، ومن لم يمارس ذلك على يد مدرب قلما ينجح فيه.
إن الحكمة التي أرشدنا الله إليها هي وسيلة من وسائل الدعوة السبع التي بينها في كتابه، وهي من أنجح هذه الوسائل وأحسنها ولهذا ابتدأ الله بها في هذه الآية فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]؛ فقد ذكر فيها ثلاث وسائل ابتدأها بالحكمة؛ إيذاناً بشرفها وتوصيلها إلى المقصود منها، وقد نص أهل العلم على أن الحكمة هنا في هذه الآية المقصود بها: وضع الشيء في موضعه، بأن يوضع الجد في موضعه والهزل في موضعه والسيف في موضعه ولين الكلام في موضعه.
لا شك أن للإنسان في أي مجال من مجالات الكلام ثلاث مقامات:
فالمقام الأول هو مقام الابتداء، وهو في أول مقابلته للإنسان أو تكلمه في مسألة؛ فهذا المقام لا بد فيه من اللين؛ فهو المناسب له، ولهذا قال الله تعالى لـموسى و هارون حين أرسلهما إلى طاغية الأرض فرعون : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[طه:44]؛ ولذلك افتتح موسى دعوته لـفرعون باللين ثم جاءت الشدة بعد اللين، وهكذا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن أنزلت عليه هذه الآية؛ فقد كان في دعوته لقريش وأهل مكة أخذ باللين في بداية الأمر وافترض الله عليه ذلك؛ ولهذا قال للأنصار حين قال له العباس بن نضلة ليلة العقبة: ( يا رسول الله! لو شئت ملنا عليهم بسيوفنا؛ فقال: ما أمرت بذلك )، وأنزل الله عليه: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14].
ثم بعد ذلك فرض عليه الجهاد في سبيل الله وأمر بالغلظة على المشركين والمنافقين؛ فخاطبه الله تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73]، وأمر المؤمنين بذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً[التوبة:123]؛ فإنما محل هذه الغلظة بعد اللين الذي هو في مقام الابتداء.
ثم يلي مقام الابتداء مقام التردد وهذا تشرع فيه الموعظة الحسنة بعد المعاملة بالحكمة في مقام الابتداء تأتي الموعظة الحسنة التي تزيل اللبس وتهيئ القلوب لقبول الحق.
ثم يأتي بعد ذلك المقام الأخير الذي هو مقام المكابرة والإنكار وهذا يحتاج فيه إلى الجدل؛ ولهذا رتب الله هذه المقامات الثلاثة في وسائل الدعوة؛ فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ[النحل:125]، وهذا في مقام الابتداء، ثم قال: وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وهذا في مقام التردد، ثم قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وهذا في مقام الإنكار والمكابرة، ثم بعد المجادلة تأتي مرحلة أخرى وهي مرحلة المجاهدة.
إن من لم يتدرج هذا التدرج في الدعوة كان كمن تعجل الشيء قبل أوانه فربما عوقب بحرمانه، ولم يسلك بذلك طريق الأنبياء الذين بدءوا بهذا التدرج ولم يتعدوا مرحلة إلى الأخرى قبل أن يحين وقتها، والإنسان بطبعه بلي على هذا التدرج فقد خلق الله البشرية أطواراً كما قال نوح في نذارته، ويتجلى ذلك في الفرد الواحد الذي يمر بتسع مراحل من مراحل الخلق بينها الله تعالى في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:12-16]؛ فهذه تسع مراتب خلق الله الإنسان مدرجاً فيها ولم يتعجل مرحلة من مراحلها ولم يكن هذا الكون البديع ليتم لولا هذا التدرج في الصنيع؛ ولهذا فإن بدايات كل شيء إنما يكون فيها الضعف البين ثم تأتي بعد الضعف القوة والشدة ثم يأتي بعد ذلك الضعف الذي كتبه الله على الدنيا؛ فقد كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه؛ فلهذا خلق الإنسان من ضعف ثم بعد ذلك انتقل إلى القوة بتمام شبابه وأيده، ثم يعود إلى الضعف والشيبة، كما أخبرنا الله بذلك.
إن هذا التدرج في الدعوة يحتاج إليه الإنسان في دعوة نفسه؛ فما من أحد إلا وله حظ من الطغيان، وهو محتاج إلى أن يعالج ذلك في نفسه، لكنه إن أخذ نفسه بالشدة والقوة في بداية الأمر فلا بد أن يصاب بتطرف، ولا يمكن أن تستقيم له نفسه عندما يأخذها بالشدة؛ ولهذا قال البخاري في الصحيح: حدثنا عبد السلام بن مطهر ، قال: أخبرنا عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه ) ) وفي رواية: ( ولن يشاد الدينُ إلا غلبه )، وفي رواية: ( ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( مه! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وذلك في حديث الحولاء بنت تويت رضي الله عنها عندما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في بيت عائشة فعرفته بها تذكر من صلاتها وصيامها؛ فقال: ( مه! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام على العمل وبين أن: ( المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى )، وقال: ( إن الدين يسر فأوغلوا فيه برفق )، وحض صلى الله عليه وسلم على الاعتدال والتوازن كما في حديث عبد الله بن عمرو فقال: ( إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً؛ فآت كل ذي حق حقه )؛ ولذلك حين سأل رجال عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوه؛ فقال أحدهم: ( أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا، وإني أنام وأقوم وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).
إن الشدة على النفس مدعاة للملل ومدعاة كذلك لأن يصاب الإنسان بإحباط فلن يكون ملكاً، فما هو إلا بشر يخطئ ويصيب، وخير الخطائين التوابون، وقد شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه تباين أحوالهم عندما يكونون بحضرته فترق قلوبهم وترف إلى لقاء الله وتشتاق إليه وتأنس به، وعندما يخرجون من حضرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعودون إلى لذات الدنيا وشهواتها؛ فقد أخرج مسلم في الصحيح أنهم قالوا: ( يا رسول الله! نكون عندك فنكون كما ترى، فإذا رجعنا إلى البيوت عافسنا النساء على الفرش؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).
يحتاج الإنسان إلى الحكمة في دعوة نفسه ومجاهدتها، فلا ينبغي للإنسان الذي هو في بداية شبابه أن يأخذ نفسه بالإعراض عن الشهوات والملذات مطلقاً؛ لأن هذا سيؤدي به إلى الرهبانية التي لن يطيقها ولن يتحمل أداءها، ولا ينبغي للإنسان أن ينقطع عن طلب العمل مطلقاً وعن الكسب وجمع ما يحتاج إليه في حياته من المال فإن ذلك أيضاً مدعاة لأن يكون كلاً على الآخرين وعبئاً عليهم، ولا ينبغي للإنسان أن ينقطع للدعوة وأن لا يشارك في أمور الحياة الأخرى؛ فإن ذلك أيضاً سيكلفه أعباءً ويؤدي به إلى الرجوع في أدراجه أو أن يكون كلاً عل الآخرين؛ فلا بد أن يتوسط الإنسان في التعامل مع نفسه فلا يلقي لها الحبل على الغارب؛ فإنها مثل الصبي إن أحست بالإهمال تمادت واستمرت على ما هي عليه وإن أحست من الإنسان كذلك بالحكمة والمعالجة وبالترغيب والترهيب وبمحاولة الإصلاح انقادت له.
ولهذا فإن نفوسنا مثل البهائم التي لا تتعود على العمل كثيراً ولكنها إن أخذها أهلها كلفوها من العمل ما لا تطيق؛ فإذا جاء موسم ذلك العمل نفرت ولم يستطيعوا إمساكها إلا بمجاهدة، وذلك أننا لم نسلك الطريق المعتاد في تربية النفوس بالتدرج والترغيب والترهيب، وإذا جاءت شرة استغلها الإنسان واغتنمها وإذا جاء تراجع حاول الإنسان تذكر أحوال أهل الآخرة وتباين منازلهم وراجع مع نفسه أحوال أهل النار وهم فيها وأحوال أهل الجنة وهم فيها، وعرض نفسه كذلك على هذا الكتاب المبين وعلى هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ فستنقاد له نفسه وتستقيم، ولينتهز حينئذ نشاطها للطاعة فليبادر إلى الطاعة ما دامت نفسه موتية لذلك.
أما إذا وجد تعباً ونصباً فلا يجهد نفسه في ذلك الوقت، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان أحدكم يصلي من الليل فغلبته عيناه فلينم؛ فإنه ما يدري لعله يريد أن يذكر الله فيسب نفسه )، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم من غلبته عيناه في قيام الليل عن الاستمرار على القيام وأمره أن ينام، وليحتسب ذلك عند الله فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي).
ثم بعد هذا في دعوة الآخرين وأقربهم إليك أبواك؛ فلا بد من اللطف واللين في التعامل معهما وفي دعوتهما وإرشادهما وتذكيرهما؛ فقد أمرك الله أن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وهذا التدرج في دعوتهما أمر لا بد منه لأنك لا يمكن أن تؤثر فيهما وتغير ما هما عليه مما لا يرضيك إلا بعد الحصول على مرضاتهما وبعد حصول الثقة منهما، والإنسان محتاج إلى ثقة والديه وأهله؛ لأنه إذا وثق به الأدنون فذلك مدعاة لأن يثق به من سواهم، وثقة الأقربين بالإنسان مقتضية للتأثير فيهم ولحملهم على ما يريده؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى اللين في التعامل مع الأقربين في بداية الأمر؛ ليكون ذلك مدعاة لاتباعهم لأمره وقناعتهم بصدقه وحصول الثقة بما يقول.
ثم بعد هذا لا بد من هذه الحكمة في التعامل مع العلماء الذين يحملون الحق إلى الناس ويضيئون الطريق لهم، فما هم إلا قوم من الناس يخطئون ويصيبون، ولهم أحاسيس كما عند من سواهم، ولكن الله شرفهم بما ائتمنهم عليه من الوحي وامتحنهم بذلك أيضاً؛ فإذا أراد الإنسان أن يعاملهم لأخذ العلم منهم فلا بد أن يتواضع في بداية الأمر، وإذا رأى ما يخالفه أو ما ينكره فليكن إنكاره ذلك بلين ويسر، ولا ينبغي أن يتشدد مع من يأخذ منه فلم يكن ذلك من الهدي القويم، بل إن جبريل علمنا طريقة الأخذ عن العلماء عندما جاء يعلمنا ديننا، فقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وخاطبه بسؤال متأدب، وكان في ذلك الحال حسن الهيئة نظيف الثياب نظيف الشعر.
وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدربوا على هذا الهدي في التعامل معه فقد قال عروة بن مسعود يوم الحديبية: ( والله لقد زرت كسرى في ملكه و قيصر في ملكه و النجاشي في ملكه؛ فما رأيت أصحاب ملك يعظمونه كما يعظم أصحاب محمد محمداً؛ فوالله ما يرفعون إليه أبصارهم إجلالاً له، ولا يبصق إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه، ولا توضأ إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، وإنهم ليبتدرون إلى أمره، فإذا تكلم كأنما على رءوسهم الطير ) فهذه المهابة تعلمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقلوها إلى من دونهم، وسار الناس على هذا الهدي وبه استقامت شئون هذه الأمة.
وكذلك في التعامل مع السلاطين في دعوتهم؛ فإنهم يملكون من القوة ما لا يملكه من سواهم، وقد امتحنهم الله بذلك وابتلاهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنكم ستحرصون على الإمارة وإنها ندامة يوم القيامة وإنها نعمت المرضعة وبئست الفاطمة )، فهي نعمت المرضعة أي: ما دام الإنسان يرتضع درارها ولبانها فإنه سيسر بذلك، لكنها بئست الفاطمة عند فطامها؛ فإن الحساب سيكون عسيراً، لكن مع ذلك لا بد من إحسان التعامل والحكمة في الدعوة فالذي يدعو من واقع حرصه على الهداية ومن واقع حرصه على تبليغ رسالات الله وحرصه على هداية الناس لا يمكن أن يكون منفراً، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيها الناس! إن منكم منفرين ).
وكذلك حض على التبشير فقال: ( بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا )، وقال لـمعاذ و أبي موسى حين أرسلهما إلى اليمن: ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا )، فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء )؛ فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الشدة، وبين أن أصحابها لا يكونون من الشفعاء ولا من الشهداء؛ فلذلك لا بد أن يأخذ الإنسان بحظه من الحكمة في التعامل مع الناس عموماً، وليعلم أنه ليس هو الملك المكلف بالكتابة عليهم؛ فإن عليهم كراماً كاتبين، يعلمون ما يفعلون، يحصون أعمالهم، وإنما هو من واقع حرصه عليهم، وسعيه لهدايتهم مبلغ مؤتمن، فيبلغ إليهم رسالات الله بأسلوب لا يقتضي نفرتهم منها فلا يعين الشيطان عليهم، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إعانة الشيطان على الناس، فإن الإنسان إذا نصح في الملأ اعتبر ذلك فضيحة لا نصيحة، وأخذته العزة بالإثم، فأعنت الشيطان عليه، مع أنه بالإمكان أن تنصحه بأسلوب آخر فيكون ذلك أبلغ تأثيراً، ومحل هذا إن أمكنك كذلك، فإن لم يمكن ذلك لم يبق إلا ما لا بد منه فلا بد مما ليس منه ضد.
فإذا تعود الإنسان على هذه الحكمة استطاع بذلك أن يبلغ كل ما يريده من الحق بأسلوب مناسب ولم يثر الناس ولم يثر حساسياتهم ولم يتعرض لما يكرهون، فقد نهانا الله تعالى عن سب آلهة المشركين لئلا يكون ذلك ذريعة لما هو أكبر من ذلك؛ فقال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:108]، ومن هنا فإن لكل طائفة أمراً تتعصب عليه؛ فإذا جاء الإنسان الطبيب المعالج الداعية حاول تزهيدهم فيما يتعصبون عليه من الباطل بالتدرج، وإذا جاء صاحب الاستعجال الذي لا يأخذ بالحكمة؛ بادر إلى سب آلهتهم؛ فحصل ما يكره ولم ينتفعوا بدعوته.
فلهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أن كل طائفة لديها ما تتعصب عليه من الباطل وينبغي أن تؤخذ بالتدريج وأن لا يبادر الإنسان إلى سب الآلهة؛ فإن ذلك مدعاة للتعصب على غير الحق وللعمى عنه، نعم إذا احتيج إلى بيان ذلك في وقت الحاجة فليبادر إليه، لكن ذلك في المقام الثاني أو الثالث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين حاصر بني قريظة بعد غدرهم قال لهم: ( يا إخوان القردة والخنازير )؛ فما عهدوا منه هذا الكلام فقالوا: ( يا أبا القاسم! والله ما عهدناك فحاشاً ) ما كانوا من قبل يعرفون منه هذا الكلام، لكنه قد حان وقته؛ فحان أخذهم بهذه الشدة، ومثل ذلك ما قال أبو بكر الذي عرف بالحياء والتواضع عندما خاطب عروة بن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا محمد! إن قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وما أرى معك إلا أشابة من الناس جدير أن يفروا عنك ويتركوك. انتفض أبو بكر فقال: ويلك! امصص بظر اللات! أنفر ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا؟ قيل: ابن أبي قحافة ، فقال: أما إن لك علي يداً؛ فهذه بتلك )، فلم يجبه عما قال.
فلهذا لا شك أن الشدة في موضعها من الحكمة، ولسنا ندعو لتركها، بل قد أخذ بها الأنبياء في وقتها، وطبقها رسولنا صلى الله عليه وسلم وأمره الله بالغلظة فقام بذلك، وطبقها أصحابه في الوقت المناسب، لكنه في غير هذا الوقت المناسب في مقام الابتداء ولا بد أيضاً من لين يكون بين يدي النجوى مقدمة، ولعل الله يهدي القلوب بذل اللين؛ فإذا قامت الحجة وحصلت المكابرة لم يبق إلا الغلظة والشدة.
إن هذه الحكمة تقتضي من الإنسان ترتيب الأولويات في الدعوة، فالذي يأتي قوماً أهل شرك فيبدأ مباشرة في مجادلتهم في تعدد الزوجات أو في ستر رءوس النساء أو نحو ذلك؛ هذا لم يأخذ بهذه الحكمة، ولا اتجه الاتجاه المناسب، فالذي يدعو النصارى للإسلام إذا بدأ بدعوتهم مثلاً إلى تعدد الزوجات أو إلى تغطية رءوس النساء أو نحو ذلك، لا يعد موفقاً في دعوته؛ لأنه يدعو قوماً أهل شرك؛ فينبغي أن يخرجهم أولاً من الشرك ثم إذا استجابوا لذلك دعاهم إلى ما دونه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسوله: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم استجابوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموال الناس، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )، فهذه نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسوله الذي أرسله للدعوة، فلذلك لا بد أن يأخذ بها رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونوابه الذين يدعون إلى سبيل الحق الذي جاء به.
وليعلموا كذلك أن ترتيب الأولويات معين جداً على الوصول إلى الأهداف؛ لأن الإنسان إذا جادل طائفة قد تعصبت على باطل فابتدأ بأعظم ما لديها من الباطل فتراجعت عنه فقد اقتربت من الحق، وبذلك يستطيع هدم الحلقة الموالية، أما إذا ابتدأ بحلقة ضعيفة فإنه بالإمكان أن ينهزم هو؛ لأن حجته في الحلقة الضعيفة أضعف من حجته في الحلقة القوية؛ فلذلك ينبغي أن يبدأ معهم بأهم أمر على خلاف ما تسمعون اليوم في المفاوضات السياسية؛ فالمفاوضات في فلسطين تبدأ بأقل شيء فائدة، وتؤخر الملفات الحساسة كقضية الأقصى وقضية المبعدين وقضية المياه وغيرها تترك لآخر شيء، وهي التي ينبغي أن تكون في المقدمة، في أول ما يقع الخلاف فيه لأنها الفاصلة؛ فطريق الدعوة على خلاف طريق المفاوضات السياسية يبدأ فيها بالأهم ثم الذي يليه.
وكذلك فإن ترتيب الأولويات هنا يقتضي ترتيب العداوات أيضاً، أي: وضع مسطرة الخطورة للأعداء؛ فإن المؤمن لا يمكن أن يفتح جميع الجبهات على نفسه في وقت واحد؛ فلذلك ينبغي أن يصنف المخالفين له؛ فالمخالفون له في أصل التوحيد وفي أصل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله في الدرجة الأولى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولا ينبغي أن يبدأ وهو يجد اليهود والنصارى والعلمانيين الملحدين وغيرهم بالذين يختلف معهم في أمر من أمور الدين الخلافية الفرعية كجلوس الاستراحة وكالقبض وغيرها من سنن الصلاة؛ فمن بدأ بالخلاف مع الذين يخالفونه في هذه المسائل فإنه ليس لديه من القوة إلا قذائف قليلة، وقد قذف بها إخوانه الذين يقفون معه في غالب الأمر ولا يختلفون معه إلا في مسائل فرعية قليلة، وبقي أعداؤه ليس لديه سلاح يواجههم، أنت يا عبد الله سلاحك قليل وزادك يسير وأعداؤك كثير، فابدأ بأخطر الأعداء، ابدأ بأهل الشرك، ثم بالذين يلونهم ثم بالذين يلونهم، وليكن آخر همك الخلافات الفقهية في مسائل الغالب والمغلوب فيها، كلاهما يرجى له الخير ويرجى له السلامة من النار.
إن الخلاف الفقهي أمره يسير جداً، ولا يمكن أن تحسمه أنت، فالأدلة فيه من قديم الزمان تتعارض، وأهل العلم تختلف أفهامهم فيها، والأمر فيها ميسور، وإذا لم يبق من الخلاف بين المسلمين إلا الخلافات الفقهية، فالحمد لله ليس بين المسلمين خلافات، لكن ابدأ أولاً بالخلافات في أمر التوحيد الذين تختلف معهم في كل شيء من أعداء الله من اليهود والنصارى والملحدين والمنافقين، فليكن سلاحك اليسير موجهاً إلى هؤلاء في البداية، ثم بعد ذلك لا نمانع في إنكارك للمنكر، بل عليك أن تنكر المنكر مطلقاً من أي وجه صدر، ولكن لا تجعله منيتك الوحيدة وبغيتك الوحيدة في جهادك في سبيل الله، وإني لأعجب من بعض الذين يدعون إلى سبيل الحق من الذين تفقهوا وعرفوا بعض أحكام الدين وأدلتها والأمة بحاجة إلى قوتهم وشدتهم، وفيها أنواع مما يحتاج إلى التغيير من الشركيات والبدع والمنكرات الشيء الكثير، فلا يتجهون إلا إلى كبار السن الذين اعتزلوا الدنيا واشتغلوا في المساجد بذكر الله تعالى وانقطعوا عن الدنيا وهم أهل زهد وعبادة، واشتغلوا ببعض الفروع الفقهية، فيجعلون غالب همهم الرد على أولئك المعتزلين للعبادة الذين لو ماتوا على ما هم عليه لرجي لهم الخير، والقدر الذي لديهم من الابتداع أو من مسائل الخلاف يمكن أن تكفره حسناتهم الكثيرة الطائلة، وليسوا أخطر أعداء الله ولا أخطر الناس على الإسلام، وأنت ترى أهل عداوة الدين الذين لا شك أن الحقد قد بلغ أنوفهم، وهم يعملون كل الحل من أجل هدم الإسلام؛ فكيف لا تقاتلهم قبل أولئك الضعاف المساكين الذين اعتزلوا شئون الدنيا وانقطعوا لعبادة الله سبحانه وتعالى؟!
ليس معنى هذا أن تسكت على باطل أولئك أو أن تقر لهم ببدعهم؛ لا، بل أنكر المنكر ممن صدر ولكن لا تتشدد على الضعاف، واجعل شدتك على الأقوياء الذين يخاف منهم الغائلة على دين الله، وابدأ بهم قبل من سواهم، واعلم أن الجهاد يكون في أهم جهة، والجهاد كله مشروع، لكن ينبغي أن يكون في أهم جهة؛ ولذلك لا بد من وضع مسطرة الخطورة لأعداء الله حتى لا تنفق كل ما لديك من قوة في مكان كان بالإمكان أن يصلح بأقل من ذلك الجهد الذي بذل فيه.
ومن مظاهر الحكمة في الدعوة أن يحاول الإنسان التعرف على الناس قبل دعوتهم؛ فإن المعرفة قبل الدعوة؛ فكم من إنسان تظن به سوءاً قبل أن تتعرف عليه فإذا تعرفت على واقعه وجدته خيراً، بل تمنيت لو كنت مكانه، وإني لأعرف أقواماً يظن الناس بهم سوءاً في بعض المواقف وهم برآء من ذلك، بل إن مقامهم ومقام أولئك الذين يظنون بهم ذلك متباين كتباين الثرى والثريا، وحال أولئك وحرقتهم على دين الله ونصرتهم له، وعلمهم به ومعرفتهم به لا يمكن أن تقارن ولا أن يدعيها أولئك الذين يظنون بهم السوء؛ ولهذا فإن مالكاً رحمه الله حين ذكر له أن الليث بن سعد رحمه الله ينقد عليه مسائل قال: "لعله علم زاد أو ورع نقص"، أي: الذي لدي فجعلني أتجاسر على تلك المسائل التي ينكرها الليث إما أن يكون علماً لدي لم يعلمه الليث ، أو أن يكون ورعاً نقص، يعني: يكون ورعي قد نقص فيها وزاد ورع الليث فاختار الأسلم، واخترت أنا ما يقابل ذلك، وعلى كلا الأمرين فلا مشاحة، إما أن يكون علماً زاد وإما أن يكون ورعاً نقص.
كذلك فإن أبا يوسف رحمه الله حين سئل عن من جرحت ساقه فخرج منها دم فتفاحش هل انتقض وضوءه؟ قال: نعم، قيل: لا تحل له الصلاة ما لم يتوضأ؟ قال: نعم، قيل: فإن كان الإمام؟ قال: بطلت صلاته وصلاة من اقتدى به، قيل: أرأيت إن كان الإمام على مذهب مالك فلا يرى ذلك ناقضاً للوضوء أنصلي به؟ قال: "سبحان الله! ألا تصلون وراء مالك ؟!" فتعجب من هذا.
ومثل ذلك ما حصل لـأحمد بن حنبل رحمه الله حين سئل عن الطلاق المعلق هل ينفذ أم لا؟ فقال: لا ينفذ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا طلاق ولا عتاق للإنسان فيما لا يملك ) فقيل: (أرأيت إن جاء الرجل إلى خلفة أهل المدينة وهم أصحاب مالك و ( أبي مصعب الزهري ) وتلامذته فأفتوه بخلاف ما تقول أله فسحة في ذلك؟ فقال: سبحان الله! ألا يجد فسحة في عمل أهل المدينة وفتواهم؟!).
فلذلك كلما ازداد الإنسان علماً ازداد سعة باع، وهان عليه الخلاف في المسائل التي لا تمس صميم الدين وإنما هي مسائل اجتهادية قد جعلها الله سبحانه وتعالى راجعة إلى الاجتهاد والأفهام.
كذلك فإن من تطبيقات هذه الحكمة في مجال الدعوة ما يتعلق بتربية الأولاد، فإن الإنسان الذي يريد من الولد الصغير أن يكون كالشيخ الكبير الفاني، الذي ليس له مطلب في هذه الدنيا ويريد منه أن يكون في مستوى حرصه على الطاعات والعبادات ولم يأخذ هذا الصبي بالحق ولم يسلك به طريق التربية، بل لا بد أن يتدرج مع الصبي في تربتيه وأن يعلم أن بدايته لم تكن لتكون نهاية والده أو الذي يريد أن يجعله مثله؛ فلا بد من التدرج في التربية.
كذلك من مظاهر هذه الحكمة في الدعوة أن يتعلم الإنسان الأسلوب الذي لا يثير الناس؛ فكم من كلام أثار قوماً فحصل بسببه من المشكلات ما الله به عليم.
أفي فضل حبل الله أباك ضربته بمنسأة قد حبلك أحبلا
فالفكرة الواحدة يمكن أن يعبر عنها بأساليب متباينة، فمن تلك الأساليب ما يكون مثيراً مغضباً، ومنها ما يكون حكيماً مقنعاً، فاجتهد يا عبد الله أن يكون أسلوبك الأسلوب الحكيم المؤثر المقنع وأن لا يكون أسلوبك الأسلوب المفضع المقذع، بل حاول كل أسلوب أيسر؛ ( فما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً ولا قطيعة رحم )، ألا ترون أن أهل الاجتهاد من الأئمة كانوا إذا سئلوا عن ما يرون تحريمه لا يقولون فيه: حرام، وإنما يقولون: لا ينبغي، لا أحبه، لا يعجبني.. هذا أسلوب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم من كبار الأئمة، يقولون في الحرام الذي يجزمون بأنه محرم: لا يعجبني، لا أحبه، لا أرى له ذلك، إني لا أرى لك متكلماً، هذا أسلوب الأئمة، وهو أسلوب مؤثر مقتض للترك، وهو مأخوذ من عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا؟! )، وهو يعلم الذين فعلوا ذلك، وكان يقول: ( كيف وقد قيل )، كما في حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه، وعندما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: ( أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً )، وعندما سألته الخثعمية ؛ فقالت: ( إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يمسك نفسه على الرحل، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك ديناً أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فأدوا الذي عليه فدين الله أحق بالوفاء )؛ فهذا الأسلوب المؤثر يستجيب له الناس أكثر مما يستجيبون للأساليب المقذعة المنفرة.
كذلك فإن من استغلال الحكمة أن يداري الإنسان بعض المداراة، وأن لا يكون ذلك مداهنة، فالمداراة تقتضي من الإنسان أن يكون تصرفه معقولاً مقبولاً، والمداهنة - نعوذ بالله - تقتضي منه أن يبذل دينه لإصلاح الدنيا، فالمداراة مأذون بها شرعاً، وهي في كثير من الأحيان من الحكمة، وبها يستطيع الإنسان الاحتيال على أمر والديه إذا أمراه بأمر لا يقتنع به، وتستطيع المرأة مداراة زوجها إذا أمرها بأمر لا تقتنع به شرعاً، فتأتي بما لا يغضب الآمر ومع ذلك ينقذ الموقف ويخرج الإنسان من الحرج، ومثل ذلك المعاريض التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن في المعاريض مندوحة عن الكذب )؛ فبالإمكان أن يستغلها الإنسان فلا يعد كاذباً، ومع ذلك يستغل هذه المناديح لينجو بها.
كذلك من مظاهر هذه الحكمة في الدعوة أن يقنع الإنسان المدعو بأمر يرجع إلى شرفه وشخصه كأن يحيله على مروءته وكرمه وأن هذا لا يليق من أمثاله الذين أنعم الله عليهم بهذه النعم الجليلة، جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راغب في الإسلام، لكنه بينه وبين الإسلام عقبة، وهي أنه من أهل الجاهلية تعود على الزنا فلا يريد أن يتركه، فقال: ( يا رسول الله! إني أريد الإسلام ولكني لا أصبر عن الزنا، فأنكر عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم وزجرهم وأمره أن يقترب منه، فوضع يده على كتفه وقال: أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: أفترضاه لأختك؟ قال: لا.. )، فبين له أن النساء إما أمهات أقوام وإما بناتهم، فلا يرضون لهن ذلك، فما لا يرتضيه لأمه ولا لأخته لا يمكن أن يرتضيه غيره لأمهاتهم ولا لأخواتهم، فأقلع عنه واقتنع بهذه الكلمات المقنعة وبهذا الأسلوب الحكيم.
كذلك فإن: ( رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فأحرم في الصف فعطس فقال: الحمد لله، فلم يرد عليه أحد، فقال: يا ثكل أمياه! ما لكم لا تشمتونني؟! فضربوا أفخاذهم يصمتونه فيقول: ولكني سكت، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه؛ فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن )، وكذلك: ( جاء أعرابي آخر فبال في طائفة المسجد فصاح الناس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه.. لا تزرموه، فأمر بذنوب من ماء فأريق على بوله، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لقراءة القرآن وللصلاة ).
فهذا الأسلوب المؤثر يقتضي الإقلاع على الفور، ولهذا كانت الأحكام الشرعية تأتي بمثل هذه الأساليب فتؤثر تأثيراً بالغاً، قد بلغت الخمر من نفوس العرب مبلغها؛ فكانوا يبيعون زوجاتهم وأولادهم في زقاق الخمر محبة لها، وبلغت منهم مبلغاً لم يبلغه أي شيء آخر، تجدون ذلك واضحاً في أشعارهم وأمثالهم وغير ذلك، لكن الله أزال حبها من النفوس بأسلوب مؤثر بليغ؛ فقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة:91]، فأريقت الخمر في الطرقات.
إن القوانين الوضعية التي في شكل مواد جافة حتى لو كانت موافقة للشرع لا يرتدع بها الناس ولا يرجعون لمجرد تلك القوانين بل يحتاجون إلى رقابة، أما أساليب القرآن فإن لها هذه الرقابة الذاتية؛ حيث يستشعر الإنسان الرقابة من مجرد قراءته للأمر القرآني، وبذلك يكف مباشرة ولا يحتاج إلى رادع يردعه.
كذلك فإن من الحكمة في الدعوة أن يعلم الإنسان أن هذه الدعوة لها أعداء كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ) وإذا علمت أن لك أعداءً فحاول يا عبد الله تقليلهم ما استطعت، كما أرشد إلى ذلك الحكماء:
ترد نفاره أيدي رجال عليهم قد رددنا ما يلينا
ونعرض عن جهول نال منا قرينة جهله للسائلين
وكذلك قال:
ونعطي الحاسدين فيخجلون..
ولو شئنا الظلامة لم تفتنا ولكن أن يكون لنا لدونا
فمما يقلل عداوة أعداء هذه الدعوة أن تنبههم إلى أن لهم الحظ الأوفر من هذه الدعوة وهم أولى بها، وأنك لا تحوزها دونهم، ولا تستأثر عنهم بالدين الذي هو دين الله في الأرض وهم أولى به، لكنك تريد مساعدتهم في القيام لله بالحق، وأن تحاول قيام كل أحد منهم بما يستطيع من نصرة الدين؛ فالنفس إذا لم تشغل بالحق شغلت صاحبها بالباطل.
كذلك من استعمال الحكمة في هذه الدعوة أن يعلم الإنسان أن السياسة الشرعية لا بد من الأخذ بها في المواقف الحرجة، ومن الأخذ بها استعمال أخف الضررين وأقل الحرامين حرمة، فإذا اضطر الإنسان إلى ارتكاب ضرر من الضررين فليختر أقلهما ضرراً، كما قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:108]، وإذا احتاج إلى ارتكاب أخف الحرامين فليأخذ بأقلهما حرمة؛ لقول الله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام قال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ[هود:78]، فإن تزوج الكافر بالمسلمة حرام، ولكن الاعتداء على الملائكة أعظم منه؛ فلذلك عدل إلى أخف الحرامين.
وحينئذ لا شك أن المجال مجال اجتهاد وأنه ستتباين فيه وجهات النظر، لكن هذا من مواقع المعذرة في الخلاف بالأمور الاجتهادية؛ فالمسألة الديمقراطية مثلاً لا شك أن الديمقراطية أسلوب في الحكم غير أسلوب القرآن وغير أسلوب الله الذي أمر به؛ فليست هي من شرع الله ولا هي الشورى التي أمر الله بها، ولا هي التطبيق الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، ولكنها أمر قد فرض في واقع الناس، فليس المسلمون هم الذين أتوا به باجتهادهم وملكهم وطاقتهم، وإنما هو أمر فرض عليهم؛ فبقوا بين ضررين، إما أن يعتزلوا فتبقى.. ويبقى هذا السلاح الخطر في يد البغاة الطغاة، أعداء الحق، وإما أن يشاركوا فسيرتكبون حراماً حينئذ لأنها لعبة مخالفة للشرع، لكن عليهم أن يأخذوا بأخف الحرامين وأقل الضررين وهو في بعض الأحيان المشاركة وفي بعض الأحيان الاعتزال، والضابط في ذلك هو اجتهاد أهل الاجتهاد الذين يعرفون الواقع ويعرفون الفقه ويملكون أن ينزلوا الفقه على الواقع؛ حتى يتبينوا في المسألة فيخرجوا الحكم الشرعي الصحيح فيها.
ومثل ذلك في المعاملات التي تنتشر بين الناس؛ فإن ثورة المال الآن في العالم لا بد أن تمر بحلقات ربوية، لكن هذه الحلقات، يجب تقليلها ما أمكن؛ فإن استطاع الإنسان أن يحدث في بلد من البلدان حلقة مفرغة، ليس فيها مكان للربا وجب عليه ذلك، وإن لم يستطع وجب عليه أن يكون محل ما يمر به المال من الربا حلقة خارجة عن الطوق بأن تكون في الخارج مثلاً، وأن يكون محل الربا منها يسيراً؛ لأنه محل ضرورة والضرورة إنما تقدر بقدرها ولا يتعدى فيها محلها، ومثل ذلك قضايا العلاج والجراحة وغير ذلك من الأمور الواقعية في زماننا هذا التي فيها كثير من المحرمات والمتشابهات، فيحتاج الإنسان فيها إلى إعمال السياسة الشرعية وهي من الحكمة في الدعوة.
ومثل ذلك من مظاهر الحكمة في الدعوة ما يتعلق باستغلال المساجد فيما أمر الله به؛ فإن المساجد بيوت الله وهي أحب الأمكنة إلى الله، وإنما بنيت لتكون عاصمة الإسلام؛ فالمسجد هو مكان اجتماع المسلمين، ومكان اجتماع البرلمان؛ فأهل الشورى من المسلمين إنما كانوا يجتمعون في المسجد فيؤخذ رأيهم فيه؛ ولذلك فآراؤهم ستكون موفقة ولن يكون من أهل الشورى إلا من كان من أهل الصف الأول المحافظين عليه، الذين لا تفوتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام؛ فحين أخرجت الشورى من المسجد وجعلت لها دور مستقلة أصبح النواب الذين يمثلون الشعوب من أراذل الناس الذين لا يشهدون الصلاة مع المسلمين في المساجد.
وكذلك كان المسجد وسيلة إعلام المسلمين؛ إذا حصل أمر نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة جامعة"، فيقف على المنبر فيخبرهم بما حصل، وهو وسيلة الإعلان عن كل أمر كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلن أحكامه على المنبر؛ فقال في إحدى خطبه: (ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة، قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سابق الحاج فادان معرضاً، فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص) لكن عندما نقلت وسائل الإعلام عن المسجد جاءت التلفزيون بمظاهرها الخليعة وبمسلسلاتها الكاذبة، وجاءت الإذاعات بترويجها وأباطيلها، وانتقلت وسيلة الإعلام عن المسجد، لكن عندما بنينا الدور للتدريس خارج المسجد أصبح فيها ما ترون من المناهج المنحرفة، ومن الأساتذة الذين هم أولى بأن يتعلموا؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وكذلك كان المسجد بيت مال المسلمين؛ كما كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص : (انظر إلى المسجد الذي في التمّارين فانقله، واجعل بيت المال في قبلته، فلن يزال بالمسجد مصل) وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط البسط في مؤخرة المسجد في الليالي الأخيرة من رمضان، فيأتي الناس بصدقاتهم فيكلف بها من يحرسها حتى يوزعها يوم العيد، فعندما انتقل بيت المال من المسجد طالته أيدي الفجرة والطغاة والظلمة، وانتزعوا أموال المسلمين وغلبوا على حقوقهم، فأخذوا المال من غير حله ووضعوه في غير محله.
وكذلك كان المسجد محل السجن لدى المسلمين، فهو الذي يصلح الناس به؛ فالسجن لا يقصد به التشفي والأذى، وإنما يقصد به استصلاح الناس، فقد ربط أبو لبابة رضي الله عنه نفسه في سارية المسجد حين أفشى سر النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، وربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد، وحين جاء سبي بني طيء أتى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنزله النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ( فكان يمر على سفانة بنت حاتم فتقول: يا رسول الله! مات الولد وغاب الوافد، فيقول: من والدك؟ فتقول: حاتم بن عبد الله الطائي فيقول: ومن وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم ، فيقول: آلفار من الله ورسوله! ويتجاوزها، حتى مر بها ذات يوم، فقالت: يا رسول الله، امنن علي من الله عليك ول جعل لك إلى لئيم حاجة! فما تعداها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن عليها، فذهبت فأتت بـعدي مسلماً، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، ولم يزل يبتسم في وجهه بعد ذلك كل ما دخل عليه )، فعندما انتقلت السجون من المساجد أصبحت مدارس لتعلم الإجرام، والتشفي وأذى الآخرين، وأصبح فيه من أنواع أذى عباد الله ما لا يخطر ببال، وهكذا.
فمن الحكمة في استغلال المسجد وإعادته لمكانته التدرج كذلك، وأن تكون إعادته لذلك أمراً جماعياً يعتاد عليه أهل المسجد، وأن لا يكون قراراً من الإمام، أو من أفراد قلائل يمثلون جماعة المسجد، بل لا بد من أن يشارك أهل المسجد جميعاً في ذلك، حتى يعود المسجد مؤسسة إسلامية كبرى، كما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
إذ ما كنا نذكره من مظاهر الحكمة كله يدخل في المجال النظري، أما المجال التطبيقي؛ فيحتاج الانسان فيه إلى تدريب وتعويد، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمدة زمنية، فإذا أردت يا عبد الله! أن تدعو نفسك إلى الصدق، فاكتب آيات الصدق وأحاديثه في ورقة واجعلها في جيبك، وراجعها بين الفينة والأخرى، وألزم نفسك بالصدق طيلة أسبوع كامل تهون على نفسك؛ لأنك إذا قلت لها: طيلة العمر؛ فلن تستجيب، لكن إذا قلت لها سأحاول الصدق مدة أسبوع فستسجيب لك، فإذا مضى أسبوع وقد استطاعت نفسك الإقلاع عن الكذب؛ فقل لها: إنما أنت مخادعة، وأنت تستطيعين الصبر عن الكذب مدة الحياة، فقد صبرت أسبوعاً كاملاً عن الكذب، وهكذا إذا أردت الإقلاع عن الغيبة، فاكتب آيات الغيبة وأحاديثها في ورقة، واجعلها في جيبك ثم راجعها بين الفينه والأخرى، ثم اجعل لنفسك أسبوعاً لا تسمع لغيبة ولا تشارك بها، ولا تنطق بها؛ فإذا نجحت في ذلك عاتب نفسك بهذا العتاب.
كذلك في التعود على الاستغناء بالله عمن سواه؛ إذا أردت أن تعود نفسك أن لا تسال أحداً حاجة إلا الله، فاكتب الآية المتعلقة بذلك والأحاديث المتعلقة به، وراجعها بين الفينة والأخرى وألزم نفسك بذلك أسبوعاً أو أسبوعين، ثم إذا نجحت فيه فقاضي نفسك إلى ضميرك، وقل: قد نجحت بذلك أسبوعاً أو أسبوعين، فلن أعدوه، ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه على أن لا يسألوا أحداً شيئاً؛ فكانوا بعد ذلك إذا وقعت عصا أحدهم وهو راكب لم يأمر أحداً أن يناوله عصاه بل ينزل حتى يأخذ عصاه.
ولذلك أخرج البخاري في الصحيح عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، وأكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، منهم عمرو بن تغلب ، قال عمرو : فقال كلمة ما أود لو أن لي بها حمر النعم )، وكان عمرو لا يسأل أحداً شيئاً، وكذلك: ( حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه.. )، فقال له بعد أن ابتسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: ( إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع؛ قال حكيم : والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً )، فكان بعد ذلك لا يأخذ هدية ولا عطية من أحد، حتى أن عمر كان يدعوه ليأخذ حظه من بيت المال فيمتنع؛ فيشهد عليه الشهود أنه قد أعطاه نصيبه من بيت المال فتركه.
فلا بد أن يتعود الإنسان على هذا تطبيقاً في نفسه، ثم كذلك في التعامل مع الأهل، إذا أردت أن لا تغضب، وأن تمثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في قوله: ( لا تغضب )، فاكتب أحاديث الغضب، واجعلها في ورقة في جيبك، وطبقها على أهلك كذلك، وإذا أردت التخلق بخلق النبي الكريم الذي قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4]؛ فابدأ بأمر يسير جداً هو خذ عاملك، سواءً كان سائقاً أو خادماً في البيت، أو عاملاً في المكتب أو في المتجر، أو غير ذلك؛ فحاول أن لا تقول له لشيء فعله: لم فعلت، ولا لشيء تركه: لم تركته؟ فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس : ( خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين؛ فما قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء تركته: لم تركته ).
ثم إذا نجحت في هذه التجربة في نفسك فحاول أن تطبقها على الآخرين؛ فقد أصبحت أستاذاً في الدعوة، وقد أصبح في زماننا هذا علم متطور يدعى بعلم النفس الدعوي، يدرس في الكليات؛ يعرف به الإنسان الأسلوب المؤثر، ويختار به الأساليب التي يستجيب لها الناس، ويستطيع به تقييد التجارب النافعة من حياته وحياة من يخالطهم من الناس.
ومن عرف هذا العلم لم يخل وقت من أوقاته من درس يستفيده؛ فما من أحد يلحظه إلا تعلم منه درساً، إما أن يكون الدرس إيجابياً وإما أن يكون سلبياً، فإن رآه فعل أمراً محموداً تعلم منه درساً إيجابياً، وإن رآه فعل أمراً مذموماً تعلم منه درساً سلبياً؛ فبادر هو للترك؛ ولذلك فإن أنبياء الله عليهم السلام كانوا يستفيدون هذه الدروس حتى من البهائم، فنبي الله سليمان استفاد من نصيحة الهدهد الذي قال له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ[النمل:22]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتدرون ماذا قال هذا الطائر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه يقول: أكلت اليوم نصف تمرة، فعلى الدنيا العفا )، فالدنيا كلها عليها الغبار، فائدتها أن يأكل الإنسان ما يغنيه، كذلك: ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تجري في السبي تبحث عن ولدها حتى وجدته، فالصقته ببطنها ولقمته ثديها، فقال: أترون هذه ملقية ولدها في النار؟ قالو: لا ولله! قال: فلله أشد رحمة بعبده المؤمن من هذه لولدها ).
إن هذا المقام إذا وصله الإنسان، أصبح أستاذاً يمكن أن يستملي دروساً من تلقاء كل ما ينظر إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الدرس من هذه المرأة التي تجري تبحث في السبي عن ولدها.
وسار ذات يوم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم في طريقه بين المسجد والبقيع، فمر بسوق بني قينقاع فرأى جدياً أسك، ميتاً مرمياً، فقال: ( من يشتري مني هذا الجدي؟ )، والناس في السوق يقبلون على التبايع ويجمعون الدراهم والدنانير، ( فقالو: يا رسول الله، لو لم يك ميتاً لكان عيباً! إنه أسك! فقال: من يشتريه بأربعة دراهم؟ فقالوا: لا أحد يشتريه بذلك، إنه أسك )، أي: صغير الأذنين، ميت، جيفة، فلا أحد يشتريه بذلك؛ فجعله مثلاً للدنيا، وبين لهم حرص أهلها عليها، وأنهم إنما يتنافسون على جيفة.
فهذه الأساليب المؤثرة هي التي تعلمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منه بعد ذلك؛ مر أبو هريرة بالسوق فإذا الناس قد انقطعوا في البيع عند مجيء البضائع، وغفلوا عن أنفسهم من شدة حرصهم على الربح، فصاح فيهم: يا أهل السوق! قد حرمتم نصيبكم من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعوا إليه حين قال هذه الكلمة المؤثرة، فقال: ( قد تركت ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الآن في المسجد، فأدركوا نصيبكم منه؛ قالوا: من يرعى لنا تجارتنا؛ فقال: أنا أرعاها عليكم حتى ترجعوا، فخرج التجار يشتدون عدواً، يستبقون إلى المسجد، فدخلوا؛ فما رأوا إلا حلق العلم، فرجعوا فقالوا: ما رأينا إلا حلق العلم! فقال: هو ذاكم ) هذا ميراث النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الراحة اليسيرة التي أقبل فيها التجار إلى المسجد، وخرجوا بنية صادقة، يريدون نصيبهم من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم كانت راحة لهم من الانغماس في الدنيا، وفي البيع والشراء، أراحهم بها أبو هريرة رضي الله عنه، وقطعهم عن ذلك الإقبال الشديد، والانهماك في الدنيا، ونظير هذا قول إبراهيم عليه السلام: إِنِّي سَقِيمٌ[الصافات:89]، فهو مقتض لأن يحصل على الرحمة من أقاربه وذويه الذين يكذبونه، ولا يرضون بالاستجابة لدعوته.
كذلك فإن من هذه التطبيقات ما حصل لرجل من الدعاة أعد برنامجاً دعوياً لمجموعة من الشباب، فقال: سنأخذ شهرين في الجانب النظري، ونأخذ أربعة أشهر في الجانب التطبيقي، فطال عليهم الجانب التطبيقي، فلما أكملوا الجانب النظري قال له أحد الشباب: أما أنا فلا أحتاج إلى التطبيق، سأطبق بنفسي، فقال: أحسنت! بارك الله فيك، فاذهب واستعن بالله، فخرج - وكان اليوم يوم جمعة - فدخل مسجداً لصلاة الجمعة، فقام الخطيب على المنبر، فافتتح خطبته بحديث موضوع طويل.. طويل، فأطاله الرجل طولاً عجيباً، لم يصبر عليه الشاب، فوقف في أثنا الخطبة يصيح ويقول: أخرجوا هذا الإمام من مسجدكم، فهو كذاب وضاع، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يقل علي مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار )، وقال: ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، فمن يقل علي مالم أقل، فليلج النار )، وقال: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )؛ فقال الإمام: أخرجوا هذا المشاغب من المسجد، فقام الناس عليه وأشبعوه ضرباً، وأخرجوه من المسجد، فعاد حزيناً كئيباً إلى الشيخ فشكا إليه ما لقي من هؤلاء القوم في المسجد، وأن جوابهم لم يكن جواباً علمياً، ولم يكن بالبرهان، إنما كان بالهراوة والعصا، فقال له الشيخ: اصبر يا بني معنا أسبوعاً، فإذا كانت الجمعة القابلة فسنذهب ونطبق بعض الدروس التي سمعت في هذا المسجد، فقبل الشاب ذلك مرغماً؛ فلما كان يوم الجمعة الآخر خرج الشيخ وطلابه إلى المسجد؛ فجاءوا مبكرين وأخذوا مقابل ظهر الإمام، وجلسوا يذكرون الله، فصعد الإمام المنبر فبدأ خطبته بنفس الحديث الذي خطب به في المرة الماضية وأخذ على دربه ووجد نفسه صاحبة حمية وصاحبة تعصب على هذا الحديث؛ فسكت الشيخ وهو يقلب رأسه كالمعجب بذلك، ولا يفعل ذلك إلا تعجباً لا عجباً به، فلما سلم الإمام تقدم الشيخ إليه وسلم عليه تسليماً مبالغاً في احترامه، ثم وقف فأراد أن يتكلم فقدم الإمام إليه الميكرفون لأنه عرف أنه سيثني عليه، فقال: أيها الناس! إمامكم هذا رجل مبارك، فمن أراد البركة وغفران الذنوب فلينتف شعرات من لحيته! فاجتمع عليه أهل المسجد حتى نتفوا لحيته، وما تركوه حتى سال الدم من لحيته، فاقترب إليه الشيخ فوضع يده على كتفه، وقال: هل يكفيك هذا تأديباً على وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تريد الزيادة، فعرف الشاب أنه ما زال محتاجاً إلى التطبيق.
كذلك فإن مما يقابل هذا أيضاً أن إماماً من الأئمة كان إماماً لمسجد فجاء شاب يحمل شهادة.. أظنها شهادة الماجستير في الشريعة، وهو يحفظ القرآن ويرى أنه أحق بالإمامة من الإمام، ومعه أوراق رسمية، كأنه معين من جهة حكومية ليتولى إمامة المسجد، فتقدم وأخذ أوراقه ووقف إلى جانب الإمام، ففهم الإمام قصده فقال له: تأخر شفاك الله! فسمع الناس هذا الدعاء، وهو قوله: شفاك الله، فظنوا أنه يعرفه وأنه مجنون، فجروه حتى أخرجوه من المسجد، فكان يستحي أن يدخل المسجد بعد ذلك حياءً من الناس الذين اعتبروه مجنوناً.
إن هذه الأساليب مؤثرة، ولا تكلف شيئاً وبالإمكان أن تستغل في الدعوة إلى طريق الحق.
إن الجانب النظري في كل أمر مهم، لكن الجانب التطبيقي أهم منه، فآثاره أبلغ، والملكات التي يكتسبها الإنسان أعظم، فلهذا يحتاج الناس إلى التعلم لأدب الاستماع قبل تعلم أدب الحديث، ثم يحتاج الإنسان أيضاً إلى تعلم أدب الحديث في الدعوة مثلاً، فاختيار الوقت، واختيار المدة، واختيار الموضوع، كلها ذات تأثير بالغ؛ فالذي يأتي فيقف بعد صلاة الفجر مباشرة، ويأتي بخطبة طويلة، طنانة، رنانة، لم يوفق في اختيار الوقت، والذي يأتي بعد الجمعة، بعد أن انصراف الناس وقد قال الله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ[الجمعة:10]، فيأتي هو ويأتي بخطبة ثلاثة بعد أن استمع الناس إلى خطبتي الإمام؛ لم يوفق في اختيار الوقت، والذي يأتي بعد كل صلاة فيقوم فيأخذ الميكروفون لتوجيه الناس؛ قد أمل وأخل؛ ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه حين سألوه أن يذكرهم كل يوم، قال: ( إنما أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها في الأيام؛ مخافة السآمة علينا ) فكل من أطال أمل؛ فلهذا لا ينبغي للإنسان أن يكرر الكلام كثيراً، وأن يطيله حتى يمل الحاضرين، ودرس في الأسبوع أو درسان أو ثلاثة؛ هذا كاف، ومانع للإملال، وهو محصل للنتيجة المتوخاة، أما إذا كان الدرس في نفس المكان، في نفس الإنسان يومياً مثلاً؛ فهذا لاشك مقتض للملل، وهو ينقص نور العلم ويقلل استفادة الناس به.
بهذا نقتصر على هذا الحد مما يتعلق بالحكمة في الدعوة..
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر