إسلام ويب

مقتضيات شهادة أن لا إله إلا اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من المتقرر والمعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن المرء لا يدخل الإسلام، ولا تجري عليه أحكام المسلمين إلا إذا شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ولابد من تحقيق مقامات ومقتضيات الشهادتين لتحقيق التوحيد والعبودية لله الواحد القهار

    1.   

    مقامات شهادة أن لا إله إلا الله

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان المبارك، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه، المتزاورين فيه، المتجالسين فيه، الذين يظلهم في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعل ما نقوله ونعمله خالصاً لوجهه الكريم، وأن لا يجعل لأحد فيه حظاً ولا نصيباً.

    أما بعد:

    فقد قرأ علينا الشيخ هذه الآيات من خواتم سورة الفرقان، وهي منهج متكامل لحياة الإنسان؛ فقد امتدح الله فيها عباده الذين ارتضاهم، ونسبهم إلى نفسه فشرفهم بأكرم تشريف يمكن أن يشرف به العبد، وهو عبوديته لله تعالى؛ فأبلغ ما يثنى به على الملك جل جلاله ربوبيته للعباد، وأبلغ ما يثنى به على المخلوق عبودتيه لرب العباد جل جلاله؛ ولذلك أثنى الله على نفسه بربوبيته للعالمين في مفتتح كتابه فقال: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، وأثنى على محمد صلى الله عليه وسلم في مقام تمجيده ورفع درجته، وإعلاء شأنه بعبوديته لله؛ فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى[الإسراء:1]، فلم يقل في هذا المقام: برسوله، ولا بنبيه، ولا بخليله، ولا بحبيبه، مع أن هذه الأوصاف كلها ثابتة له صلى الله عليه وسلم، ولكنه وصف هنا بالعبودية التي هي أشرف ما يوصف به العبد في هذا المقام.

    والعبد في اللغة تطلق على أربعة أمور:

    فتطلق على المخلوق مطلقاً، فجميع الخلائق عباد لله بهذا المعنى، من كان منهم براً، ومن كان فاجراً، ومن كان مؤمناً، ومن كان كافراً، فهم جميعاً خلق الله جل جلاله.

    وتطلق على المملوك، والعباد بهذا المعنى أيضاً كلهم عباد الله؛ فالمؤمن والكافر كلاهما مملوك لله جل جلاله، وتصرفه فيهم ماض؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    وتطلق بمعنى: المحب، الذي تملك قلبه الحب، وهذا يختص ببعض العباد دون البعض، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى سجود الخلائق لوجهه الكريم، فلم يذكر فيها مخالفة للسجود لوجهه حتى بلغ إلى ذكر الإنس، فذكر أن منهم من يسجد له؛ فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]، فكل الخلائق الأخرى كلها سجد لله سبحانه وتعالى، وكلها مؤمنة به، والجنس البشري والجنس الجني هم اللذان فيهما المؤمن والكافر، وفيهما الطائع والعاصي؛ فلذلك عبودية المحبة تختص ببعض عباد الله دون بعض، والذين يحبون الله سبحانه وتعالى قد حققوا مقاماً من مقامات توحيده؛ فإن شهادة أن لا إله إلا الله لها أربعة مقامات:

    المقام الأول: العلم بمعناها

    المقام الأول: العلم بمعناها؛ أن يعلم الإنسان أن هذا الكون ليس له رب سوى الله جل جلاله؛ فهو منشئه ومدبر شئونه وقيومه، والقائم على كل ما فيه، والعالم بكل تفاصيله، وهو وحده الذي يستحق العبادة فيه؛ فهذ إذاً هو المقام الأول، ومن مقامات الشهادة أن يعلم الإنسان ذلك.

    المقام الثاني: التلفظ والشهادة بها

    والمقام الثاني: أن يتلفظ بها ويشهد بها، فإذا كانت معلومة لديه فلم ينطق بها؛ فإنما هو ساكت عن الحق كالشيطان الأخرس؛ فلذلك لا بد أن يقر بما علمه من وحدانية الله وربوبيته للكون جل جلاله.

    المقام الثالث: الالتزام بمقتضياتها

    والمقام الثالث من مقامات الشهادة هو: الالتزام بمقتضياتها، أن يلتزم الإنسان بما تقتضيه هذه الشهادة، فمن أقر لإنسان بدين، ولكنه امتنع من قضائه فما فائدة إقراره به؟! لا يترتب على ذلك فائدة؛ فلذلك إذا أقر الإنسان لله جل جلاله بالربوبية والألوهية، فلا بد أن يعترف بمقتضياتها، وأن يتحقق بها ويقوم بها.

    المقام الرابع: الدعوة إلى الالتزام بمقتضياتها

    والمقام الرابع من مقامات هذه الشهادة هو: السعي للالتزام الغير بمقتضى هذه الشهادة، فهذه الشهادة العظيمة التي آمنت بها بقلبك وعرفتها، ثم نطقت بها بلسانك، ثم التزمت مقتضاها في عملك، كذلك لابد أن تسعى لنشرها بين الناس والتزامهم لها ومعرفتهم بها، ولا بد أن تدعوهم إليها، ولا بد أن تبذل في سبيلها؛ فهذا المقام الرابع من مقام الشهادة.

    وإذا جمع الإنسان هذه المقامات الأربعة؛ كان فعلاً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    1.   

    مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله

    يبقى معرفة مقتضياتها التي لا بد من الالتزام بها:

    وهذه الشهادة العظيمة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تقتضي سبعة أمور، أربع منها هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وثلاث هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، فالأربع التي هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله هي:

    المقتضى الأول: أن لا يصرف شيء من العبادة إلا الله

    أولاً: أن لا يصرف شيء من العبادة إلا لله جل جلاله، فأنت شهدت أنه لا إله إلا هو، معناه: لا مستحق للعبادة إلا هو وحده، فإذا صرفت شيئاً من العبادة لغيره فقد كذبت شهادتك؛ لأنك تشهد أنه وحده المستحق للعبادة، وهذا معنى: لا إله إلا الله، معناه: لا مستحق للعبادة إلا هو وحده، فإذا صرفت أي شيء منها لغيره فمعنى ذلك أنك تكذب شهادتك التي تشهد بها؛ إذاً هذا هو المقتضى الأول من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا يصرف شيء من العبادة إلا له.

    المقتضى الثاني: أن لا يدعى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه

    المقتضى الثاني من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا يدعى إلا هو؛ بأن لا تستغيث إلا به، وأن لا تتوكل إلا عليه، وأن لا تعتمد في أمرك كله إلا عليه؛ ( إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف )، فإذا كنت تسأل المخلوقين الحوائج التي لا يقدر عليها إلا الله، وتعلق بهم تلك الحوائج، وتستغيث بهم، وتدعوهم؛ فأنت مكذب لشهادتك: أن لا إله إلا الله؛ لأنك تشهد أنه وحده الذي يستحق ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

    المقتضى الثالث: أن لا يشرع إلا الله

    المقتضى الثالث من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا يشرع إلا الله، معناه: أن التحليل والتحريم من خصائص الإلهية؛ فالذي يشرع ويضع القوانين المخالفة لشرع لله يناقض فعله هذا شهادته أن لا إله إلا الله؛ لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله: أن الله وحده هو الذي يستطيع التحليل والتحريم؛ لأنه هو العالم بأمور عباده؛ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59]، وقال: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]؛ فلا تحليل ولا تحريم إلا من عند لله جل جلاله.

    المقتضى الرابع: أن يحب الله حباً شديداً

    المقتضى الرابع من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: أن يحب الله حباً شديداً، وهذا المقتضى الذي نقصده هنا، وهو حب الإلهية، وهذا الذي قل من يصل إليه من العباد؛ فكثير من العباد يتعامل مع الله سبحانه وتعالى تعاملاً جافاً، يتعلق فقط بالظاهر، فهو يركع له ويسجد، ويترك بعض محرماته، ويتقرب إليه ببعض الطاعات، ويدعوه ببعض الجوانب، لكن يترك جانب العاطفة والمحبة؛ فلا يمتلئ قلبه بحب لله جل جلاله، ولا تمتلئ جوارحه بمحبة الله، ولا يشغله الله عمن سواه، وهذا نقص في إيمانه وإقباله على الله؛ لأن من عرف الله جل جلاله عرف أنه وحده الذي يستحق هذه المحبة، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، و(أشد): أفعل تفضيل، تقتضي أنه لا أحد أشد حباً لله من الذين آمنوا، والذين آمنوا هنا عموم، وهذا العموم يشمل أنبياء الله ورسله وملائكته، والمقربين من عباده، والصالحين منهم؛ فهم الذين يحبون الله حبه الذي يستحق، وهذا الحب هو الذي ينال به الإنسان حلاوة الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سوهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ).

    فهذه الجوانب الثلاثة التي تنال بها حلاوة الإيمان كلها عاطفية، اثنتان منها من الحب، وواحدة من البغض، أن يحب الله ورسوله حباً شديداً، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، والثالثة أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.

    وهذه المحبة هي الدافع الذي يدفع الناس على التنافس في الطاعة والعبادة، وهي التي تقتضي من الإنسان الأنس بالله، فالإنسان في هذه الدار في دار وحشة، إذا بقي وحده أصابته الوحشة، وإذا حزن أصابته الوحشة، وإذا أصابته مصيبة أصابته وحشة، وإذا تغير شيء من أسلوب حياته بمرض أو علة أو غير ذلك أصابته وحشة، والذين يحبون الله سبحانه وتعالى تزول عنهم هذه الوحشة بالكلية؛ لأنهم متعلقون بالله، وهم معه في كل أوقاتهم، فلا يشغلهم عنه شاغل، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فاختارهم الله تعالى لمحبته وطاعته؛ فأنسوا به جل جلاله، فإذا بقوا وحدهم؛ فتلك فرصتهم، وهم يرغبون فيها ويهربون من الخلق، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من الإيمان، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن ).

    وقد عقد البخاري على هذا الحديث باباً سماه "باب الفرار بالدين من الفتن من الإيمان"، فبين أن ذلك من الإيمان.

    وكذلك إذا أصابته فاقة أو فقر حمد الله على ذلك وزاده أنساً به ومحبة له، كما كان كثير من سلفنا الصالح يرون الفاقة بمثابة أعيادهم، يقولون: أعياد المريدين الفاقات، أي: إذا افتقروا وسدت عليهم كل الأبواب، فتحت لهم أبواب السماء الواسعة، ووجدوا باب التعلق بالله والإقبال عليه ومسألته، ويجدون بذلك لذة وسعادة عجيبة، قيل: لم يجعل الله حوائجهم إلى خلقه، وإنما جعل حوائجهم إليه جل جلاله، وزادهم فقراً إليه، وكان كثير منهم يسأل الله أن يزيده فقراً إليه وغنىً عمن سواه، فالفقر إلى الله سبحانه وتعالى هو تحقيق الأنس به، أن تفتقر إليه في كل أحيانك، فإذا نمت كان النوم طويلاً لديك لأنك لم تكن فيه مشتغلاً بالطاعة، فإذا استيقظت بادرت إليها، وهكذا تتنافس مع المتنافسين في الطاعة، وتبادر الزمن بسرعة هائلة في الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وأنت تستشعر ما حكى الله عن موسى عليه السلام في قوله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84].

    والذي يحصل على هذا المقام، وهو مقام حب الله جل جلاله لا يبالي بما أصابه في هذه الحياة الدنيا، فكل ما يصيبه يعلم أنه من عند لله؛ فيرحب به؛ لأنه يعلم أن الله هو أحكم الحاكمين، فلا يأتي من عنده إلا ما هو أحسن ممكن وأكمله، فالله جل جلاله هو أحكم الحاكمين، وأنت تؤمن بذلك، فلذلك ستر عنك وحجب عنك كثيراً من مصالحك، وتأتي في طي المكروه، ولذلك يقول أحد الحكماء:

    لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينه

    كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنه

    وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ[البقرة:216]، وقد قال الله تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء:19]؛ فهذا سر الله جل جلاله، وهو يختار لعباده المؤمنين كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )، فهذه إذاً أربعة من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله.

    1.   

    مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله

    ثم مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله ثلاثة:

    المقتضى الأول: التصديق بكل ما أخبر به

    فالمقتضى الأول: أن يصدق بكل ما أخبر به، أنت قد شهدت أنه رسول الله، ومن المستحيل أن يرسل الله رسولاً كذاباً، فلا يمكن أن يقول إلا ما هو حق، سواءً فهمته أنت أو لم تفهمه، بلغه علمك أو لم يبلغه، فهو حق، كل ما جاء من عند النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن تستسلم له استسلاماً كاملاً، كما قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65] وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[الحشر:7]؛ فإذاً لابد أن تصدقه في كل ما أخبر به.

    المقتضى الثاني: طاعته في كل ما أخبر به

    ثم بعد ذلك المقتضى الثاني: طاعته في كل ما أخبر به، فأنت إذا شهدت أنه رسول الله فمعنى ذلك أنك يجب عليك أن تطيعه في كل شيء، فقد أرسله الله إليك، وأقام الحجة على صدقه ونبوته ورسالته، وأنه فعلاً رسول الله جل جلاله إليك، فلابد أن تطيعه في كل ما أمرك به، ولا يمكن أن تستنكف عن أي شيء من أوامره، ولا أن ترد عليه أي أمر أمرك به، ولا أن تفعل أي فعل ينافي أمره صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:63].

    المقتضى الثالث: أن لا يعبد الله إلا بما جاء به

    والمقتضى الثالث من هذه المقتضيات: أن لا يعبد الله إلا بما جاء به، فنحن جميعاً أمرنا بالعبادة، وقال الله تعالى في ذلك: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، وهذه العبادة لا يمكن أن نصل إليها بمجرد عقولنا وآرائنا، لا يمكن أن نعبد الله إلا بما شرع، ونحن شهدنا أن هذه الأمة ليس فيها رسول إلا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، فما جاء به هو الحق من عند الله، الذي لا يرضى الله سواه؛ فلذلك لا يمكن أن يعبد الله ولا أن يتقرب إليه إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ولذلك قال في حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد )، وقال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ).

    1.   

    ثمرات التحقيق لشهادة التوحيد

    فهذه إذاً هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، وبذلك إذا التزم الإنسان هذه المقتضيات السبع كان فعلاً محققاً لشهادة التوحيد.

    ثم بعد ذلك يسعى لالتزام الآخرين بهذه المقتضيات واقتناعهم بهذه القناعة.

    السلامة من العبودية لغير الله

    يكون فعلاً عبداً لله تعالى، حراً من الأغيار، ليس لأحد ضغط عليه، ولا يخاف إلا الله جل جلاله، ولا يطمع إلا في الله جل جلاله، ولا يحب حب الإلهية إلا الله جل جلاله، فلا يبالي حينئذ بالمصائب ولا بالمكاره كلها، كحال إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام، فإنه عندما رماه قومه في النار عرض له جبريل فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك؛ فلا، وأما إلى الله؛ فنعم، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فقال الله: نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69]، وهذا الحال هو الذي اتصف قبله به نوح عندما قال لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ[يونس:71]، وهو الذي اتصف به هود عندما قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56]، وهو الذي اتصف به محمد عليه الصلاة والسلام، والذين آمنوا معه عندما قال لهم الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ[آل عمران:173-174].

    يبتليهم الله رفعة لدرجاتهم لا لهوانهم عليه

    وبهذا يعلم الإنسان أنه إذا حقق هذا المقام من العبودية لله ليس ذلك ضامناً أن لا تصيبه نكبة من نكبات الدنيا؛ فنكبات الدنيا تصيب البر والفاجر، وقد قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى في سورة الأنبياء، في قصة أيوب عليه السلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[الأنبياء:83-84]، قال: لئلا يتوهم العابدون أننا إنما نبتليهم لهوانهم علينا، هذه حكمة عجيبة لأنه في الآية الآخرى في سورة ص: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ[ص:43]، فأولو الألباب يتذكرون، وذلك مناسب للذكرى، لكن هنا قال: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[الأنبياء:84]، فالعابدون ما علاقتهم بالخصوص في الذكرى في هذا الباب؟ فـابن كثير ذكر هذه الحكمة العجيبة فقال: أن لا يتوهم العابدون أنا نبتليهم لهوانهم علينا، ولذلك فـأيوب عليه السلام ابتلي ثماني عشرة سنة وصبر، حتى مر به رجلان من بني إسرائيل، وقد نفد ما كان لديه من أنواع الدنيا، وهو ضرير لا يستطيع أن يكتسب، وكانت امرأته تسعى للعمل، حتى إذا فقدته لم تكن لها ما تطعم به أيوب إلا أنها كانت تبيع قرون رأسها؛ فتقطع قرناً في مقابل طعام يأكله أيوب ، ثم تقطع قرناً آخر، فلما علم بذلك ورأى رأسها قد حلق غضب وحلف أن يجلدها مائة سوط، فبينما هي على ذلك إذ مر به رجلان من بني إسرائيل فقالا: قد أذنب أيوب ذنباً لم يذنبه أحد من خلق الله، مكث ثماني عشرة سنة على هذا البلاء، فلم يرفع الله بلاءه، فلما سمع أيوب كلامهم قال: رب! أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[الأنبياء:83]، فلمعرفته بالله وإيمانه بحكمته البالغة ومحبته له لم يستطع حياءً منه أن يسأله أن يرفع عنه الضر تصريحاً، وإنما قال ذلك تعريضاً فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[الأنبياء:83]، أنت أرحم الرحمين؛ فالأمر إليك من قبل ومن بعد، مباشرة استجاب الله دعاءه ورفع عنه البلاء، وأمره أن يركض برجله، فنبع له ماء، فاغتسل منه فعاد أنظر ما كان وأحسنه، ونزل له لباس من السماء، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: أيها الرجل! رحمك الله! أين ضرير كان هنا؟ لعل الكلاب قد أكلته، فقال: أنا أيوب ، فقالت: أتهزأ بي؟ قال: لا، ولكن الله رد علي نعمتي، فرد الله عليه نعمته في طرفة عين وأتمها له.

    وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى الرجل على قدر دينه، فمحبة الإنسان لله سبحانه تعالى تقتضي رضاه بكل ما قدر له، وأن لا يتضعضع للحوادث كلها، وأن يعلم أن كل ما يصيبه قد كتب وقدر من قبل، ولا تنفع الحيلة في رفعه، ولا يمكن أن يجلب لنفسه نفعاً ولا يرفع ضراً إلا ما كان قد كتب له؛ ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:188].

    نيل لذة العبادة والحرص على الازدياد من الخير

    وتحقيق هذه العبودية لله سبحانه وتعالى هو الذي ينال به الإنسان لذة العبادة، وهو الذي يقتضي من الإنسان الحرص على الازدياد من الخير كلما تقدم به العمر؛ فيكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه، ويكون كلما ازداد من الموت قرباً ازداد من الله قرباً وإقبالاً عليه جل جلاله، وبذلك تحسن خاتمته؛ لأن كل لحظة يمكن أن تكون خاتمة الإنسان، وهو يسعى لأن تكون أحسن من اللحظة التي قبلها، فيجدد إخلاصه ويراجع ما لديه من النقص في عدم الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ويسعى دائماً للتقرب إليه، والله سبحانه وتعالى هو الكريم، وهو الشكور، فيشكر لعبده تقربه إليه ولو كان بالعمل اليسير؛ ولذلك في الحديث القدسي الصحيح: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )، سبحان ربنا ما أحلمه وأكرمه!

    فهؤلاء العباد نسبهم الله سبحانه وتعالى لنفسه، ومع ذلك اختار هذا الاسم العظيم من أسمائه وهو "الرحمن" فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ[الفرقان:63]، والرحمن معناه: المتصف بالرحمة العامة الشاملة، التي بها يتراحم الخلائق؛ حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، والله سبحانه وتعالى له رحمة هي صفة من صفاته، وهي قديمة قدم الصفات كلها، وله رحمة أخرى خلقها، وهي تجليات ومظاهر تلك الرحمة السابقة كما ثبت في الصحيحين: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم؛ حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، فهو الرحمن الرحيم جل جلاله، وقد كتب على نفسه الرحمة، ولذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله سبحانه تعالى: إن رحمتي سبقت غضبي )، وفي رواية في صحيح مسلم : (إن رحمتي تغلب غضبي)؛ فرحمة الله جل جلاله سابقة لغضبه، وهو ذو الرحمة الشاملة العامة التي وسعت كل شيء، وقد قال في ذلك: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:156-157].

    نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباد الرحمن، الذين ارتضى أقوالهم وأفعالهم، وأن يحقق فينا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي هي معادنا، وأن يجعلنا أجمعين من المقربين الذين ارتضاهم الله تعالى لخدمته، وأنسوا بالله جل جلاله، وقاموا بحقه.

    نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767941435