إسلام ويب

ولا تفرقواللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله البشر من نفس واحدة لحكمة أرادها، ولو شاء لجعل كل نفس مستقلة بذاتها، لكنه أراد منهم التعارف والتآلف، ثم أمرهم بالاعتصام والتوحد وعدم التفرق، والحفاظ على أخوتهم التي بها تحلو حياتهم، وجعل رابطة الدين في الأخوة أقوى الروابط وأبقاها في الدنيا والآخرة، وجعل لكل فرد حقاً على الآخرين وحقاً للآخرين عليه، وبهذا تسير الحياة كما أرادها الله لعباده في الأرض.

    1.   

    حكمة الله تعالى في خلق الناس من أمة واحدة

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فإن الله تعالى خلق البشر من نفس واحدة، وكان بالإمكان أن يجعل كل واحد منهم آدم مستقلاً، ولكنه أراد بحكمته البالغة أن يكونوا إخواناً، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يجعلهم متكاملين فيما بينهم متعاونين، فلذلك جعلهم جميعاً من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وامتن عليهم بذلك فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

    وقد جاء هذا الدين فألف بين القلوب وجمع بينها، وأكد هذه الآصرة البشرية التي تجمع البشر جميعاً، ولهذا قال الله فيه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105]، وقال تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].

    1.   

    خطر التفرقة بين المسلمين وضررها

    وقد حرم الله تعالى التفرقة بين المسلمين، وبين خطرها وضررها، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ [الأنعام:159].

    وبين أنها ضرب من ضروب العذاب فقال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

    وهذه الآية قسم الله فيها العذاب إلى ثلاثة أقسام: إلى عذاب منزل من السماء، وعذاب خارج من الأرض، وعذاب في الوسط، وهو بحصول الخلافات والنزاعات عائذاً بالله من الجميع.

    وبين الله تعالى أن الفرقة منافية للرحمة فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[هود:118-119].

    وبين أنها مظهر من مظاهر الشرك، فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:30-32]، و(من) هنا بيانية، أي: المشركون هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.

    وكذلك بين أنها سبب للفشل، ولنزع مهابة العدو من القلوب، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45-46].

    1.   

    أهمية الأخوة الإسلامية وتآلف القلوب عليها

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أخوة الإسلام وارتباطها بهذه العقيدة القويمة، فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

    وأخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه ).

    وأخرج النسائي من حديث أبي جحيفة السوائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترك عند علي : ( والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من هم سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ).

    وقد بين الله تعالى أن التأليف بين القلوب إنما هو بالإيمان، ولا يمكن أن يتم بالوسائل المادية الدنيوية، ولذلك قال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].

    1.   

    أسباب الفرقة وإزالة الأخوة بين المسلمين

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأمور التي هي سبب لإزالة هذه الأخوة فحذر منها فقال: (لا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، ولا يسم بعضكم على سوم بعض)، وفي رواية: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يحقره، ولا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).

    وكذلك قال في خطبته في حجة الوداع: ( فإن الله تعالى حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد ).

    وبين أن الفرقة هي الحالقة، قال: ( لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)، فهي سبب لإزالة الدين؛ لأن الفرقة تؤدي من الإنسان أن يستبيح من أخيه ما حرم الله منه، فإما أن يستبيح دمه وهذه هي الطامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال المسلم في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً).

    وقال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

    وإما أن يصيب من عرضه فذلك أيضاً مثل دمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تكفير المسلم كقتله )، وقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته وهي من آخر ما سمع منه: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وقال: ( القاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: أليس كان حريصاً على قتل صاحبه؟).

    وكذلك بين حرمة الأموال وأنها مثل حرمة الأنفس فقال: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، وقال: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه).

    والفرقة تؤدي إلى استباحة أموال المسلمين، فلذلك كانت ذات ضرر بالغ، وكانت حالقة للدين.

    الكلام على الناس والاعتداء على حقوقهم

    وهي أيضاً: سبب لإلقاء الكلام على عواهنه مما يفتح المجال أمام إبليس، فإبليس هو عدو البشر الأول، وهو يتربص بهم الدوائر، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ويريد منهم أية غفلة ليصل إلى القلب، لأن مبتغاه في الإنسان أن يجد ثغرة يدخل منها إلى قلبه، وهذه الثغرة من أبلغها الفرقة والعداوة، فإذا حصلت استطاع إبليس أن ينفخ فيها وأن يزيدها فيدخل إلى البشر منها، فيفسد ما بينهم من العلاقات، ويضيع ما لديهم من المكتسبات، ولذلك فإن الله تعالى أنزل سورة الحجرات، فذكر فيها ثلاثة عشر سبباً من أسباب الفرقة والخلاف وحرمها جميعاً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

    فبين أن التعدي على الصلاحيات والاعتداء على الحقوق، وتجاوز الأدب في هذا الباب هو سبب للفرقة والخلاف وحرمه.

    نقص الأدب وعدم إنزال الناس منازلهم

    عدم التثبت في نقل الأخبار والبغي والاعتداء على الغير

    ثم بين سبباً آخر: وهو عدم التثبت في نقل الأخبار، فالإنسان الذي إذا سمع قولاً قاله، ولا يبحث عن صدقه ولا يتثبت في نقله، فهذا سبب لحصول الفرقة والخلاف، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً[الحجرات:6-8].

    ثم بعد ذلك ذكر سبباً آخر وهو البغي والاعتداء، فاعتداء الإنسان على أخيه المسلم سبب لحصول الضغائن والشحناء، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].

    احتقار المسلمين والسخرية منهم باللمز والطعن

    ثم بعد هذا بين سبباً آخر من أسباب الفرقة والخلاف: وهو احتقار المسلمين والسخرية منهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [الحجرات:11]، أي: إن المسخور منه قد يكون أفضل عند الله تعالى من الساخر: وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].

    ثم بين سبباً آخر للفرقة والخلاف، وهو اللمز والطعن في الأنساب والاعتداء على أعراض الناس والجسارة على ذلك وعدم عفة اللسان فقال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، فحذر من هذا اللمز، وبين ضرره، فإن اللامز لغيره إنما هو لامز لنفسه؛ لأنه سيسعى الآخر للرد عليه، ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل، فلهذا قال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، فاللامز الطاعن في غيره إنما يلمز نفسه.

    التنابز بالألقاب وسوء الظن بالآخرين

    ثم بعد ذلك قال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11]، فذكر هذا السبب من أسباب الفرقة والخلاف وهو التنابز بالألقاب، فذكر الأسماء غير المرضية، والألقاب غير المحبوبة هو سبب للفرقة والخلاف، وقد حرمه الله تعالى فقال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

    ثم بعد هذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

    فعلى الإنسان أن يحسن ظنه بالمؤمنين، وأن يلتمس لهم المعاذير، فإذا أساء الظن بهم فذلك سبب للفرقة والخلاف، لهذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

    التجسس والغيبة على المسلمين

    ثم ذكر سبباً آخر: وهو التجسس فقال: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]، فالتجسس وهو التحسس من أجل الاطلاع على الأخبار لنقلها على وجه الإفساد، من أسباب الفرقة والبغضاء والشحناء، ولا يأتي بخير، ولذلك حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن صاحبه لا يدخل الجنة فقال: ( لا يدخل الجنة قتات ). ومعنى أنه لا يدخل الجنة أي: أنه إذا كان من المؤمنين فلا بد أن تسوء خاتمته ويموت على غير الإسلام.

    ثم ذكر سبباً آخر: فقال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فالسعي بالغيبة واستحلالها من الناس سبب لحصول البغضاء والشحناء، ولذلك في حديث عائشة ( أنها ذكرت أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم فأشارت إلى قصرها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً )، وبين ثقل هذه الكلمة الواحدة التي قالتها، كلمة واحدة قالتها أم المؤمنين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم غضب منها غضباً شديداً وبين ثقلها في الكفة، وهي مجرد إشارة إلى القصر، وهذا من خلقة الإنسان التي خلقه الله عليها، وليس للإنسان تدخل فيه، ومع ذلك حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، فلذلك قال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12].

    فبين أن أكل الغيبة ما هو إلا بمثابة أكل لحم الإنسان الميت بعد أن أنتن وتغير، وهذا ما يتقززه الإنسان ولا يمكن أن يقدم عليه، فالغيبة مثله فهي منتنة.

    التفاخر بالأنساب وادعاء الإنسان ما ليس له

    عدم الوفاء لله بالعهد والميثاق

    ثم ذكر السبب الأخير من هذه الأسباب: وهو عدم الوفاء لله بالعهد، فالذين لا يفون لله بما عاهدوه عليه ولا ينصرون دينه لا ينتصرون على أنفسهم، فينهزمون أمام هذه النفوس الشريرة، فتكون نفوسهم غير راضية إلا أن يكونوا من المطففين: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:2-3].

    ولذلك قال: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ[الحجرات:15-16].

    فبين أن النفوس إذا تركت على هواها فسيختل تعاملها مع الله سبحانه وتعالى، حتى يمن الإنسان على الله ببعض نعم الله عليه، وهذا غاية في الابتعاد عن حسن الأدب مع الله تعالى.

    1.   

    أنواع الروابط بين البشر في حياتهم الاجتماعية

    وهذه الأخوة الإسلامية هي أقوى الروابط التي تربط البشر، فالبشر يرتبطون على أساس عدد من الروابط.

    الرابطة النسبية

    فمنها: الرابطة النسبية، فالذي يرجعون إلى نسب واحد وأسرة واحدة تربطهم علاقة ورابطة، لكن هذه الرابطة غير قوية لسهولة فكها أمام المصالح، فإذا تعارضت مصالح الأسرة الواحدة فإنها ستتفكك.

    فأول أسرة على الأرض هي أسرة آدم عليه السلام، لكن حين حصل التعارض بين مصلحة شخصين منها، وهما هابيل و قابيل ماذا كان بينهما؟ يقول الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ [المائدة:27].

    الرابطة السببية

    والرابطة الثانية: هي الرابطة السببية، وهي مثل الزواج والمصاهرة وغيرها من الأسباب التي تؤدي إلى حصول هذه العلاقة، وهذه أيضاً كثيراً ما تتفكك وتنقطع، فكثير من الأزواج يحال بينهم يوم القيامة، وأبلغ مثال على ذلك امرأة نوح وامرأة لوط كانتا في هذه الحياة في أكرم بيت في وقتهما، فامرأة نوح في أكرم بيت على وجه الأرض إذ ذاك، وامرأة لوط كذلك، فهما زوجتا نبيين مرسلين، ومع هذا انقطعت هذه العلاقة وانفصلت بالكلية، فامرأة لوط قذفها الله بالحجارة المسومة من سجيل، وأصابها ما أصاب قومها، وامرأة نوح كذلك ضرب الله بها المثل للكفار: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم:10].

    وبين الله سبحانه وتعالى هلاكهما وابتعادهما عن المنهج الرباني الصحيح، وكثيراً ما تنقطع هذه العلاقات لأتفه الأسباب وأضعفها كما نشاهده في مجتمعنا.

    رابطة المصلحة المشتركة

    والرابطة الثالثة: هي رابطة المصلحة المشتركة، ومصالح الناس المادية قد تؤدي عند اجتماعها إلى رابطة تربطهم، ولكنها إذا انفصلت أدت إلى النفرة والخلاف أيضاً، فكم من شخصين كانا مشتركين في مصلحة أو مال ثم حصل بينهما خلاف فيه، فأدى ذلك إلى الشحناء والبغضاء.

    رابطة اللغة

    والرابطة الرابعة: هي رابطة اللغة، فهي سبب للتفاهم، وكثيراً ما تؤدي إلى حصول الألفة، أي: أن يألف الإنسان أبناء جلدته الذين يتكلمون بلغته، ولكن هذه الرابطة ضعيفة لسهولة تعلم اللغات؛ ولأن البشر جميعاً في الأصل لغتهم هي ما علمه الله آدم: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]. فليست هذه الرابطة ذات قوة، واليوم أصبح الناس يتعدونها بالترجمة وبتعلم اللغات.

    رابطة الوطن

    والرابطة الخامسة، هي رابطة الوطن، فكثير من الناس يجتمعون في وطن يعيشون فيه، فيتذكرون به ذكرياتهم، وتتعلق به قلوبهم ويحبونه، فيكون ذلك سبباً لمحبة من عرفوه في هذا الوطن أو للألفة مع من كان مواطناً لهم ممن يعيش معهم في بلدهم.

    وهذه العلاقة أيضاً منقطعة فلم يزل التاريخ يشهد الهجرات البشرية، سواءً كانت فردية أو جماعية، وهذا الانتقال الذي يؤدي بالإنسان أن ينتقل من بلد إلى آخر كثيراً ما يؤدي بالإنسان إلى الانقطاع عن بلده الأصلي بالكلية؛ لأن الذي يحبب إليه بلده الأصلية هو مجرد ذكريات حصلت فيه كما قال الشاعر:

    وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك

    إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهوداً مضت فيها فحنوا لذلك

    فإذا وجد الإنسان ذكريات هي أحلى منها وأولى في بلد آخر تعلق بذلك البلد الجديد.

    وبذلك ينفصل عن بلده الأول، وكم شاهدنا من إنسان نال من الراحة والرفاه في بلده الذي هاجر إليه ما لم ينله في بلده الأصلي، فكان بلده الذي هاجر إليه أحب إليه من بلده الأصلي.

    رابطة اللون

    الرابطة السادسة: رابطة اللون، فإن بعض البشر قد تقع بينهم الألفة والحمية من أجل الألوان فقط، وهذه هي أضعف الروابط وأدناها؛ لأن الألوان إنما تتأثر بنوع التغذية والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]. فالبشر من نفس واحدة، وهم في الأصل من لون واحد، ولكن بيئتهم وتغذيتهم هي التي تؤثر في ألوانهم، ولهذا فإن الإنسان في صباه يختلف لونه عنه عند تمام شبابه وفي شيخوخته وكبره، فاللون إذاً لا يمثل شيئاً.

    والأسرة الواحدة نجد فيها ألواناً مختلفة، فهذا يدل على أن العلاقة على مجرد اللون علاقة ضعيفة.

    الرابطة الأيدولوجية

    الرابطة السابعة: هي الرابطة الأيدولوجية، أن يجتمع قوم في فكرة يخدمونها ويسعون لنشرها بين الناس، وهذه الأيدولوجيات عرفتها البشرية قديماً في أيام إبراهيم عليه السلام، ثم من بعده ما زالت الأيدولوجيات تظهر، وهي أفكار بمثابة ديانات، لكنها أرضية لا سماوية، هي من إنتاج العقول البشرية، ويسعى قوم للترويج لها فيقتنع بها قوم، وحينئذ يجتمعون على أساس ذلك الفكر الأيدولوجي، وهذه الأفكار قد تسود برهة من الزمن، لكنها سرعان ما تتراجع وبالأخص إذا كانت مخالفة للعقل أو الفطرة، فقد شهدنا في هذا العصر سقوط الشيوعية وهي فكرة أيدولوجية وحضارة سادت ثم بادت.

    فأيدولوجية الشيوعية ظهرت قديماً في الشيوعية الأولى في أيام ماصدك وفي أيام ماني، ثم بعد هذا جددها هيقل و فارباخ وبعد ذلك كارل ماركس ، وانتشرت بفعل الدول والسياسات كروسيا والصين ثم تحطمت بعد هذا وتراجعت.

    وكذلك الأيدولوجية الوجودية التي هي في الأصل فكرة شهوانية حيوانية تقتضي من الإنسان أن يبحث عن الحرية مطلقاً بحيث يتحرر من الدين ويتحرر من الخلق، ويتحرر من الموروث أياً كان، ويتحرر حتى من الملابس، فيخرج عرياناً لأنه يرى أن الملابس تقييد لحريته، ونقص لهذه الحرية، ويرى أن التقاليد والأعراف تقييد لهذه الحرية، وأن الدين تقييد لهذه الحرية، فيريد لعشقه للحرية أن يتحرر من كل شيء، وهذا يقتضي منه التحرر من العقل، والتحرر من النقل، والتحرر من الدين، والتحرر من كل مقتضيات ما يستفيد منه الإنسان.

    وهذه الفكرة أعلنها في هذه العصور المتأخرة الفيلسوف سارتر في فرنسا ثم شاعت في أوروبا ودخلت إلى بلاد المسلمين وانتشرت، لكنها بدأت تنحسر الآن في أوروبا، والغريب أنها تجد الآن آذاناً صاغية بين أولاد المسلمين.

    ومثل ذلك الأيدولوجيات القومية، كالقومية الزنجية والقومية العربية والقومية التركية، وقد سادت هذه القوميات في بداية القرن الماضي، وانتشرت ثم بدأت تتراجع، وأولها ظهور هي القومية الفارسية، التي ظهرت في أيام الدولة العباسية وكانت تسمى بالشعوبية، وقد قال شاعرها بشار بن برد:

    من مبلغ عني جميع العرب من هو حي منهم ومن ثوى في الترب

    جدي الذي أسموا به كسرى وساسان أبي وقيصر خالي إذا عددت يوماً نسبي

    ثم يقول فيها:

    ولا حدا قط أبي خلف بعير أجرب.

    وهو بذلك يتكبر على العرب وحضارتهم ومعاشهم، ثم تراجعت هذه الأيدولوجية وبادت.

    ثم جاءت القومية التركية في وقت اختراق اليهود للدولة العثمانية، عندما دخل يهود الدونمة إلى تركيا، وبدءوا يؤثرون على الصدارة العامة فيها، وخلافة المسلمين، فمن ذلك الوقت بدأت القومية التركية تنتشر.

    ثم جاء بعدها مهندس الإنجليز فأتوا بالقومية العربية، وكانت بدايتها في لبنان وفي سوريا، وبدأت بفكرة البعث التي يقول فيها أحد الشعراء اللبنانيين في ذلك الوقت:

    آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني

    ويقول آخر في ذلك الوقت، يدعو إلى أي علاقة عرقية تؤلف بينهم يقول:

    سلام على كفر يؤخذ بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم.

    نسأل الله السلامة والعافية.

    فهذا النوع هو من الأفكار التي لا يستوعبها عقل وليس فيها أية فائدة للبشرية، وقد وجدت منها الشعوب كثيراً من الويلات، وكانت سبباً لكثير من الحروب والمشكلات، فالحروب الأهلية في أنحاء العالم سببها هي هذه القوميات الضيقة.

    ومن الأيدولوجيات أيضاً: الأيدولوجية الجهوية، والأيدولوجية الطائفية، والأيدولوجية العرقية، فالأيدولوجيات الطائفية بدأت أولاً بالنصارى عندما افترقوا، فكان البروستانت في البداية ضد الكاثوليك وضد أنواع فرق النصارى الأخرى، واليوم بين البروستانت والكاثوليك من العداء ما الله به عليم.

    فالحرب التي قامت في إيرلندا كانت بين الكنيستين: الكنيسة البروستانتية والكنيسة الكاثوليكية.

    وكذلك هذا العداء القائم الآن بين الشيعة والسنة في كثير من المناطق هو من الأيدولوجية الطائفية.

    وكذلك العداء القائم بين المارونيين مثلاً وغيرهم من النصارى في لبنان هو أيضاً من هذه الأيدولوجية الطائفية، وهذه الفكر الأيدولوجية وإن جمعت عدداً قليلاً من الناس فهي تفرق أكثر مما تجمع.

    ولذلك نجد دولتين متجاورتين في العالم الإسلامي، وفي بلاد العرب حكمهما حزب البعث العربي الاشتراكي، وحصل بينهما من العداوة والبغضاء ما لا يمكن أن يحاط به وهما: العراق وسوريا.

    أيدولوجية واحدة وحزب واحد يحكم دولتين متجاورتين، لكن بينهما من العداوة ما لا يتصور بين دولتين مختلفتين.

    ومثل ذلك أيضاً القومية العربية بالمفهوم الناصري التي روجها جمال عبد الناصر في وقته، ثم بعده انتشرت في أنحاء كثيرة من العالم، أيضاً هي حكمت بلدين متجاورين وهما مصر وليبيا، وحصلت بينهما حرب مدمرة.

    وهكذا في كل الأيدولوجيات، وكل الدعوات التي منشؤها دعوة قبلية أو عرقية أو طائفية لا تجني منها البشرية إلا الضرر.

    وقد شاهدنا في أفريقيا الحرب التي قامت في رواندا والتي قتل فيها الملايين من البشر، والحرب التي قامت أيضاً في سرياليون، والحرب التي قامت في ساحل العاج وما زالت قائمة، والحرب التي قامت في الكونفو وما زالت قائمة، والحرب التي قامت في زائير التي أصبحت اليوم تسمى الكونفو الديمقراطية وما زالت قائمة إلى اليوم، والحرب التي قامت أيضاً في جزر الرأس الأخضر وغينيا بساو، وما زالت قائمة، والحرب القائمة هنا في جيراننا في السنغال بين السكان زقنشور وبقية البلاد السنغالية، هذه كلها حروب على أساس عرقي، على أساس قبائل، على أساس جهات.

    ولم يجن منها أي نفع ولم تؤد إلى أية نتيجة، ولذلك فإن أعداء الإسلام إذا أرادوا حصول حرب أهلية، أو فوضى في أي بلد من البلاد أذكوا هذه النزعات، كما نسمع في الجزائر في كل وقت إذا همدت فتنة غمزوا الفتنة من جديد فأيقظوها بين القبائل، والقبائل معناها البربر وبين العرب، فتبدأ المشكلة في منطقة القبائل، وهكذا في المغرب وفي كثير من البلدان، وقد سمعتم في مالي الحرب التي دامت مدة من الزمن بين البيض والسود، ليست على أي أساس معقول إلا مجرد الانتماء القبلي أو العرقي.

    رابطة الدين

    فكل ذلك يقتضي أن هذه الروابط جميعاً روابط ضعيفة، والرابطة الوحيدة القوية التي تجمع الناس هي رابطة الدين، فهي أقوى الروابط وأسماها وأعلاها، ولذلك فهي مستمرة في الدنيا، مستمرة في الآخرة، ففي الحياة الدنيا يقول الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وفي الآخرة يقول الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].

    1.   

    أهمية استشعار المسلم للأخوة وجعلها من ضرورياته

    هذه الأخوة لا بد أن يستشعرها الإنسان، فمن ضرورات انتمائه للدين ومن ضرورات شعوره بانتمائه لهذه الأمة أن يحس أن له أمة ذات أمجاد، وأنه هو فرد من أفرادها، وينبغي أن يسعى للخير لها، وينبغي أن يحب لجميع أفرادها ما يحب لنفسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).

    ولا بد أن يشعر جميع أفراد الأمة بهذا الترابط والتآخي، فقد كان أول لبنة من لبنات بناء هذه الأمة، ففي العهد المكي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين إخاءً عجيباً كان بعضهم يؤثر بعضاً على نفسه.

    ولذلك صح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: خرجت ذات ليلة في الشعب، فوقعت يدي على شيء فإذا هو جلد فنفضته فأتيت به أصحابي فشويناه وأكلناه.

    فهذا سعد بن أبي وقاص رجل جائع من ثلاث سنوات وهو محاصر، ومع ذلك يجد ما يسد به رمقه فلا يستطيع أن يأكله حتى يأتي به أصحابه ويقسموه.

    ويقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: ( لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا ويعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو والي على مصر من الأمصار، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء حاجتي فوقعت يدي على شيء فإذا هو جبة، فنفضتها فأتيت بها أصحابي فقسموها نصفين فأعطوني نصفها، فاتزرت به، وأعطوا سعد بن مالك نصفها فاتزر به ).

    هذا الرجل من ثلاث سنوات وهو عريان ليس لديه أي ملابس، وليس في الأفق القريب فرج ينتظره، ومع ذلك يجد جبة يستطيع أن يستر بها عورته، فلا يستطيع الإقدام على ذلك حتى يؤثر بها إخوانه ويأتي بها يحملها.

    وقد تحقق هذا في نفوس المؤمنين واستمر، حتى إنهم كانوا يتوارثون بذلك، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث أم العلاء رضي الله عنه قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [الأحزاب:6]، قالت: فكانوا يوصون لهم ).

    فهذا المعروف الذي أذن الله فيه لم يهملوه وهو الوصية، فكانوا يوصون لهم.

    وقد ثبت أنه في غزوة اليرموك عندما استحر القتل في القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين يتقدمون ويكونون في وجوه العدو، واستحر القتل فيهم، قال رجل: أخذت ماءً فبحثت عن ابن عم لي أريد أن أسقيه، فوجدته بين الجرحى، فلما صببت له الماء رفع عمرو بن سعيد رأسه فأشار إلي أن ابدأ به، فذهبت إلى عمرو فلما أرادت أن أسقيه رفع جريح رأسه فأشار إلي أن ابدأ به، فذهبت إلى ذلك الجريح ففاضت نفسه أي مات فرجعت إلى عمرو فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    1.   

    ما يترتب على الأخوة الإسلامية من حقوق

    وهذه الأخوة يترتب عليها كثير من الحقوق التي يسأل الله عنها يوم القيامة، فالله يسأل عن مجرد صحبة ساعة.

    وهذه الحقوق منها: تشميته إذا عطس، وإجابة دعوته، ورد السلام عليه، واتباع جنازته، وعيادته إذا مرض، وإجابة دعوته، فهذه حقوق الأخوة الإسلامية التي لا بد منها.

    وهذه الأخوة الإسلامية العظيمة جدير بنا أن نحييها في أنفسنا، وبالأخص في أوقات الفتن الطوام التي يبعثها الله تعالى ليبتلي بها أقواماً فيتساقطون عن المحجة البيضاء، فلابد من إحيائها وبعثها في نفوس الناس، ولا بد أن نقف بها في وجه كل المؤامرات التي يقصد بها تشتيت هذه الأمة، والتعدي على حرماتها، والاعتداء على بيضة هذا الدين، فهذه الأمة قوتها الكبرى هي عقيدتها التي تقتضي منها هذه الأخوة.

    وقوتها الثانية بعد ذلك: هي ألفتها واجتماع كلمتها، فكل ما يؤدي إلى الشحناء والبغضاء بينها فهو مقيت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها فإنها منتنة )، فحذر منها غاية التحذير، وقال: ( الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، الناس لـآدم و آدم من تراب ).

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويسددنا، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله حجة لنا لا علينا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765744545