إسلام ويب

النصر قادمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من السنن الماضية أن التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء؛ ليتحقق بذلك التأهيل، ومن هنا فلابد من استحضار هذه السنة في الحياة، والامتحانات وإن تكررت فإنه يعقبها التثبيت، ومهما تمالأ الصليبيون واليهود وأذنابهم فإن العاقبة للمتقين. وكما أن في آخر الزمان منفرات فإنه لا يخلو من مبشرات، مثل الوعد الإلهي بقيام خلافة راشدة، وخروج المهدي، ونزول عيسى بن مريم. والأمة الإسلامية اليوم تشهد عودة دينية تقر بها العيون ويموت بغيظه المفتون.

    1.   

    سنة الابتلاء قبل التمكين

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلو الناس ويمتحنهم، ومن أشق الامتحانات التي امتحن الله بها عباده امتحان الإيمان بالغيب، وهذا الامتحان يقتضي من الإنسان أن يؤمن بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما سيقع، وهو مقتض منه أن يؤمل وقوع ذلك الذي أخبر به الله وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لو لم ير شواهد ذلك في الواقع، ولو لم ير وسائله كذلك؛ ولذلك فإن حياة المسلم الطبيعية في هذه الحياة الدنيا أن يبقى دائماً بين الخوف والرجاء؛ فهو يرجو تحقق وعد الله عز وجل، ويخاف أن لا يكون هو قد حقق شروط ذلك ووسائله.

    ولهذا فإن الوعد الرباني يأتي على أعلى الدرجات، والوعيد كذلك يأتي على أقصى الدرجات؛ فقد قال الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى[الليل:14-18]، فإذا قرأ المؤمن ذلك أو سمع قول الله تعالى: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى[الليل:15-16] فإنه يقول: الحمد لله! أنا لست كذلك، ثم يقرأ: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:17-21]، فيقول: أنا أيضاً لست كذلك، فيبقى بين الرجاء والخوف دائماً.

    ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذا الكون من المشكلات التي يبتلي بها عباده المؤمنين ما يشاء، ثم بعد ذلك تكون العاقبة للمتقين، وهذه هي السنة الماضية التي سير الله عليها هذا الكون كله؛ فلا يمكن أن يأتي الفرج إلا بعد الشدة، ولا يمكن أن يأتي النصر إلا بعد الصبر؛ ولذلك فجميع الأنبياء عليهم السلام ما وجد أحد منهم في نذارته وبشارته النصر إلا بعد كثير من الصبر والمصابرة، ولا وجد أحد منهم التمكين إلا بعد كثير من الابتلاء؛ ولهذا قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ[يوسف:110-111].

    استحضار سنة الابتلاء في الحياة

    وهذه السنة الماضية لا بد أن يستحضرها المؤمنون في حياتهم، وأن يدركوا أنهم ليسوا أكرم على الله من الأنبياء، فما من نبي بعثه الله، فنال التمكين وتحققت أهدافه وآماله قبل الامتحان الشديد، فـنوح عليه السلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو صابر مجاهد حتى حقق الله له التمكين والنصر، وكذلك من دونه من الأنبياء؛ فأكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم مكث هو وأصحابه بمكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، وهم في أشد ما يكون الحال من الضيق والمضايقة، ولكنهم صبروا وصمدوا واحتسبوا لله عز وجل، وقد خاطبهم الله بأمر بذلك إذ قال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14]، فلما صبروا على ذلك وعلم الله منهم الصدق أنزل عليهم رضوانه وحقق لهم موعوده؛ ولذلك قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[الفتح:18-19].

    عندما اشتد الحال بالمؤمنين في مكة واشتدت عليهم المضايقة من كل جانب لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشك في ما وعده الله؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، وكان من أولئك الذين أوذوا بمكة، قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه، فجلس وقال: إنه قد كان في من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، ووالذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون )، وهذا الحديث بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الشدة التي يعانونها قد سبق في هذه الأرض من الشدة ما هو أكثر منها؛ فلا يمكن أن ينال المؤمن اليوم أي أذىً إلا قد نال من هو خير منه في الماضي، وله أسوة صالحة في السابقين الذين أوذوا في الله عز وجل، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[آل عمران:186]، وخاطبنا نحن بعدهم كذلك بخطاب أبدي مستمر في قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الــم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فلا بد إذاً من الفتنة على طريق الحق؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح وغيره: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، وفي رواية: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة بارك فيها وجعل فيها من أنواع النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. ثم خلق النار فجعل فيها من أنواع الأذى ما لا يخطر على قلب أحد فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحفت بالمكاره وأمر بالنار فحفت بالشهوات، فأمر جبريل فأطاف بالجنة، فلما رجع قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. ثم أمره فأطاف بالنار فلما رجع قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد ).

    إدراك المسلم قبل الإقدام أنه مفتون

    فلذلك لا بد قبل الإقدام على السير في الطريق أن يدرك المسلم أنه مفتون لا محالة على طريق الحق، وأن هذا الطريق محفوف بالمكاره، وسيجد الإنسان عليه كثيراً من المضايقات والحرج، ولكنه محمود العاقبة مأمون؛ فقد كتب الله النصرة والتمكين للمؤمنين السائرين على طريق الأنبياء؛ ولذلك قال في محكم التنزيل: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وقال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، وقال تعالى في نذارة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7]، فهذا الوعد لابد أن يتحقق، ويجب الإيمان بذلك.

    الابتلاء والتأهيل للتمكين

    لكن لا بد أيضاً أن يعرف الموعودون بأنه لا يمكن أن يتحقق لهم قبل كثير من الابتلاء والامتحان حتى يؤهلوا لأن يكونوا أهلاً لهذا التمكين والنصرة؛ ولذلك فما من نبي من الأنبياء إلا أوذي هو وأصحابه غاية الأذى، ولنتذكر قول بني إسرائيل لموسى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[الأعراف:129]، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نالوا حظهم من ذلك؛ فقد أوذوا غاية الأذى وبالأخص في حصار الشعب، ثلاث سنوات لا يباع إليهم ولا يشترى منهم، ولا يزوج منهم أحد ولا يتزوج إليهم ولا يرد عليهم السلام، ولا يهدى لهم ولا يتصدق عليهم، مقاطعة كاملة، لكن هذه المقاطعة كانت خيراً لهم؛ ولهذا يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: ( لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار )، وأخبر أنه خرج ذات ليلة في الشعب لقضاء حاجته فوقعت يده على شيء قال: (فنفضته فإذا هو جبة، فأتيت بها أصحابي، فقسموها نصفين، فأعطوني نصفها فأتزرت به، وأعطوا نصفها سعد بن مالك فأتزر به).

    وكذلك أخوه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يحدثنا عن وقت الشعب فيذكر أنه خرج لقضاء حاجته فوقعت يده على شيء؛ فإذا هو جلد فنفضه وأتى به أصحابه فشووه وأكلوه، وهو الذي يقول فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي ). فأوذوا أذى شديداً، ثم كان لهم بعد ذلك النصر والتمكين وحقق الله لهم الوعد؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم عندما كانوا يحفرون الخندق وهم إذ ذاك في غاية الخوف، فأخبرهم أنه أوتي كنوز كسرى وقيصر، وأنها ستنفق في سبيل الله، وهم إذ ذاك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج لقضاء حاجته من شدة الهول، وقد بين الله تلك الأهوال بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:9-15].

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بعد الفتح بحالهم قبل الفتح فقال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26].

    فإذا تذكر المسلمون ذلك عرفوا أن سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يبتليهم؛ فمن نجح منهم في الامتحان حقق له مراده بالتمكين، ولا يمكن أن يستحق أحد التمكين إلا إذا كان قد حقق صفات التمكين التي شرطها الله في كتابه؛ فالله تعالى يقول في كتابه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41]، فأولئك المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم الذين يمكن الله لهم في الأرض وينصرهم بما ينصر به من سبقهم من الأنبياء وأتباعهم.

    1.   

    قصة بني إسرائيل والتمكين بعد الامتحانات

    ولا يمكن أن تختل هذه القاعدة؛ فهي سنة الله الماضية، ولذلك فمن سنن الله أن الامتحانات تتوالى منها ثلاث شديدة؛ فيتساقط بها جمهور الناس، ثم بعد ذلك يأتي مثبت من عند الله عز وجل؛ فيرجع الناس بعده إلى الدين، ثم يبدأ مسلسل الامتحانات من جديد أيضاً.

    الامتحان الأول

    ومن أمثلة ذلك ما قص الله علينا في قصة بني إسرائيل؛ فقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ[البقرة:246]؛ فكان أول امتحان يأتيهم هذا الامتحان، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، فرسبوا في هذا الامتحان جميعاً، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]؛ فلم يكن القتال في سبيل الله وإنما كان من أجل الديار والأبناء.

    الامتحان الثاني

    الامتحان الثاني: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:246]، فرسب جمهورهم، والقليل منهم هم الذين ثبتوا وصمدوا، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246].

    وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[البقرة:247]، هذا الامتحان الثالث، أن يولي عليهم من لا يرونه أهلاً لذلك، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:247]، حينئذ حان وقت التثبيت، فجاء المثبت من عند الله: وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ[البقرة:248]؛ فرأوا الملائكة يحملون تابوتاً منزلاً من السماء فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وفيه السكينة، فلما نزل هذا التابوت ورآه الناس عادوا جميعاً للانقياد لأمر الله والاستسلام للحق بعد أن كانوا ينكرونه ويجادلون فيه؛ لأنهم رأوا معجزة خارقة للعادة، لا يمكن أن ينازع فيها أحد، ثم بعد ذلك بدأ مسلسل الامتحانات من جديد؛ فكان أول امتحان واجههم بعد هذا المثبت هو ما بينه الله في قوله: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[البقرة:249]، وهذا الامتحان رسب فيه جمهورهم أيضاً كما قال: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:249]؛ فجمهورهم رسبوا في هذا الامتحان، وهو امتحان تطبيقي ليس كالامتحان النظري السابق.

    الامتحان الثالث

    ثم بعد هذا جاء امتحان آخر وهو قوله: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]، تذكروا المواجهة قبل وقتها؛ فقالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]؛ فرسبوا جميعاً في الامتحان.

    الامتحان الرابع وتحقق النصر

    ثم بعد هذا جاء الامتحان الرابع في المواجهة، وقد نجحت فيه طائفة قليلة يسيرة: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ[البقرة:249]، وهم قليل من قليل من قليل، ويظنون معناه: يوقنون أنهم ملاقو الله، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:249-251]، وقد بين الله سبحانه وتعالى نتيجة هذه الامتحانات بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، أي: لولا سنة التدافع بين الحق والباطل لفسدت الأرض؛ لأن هذه الدنيا دار عمل ولا جزاء، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل؛ فلو تمحض الحق على هذه الأرض ولم يبق للباطل أي دفع؛ لاستحق أهل الأرض أن يذهبوا إلى الجنة وأن ينالوا جزاءهم فقد نجحوا في الامتحان، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبق للحق أي وجود؛ كذلك لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته؛ ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله )، وذلك إذا لم يبق على الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير، لا يباليهم الله بالة.

    فلهذا كان لابد من تكرر الامتحان وتكرر التثبيت بعده بما يريده الله سبحانه وتعالى من المثبتات التي ترد الناس إلى الالتزام بالدين.

    1.   

    هموم أمة الإسلام المعاصرة

    في زماننا هذا تشهد هذه الأمة كثيراً من الهموم، التي هي امتحانات يمتحنها الله بها؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4]؛ فلو شاء الله لم يكن للكفار أي وجود أصلاً؛ لأنه قادر على هدايتهم، ثم هو قادر على الانتقام منهم، وقد قال في محكم التنزيل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ[يونس:99-100]، لكن أراد بحكمته البالغة أن يبقي على هذه الأرض صراعاً أبدياً بين الحق والباطل، بين حزب الله وحزب الشيطان، فلا يمكن أن يحسم هذا النزاع، لا يمكن أن يتمحض على الأرض الحق وحده أو الباطل وحده، بل لا بد أن يبقى الصراع موجوداً امتحاناً للخلائق؛ لأن هذه الدنيا دار امتحان، ثم بعد ذلك لا شك أن النتيجة ستعلن عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ[يس:59]، فيبيض الله وجوه المؤمنين ويسود وجوه الكافرين؛ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[آل عمران:106-107].

    محنة فلسطين والمسجد الأقصى

    هموم هذه الأمة وغمومها كثيرة؛ فمن همومها في هذا الزمان ما حصل في أرض فلسطين، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين، وفي المسجد الأقصى، الذي هو ثاني بيت يقام على الأرض؛ فإن الله سبحانه وتعالى أخبر أن أول بيت وضع للناس هو المسجد الحرام، قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ[آل عمران:96]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن ثاني بيت بعده هو المسجد الأقصى )، وقد قيل: ( كم بينهما؟ فقال: أربعون )، أي: أربعون سنة بين قيام المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا المسجد الأقصى بارك الله حوله، وقد أوتيت مفاتيحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إهداءً من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، وللشام كله وهو الأرض المباركة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الشام فقال: ( تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحه والتمكين للمؤمنين فيه، وأخبر: ( أن المسيح بن مريم ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق حكماً عدلاً بين مثرودتين، يمينه على ملك وشماله على ملك، إذا طأطأ رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا رفعه تقاطر؛ كأنما خرج من ديماس، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره )، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الشام من خيرة هذه الأمة؛ فقال: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم )، وقال: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )، وقال: ( يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم )، وقد هاجر إبراهيم عليه السلام إلى الشام.

    تمالؤ اليهود والصليبيين على فلسطين

    فهذه الأرض المقدسة المباركة أهداها الله للمؤمنين، وفتحها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتمالأ كفرة أهل الكتاب من اليهود والصليبيين على أن يجعلوها وطناً لإخوان القردة والخنازير من اليهود، فجمعوهم إليها من أنحاء البلاد وأطرافها، وعاثوا فيها فساداً، وقتلوا وأسروا وعذبوا؛ وكان ذلك تحققاً لوعد سابق وعد الله به؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[الإسراء:4-8].

    علو بني إسرائيل وتتبيرهم والكرة عليهم

    وهذه الآيات كان كثير من ضمائرها من المتشابه من القرآن؛ حيث كان يفسرها المفسرون على وجه يقيسون فيه على ما مضى، ولكن اتضحت دلالتها اليوم وعرفنا فيها كثيراً مما كان خفياً عنا، وكثيراً مما لم يتضح للمفسرين من قبل، وهذا من تمام إعجاز القرآن؛ فإنه دائماً ينكشف ما فيه من الخفاء ويتجلى للناس مع الزمن؛ ولهذا قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ[يونس:39]، و (لما) لنفي الماضي المنقطع، معناه: أن تأويله سيأتيهم في المستقبل، فهنا قال: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ[الإسراء:4]، أي: هذا وعد لبني إسرائيل بالعلو في الأرض مرتين، أي: أن تكون لهم دولتان، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا[الإسراء:4-5]، أي: أولى الدولتين، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5]، أي: على بني إسرائيل، عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5]، وأولئك إما أن يكون المقصود بهم بختنصر وجنوده أو البيزنطيون الذين آذوهم كذلك في فلسطين وفي الشام؛ فلذلك قال: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا [الإسراء:5]، والدولة الأولى هي التي أقامها داود وسليمان ابنه عليهما السلام، وبقيت في بني إسرائيل.. بقي فيهم الملك بعد داود وسليمان برهة من الزمن حتى طغوا وبغوا؛ فحينئذ دالت دولتهم وأزالها الله عز وجل، ولم تقم لبني إسرائيل بعد ذلك إلا دولتهم هذه، التي هي في زماننا هذا؛ فلهذا قال: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا [الإسراء:5]، وهي الدولة التي أقامها داود وسليمان.

    بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ[الإسراء:5-6]، الذي نفهمه نحن من هذا الخطاب الآن أنه خطاب للأمة الإسلامية، أي: ثم رددنا لكم معشر المسلمين الكرة عليهم، أي: على أولئك العباد الذين غلبوا على الشام، وهم البيزنطيون بعد تغلب بختنصر عليه، والبيزنطيون هم الذين قاتلهم المسلمون، وهم روم الشام، فانتصروا عليهم، وفتح الله الشام على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي عبيدة بن الجراح و خالد بن الوليد و شرحبيل بن حسنة و عمرو بن خالد و عمرو بن سعيد و عمرو بن العاص ، ومن معهم من قادة المسلمين يزيد بن أبي سفيان وغيرهم، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ[الإسراء:6]، معناه: أيها المسلمون، الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء:6]، أي: على الغالبين على الشام من الروم، وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6]، وكل هذا خطاب لهذه الأمة، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا[الإسراء:7]، وهذه مسيرة دولة الإسلام، تارة يكون فيها الإحسان وتارة تكون فيها الإساءة، فإن أحسن القائمون على هذه الدولة فإن الله يمكن لهم وينصرهم على أعدائهم، وإن أساءوا فسينالهم بعض عقاب الله سبحانه وتعالى بتسليط أعدائهم عليهم؛ فلذلك قال: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ[الإسراء:7]، أي: جاء وقت انقضاء دولة اليهود الثانية، وهي الآخرة من الدولتين اللتين وعدهم الله بهما، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [الإسراء:7]، أي: ليسوء اليهود وجوهكم معشر المسلمين، وقد فعلوا، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ [الإسراء:7]، أي: المسجد الأقصى، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:7]، وذلك ما حصل الآن، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، أي: ليهلكوا ويفسدوا، مَا عَلَوْا [الإسراء:7]، أي: مدة علوهم إذا كانت (ما) هنا مصدرية، نائبة عن ظرف زمان، ويمكن أن يكون المعنى: وليتبروا ما علوه من الأرض؛ فتكون (ما) موصولاً، وعائد الصلة محذوف، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7].

    ثم رجع الخطاب إلى المسلمين فقال: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ[الإسراء:8]، عسى ربكم يا معشر المسلمين أن يرحمكم بإزالة هذا الظلم عنكم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، معناه: إن عدتم إلى ما كنتم عليه من الجهاد في سبيل الله ونصرة الدين عدنا ما عودناكم من التمكين، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8]؛ فهذه سنة الله سبحانه وتعالى الماضية.

    مراحل دخول اليهود فلسطين وأطماعهم المستقبلية

    ولما جاء اليهود إلى فلسطين دخلوا في البداية يتسللون ويتسترون بثوب التجارة على أنهم تجار؛ ففتحوا محلات تجارية، ثم بدءوا يشترون الأراضي الزراعية ويبنون فيها المساكن والقرى، ثم بدءوا يبنون المستوطنات الكبيرة ويشترون أرضها من المواطنين الذين هم في غرة ولا يدرون ما يكاد لهم، حتى اجتمع منهم عدد كثير؛ فغلبوا على بعض المدن بالكلية؛ فأصبحوا أكثر سكانها، اشتروا المنازل من أهلها والمزارع؛ فغلبوا عليها فأصبحوا أكثر سكانها، ثم بعد ذلك زودتهم بريطانيا بالأسلحة وأمرتهم بأن ينفذوا مشروعهم القديم الذي هو دولة إسرائيل الكبرى؛ فقتلوا السكان وأجلوهم من الأرض، وأهلكوا كل ما قدروا على إهلاكه، وما زالوا يريدون الزيادة؛ فهم يريدون إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وهم يزعمون أن حدودها ما بين النهرين، أي: ما بين النيل والفرات؛ فيريدون احتلال مصر وبلاد الشام وبلاد العراق إلى نهر الفرات، وجزءاً من جزيرة العرب أيضاً إلى خيبر، وسيكون لهم في المستقبل شيء من ذلك، أي: ستكون لهم ملحمة عظيمة، وسيضعف أمامهم من يقاومهم من جيوش المسلمين الموجودة هنالك، لكن لا بد أن يبقى من يؤذيهم ويسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة؛ كما تأذن الله بذلك في كتابه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[الأعراف:167].

    وقد جاء في عدد من الأحاديث ما يدل على أن أهل المدينة سيهجرونها ويتركونها على خير ما كانت؛ كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي. قيل: وما العوافي يا أبا هريرة ؟ قال: السباع، حتى يأتي ذئب أبيض، فيغذي على المنبر، لا يرده أحد )، أي: يبول على المنبر لا يرده أحد، ( وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما )، والذي نفهمه نحن من هذا الحديث أن خراب المدينة لن يكون بغزو تهدم فيه المنازل، وإنما يكون بضربها بما يقتل البشر ويبقي المباني والشجر، وقد عرف اليوم من الأسلحة ما يكون كذلك كالغازات السامة، فإنها تقتل الحيوان والبشر ولكنها لا تهدم المنازل ولا تقتل الشجر، وهو قال: ( لتتركن المدينة على خير ما كانت )، وقد صح في صحيح البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه كان يتمنى أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي يخرج أهل المدينة من المدينة، ولكن لم يشأ الله ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليشرح له الغازات السامة؛ فلم تكن العقول تستوعبها في ذلك الوقت؛ فلذلك منعه الله أن يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الملاحم والفتن في آخر الزمان

    عمران بيت المقدس خراب المدينة

    وإذا حصل ذلك فإنه ستقوم الخلافة الراشدة التي وعدها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، وفي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت )، وهذه الخلافة جاء في الصحيح من حديث جابر بن سمرة بن جندب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عدد الخلفاء فيها اثنا عشر خليفة )، فإنه قال: ( لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، فسألت أبي وكان بيني وبينه، فقال: قال: كلهم من قريش )، فاثنا عشر خليفة سيقومون في آخر الزمان، وهم الخلافة الراشدة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الخلفاء سيفتحون بيت المقدس، والذي ورد في بعض الآثار أن الذي يفتح بيت المقدس هو ثاني الخلفاء الراشدين في آخر الزمان؛ كما فتح ثاني الخلفاء الراشدين في أول الزمان، وهو عمر بن الخطاب يفتحه أيضاً ثاني الخلفاء الراشدين في آخر الزمان.

    وهذا الفتح هو عمران المدينة، أي: عمرانها الثاني؛ فإن عمران بيت المقدس خراب المدينة، أي: أن خراب المدينة الأول هو الذي يفتح عنده بيت المقدس، ثم بعد ذلك إذا فتح فإن روما تفتح بعده كما قال: ( وخراب المدينة فتح رومية )، فتح رومية أي: يترتب عليه فتح روما، وذلك بالغزو الإسلامي الكبير الذي سيفتح مشارق الأرض ومغاربها، حتى يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.

    خروج الدجال وقتل عيسى بن مريم إياه

    ويخرج الدجال في الثامنة، أي: بعد ثمان سنوات من الفتح الإسلامي، وهو ينتشر، وأنتم تعلمون أن الفتح الآن خلال أيام يسيرة يفتح عدداً من الدول، لأن الأسلحة متطورة ووسائل النقل سريعة، فبعد فتح روما بثمان سنوات، في السنة الثامنة يخرج المسيح الدجال ، وهو يخرج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً.

    والمسيح الدجال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنته، وقد ابتلى الله الناس به وبما معه؛ فإنه يمر على قرية وهم في نعمة فيكذبونه ويردون عليه ما يزعم، فيأمر أرضهم فتقحل، فتروح عليهم مواشيهم، وهي في غاية الجهد واللواء، ويمر على الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويمر على قوم مسنتين، أي: في جفاف وشدة، فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت فتروح عليهم مواشيهم أسبل ما كانت ضروعاً، ويغزو المدينة فتنزل مسارحه بسباخها، مسارحه أي: جيوشه وأسلحته بسباخها، ويصعد هو على جبل من جبالها فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض قصر محمد، ولا يستطيع دخولها ولها يومئذ سبعة أنقاب على كل نقب ملكان، يردانه لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، ولكنها تنتفض إليه ثلاثاً فيخرج إليه أهلها، وفيهم يومئذ رجل هو خير أهل الأرض وهو رجل من بني هاشم يأتيه فيقول: والله إنك للمسيح الدجال الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقسمه نصفين ويمشي بينهما، ثم يدعوه فيقوم وما به بأس، فيقول: ما ازددت فيك إلا يقيناً، فيضجعه يريد ذبحه، فيجعل الله ما بين ذقنه وترقوته نحاساً فلا يسلط عليه، فهذا الرجل حينئذ هو من خير أهل الأرض، وهو الذي يقف في وجه الدجال ويجادله هنالك، ثم يقاتله المسلمون فينكشف إلى الشام، وينزل المسيح بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في وقت صلاة الفجر، فيدخل المسجد فلا يرتاب فيه اثنان أنه المسيح عليه السلام، فيجد الصلاة قد أقيمت فيقولون: ( يا نبي الله! تقدم فصل، فيقول: ما أقيمت لي )، تكرمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ( وإمامكم يومئذ منكم )، ( لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره )، ويدرك المسيح الدجال بباب لد، وهو مكان مطار تلب أبيب اليوم، فيقتله هنالك ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويسقط الجزية، ويجدد ما عفا من دين محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يحكم بهذا الدين، وبذلك تقع الملحمة الأخرى الثانية؛ فملاحم اليهود التي تنتظرهم أكبرها ملحمتان، إحداهما الملحمة الأولى التي يقتل فيها مقاتلوهم ويفتح فيها بيت المقدس، وذلك في عهد ثاني الخلفاء الراشدين في آخر الزمان، لكن تلك المعركة لا تقضي عليهم بالكلية، فإذا خرج المسيح الدجال اجتمع عليه فلولهم حتى يأتيه سبعون ألفاً من يهود إصفهان على رءوسهم الطيالسة، فيكونون في مقدمة جيشه، وحينئذ يجتمع اليهود من مشارق الأرض ومغاربها إلى المسيح الدجال كما قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104] ، قال: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ[الإسراء:104]، أي: تفرقوا في الأرض، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104]، أي: جمعناكم إلى الشام، وهذا أول الحشر، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ[الحشر:2]، أي: أول حشر اليهود إلى الشام كان بجلاء بني قينقاع من المدينة حين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام.

    ثم بعد ذلك الملحمة الثانية هي قتال المسيح بن مريم لهم عند قتله للمسيح الدجال ، وسيقتلهم قتل عاد وإرم حتى يتكلم الشجر والحجر فيقول: ( يا عبد الله، يا مسلم، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )، وهذه هي الملحمة الكبرى التي يقضى فيها على اليهود بالكلية.

    خروج يأجوج ومأجوج

    ثم بعد ذلك لا شك أن الملاحم ستكثر، وسيأتي كثير من الامتحانات الأخرى؛ كخروج يأجوج ومأجوج، فإنهم يخرجون من كل حدب ومن كل جهة، حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا[الأنبياء:96-97]، فحينئذ يخرج يأجوج ومأجوج، وهم قوم لا قبل لأحد بهم، فيوحي الله إلى عيسى عليه السلام أني مخرج قوماً لا قبل لأحد بهم، فاجمع المسلمين في الشام، فيجتمعون في قلعة فيتحصنون فيها، ويجوس يأجوج ومأجوج في الأرض، ويفسدون فيها إفساداً عظيماً؛ فيدعو عليهم عيسى والمسلمون معه في ليلة من الليالي، فيصيبهم الله بالنغف في رقابهم فيموتون موتة رجل واحد، جميعاً في وقت واحد، فتمتلئ الأرض من زهمهم ونتنهم، فيشق ذلك على المسلمين فيستسقون، فيأتي مطر يذهب بجيفهم ويغسل الأرض غسلاً حتى تعود كالكرسفة البيضاء، وحينئذ تخرج الأرض بركاتها حتى يرتوي البطن أو القبيلة من لبن اللقحة، وحتى يشبعوا من البطيخة الواحدة ويستظلوا بقشرها، فتخرج بركات الأرض في ذلك الوقت.

    غدر الروم بالمسلمين

    وكذلك من هذه الفتن المنتظرة أو الابتلاءات المنتظرة ما يحصل من غدر الروم؛ فإنهم سيغزون المسلمين تحت ثمانين غاية - أي: ثمانين راية - تحت كل غاية ثمانون ألفاً، ويغدرون بالمسلمين، وتقع معهم ملحمة عظيمة، وكذلك منها ما سيقع في العراق من الملاحم؛ فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرات سيحسر عن جبل من ذهب فمن أدركه فلا يأخذ منه شيئاً، وسيقتتل الناس عليه قتالاً شديداً حتى يقتل من كل مائة تسعة وتسعون؛ فيقول الباقي: لعلي أنا آخذه، وقد بين كذلك أن العراق سيحاصر؛ فقال: ( يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قيل: ومن قبل أي؟ قال: من قبل الروم )، والقفيز: المكيال، والمقصود بذلك: أن لا يستورد شيئاً، والدرهم هو الثمن والمقصود بذلك أن يصدر شيئاً؛ لأنه إذا منع من القفيز ولم يستورد لم يكن له أية بضاعة مستوردة، وإذا منع من الدراهم معناه لم يصدر شيئاً من بضاعته هو للخارج أيضاً.

    توالي الخسوفات وهدم الكعبة وخروج نار من قعر عدن

    كذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب هذه الأمة خسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب، وتكون هذه الخسوف في وقت واحد. وكذلك منها ما بينه من غزو الأحباش للكعبة؛ فإن الحبشة ستدور في آخر الزمان بعد يأجوج ومأجوج، فيأجوج ومأجوج في زمانهم الكعبة موجودة، والناس يصلون إليها، لكن بعد ذلك سيثور الأحباش فيخربون الكعبة، فيأتي ذو السويقتين وهو ملك إذ ذاك فيخرب الكعبة ويأخذ كنزها وينقضها حجراً حجراً.

    وكذلك من المصائب العظيمة التي تواجه هذه الأمة في آخر الزمان أيضاً نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر.

    1.   

    مبشرات في آخر الزمان

    ما سبق هذه من ذكر هموم هذه الأمة التي ستحصل ويجب الإيمان بها والتصديق بأنها واقعة لا محالة، ولكنها مع ذلك تضمنت كثيراً من الألطاف الربانية؛ ففيها كثير من الآمال العجيبة.

    ومن هذه الآمال إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ومنها كذلك خروج المهدي ، وهو رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافق اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه، لا يشبهه في خلقه ولكنه يشبهه في خلقه، يصلحه الله في ليلة واحدة، يخرج عند موت خليفة عند حصول فتنة، فيطلبه الناس للبيعة بالمدينة فيفر منهم إلى مكة، فيدركونه بين الركن والمقام فيبايعونه، ويملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، ويمكث في الأرض حكماً سبع سنين، وهذه السنوات السبع التي يحكم فيها المهدي يأمر الله الأرض فيها فتخرج بركاتها، وينتشر فيها المال حتى يهم الرجل من يأخذ صدقته، يخرج الرجل بزكاته أو بصدقته يبحث عمن يقبلها منه، ويثور المال ويكثر، حتى إن رجلين يتبايعان في منزل فيبيعه أحدهما للآخر، فإذا جاءه المشتري وجد فيه كنزاً من ذهب، فيرده إلى البائع فيقول: خذه، فليس لي، فيقول: لا حاجة لي به، فيتنازعان حتى يرفعان الأمر إلى القاضي أيهما يأخذه؛ لأنه لا يريده أحد منهما.

    1.   

    فيضان المال وفتنة السراء

    وإذا فاض المال في آخر هذه الأمة وكثر فإنما ذلك فتنة هي فتنة السراء، وقد جاء فيها أحاديث؛ فقد جاء في الأحاديث التي تأتي بين يدي الساعة منها فتنة السراء، ومنها فتنة الدهيماء، وفتنة الدهيماء فتنة شديدة يشتد فيها الهول على المسلمين حتى يتشكك كثير منهم في وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظنون أن الأمر لا يزداد إلا شدة وأن الله لن يفتح على المسلمين ولن ينصرهم فيما بعد، وأنه لا يبقى منهم موقناً مؤمناً إلا طائفة يسيرة، وهذه الفتنة يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وفتنة الدهيماء تكثر فيها الخيانة؛ فلا يكاد الرجل يأتمن أحداً على شيء، لا يأتمن أحداً على سر ولا على مال، ولا يأمن الرجل أهله في بيته، وكذلك لا يأمن فيها الجيش قائده أن يبيعهم ولا القائد جيشه أن يسلموه لعدوهم، هذه الفتنة تسمى فتنة الدهيماء، وكل ذلك من الفتن التي ذكر الله في كتابه فقد قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]؛ فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه سيبلو هذه الأمة بالخير والشر فتنة لهم وتمحيصاً، وابتلاءً على الصبر على دين الله، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]. ثم يحكم بعد ذلك - وهو الحكم العدل - بالنجاح لمن فاز في هذا الامتحان وبالرسوب لمن رسب فيه.

    1.   

    الحكمة من ابتلاء المؤمنين

    إن كل ما حصل وكل ما يحصل هو بتدبير الله سبحانه وتعالى واختياره، وكله لحكمة بالغة؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، ولا شك أن الإيمان بالغيب الذي خوطبنا به ووصف به المتقون منا في قول الله تعالى: الــم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ[البقرة:1-3]، لا شك أنه مما يرتفع به أهل الإيمان درجات ويحقق الله به موعودهم؛ فمن كان يؤمن بالغيب عرف أن ما يأتي من الشدة والضيق هو من تدبير الله سبحانه وتعالى ومن أمره، وأن ما يأتي بعده أيضاً من النصرة والتمكين كذلك، وعرف كذلك أن كل هذه البلايا إنما الحكمة فيها الرجوع إلى الله والإنابة فقد قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:43]، وكذلك قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41]، فلا بد أن يكون المسلمون دائماً يعيشون بين الخوف والرجاء؛ فهم يخافون أن يكونوا غير محققين لصفات التمكين، ويرجون أن يحقق الله لهم وعده، وبذلك لابد أن يتحسن حالهم ولابد أن يروا من المثبتات ما يثبت الذين يريد الله بهم الخير منهم على طريق الاستقامة.

    1.   

    الصحوة الإسلامية المعاصرة

    الصحوة في الجزائر ومواجهة الفرنسيين

    ولذلك فنحن نعلم أن هذه الأمة غزيت بالغزو الفكري الذي كان أشد من الغزو العسكري؛ فالغزو العسكري احتلت فيه بلاد الأمة وقسمت إلى دويلات، وانتهبت خيراتها، وحكمها حكام من النصارى والكفار؛ فحكموا بلاد المسلمين جميعاً، وبثوا نفوذهم عليها وأقاموا عليها مناهجهم الدراسية واستعمروا أهلها، فلم يكن ذلك نكاية شديدة بهذه الأمة مع ما فيه من المصائب والقتل والنهب الذي إلى الآن لم تسمع به هذه الأمة في كثير من المناطق؛ فمثلاً قريب جداً هنا ما حصل في الجزائر؛ فقد دخلها الفرنسيون في عام 1830من الميلاد؛ فجاء القائد الفرنسي الذي دخلها، فأمسك السكك والطرق على الناس وكان يعرضون جميعاً عليه، فمن أقر أنه فرنسي خاضع لحكم فرنسا سلك، تركه يخرج لطريقه ومن لم يقر بذلك أطلق عليه الرصاص، وقد نهبت خيراتها في ذلك الغزو، ومع ذلك فقد جاهد أهلها؛ فخرج كثير من شبابها وعلمائها حتى عدد كبير من نسائها أيضاً إلى الجبال، وجاهدوا الفرنسيين جهاداً عظيماً، وقام على الفرنسيين خلال الاستعمار سبع وخمسون ثورة، واحدة من الثورات تقودها امرأة، قاتلت الفرنسيين قتالاً شديداً، وآخر تلك الثورات الجهادية هي ثورة الأمير عبد القادر ، وقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله من الواقفين في وجه الفرنسيين؛ فهو الذي يقول:

    شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب

    من قال حاد عن أُصله أو قال مات فقد كذب

    وكان يحض الناس على أن لا يلبسوا ملابس الفرنسيين وأن لا يأكلوا طعامهم، وأن لا يبنوا مثل مبانيهم، وأن يتميزوا عنهم بالكلية؛ فلذلك كاثرهم بالناس حتى لم تترسخ مفاهيم الفرنسيين وحضارتهم في نفوس الجزائريين، حتى استطاعوا إخراجهم في ثورتهم العارمة.

    الصحوة الليبية ومواجهة الإيطاليين

    وكذلك نظير هذا ما فعله الإيطاليون في ليبيا؛ فمن عجائب ما حصل في واحة البيضاء عندما جاء الجيش الإيطالي بدباباته إلى الحي الشعبي الذي خرج منه الشيخ المجاهد عمر المختار رحمة الله عليه، فعرفوا أن أهل هذه الواحة جميعاً من أنصار عمر المختار ، فربطوهم بالحبال وأمروا عليهم الدبابات، تمر على البشر، تكسر عظامهم وتقتلهم بهذه الصورة من الوقاحة والشدة، وعندما أخذوا الإمام عمر المختار رحمة الله عليه أسيراً عندما وقع عن جواده بعد أن قاتلهم قتالاً شديداً، وأنكى فيهم كثيراً من النكايات الموجعة أخذوه أسيراً، وقد كسرت فخذه لسقوطه عن جواده على صخرة، فحملوه وحاكموه وكان صامداً صابراً، ولم يكن يقبل لهم الذلة والمسكنة؛ فشنقوه على مرأى من الناس وشعبه ينظرون إليه. ونظير هذا كثير جداً من المحن والمصائب التي أنتجت بعد ذلك رجالاً من المجاهدين والمضحين.

    1.   

    إرادة الله للتغيير

    انهيار كثير من الأفكار الضالة المنحرفة

    الحرب كانت بالغزو الفكري أنكى من الحرب العسكرية، فالحرب بالغزو الفكري كانت منوعة؛ فمنها الغزو الشيوعي الأحمر، الذي كان حضارة سادت ثم بادت، وقد انتشر في بلاد الإسلام حتى إن كثيراً من أولاد المسلمين أصبحوا يشكون في أمور الدين بالكلية، ولا يصدقون بالله ولا باليوم الآخر، وكثير منهم من أولاد العلماء والصالحين والمجاهدين، ولا شك أن الكبار منكم يتذكرون سنوات مضت في هذا البلد كان أكثر شبابه من الفاسدين الذين لا يرون في المساجد ولا يصلون ولا يؤمنون بالله وباليوم الآخر، كان كثير من شباب هذا البلد المتمدرسين إذ ذاك من هذه الشريحة من الناس، الذين إذا كان أحد منهم يقتنع بأمر الدين يستحيي أن يظهر ذلك الاقتناع أمام الناس، وقد حصل هذا في كثير من مناطق هذا البلد، وبالأخص في المناطق التي استقرت فيها الحضارة، وكان فيها وجود للأجانب؛ كمدينة زويرات ومدينة نواذيب وبعض مناطق مدينة نواكشوط هنا. كذلك الغزو الرأسمالي الذي كان رسمياً مقنناً؛ إذ وضعت المناهج التعليمية في المدارس لترسخه في النفوس، وهكذا أنواع الغزو الذي شمل أطراف البلاد وشمل مختلف الشرائح.

    لكن كانت سنة الله سبحانه وتعالى في مثل هذا النوع أن يكون كالغثاء الذي يجمع السيل ثم يتفرق؛ ولذلك لم تبق للشيوعية باقية، وانهزمت هزيمة نكراء، ورجع الناس ولله الحمد إلى المساجد وإلى الهداية؛ ولذلك تجدون أفواجاً كبيرة من الشباب والنساء الذين كانوا يقصرون فيما مضى، بل كانوا يشكون في أمر الدين أصبحوا الآن يقضون ما مضى من صلواتهم ويرجعون إلى الله تعالى بالتوبة ويتأثرون بسماع القرآن، ويبكون من جراء تذكر ذنوبهم، وهذا كله يدلنا على وعد الله سبحانه وتعالى الصادق، وأن النصرة لهذا الدين لا بد أن تقع وتحقق، وهذه الصحوة المباركة التي تعم بلاد المسلمين اليوم لم تأت بعمل الدعاة ولا بعمل المصلحين، وإنما جاءت بكيد الله ونصرته لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    وأذكر أننا في وقت مضى زرنا بعض البلاد التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت؛ فزرنا مدينة بخارى التي خرج منها عدد كبير من العلماء الكبار؛ كــمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري ، أمير المؤمنين في الحديث، فوجدنا المسلمين فيها ليس لإسلامهم أي مظهر إلا مشيخة كبار، يجتمعون في المساجد لحلق الصوفية، يذكرون بعض أذكارهم وترانيمهم، فبحثنا فوجدنا كثيراً من الشباب الذين اهتدوا يدرسون القرآن والسنة وكثيراً من أحكام الدين في الأقبية تحت الأرض، ويختفون بذلك، وكثير منهم يحمل مصحفه معه في داخل قميصه وهو يخرج إلى المصنع أو إلى المعمل لئلا يطلع عليه أي أحد، وأولئك الشباب قطعاً لم تكن هدايتهم من قبل آبائهم ولا أمهاتهم، بل كثير منهم كانوا يضايقون بذلك. وحتى هنا في المغرب العربي؛ فكثير من الشباب الجزائريين الملتزمين اليوم يدعون على آبائهم وأمهاتهم، وأذكر شاباً منهم أخبرني أن أباه نشأه على الكفر وكان يسقيه الخمر ويجلده إذا امتنع عنه، وأن أمه كانت تعاقبه عقاباً شديداً إذا علمت أنه يصلي؛ فلم تكن هذه الهداية من قبل آبائهم ولا من قبل أمهاتهم ولا من قبل أي أحد دعاهم، ولكن الله قذف في قلوب شباب هذه الأمة اليوم حب هذا الدين والرجوع إليه، فدخل الناس في الدين أفواجاً وسيزداد ذلك لا محالة؛ ليكون ذلك تأهيلاً للخلافة الراشدة التي تقوم في آخر الزمان.

    وأذكر مرة من المرات أننا زرنا في مدينة لننجراد عجوزاً من المسلمين يجتمع حولها الشباب، وكانت تتصدق على طلاب المسلمين من خارج الاتحاد السوفيتي؛ فعرفت بالإحسان وكانت تكتم ذلك وكانت تكتم إسلامها، وهي طبعاً غير متحجبة، لا تستر رأسها ولا أطرافها؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، وإذا زارها أحد من الشباب العرب أو من المسلمين لا يأتي إلا في الخفية، ولا يأتي اثنان في وقت واحد، بل لا بد أن يكون بين دخولهما دقائق؛ لخوفها على نفسها، وكان من الكلام المؤثر الذي قالته تلك العجوز: إنها لو وجدت من يريها المصحف مجرد رؤية، ستعطيه كل مصوغاتها من الذهب، وكان عندنا مصحف فأردت أن أهديه إليها، لكن أحد إخواني نصحني وقال: لا تفعل، فإنها لو علمت ذلك لماتت من حينها، فرحاً به، أي: لو أهدينا إليها مصحفاً لماتت من حينها فرحاً بالمصحف.

    كيد الله ونصرته لدينه

    ولذلك فإن كثيراً من هذا التغير الذي طرأ لم يكن إلا من كيد الله سبحانه وتعالى ونصرته لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من جهود الدعاة ولا من جهود الآباء والأمهات أبداً، وأذكر أن مهندساً كبيراً في الإلكترونيات والاتصالات يعمل الآن في فرنسا من الجزائر أخبرني أنه لم يكن يعرف شيئاً اسمه مسجد في الجزائر إلا أنه يرى مساجد كبيرة مثل مسجد "الجامع الأخضر" ومثل مسجد "القبة" وغيره من الجوامع الكبيرة، يراها ولا يعرف ما بداخلها أبداً، وكان لا ينظر إليها إلا كنظرته إلى الكنيسة، فجاء وقت العصر فإذا والده قد أقبل من مسجد صغير قريب من بيتهم، فقال له: من أين جئت؟ قال: من هذا المسجد، وأخذ بيده فأراه المسجد وهو قريب جداً من بيتهم، في زقاق، قال: من يعمره؟ ومن يسكنه؟ وماذا تعملون فيه؟ قال: أنا وتسعة معي من كبار السن نصلي فيه لله الأوقات الخمس، نصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأخبره بهذه الصلوات، قال: لكن إذا مت أنت والتسعة الذين معك فسيهدم هذا المسجد ولن يصل إليه أحد، قال: لا، سيتوسع هذا المسجد حتى يصل إلى باب دارنا هنا، فهذا المهندس يقول: بالله الذي لا إله غيره لقد خرجنا من تلك الدار توسعة للمسجد. أي: أن تلك الدار أهدوها إلى المسجد توسعة له بعد أن كثر رواده وأقبل الناس عليه، وكان كلما وسع يزداد أهله فيحتاج إلى توسعة أخرى، وهكذا حتى وصل إلى دارهم.

    فهذه بشارات من بشارات الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بما سيعز به هذا الدين وبما سيمكن له فيه.

    وإذا عرفنا أن في هذه الأمة قوماً لهم غيرة على دين الله إذا رأوا من يريد الاعتداء على الدين تحركوا لنصرته وقالوا:

    خل سبيل الحرة المنيعة إنك لاق دونها ربيعة

    فإننا نعلم أن أولئك هم الذين يمكن الله لهم وينصرهم وينصر بهم الدين، ولا شك أن وجود هؤلاء في الأمة ما زال محدوداً يسيراً، لكنه سيزداد لا محالة ويكثر، وهذه سنة الله ووعده، ولابد أن تتحقق، والله تعالى لا يخلف الميعاد.

    الإقبال على تعلم الدين والسؤال عن أحكامه

    إن إقبال الناس أيضاً على تعلم الدين والسؤال عن أحكامه مؤذن كذلك باهتمامهم به؛ فإن الناس في أيام مضت لم يكونوا يسألون عنه من أحكام الدين إلا ما يتعلق بالطلاق والعصم التي تدخلها المشاكل؛ لأن البلدان الإسلامية في أغلبها لم يعد يتحاكم بشرع الله فيها إلا ما يتعلق بأحكام الأسرة، وهذا الذي يسمونه الأحوال الشخصية؛ فلم يعد الناس يسألون عنه من أحكام الدين إلا ما يتعلق بالعصم وما يحصل فيها من المشكلات، وهذا قد حصل في القرن الحادي عشر الهجري؛ ولذلك يقول ابن عاشر رحمه الله وهو من فقهاء القرن الحادي عشر الهجري، وتوفي سنة 1041من الهجرة يقول:

    يزهدني في الفقه أني لا أرى يسائل عنه غير شخصين في الورى

    فزوجان راما رجعة بعد بتة وذيبان راما جيفة فتكاشرا

    يقول: إنه في زمانه لا يسأل عن الفقه إلا أحد اثنين: زوجان راما رجعة بعد بتة: حصل بينهما طلاق الثلاث ويريدان الرجعة، وذيبان راما جيفة فتكاشرا: رجلان حصلت بينهما مشكلة في بيع أو شراء؛ فكل واحد منهما كالذئب الذي يريد أن يأكل جيفة الدنيا، فتكاشرا بسبب ذلك، هذا في زمان ابن عاشر في القرن الحادي عشر، واليوم ولله الحمد أقبل الناس على الأسئلة، ودليل ذلك ما يقدم في نهاية المحاضرات من الأسئلة عن أمور الدين من قبل النساء والرجال والأطفال، وجميع شرائح المجتمع، بل قد أصبح الناس جميعاً يعرفون أن الدين موجه للجميع ولم يعد موجهاً إلى طبقة من الطبقات؛ فقد أدركنا كثيراً من طبقات المجتمع المكلفة، لا تشعر بالتكليف، ولا تعتني بأمور الدين ولا تهتم به، بل تظن أنها خلقت من أجل الخدمة أو من أجل الرعي أو من أجل الزراعة أو من أجل العمل في الآبار ونحو ذلك، وليس لها علاقة بأمور الدين، وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما بعث إليها، وكأن القرآن ما أنزل إليها.

    وهذا التصور الخاطئ كان لكثير من قادة المجتمع وساسته مشاركة فيه؛ فهذا الدين لم ينزل لشريحة من شرائح المجتمع، بل نزل للناس كافة، بل للجن مع الإنس، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة للعالمين جميعاً، للثقلين: الإنس والجن.

    دعوة للرجوع إلى الدين واستشعار الضرورة إليه

    ما من أحد إلا وهو محتاج إلى حظه من هذا الدين، فلابد أن يستشعر الناس ضرورتهم إلى الدين وحاجتهم إليه، ولابد أن يدركوا أن حاجتهم إلى دين الله أكبر وأعظم من حاجتهم إلى أمور الدنيا وإلى ما يتنافس الناس فيه من شئونها، وإذا أدرك الناس الحاجة إلى أمور الدين فستقوم ثورة علمية يرجع فيها الناس إلى مدارسة ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعودون إلى دراسة الكتاب والسنة بعد الإعراض عنهما، ويتخطون ويتعدون كثيراً مما دون ذلك، وهذا إذا حصل فستعود الأمة إلى أصلها ومبدئها؛ كما كان في القرن الأول عندما تمسك الناس بالكتاب والسنة فغلبوا الأمم بذلك، وهذا يقتضي إزالة كل الخبث؛ فكل الأخطاء التي حصلت في المجال العلمي أو في المجال العقدي أو في المجال الاقتصادي أو غير ذلك ستذوب وتزول بالكلية عندما يرجع الناس إلى الأصول ويبحثون عن الدليل، ويعتنون بالكتاب والسنة، ويرجعون إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسيأتي الصلاح حينئذ لا محالة؛ فقد قال الإمام مالك رحمه الله: (إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها)، ولذلك فإن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها؛ فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]؛ فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً).

    فإذاً لا بد أن يرجع الناس إلى ما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المحجة البيضاء، وبوادر ذلك واضحة في المجتمعات اليوم، فالذين كانوا يأكلون بالدين وكانوا يستعمرون الناس ويذلونهم باسم الدين لم يعد لهم اليوم من يعينهم على ذلك بوجه من الوجوه، بل قد أصبح كثير منهم بمنزل السخرية لدى كثير من الناس، وأصبح الناس يعرفون أن الدين هو ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الوحي الذي جاء به جبريل فنزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، وأن هذا الوحي لا يمكن أن يؤتمن عليه المفلسون، ولا يمكن أن يجعل بدار هوان، وأنه أعز ما في هذه الأرض وأسماه؛ فلذلك لا بد أن يرجعوا إليه وأن يتمسكوا به كتاباً وسنة، ولابد أن يأخذوا حظهم من عدل الله سبحانه وتعالى الذي به قامت السماوات والأرض؛ فالله سبحانه وتعالى رفع السماوات بغير عمد بهذا العدل، به قامت السماوات والأرض، وهذا العدل إنما هو شرع الله المنزل، ولا يمكن أن يحكم الناس بعدل مساو له أو ناسخ له أو مغير؛ فكل العقوبات القانونية التي يقترحها البشر ويسنونها لا يمكن أن تكون علاجاً لأي مرض من الأمراض التي جعل الشارع الحكيم لها علاجاً؛ كالحدود والتعزيرات وغيرها، بل لا يمكن أن يقضى على شيء من ذلك إلا بما شرعه الله العليم الخبير، والله سبحانه وتعالى يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]؛ فعلمه محيط بكل ما يقع؛ ولذلك لا يمكن أن يكون الحل إلا من عنده سبحانه وتعالى، فالإسلام إذاً هو الحل لكل هذه المشكلات، وهو الذي يقضي على كل هذه الهموم، وهو الذي يعد بالمستقبل الواعد المحقق للآمال، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وقد قال في محكم التنزيل: إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ[آل عمران:9].

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في قرة عين نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يحشرنا تحت لوائه وأن يبعثنا في زمرته، وأن يسقينا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767944700