إسلام ويب

سبيل المؤمنينللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كتب الله البلاء لعباده في هذه الدار، وبين لهم سبيل النجاة فيها، وهو سبيل المؤمنين، وهو صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، وهو شامل لجميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

    1.   

    سنة الله تعالى في ابتلاء الخلق في الدنيا

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله تعالى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68].

    وقد قال في محكم التنزيل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].

    يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    وقد أراد بحكمته البالغة أن يجعل هذه الدار الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، فجعلها دار امتحان وابتلاء، لا يجد فيه الإنسان سعادةً أبديةً مستمرة، وإنما يبلونا الله فيها بالخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فيتعاقب فيها الخير والشر على الإنسان امتحاناً له وابتلاءً، هل يثبت على طريق الله وسبيله الذي ارتضاه أم يمكث العهد الذي بينه وبين الله فيرتد على عقبيه؟ وقد جعل الله فيها فتناً عظيمة تصرف الذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين عن سلوك طريقه، ولله الحكمة البالغة؛ فلذلك من حكمه في هذه الصوارف التي تصرف الناس عن طريق الحق أنه جل جلاله علم بحكمته أن الناس سينقسمون يوم القيامة إلى قسمين فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105]، وقد ضمن الله للجنة أهلها، وضمن للنار ملأها، فلا بد أن يكون في الدنيا منهم من أهل الجنة، ومنهم من أهل النار، ومنهم من أهل السعادة، ومنهم من أهل الشقاء؛ فلذلك صرف الله الذين لا يرتضيهم بهذه الصوارف فانصرفوا عن سبيل الله، ومنهم من لم ير السبيل أصلاً، ولم يهتم به ولم يرده، ومنهم من رآه ولم يصل إليه، ومنهم من رآه ووصل إليه وأراده ولكنه لم يسلكه، ومنهم من رآه وأراده وسلكه لكنه تساقط عنه في الأثناء، وقليل منهم من سلكه ثم وصل.

    وهذه الصوارف تعهد الله بها إذ قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

    وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

    والذين ارتضى الله تعالى سلوكهم لهذا الطريق يختارهم له ويختاره لهم ويثبتهم عليه، قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    فأولئك يوفقهم الله سبحانه وتعالى لسلوك طريق الحق، ويختارهم له، فهم قبل خلقهم قد اختيروا وهيئوا لسلوك الطريق، فجاءت جوارحهم منقادةً للطاعة، وجاءت قلوبهم مطمئنةً بالحق، لا يشكون ولا يرتابون، وهم مهيئون قبل الخلقة لأن يكونوا من أهل الجنة، ولأن يسلكوا طريق الجنة؛ ولذلك إذا ابتلوا بأنواع البلاء فإنه لا يصرفهم عن طريقهم الذي سلكوه واختاروه قيد أنملة، كما قال أحد سلفنا الصالح وهو الزبيري رحمه الله لما أتاه بعض المبتدعة يجادله في العقيدة قال:

    أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

    فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

    صلى الله عليه وسلم، فيصبرون على سلوك طريق الحق، ويستمرون عليه، وهم بذلك يعلمون أنهم سيتعرضون للكثير من الامتحانات، فقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].

    1.   

    الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لعباده

    وهذا السبيل بينه الله سبحانه وتعالى أتم بيان، فأرسل به الرسل، وأقام عليه الحجج، وقفى على آثار الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهي صراط دنيوي هو تنزيل للصراط الأخروي.

    مشابهة سبيل المؤمنين للصراط الأخروي

    وهذا الصراط لا شك مماثلته للصراط الأخروي تقتضي مشابهةً في بعض الجوانب، فهو دقيق جد ومسلك وعر، كما أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يسقط من كلوب الواحد منها سبعون ألفاً في قعر جهنم، فكذلك هذا الصراط المستقيم السوي فيه نكبات وعقبات، ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، لا بد أن يجد فيه الإنسان عناءً ومشقةً؛ ولذلك فإن الشيطان يحاول صرفه عنه وجبهته مفتوحة، والنفس الأمارة بالسوء تحاول صرفه عنه وجبهتها مفتوحة، وإخوان السوء والقرناء يحاولون صرف الإنسان عنه وشغله عنه وجبهته المفتوحة، ومفاتن الدنيا وشهواتها جبهة رابعة، وبعد ذلك نعم الله سبحانه وتعالى المتوافرة المتواترة جبهة خامسة، إذا ركن إليها الإنسان أخذ بها ولم يشكرها لله شغلته عن طاعته وذكره كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

    اختيار الله لسبيل المؤمنين وبيان مراتبه

    وهذا الطريق طريق اختاره الله سبحانه وتعالى ولم يشاورنا في اختياره، فعبده ومهده، وجعله موافقاً للفطرة موافقاً للعقل، كافلاً لكل المصالح، غير معطل عن الحكم، فلم يحل الله سبحانه وتعالى شيئاً إلا لمصلحة بني آدم، ولم يأمر بشيء إلا لمصلحة متمحضة لا وجوباً ولا ندباً، ولم يحرم شيئاً إلا لضرر متمحض، ولم يكره شيئاً وينهى عنه نهياً دون ذلك إلا لضرر فيه، ومن هنا فأصل هذا السبيل هو الإيمان، وهو بمثابة الحياة في جذع الشجرة، ثم فوقه اللحاء الذي دون القشرة وهو الفرائض التي لا بد من امتثالها، والكبائر والفواحش التي لا بد من اجتنابها، وفوق ذلك القشرة قشرة جذع الشجرة وهي السنن والمندوبات التي ينبغي امتثالها، والمكروهات وخلاف الأولى التي ينبغي اجتنابها، وإذا خرقت القشرة فإنه سييبس ما يقابلها من اللحاء، ثم ييبس ما يقابل ذلك من الجذع، ثم تتأثر ثمرة الشجرة في كل عام بما نقص من جذعها، فإذا حصل الخرق فخرق اللحاء بالكلية فسيدب الخلل والخراب في الجذع من أصله، وبذلك تموت الشجرة ولو كان الموت بطيئاً بالتدريج، ومن هنا فإيمان الإنسان محوط بهذه الأسوار، فإذا ارتكب الإنسان فاحشةً أو كبيرة أو ترك فريضةً من فرائض الله فإن إيمانه عرضة للهلاك بالكلية، وإذا لم يفعل ذلك ولكنه ارتكب صغيرةً من اللمم أو وقع في مكروه أو خلاف أولى، أو ترك سنةً أو مندوباً عمداً فإن ذلك ينقص لحاء الإيمان أيضاً السور الذي بعد السور الأول يتأثر بذلك، ومن هنا فهذا السبيل مدرج بهذا التدريج، فقد شرع الله شرائع منها الفرائض التي لا يمكن تضييعها، وحرم أشياء فلا يمكن ارتكابها، وحد حدوداً فلا يمكن تعديها، وسكت عن أشياء رحمةً بالعباد وهي الأمور الاجتهادية، فهذه إذا ترجح لدى الإنسان فيها شيء عمل بمقتضى ما ترجح لديه من الدليل، وإذا لم يترجح لديه شيء فترددت بين الإباحة والتحريم فهنالك الورع؛ ولذلك أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

    أقوال العلماء في المشتبهات بين الحلال والحرام

    وهذه المشتبهات التي هي بين الحلال والحرام قد اختلف أهل العلم في تفسيرها على خمسة أقوال:

    القول الأول: أنها المكروهات وخلاف الأولى، أي: ما نهى الشارع عنه نهياً غير جازم، فهذه لا يعاقب مرتكبها، ولكنها نقص في إيمانه وضرر يصل إليه، ولو كان ذلك الضرر طويل الأمد بالتدريج، فإذا لم يكف الإنسان لسانه عن اللغو، واللغو غير حرام، لكن إذا لم يكف الإنسان لسانه عنه فسيقسو قلبه، وقسوة القلب ضررها بين على الإيمان، ومثل ذلك كل ما هو مكروه إذا تعمده الإنسان فلا بد أن يصل إلى قلبه شيء من الضرر، وهكذا إذا ترك سنةً أو مندوباً أياً كان تجاسراً فإنه لا يعاقب بسبب الترك، ولكن ترك المندوب وترك السنة لهما شؤم يصل إليه، وهذا الشؤم يصل منه الضرر إلى الإيمان ولو كان ذلك على الأمد البعيد، فإذا ترك الإنسان ما كان يفعله من قيام الليل ليلةً أو ليلتين فسيشق عليه قيام الليل فيما بعد، وإذا ترك صياماً كان يصومه فسيشق عليه الصيام فيما بعد؛ ولذلك ( كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة )، وبين: ( أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )، وقال: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وهذا يدلنا على أن أفعال الخير ينبغي أن تكون متتابعةً متواترةً، وأن يحرص الإنسان على ما وفق له منها، ومن رزق في باب فليلزمه، فمثلاً إذا كان هناك درس في يوم في الأسبوع في وقت محدد فشهده أحدهم فنفعه الله بما انتفع به منه، فليعلم أنه باب خير فتحه الله له، فليأته بصفة اعتيادية وعلى وجه دائم، إذا رزق مثلما رزق أولاً فذلك بفضل الله ورحمته، وإلا فقد بذل الأسباب كما يبذل الناس جميعاً أسبابهم في التجارات، فتارةً يرزق الإنسان، وتارةً يخسر، لكن كل ذلك بقدر.

    القول الثاني: إن المشتبهات هي ما سكت عنه ولم يرد فيه نص، لا من كتاب ولا من سنة، كالأمور المتجددة، والحوادث التي تنزل في حياة الناس في تاريخهم الطويل، ولم يرد فيها نص من كتاب ولا من سنة، فتبقى حاملةً للاجتهاد، وقابلة للحمل على أي وجه من وجوه القياس.

    القول الثالث: إن المشتبهات هي ما اجتمع فيه الحلال والحرام من الأموال ونحوها، كمعاملة من بعض ماله حلال وبعض ماله حرام، وأخذ التبرعات منهم، فهذا جمع ماله حلالاً وحراماً فكان مشتبهاً من المتشابهات.

    القول الرابع: إن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة، فوجدنا دليلاً صحيحاً صريحاً يقتضي النهي عنه، ووجدنا دليلاً صريحاً صحيحاً يقتضي الأمر به، وحينئذ يحتاج إلى أهل الرسوخ في العلم؛ لأنهم يعلمون أوجه الجمع، وإذا عجزوا عن الجمع ذهبوا إلى الترجيح، وإذا عجزوا عنه ذهبوا إلى النسخ، ولهم مندوحة بل لهم مناديح كثيرة في ذلك؛ لأنهم يمكن أن يحملوا على التخصيص، أو على النقل، أو على الاشتراك، أو على المجاز، أو على النسخ، وهي محامل عند تعارض الألفاظ وهي التي تسمى عند الأصوليين بتعارض مقتضيات الألفاظ وهي خمسة، وهذه الخمس متدرجة في جدول ثلاثي الأبعاد لدى الأصوليين معروف.

    القول الخامس في تعريف المشتبهات: أنها ما اختلف فيه أهل العلم، فكل مسألة اختلف فيها العلماء بين مبيح ومحرم فتكون من المشتبهات، ويكون الورع خروجاً من الخلاف، وأن يخرج الإنسان من الخلاف فيأخذ بالاحتياط؛ لأنه قال: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، واستبرأ معناه طلب البراءة لدينه وعرضه، والبراءة هي النقاء والطهارة، فيكون بذلك بريئاً من المعصية؛ لأنه طلب الأشد فأخذ به، فلا يرى أحد بطلان صلاته، أو لا يرى أحد حرمة بيعه، أو لا يرى أحد بطلان نكاحه؛ لأنه أخذ بالأشد والأقوى، وهذا الورع ليس واجباً، ولكن مع ذلك به تتفاوت منازل المتقين.

    موقف أصحاب الهمم العالية من المؤمنين يوم القيامة

    والناس في هذه الحياة من امتحانهم امتحان يسمى امتحان الهمم، وهو من سبيل المؤمنين، فالمؤمنون منهم ذوو الهمم العالية الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، وبغيتهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، ويريدون جوار النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ويريدون في الحياة الدنيا أن يعبروها كأنها لجج وأمواج، وأن يعبروها بسلامة وطاعة، فيجعلونها زاداً للدار الآخرة، ويريدون أن يرزقهم الله حسن الخاتمة فيها والتخلص من شأنها، ثم بعد ذلك يريدون الفرح عند لقاء الله، ويريدون أن تكون قبورهم رياضاً من رياض الجنة، وأن تملأ عليهم خضر ونور وروح وريحان، وأن تكون خير بيت يعمرونه، وأن يكون الموت خير غائب ينتظرونه، ويريدون أن يحشروا آمنين ناجين، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103]، فهم يريدون قوة إيمان عجيبة تقتضي شجاعةً وقوةً عجيبة.

    ومن المعلوم أن الإنسان الآن العادي مهما بلغت شجاعته إذا سمع صوت الرعد القاصف أو الصاعقة الشديدة لا بد أن يرتاع لها، وإذا سمع صوت اصطدام سيارات هائل يرتاع لها، وإذا رأى حريقاً هائلاً مدوياً يرتاع له، وإذا سمع انفجاراً كبيراً يرتاع لأجله، فكيف إذا سمع تشقق السموات السبع وهي يومئذ واهية؟ تتشقق كما تتشقق الملابس، وسمع طي التراب وهي تطوى فتكون خبزةً يتكفؤها الجبار بيمينه نزلاً لأهل الجنة، ورآها تنفض كما ينفض الجراد، فتخرج منها أثقالها فلا يبقى فيها معدن، ولا يبقى فيها ميت، ولا يبقى فيها كنز إلا أخرج، وتزول الجبال فتكون كالعهن المنفوش تكفئها الرياح يميناً وشمالاً، وتزول الأودية فتستوي الأرض جميعاً، فإذا وقف الواقف في طرفها رأى طرفها الآخر، ثم بعد ذلك يسمع الصيحة العجيبة المدوية التي تملأ السموات والأراضين، وهي صيحة الفزع التي يصعق لها الخلائق، ثم بعد ذلك يسمع الصيحة الأخرى التي تتشقق بها الأرض عن الأموات فيقومون لرب العالمين، يخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويرى الملائكة عياناً بياناً، ويرى حشر الخلائق فيرى الناس يخرجون من قبورهم وتنبت أجسامهم، وتركب أناملهم وعظامهم، ويرى المكان الواحد الذي كان مألوفاً لديه معروفاً، ما بين بيتك وبين المسجد تراه يخرج منه الملايين من البشر كانوا أمواتاً فيه على مر العصور، ويرى في أطراف بيته وأنحاء المكان الذي يعمره أمواتاً يخرجون، وقد كان يعيش بينهم ومعهم، فهذه أمور مروعة مفظعة، وكل ما وراءها فهو أفظع منها، فأعظم من ذلك أن تأتي الساهرة فيرى الشمس قد كورت فوق رأسه حتى تكون كالميل، ويرى جهنم على ضخامتها وكبر شأنها يقودها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة بأزمتها وهم يجرونها جراً شديداً على شدتهم وقوتهم، وهم يجرونها جراً شديداً حتى تحيط بالناس من كل جانب، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24].

    فمن كان من أهل الاستقامة على هذا السبيل السوي وعلى هذا الصراط المستقيم لا يفزع يوم يفزع الناس، فيستثنيهم الله تعالى من الفزع، فحينئذ يفزع الناس إلا هؤلاء الذين استثناهم الله، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]، فهؤلاء لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يرتاعون لهذا الهول المروع، ويثبتون ثباتاً عظيماً، وهم يسيرون في أمر وطمأنينة إلى رب العالمين.

    جعل العراقيل على سبيل المؤمنين

    هذا السبيل الذي هو تنزيل للسبيل الأخروي العراقيل والعقبات التي عليه مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب مفتحة في سورين محيطين بهذا الطريق، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه، وفوق السورين داعي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه )، وهذه الأبواب هي بنيات الطريق: المآثم، البدع، والكبائر، هذه بنيات الطريق، وهي أبواب مفتحة يسهل الدخول فيها، وعليها ستور، وهي فطرة الإنسان ووازعه الديني الذي يحول بينه وبين الاقتراف والاعتراف، ثم بعد ذلك منادي الله ينادي: (يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه) وفي كل باب داع يدعو إليه، فالدعاة على أبواب جهنم هم الذين يدعون إلى الكبائر والفواحش والآثام، فمنهم من يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات، ومنهم من يدعو إلى الخمور والمخدرات، ومنهم من يدعو إلى الربا وأكل مال الناس بالباطل، ومنهم من يدعو إلى الكذب والنميمة والغيبة والسخرية والفحشاء، ومنهم من يدعو إلى التهاون بشأن الصلاة، ومنهم من يدعو إلى التهاون بشأن العلم وطلبه، ومنهم من يدعو إلى التهاون بشأن الدعوة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، كل يدعو على باب من أبواب جهنم حجب عنه بستر وهو يريد أن يدخله وأن يدخل معه من أطاعه، وإذا دخله لم يخرج منه؛ لأنه سيزين له، فكل من اقترف شيئاً مما سوى سبيل المؤمنين يزين له ذلك الذي اقترفه فيظن أنه هو الصواب، وأنه هو الحق، وأنه هو الدين، وأن ما سواه هو الباطل المحض، فيستمر على باطله مفتوناً به فتنةً عظيمةً.

    ومن أغرب ذلك أن كثيراً من المفتونين من المعلوم أنهم يحبون الجنة ويكرهون النار، وأنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً إذا رجعوا إلى قرارة أنفسهم عرفوا أنهم يحبونهم حباً شديداً، ولكنهم مع ذلك يزنون به الرجال، فيعدلون عن قوله إلى قول الناس، فتعجب لشأنهم إذا رجعوا إلى قرارة أنفسهم قالوا: لا أحد أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن نساويه بأي رجل آخر، ولكن إذا جاء قوله وجاء قول الرجال الآخرين أخذوا بأقوال الرجال وتركوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا من الفتنة العجيبة عن سبيل المؤمنين.

    ضيق سبيل المؤمنين واتساعه

    وهذا السبيل كذلك لا بد من بيان أن فيه ضيقاً في بعض الطريق واتساعاً في بعضه، ففي بعض الطريق يأتي الضيق حيث يأتي النص القاطع بالوحي الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وحينئذ لا معدل عنه، ولا يمكن أن يميل عنه الإنسان يميناً ولا شمالاً إلا ضل، ويأتي الاتساع في الطريق في موضع آخر، فلا يأتي النص صريحاً أو لا يأتي صحيحاً، أو لا يرد أصلاً، فيبتلي الله المؤمنين حينئذ باجتهادهم، وهم مأجورون عليه جميعاً، من أصاب منهم له أجران، ومن أخطأ له أجر، وحينئذ فسحة للخلاف، يمكن أن يختلفوا في ذلك الموقع، ويسامح بعضهم بعضاً؛ لأنه يعلم أن الأمر غير محسوم وغير مضيق، فإذا وصلوا إلى المكان المضيق الذي جاء فيه النص اجتمعوا ولم يفترقوا، ثم بعد ذلك إذا وصلوا إلى التوسعة تفرقوا واتسعت بهم السبيل، ثم يأتي مكان آخر يضيق النص فيه فيرجعون إلى النص.. وهكذا.

    وهذا السبيل لا تظنون أنه بمثابة شارع واحد متساوي الأطراف والأبعاد، عرضه من جميع الجهات واحد، بل في بعض الأحيان يتسع اتساعاً كبيراً عندما يضيق الأمر، وفي بعض الأحيان يضيق فيفرض على جميع السالكين له أن يمروا من هذا المضيق، ولا معدل لهم عنه، وذلك حيث لا ضرر بسلوكهم بالطريق من هذا المكان، لا ضرورة ولا حاجة تنزل منزلة الضرورة، ولا تختلف الظروف في أي زمان ولا أي مكان، فحينئذ يضيق الشارع، وهذا يدلنا على أن هذا التشريع هو من حكمة الجبار جل جلاله، فهو العليم الخبير الحكيم؛ فلذلك يوسع حيث نحتاج نحن إلى التوسعة، ويضيق حيث نحتاج نحن إلى التضييق، والله سبحانه وتعالى غني عنا وعن عبادتنا، فلو ضل جميع الخلائق ولم يسلكوا الطريق لما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو اهتدوا جميعاً فسلكوا الطريق، واستبقوا فيه، لما زاد ذلك في ملكهم شيئاً؛ ولذلك ثبت في الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى يقول: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً ).

    فهو الملك الديان جل جلاله، ونحن عباده، نبوء له بنعمته علينا، ونبوء بذنوبنا، ونعلم أن من اهتدى منا فبهدى الله سبحانه وتعالى وفضله ورحمته، وأن من ضل منا فبعدل الله سبحانه وتعالى، لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].

    الحرص على اتباع سبيل المؤمنين

    ومن هنا لا بد أن نحرص على سبيل المؤمنين، وأن نلزمهم، فهذه الدار بنيت على صراع أبدي بين الحق والباطل، لا يتوقف هذا الصراع. أحصوا في كل عصر من العصور سكان الأرض فستجدونهم مقسومين إلى حزب الله وحزب الشيطان، وما من عصر من العصور إلا وجميع سكان الأرض ينقسمون إلى هذين القسمين، لا عبرة بتقاسيمهم الأخرى أن هذا غني وهذا فقير، وأن هذا حاكم وأن هذا محكوم، وأن هذا عالم وأن هذا جاهل، وأن هذا طويل وأن هذا قصير، وأن هذا أبيض وأن هذا أسود، وأن هذا مالك وأن هذا مملوك، هذه التقاسيم لا عبرة بها؛ لأنها مؤقتة ومدة بقائها فقط مدة الحياة الدنيا، فإذا وقفت على المقبرة فهل تجد فرقاً بين من كان جميلاً ومن كان قبيحاً في القبور؟ هل تجد فرقاً بين من كان مالكاً ومن كان مملوكاً؟ هل تجد فرقاً بين من كان عالماً ومن كان جاهلاً؟ هل تجد فرقاً بين الأبيض والأسود؟ لا تجد أي فرق، فدل ذلك على أن هذه الفروق الدنيوية مدتها مثل مدة ركوبنا في سيارة تسافر من هنا إلى نواكشوط، فبعضنا يركب في مقدمها، وبعضنا يركب في مؤخرتها، فإذا وصلنا إلى نهاية المشوار نزلنا، فلا الذي كان في المقدمة توضع عليه علامة أنه كان في المقدمة، بل قد نزلنا جميعاً وأتينا رفقةً واحدة، وكذلك حال أهل الدنيا يتفاوتون هذا التفاوت اليسير الذي ليس مدعاةً للفخر، ولا للخيلاء ولا للتكبر، فهم جميعاً بمثابة الأواني والصحون يجعل الله فيها ما يشاء، فيجعل في هذا عسلاً، ويجعل في هذا صبراً وحنظلاً، ويجعل في هذا ماءً ملحاً أجاجاً، ويجعل في هذا ماءً فراتاً بارداً، ويجعل في هذا سمناً، ويجعل في هذا غثاً.. وهكذا، فله الحكمة البالغة في ذلك.

    سبيل حزب الله

    فإذا عرفنا هذا عرفنا أننا جميعاً كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً، بمختلف الأجناس والألوان والشرائح والمستويات، وبمختلف التخصصات كذلك لنا سبيل واحد، وإذا افترقنا فهذه الفروق ستكون ضئيلة ضعيفة ومدتها محدودة، بمجرد انتزاع الروح من البدن نستوي جميعاً فيما يتعلق بالظاهر وما نراه من شأن الدنيا، ويبقى بعد ذلك التفاضل فقط بين حزبين حزب الله وحزب الشيطان.

    فحزب الله مهمتهم في هذه الحياة أنهم يريدون إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، وإظهار هذا الدين، وهم يعلمون أنهم خلقوا من أجل حكمتين بالغتين: إحداهما تختص بالإنس، والأخرى مشتركة بين الجن والإنس، فالحكمة المختصة بالإنس هي الاستخلاف في الأرض، والحكمة المشتركة بين الجن والإنس هي تحقيق العبادة لله فيها، فالحكمة الأولى شرف الله بها آدم وذريته؛ ولذلك قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وقال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29].

    والحكمة الثانية مشتركة بين الإنس والجن كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على ما صنع وخلق من أجله فيحقق هاتين الحكمتين معاً، وهو يعلم أن كل جهاز صنع بحكمة محددة، إذا لم يؤد تلك الحكمة التي من أجلها صنع فليس له فائدة ولا ثمن بل يرمى في القمامة، فهذا الجهاز لماذا صنع؟ لمعرفة الوقت، فإذا توقف ولم يدل على الوقت، فهل يشتريه أحد منكم؟ وهذا الجهاز لماذا صنع؟ لتسجيل الصوت، فإذا لم تكن فيه هذه الحكمة فهل يشتريه أحد منكم؟ وأين موضعه؟ القمامة، يرمى في القمامة، والإنسان خلق لماذا؟ لهاتين الحكمتين البالغتين، فإذا تعطلتا معاً فلا خير فيه أبداً ويرمى في القمامة، وإذا تحقق فيه بعضهما ولو بصفة نسبية فإنما يحب على قدر ما فيه، ويزداد ثمنه وتزداد قيمته بقدر ما فيه من تحقيق هذه الحكمة، فالذي هو عابد لله جل جلاله من العباد المعروفين بالعبادة، فهذا لا شك أن قيمته كبيرة بحسب ما أداه مما صنع من أجله، والذي يحقق الاستخلاف في الأرض فهو ساع ليله ونهاره في عمارة الأرض والعدالة فيها، ونفع أهلها، وأن يكون نافعاً ويترك فيها بصماته لا يدع مجالاً من مجالات حياة الناس إلا وكانت له مساهمة في الإصلاح فيه، فهو مصلح في السياسة، مصلح في الاقتصاد، مصلح في الاجتماع، مصلح في العلم والثقافة، مصلح في الزراعة والصناعة، مصلح في كل أوجه حياة الناس، فهذا لا شك أنه أيضاً تزداد قيمته بحسب ما أتقنه مما خلق من أجله.

    1.   

    أقسام الناس في الحياة الدنيا

    ولذلك تجدون أن الناس في هذا الباب ينقسمون إلى قسمين:

    الذين لا حظ لهم مما خلقوا من أجله

    القسم الأول: الذين لا حظ لهم مما خلقوا من أجله، ولم يصنعوا أي شيء مما خلقوا من أجله، فهم غافلون سادلون، يعيشون في هذه الحياة الدنيا كما تعيش البهائم والدواب، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].

    وقالى تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].

    فإذاً ضرب لهم المثل بالأنعام، وضرب لهم المثل بالكلب، وضرب لهم المثل بالحمار، وضرب لهم المثل بأنهم شر الدواب، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23]، وذكر أنهم شر من جميع الخلائق، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، أي: شر ما برأه الله أي: خلقه، فهؤلاء لم يفعلوا شيئاً مما خلقوا من أجله فكانت حياتهم ضياعاً ليس فيها فائدة، إذا رأى أحدنا حماراً يركب عليه الأولاد ويضربونه ويؤذونه، فهل يرضى أن تكون حياته كحياة هذا الحمار؟ إذا كان عاقلاً لا يرضى ذلك، ومن لا يصنع ما خلق من أجله لا معنى لحياته فحياته كحياة الحمار تارةً يجد لذةً، وتارةً يجد ألماً، ولكن لا يجد نتيجةً لحياته ولا ثمرةً لها أبداً، إذا مات انتهى؛ ولذلك فأنت تضجع الكبش وتذبحه، ولو كان لحياته معنىً لما استطعت أن تفعل ذلك؛ لأنها حياة وله روح، لكن روحه لمجرد المتعة يجد اللذة ويجد الألم، ويتعاقبان عليه حتى يموت، ليس لحياته معنى، وليس له رسالة في الحياة ولا شأن فيها، وإذا جاء وقت الزوال لم يركع ولم يسجد ولم يلب نداء المسجد، وإذا جاء وقت الدلوك لم يلب نداء المنادي في المسجد، وإذا جاء وقت الغروب لم يلب نداء الله في المسجد، وإذا جاء وقت غروب الشفق لم يأت للصلاة، وإذا طلع الفجر لم يأت للصلاة، فإذاً هذا بهيمة، كذلك المعرضون عن منهج الله هم مثل البهائم، إذا سمعوا حي على الصلاة حي الفلاح صمت آذانهم فلم يأتوا، لم ترهم في المسجد، وإذا جاء وقت عبادة من العبادات لم يشعروا بها كأن الوقت ما دخل، فما الفرق بينهم وبين البهائم؟ حياتهم كحياة البهائم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، يجدون اللذة كما يجدها الإنسان، ويجدون الألم كما يجده الإنسان، لكن لا معنى لذلك ولا أثر له، وهؤلاء المعرضون عن منهج الله المصروفون عنه، وأشدهم صرفاً الذي لا يشعر أنه مصروف؛ ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاءً من حجبه الله عن سبيله، وأشد أولئك بلاءً من لم يدرك ذلك، فهو محجوب عن الله ولا يشعر أنه محجوب، لا يشعر بنقص في حياته، ولا يشعر بشيء قد فقده، وقد قال أحد الحكماء:

    ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر

    وبقيت في خلف يزكي بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور

    أبني إن من الرجال بهيمةً في صورة الرجل السميع المبصر

    فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر

    فلا يدور أمر الآخرة في خلجه، لا يتذكر أنه سيحمل على الرقاب غداً أو بعد غد إلى الدار الآخرة، لا يتذكر ضغطة القبر وضمته، لا يتذكر ظلمته عندما يكون في مراتع الدود وبين الأجداد واللحود، لا يتذكر سؤال منكر ونكير، لا يتذكر يوم يقوم من قبره عندما ينشق عنه، لا يتذكر القيام على الساهرة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، لا يتذكر الوقوف بين يدي الجبار جل جلاله: ( إنكم ملاقو الله حفاةً عراةً غرلاً مشاةً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، لا يتذكر مجيئه وطائره معقود في عنقه وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14]، لا يتذكر تطاير الصحف عند الوزن وهو يرى الميزان بين يديه له كفتان ولسان كفة للحسنات، وكفة للسيئات، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:102-104].

    فتجده مقبلاً على المعاصي، يستبرئها ويستلذها، فإذا نال معصيةً فرح بها، وكثير من الذين يأكلون الربا الآن إذا نال أحدهم صفقةً ربوية فرح بها فرحاً شديداً؛ لأنه لم يخطر بباله أنها ثقيلة في كفة السيئات يوم القيامة، وإذا تحمل ديناً أو أخذ مالاً من أموال المسلمين يفرح بذلك وهو لا يعلم أنه ثقيل ثقل الجبل في كفة السيئات يوم القيامة، وإذا قال كلمةً فيها غيبة أو نميمة فضحك الناس فرح بذلك وهو لا يعلم ثقلها في كفة السيئات، وإذا فاتته الصلاة في وقتها، ونام عنها فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، أو استيقظ ولم يصل وفرط، أو ترك الوضوء وهو قادر عليه، أو ترك الغسل وهو قادر عليه، أو ترك تعلم الحكم وهو قادر عليه، فهو معرض عن القرآن يسمعه فلا يتأثر به، هذا القرآن العظيم الذي لو نزل على الجبال لتصدعت من خشية الله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، لا يتفكر به، ولو سمعه كاملاً من ألفه إلى يائه لم يتأثر له، ولم تقشعر له بشرة، ولم يتحرك له ضمير، ولم يرتعش له فؤاد، ولم تقطر له دمعة، ولم يتأثر أي تأثر بهذا القرآن، فهؤلاء هم المصروفون عن سبيل الله، وهم يعيشون معيشةً ضنكاً في هذه الحياة، ولو رآهم الناس أهل سعادة فالواقع أنهم أهل شقاء، فالأيام والليالي تمر وهي تكتب عليهم، والتقارير تقدم عنهم إلى الرب جل جلاله، يأتي الملكان في الصباح بعد صلاة الفجر: يا رب! عبدك فلان لم يصل صلاة الفجر، ويأتي الملائكة في صلاة العصر: يا رب! عبدك فلان ارتكب كذا، ويأتي الملائكة في الصباح ويأتون في المساء وهكذا، وتتراكم التقارير عند الله، فيبدأ التأثر على الجوارح فتقعد عن الطاعة، ولا تهتم بها، ويبدأ التأثر في الجوارح فتنقاد إلى المعصية، فالعين لا يستطيع أن يكفها عن محارم الله، والأذن لا يستطيع أن يكفها عن محارم الله، واليد والفرج والرجل والبطن لا يستطيع أن يكفها عن محارم الله؛ لأنها انساقت وراء المحارم، فانقطع الحبل الذي كان بينه وبينها، فانطلق في طريق المعصية، وعدل عن منهج الله جل جلاله؛ فلذلك ليس هؤلاء أهل سعادة أبداً، بل هم أهل الشقاء؛ ولذلك من كان من أهل العقل والإدراك لم يحسدهم على ما هم عليه بل رحمهم وسعى لتخليصهم مما هم فيه، انظروا إلى حال قارون آتاه الله من أنواع المال ما آتاه، فكانت كنوزه تملأ المخازن الكبيرة، ومفاتيحه تنوء بالعصبة أولي القوة ولا يستطيعون حملها، وعنده دار ضخمة ينظر إليها الناس فتنكسر لها قلوب الفقراء، فكان الفقراء يظنونه في سعادة وأنه صاحب رخاء، فيقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [القصص:79-80]، ثواب الله خير مما عند قارون وما هو فيه، والنتيجة هي ما جاء في الأخير فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:81-83].

    الذين يسلكون منهج الله ويرتضون سبيله

    القسم الثاني: الذين يسلكون منهج الله ويرتضون سبيله، وعليهم عناء، وعليهم تكاليف، وعليهم مشاق، وهم عرضة لكثير من الفتن والمحن والبلايا، ولكنهم مرتاحون سعداء؛ لأنهم يعلمون النتيجة، فلم يصبهم شيء إلا كان خيراً لهم، ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء وشكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء وصبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )، حتى الشوكة يشاكها يثاب عليها، وهو محتسب لكل ذلك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:120-121].

    ولذلك يجد العباد لذة المناجاة ولذة الأنس بالله تعالى، فلا يعدلها شيء من أمر الدنيا، إذا قام أحدهم والناس نيام وهو يسمع شخير الناس عن يمينه وشماله، أو يحس به، يحس أن أهل هذا البيت نائمون الآن، وأن أهل هذا البيت نائمون، وأن البيت الذي بينه وبين القبلة أهله نائمون، وأن البيت الذي وراءه أهله نائمون، ويوفق هو لذكر الله فيقوم عن فراشه يتجافى جنبه عن مضجعه ويتوضأ ويصلي، ويقبل على الله ويعفر جبينه لله في هذا الوقت ولا يراه أحد إلا الله، فلا شك أنه ينال سعادةً ولذةً عجيبةً بالأنس بالله جل جلاله، ويشعر بالتقريب والرحمة، ويشعر أن الجبار جل جلاله يضحك إليه، فالله تعالى يضحك إلى القائم في الصف وإلى المصلي في جوف الليل، تعالى ربنا جل جلاله.

    فسعادته بذلك عجيبة، وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. فهذا ألذ من جميع لذات الدنيا، يجد أهل الذكر لذةً بالذكر لا يعدلها شيء، ويجد أهل العلم لذةً بالعلم لا يعدلها شيء، ويجد المرابطون في المسجد في انتظار الصلاة بعد الصلاة لذةً لا يعدلها شيء، وهؤلاء في عافية اختار الله لهم أفضل السبل وأيسرها، وقد ضمن الله لهم العيش الحميد، فإنه ضمن لهم في هذه الحياة أن يعيشوا عيشاً حميداً حين وفقوا لهذه الطاعات، وإذا أدركوا ما أعد الله لهم في الآخرة، ولم يدركوه قطعاً في الحياة الدنيا فسعادتهم أكبر وأعمق؛ ولذلك قال الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:16-18]، فهناك فرق شاسع بين الطائفتين، وفرق كبير بين السبيلين: سبيل المؤمنين وسبيل حزب الشيطان المعتدين الضالين؛ ولذلك فحزب الله هم المفلحون، وهم الغالبون، وحزب الشيطان هم الخاسرون، وهذا حكم الله جل جلاله، قد تكون لحزب الشيطان شوكة في بعض الأحيان فينتفش الباطل وينتفخ ولكنه سرعان ما يتراجع، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، وللباطل صولة فيضمحل، يصول ويجول ولكنه سرعان ما يتقزم ويضمحل، ويبقى الحق مستمراً لا يمكن أن يضعف حتى لو ضعف أهله في وقت من الأوقات ولو أصيبوا بالعجز والتخلف يبقى الحق قابلاً للثورة في كل أوقاته، مستعداً للانطلاق بأهله إذا ساروا معه، فقطار الحق جاهز للانطلاق، ولا ينقصه إلا حجز المقاعد.

    فعلينا جميعاً أن نكون من حزب الله، وأن نبادر قبل الممات بأن نشغل مقاعدنا في قطار الله السالك في السكة، وأن ندرك أن كثيراً من الذين يركبون في القطار سيتساقطون في الطريق، فعلينا أن نتشبث وأن نسأل الله الثبات كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وكما أمرنا الله بالقرآن، فالله تعالى يقول: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:8-9].

    1.   

    مداخل الشيطان لإغواء الإنسان عن سبيل المؤمنين

    لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك )، فمن ثبته الله سبحانه وتعالى تحل السكينة في قلبه، فلا يشك ولا يرتاب، ويعان على الطاعة فتنقاد لها الجوارح.

    أسلوب التدرج

    ومن لم تنزل السكينة في قلبه يبقى عرضةً للتذبذب في كل وقت يمكن أن يتراجع، فتجده في وقت من الأوقات كما إذا كان في رمضان مقبلاً على قراءة المصحف، مجالساً للصالحين جالساً في المسجد، لكن سرعان ما يقتص منه إبليس إذا أدبر شهر رمضان وولى وجاء شوال فيقتص إبليس من تلك الليالي والأيام التي سبقه فيها الإنسان ببعض الطاعات، و إبليس لا يقنط أبداً من الإنسان؛ لأن السبيل كما ذكرنا مدرج فـإبليس يستغل هذا التدرج، أول ما يطمع فيه إبليس من الإنسان إيمانه وعقيدته، فيأتي فيحاول تشكيكه في الله جل جلاله، أو تشكيكه في البعث أنه لم يبعث، وتشكيكه في الجنة والنار، يحاول أن يحدث لديه ريباً في القرآن والوحي، فإذا عجز عن كل ذلك حاول معه الوقوع في كبيرة من الكبائر أو فاحشة من الفواحش لعله يصل منها إلى الإيمان، فإذا عجز عن ذلك حاول معه ترك فريضة من الفرائض والتقصير فيها، فإذا عجز عن ذلك حاول معه شغله بفريضة أخرى عن فريضة، كما يتعارض على كثير من الناس في بعض الأحيان تقول المرأة: تعارض لدي واجب الدعوة وواجب البيت، أو تقول: تعارض لدي أمر الوالد وأمر المعلم، أو تعارض لدي أمر الزوج وأمر المعلم، أو يقول الشاب: تعارض لدي أمر والدي وواجب الدعوة أو واجب التعلم، فيظن أن ذلك متعارض، والواقع أنه لم يتعارض قط، ولكن الشيطان يأتي من هذا المدخل يريد أن يشغل الإنسان بواجب عن واجب؛ ولذلك تجدون كثيراً من الذين آمنوا وعملوا بعض الصالحات ووفقوا لبعض الطاعات يقصرون في الدعوة إلى سبيل الله، ويقصرون في نصرة الله ورسوله عند الحاجة إليهم في النصرة، وهم مع ذلك ينساقون وراء أقاربهم ووراء قبائلهم، ووراء عصبياتهم وجاهليتهم، فإذا كان سبيل الله معارضاً لمصلحة كانت المصلحة مقدمةً على سبيل الله، وإذا كان معارضاً بالقبيلة أو معارضاً بابن العم، أو معارضاً بشأن من الشئون يبدأ بالأقرب والأدنى، ويترك سبيل الله ظهرياً وراء ظهره، وهؤلاء فيهم صلاح وفيهم استقامة، ولكن إبليس دخل عليهم بشغلهم ببعض جوانب حياتهم عما هو أهم وأعظم فلم يرتبوا أولوياتهم، بل تركوا الأولى وعزلوا إلى خلاف الأولى.

    أسلوب عدم ترتيب الأولويات

    وكذلك تجدون كثيراً من الذين يعتذرون بالمعاذير، فكثير من الشباب الدارسين للعلم المشتغلين بالطلب، وقد اختار الله لهم الخير وهم يغبطون على ما هم فيه من طلب العلم، ولكن مع ذلك تجدهم مقصرين في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، وبالاهتمام بأمر الأمة الإسلامية التي هم قادتها في المستقبل، وحمال لوائها، فيقصرون في معرفة شأنها وأمرها، ويقولون: نحن مشغولون بالدراسة والمذاكرة فيذاكرون النحو والصرف والبلاغة وغير ذلك من العلوم، والشيطان غرهم فشغلهم بعدم ترتيب الأولويات، وأنتم تعلمون أن نفراً من شباب قريش أسلموا بمكة، وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفعلون ما يأمرهم به في الخفاء، ويحفظون بعض سورة القرآن المكية القصيرة، ولكنهم عندما أوذوا وعذبوا وتعارضت مصالحهم مع هذه الدعوة رجعوا فاستقروا في بيوت آبائهم وأمهاتهم، وكانوا يعتذرون بعجزهم وضعفهم، فلم يعذرهم الله بذلك، ولم يتقبل منهم، فأرسل الله إليهم الملائكة تقبض أرواحهم على الكفر، ولما اعتذروا إليه لم يتقبل عذرهم، وأنزل فيهم في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:97]، فلم يعذرهم الله بما اعتذروا به، ولم يتقبله منهم، وهؤلاء الخمسة أسلم معهم آخرون هم أضعف منهم أبداناً، وبمنظور الناس هم أقل منهم شأناً من الناحية الاجتماعية، فمثلاً قارنوا بين علي بن العاص بن وائل السهمي وهو أحد هؤلاء الخمسة، وبين بلال بن رباح ، فقد أسلما معاً، وكانا شابين، لكن أحدهما كان فقيراً مملوكاً، وكان ملاكه وهم بنو عم هذا الفتى الشاب الغني ابن الأسرة الكريمة، وهو علي بن العاص بن وائل كان ملاك بلال من بني عمه من بني جمح ابن عمرو بن هصيص ، وهم أمية بن خلف وأولاده، فكانوا يعذبون بلالاً أشد العذاب، فكانوا يبطحونه على الحجارة المحماة، ويحملون الحجارة الضخمة ويضعونها على ظهره، ويضربونه بالسياط، ويحمون التراب من حوله ويصبون عليه الماء الساخن حتى يتقشر جلده من حر الشمس ومن حر النار ومن الضرب الشديد، وهو يقول: أحد أحد، وهو صابر صامد لم يعتذر بضعفه، ولم يعتذر بعجزه، ولم يعتذر بأنه مملوك، ولم يعتذر بأنه فقير، ولم يعتذر بأنه معذب، كل تلك الأعذار لم يقدمها بلال لله جل جلاله والله عليم بحاله، وهو يعلم ضعفه، لكن الله غير حاله فجعل بلالاً من قادة أهل الجنة، ومن ذوي الفردوس الأعلى من الجنة، سمع النبي صلى الله عليه وسلم خشخشته في الجنة قبل أن يدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا بلال ، و علي بن العاص بن وائل من بحث عنه الآن وجده على يسار الداخل إلى النار، نسأل الله السلامة والعافية؛ لأن الله لم يتقبل منه ولم يرض عنه فمات على تلك الهيئة، وقد أسلما في وقت واحد.

    التحذير من حيل الشيطان ووساوسه

    لا بد أن نستشعر يا إخواني! أن كثيراً من المعاذير هي من حيل الشيطان، ووساوسه يريد أن يصرفنا عن هذا السبيل المستقيم، كذلك لا بد أن نستشعر أن إبليس إذا عجز عن تقصيرنا في الواجبات، أو عن وقوعنا في المحرمات فإنه سيحاول وقوعنا في المكروهات، وتركنا للمندوبات، أو لخلاف الأولى، وإذا عجز عن ذلك حاول إعجابنا بأنفسنا حتى نأمن مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وإذا عجز عن ذلك حاول تحقيرنا في أنفسنا وأعمالنا حتى نيأس من روح الله، لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر:56]، فالأمن من مكر الله والقنوط من رحمته كلاهما مذموم، وبينهما الصراط السوي المعتدل الذي يجمع بين الخوف والرجاء، فالإنسان فيه يعمل الطاعات ولا يغلب واحداً على الآخر إلا عند الموت، لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله تعالى، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، يفعلون الطاعات، ويزيدون فيها، ويبادرون إليها ويسارعون، ولكنهم يخافون أن يردها الله عليهم وأن لا يتقبلها منهم، ويقعون في بعض التقصير وفي بعض المعاصي لكنهم يستزلهم إليه الشيطان، فسرعان ما يتوبون ويرجعون وهم يرجون مغفرة الله ومسامحته وقبوله، فلا وقوعهم في المعاصي يوئسهم من رحمة الله، ولا إتقانهم للطاعات يؤمنهم من مكر الله، فهم معتدلون على الصراط السوي المستقيم.

    1.   

    مجالات سبيل المؤمنين

    سبيل المؤمنين في مجال العبادة

    كذلك هذا الصراط فيه ما يغطي جميع حاجات الناس، ففي مجال العبادة لا إفراط فيه ولا تفريط، ( إن لربك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه ).

    وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإيغال بالشدة، فقال: ( فأوغلوا فيهم برفق )، وقال: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )، وقال: ( مه، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، ففي مجال العبادة نجد هذا التوسط العجيب لا إفراط ولا تفريط، وفي مجال المعاملة كذلك نجد هذا الصراط معتدلاً ففيه حقوق للناس، حقوق للآباء والأمهات، حقوق للإخوان والأخوات، حقوق للأولاد والزوجات، حقوق للجيران، حقوق للأمة كلها، حقوق لمن هو أسن منك وأكبر ومن المسلمين أن تجعله والداً، ( لن تزال أمتي بخير ما دام صغيرها يوقر كبيرها، وكبيرها يرحم صغيرها )، حقوق للمستضعفين والفقراء والمساكين، ففي كل جانب تنظر ستجد حقوقاً، وقد ذكرت من قبل أن نعم الله تأتي مثل هذه الأجهزة، فكل جهاز إذا اشتريته جديداً تجد معه كتاباً فيه طريقة استعماله وتفاصيل ما فيه، فكذلك كل نعمة تأتي من الله يأتي معها كتاب تفصيلي فيه مواضع التشغيل، وكيف تشغل هذه النعمة؟ فنعمة البصر جاء معها من عند الله بيان، هذا البيان فيه ما لا تستطيع أن تنظر إليه وما ينبغي أن تكف عنه، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].

    ونعمة السمع، ونعمة الجوارح كلها، فما من نعمة جاءت من عند الله إلا وقد جاءت مصحوبةً بأمر ونهي فيه طريقة الاستعمال، فمن سلك طريقة الاستعمال لم يحترق الجهاز، ومن لم يسلك طريقة الاستعمال إذا كان هذا الجهاز مثلاً مبرمجاً على تيار مائة وعشرة من الكهرباء فوضعته على مائتين وعشرين أليس سيحترق؟ يحترق، وإذا كان على مائتين وعشرين ووضعته على مائة وعشرة لا يحترق، فكذلك هذه النعم جميعاً التي جاءت من عند الله لها تفصيل بين فيما جاء معها من الوحي بأوامر بينة ونواه بينة، وهي كاتلوج مع كل نعمة، كاتلوج البصر، وكاتلوج السمع، وكاتلوج اليد، وكاتلوج الرجل، وكاتلوج البطن، وكاتلوج اللسان، وكاتلوج جميع ما معك من النعم، كاتلوج المال، كاتلوج الأهل، كاتلوج الأولاد، ما من نعمة أنعم الله بها عليك من وقت ولا مال ولا أهل إلا ومعها كتاب تفصيلي فيه الأوامر والنواهي، كيف تستعمل هذه النعمة؟ وما ينبغي أن تصرفها فيه؟ وكيف تستفيد منها؟ وكيف تحافظ عليها؟ وما هي المهلكات التي تذر بها وتحرقها؟ كل ذلك بين مبين.

    سبيل المؤمنين في جانب السياسة

    ثم بعد هذا أيضاً في جانب السياسة والأمر العام فسبيل الله بين في هذا الباب، فالله سبحانه وتعالى بين ما يتعلق بالسياسة لكل مسلم، فقال: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56]، فهذا بيان بين من الله تعالى، لا تحتاج بعده إلى السؤال: من نوالي؟ ومن نعادي؟ ومع من نكون؟ فالحل بين واضح في كتاب الله، إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، الكينونة مع الصادقين.

    وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، زينة الحياة الدنيا مثل الوظائف والمناصب والسيارات والنقود وغير ذلك، وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

    سبيل المؤمنين في جانب الاقتصاد

    وكذلك في مجال الاقتصاد حدد الشارع أن المال ليس ملكاً لنا، وإنما هو أمانة لدينا، يجمع أحدنا طيلة عمره وهو يشتغل ويجمع، فإذا مات فرق ورثته ما جمعه هو، فعاد الغزل صوفاً بعد إحكامه، ثم يبدأ الورثة أيضاً في مشوار الجمع فيجمعون أكثر مما جمع مورثهم أو أقل، فإذا ماتوا عاد الغزل صوفاً أيضاً وبدأ ورثتهم من جديد مشوار الجمع.. وهكذا، فالدنيا كلها جمع وتفريق، فما تجمعه الآن سيفرقه ورثتك إذا لم تفرقه أنت، وهو أمانة لديك كما قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، لم يقل: مما ملككم، قال: مما جعلكم مستخلفين فيه؛ ولذلك فنظرة الشرع إلى المال أن الإنسان وكيل فيه ينتظر العزل في كل حين، والوكيل معزول عن غير النظر، فليس له أن يضعه في غير حله، ولا أن يأخذه من غير محله، والشارع حدد ما هو حلال من الربح والتملك وما هو حرام منهما، فالربا حرام، وأكل مال الناس بالباطل حرام، والقمار حرام، والغش حرام، والسفه حرام، والتزوير حرام، والإسراف حرام، والبيع المجهول حرام، وبيع ما لا نفع فيه حرام، وبيع ما نهى الشارع عن بيعه حرام.. وهكذا، فهذه أمور محددة حرمها الشارع، وحرم طلب الربح منها، وما سوى ذلك أحله. والقاعدة العامة التي تجمع نظرة الشرع إلى الاقتصاد هي قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، أحاطت بكل شيء، (فأحل الله البيع) شاملة لما لا حصر له من العقود، كل يوم يتجدد أنواع من العقود لا عهد للفقهاء بها، ولا يعرفون اسمها يسميها الناس بأسماء جديدة.

    (وحرم الربا)، هذا يشمل أيضاً كل عقد فيه رباً، وكل يوم يحدث الناس كثيراً من العقود الربوية، وأنواعها لا حصر لها، وقد ذكر ابن العربي رحمه الله ثمانيةً وخمسين بيعاً من البيوع المنهي عنها التي جاء النهي عنها في الشرع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصرها في ذكر هذه الآية في كتابه (تفسير آيات الأحكام).

    سبيل المؤمنين من الناحية الاجتماعية

    كذلك من الناحية الاجتماعية فضل الله الرجال على النساء في الجملة لا بالجملة، فيمكن أن توجد امرأة واحدة خير من ألف رجل، كم يساوي أم المؤمنين عائشة الصديقة ابنة الصديق من رجال اليوم؟ كم يساوي مريم ابنة عمران من رجال اليوم؟ كم يساوي خديجة بنت خويلد من رجال اليوم؟ فقد شرف الله عدداً من النساء وكملهن وفضلهن، فهن أفضل بكثير من الرجال، فإذاً: تفضيل الرجال على النساء هو في الجملة لا بالجملة، (في الجملة) أي: في جملة الرجال وجملة النساء، (لا بالجملة) أي: ليس كل رجل أفضل من كل امرأة أبداً، وهذا التفضيل إنما هو في نطاق الأسرة الواحدة، فإذا ذهبنا إلى بيوت القرية هنا فلا يمكن أن نفضل النساء جميعاً على الرجال جميعاً ولا العكس، لكن التفضيل في إطار بيت واحد، ندخل بيتاً واحداً من هذه البيوت، فنجد أن الرجل الذي فيه فضله الله على المرأة بالقيادة والقوامة، وجعله رب المنزل، وجعلها هي يجب عليها بره وطاعته أكثر مما يجب عليها من حق والديها، ثم نذهب إلى بيت آخر فنجد فيه نفس الوصف، لكن إذا قارنا بين رجل من هذا البيت وامرأة من هذا البيت يمكن أن نجدها هي أفضل منه في المقابل.

    فإذاً: العبرة في كل بيت بخصوصه لا بالجمع بين البيوت المتفرقة، وهذا يقتضي أن الرجال في داخل البيوت لهم فضل على النساء في داخل بيوتهم أيضاً، كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، وهذا الفضل ليس فضلاً أخروياً، وليس فضلاً في العلم ولا في التقوى ولا في العبادة، بل قد نجد المرأة الصالحة وزوجها طالح فاسق، والعكس صحيح، وانظروا إلى امرأة نوح مع نوح ، وامرأة لوط مع لوط ، وبالعكس انظروا إلى امرأة فرعون مع فرعون ، وقد يكون الرجل والمرأة سواءً كحمالة الحطب مع أبي لهب ، لكن قد تكون المرأة أفضل ببون شاسع كامرأة فرعون ، وقد يكون الرجل أفضل ببون شاسع كامرأة لوط وامرأة نوح ، ومن هنا فالمقصود بالفضل الفضل في الأحكام والحقوق، كما قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].

    كذلك طبقات المجتمع تتفاوت بحسب تحقيق الاستخلاف، فالمفروض أن من كان يخدم كالبنائين والمزارعين والصناع ينبغي أن يكونوا في أعلى الدرجات من الناحية الاجتماعية؛ لأنهم الذين يقدمون خيراً كثيراً للبشر، فيصنعون أكثر مما يحتاجون إليه، فلو كانت البشرية منطلقةً من هذا المعيار لكان الذين يصنعون للناس الحوائج، والذين يزرعون، والذين يرعون وينمون، والذين يبنون أشرف الناس وأعلاهم منزلةً اجتماعية؛ لأنهم يكسبون الناس ما تفقده، ويحصلون أكثر من حاجتهم، بخلاف أهل الاتكال، فالمتكلون الذين لا ينتجون أي إنتاج وهم عالة على الخلائق، هم طفيليون يعيشون على عرق الآخرين، هؤلاء ينبغي أن يكونوا في أدنى المراتب درجةً، ولكن مع ذلك للناس أمور أخرى ومعايير أخرى ينظرون إلى الفضل بها، وهذه المعايير إذا صحبها دين وفقه فكان الإنسان ذا نسب شريف، وكان مع ذلك صاحب ورع وتقوى وعلم، فالشرع اعتبر له منزلته؛ لأن المنزلة ليست راجعةً إلى النسب فقط، بل هي راجعة إلى ما معه من التقوى والعلم، ( الناس معادن، خيارهم للجاهلية خيارهم للإسلام إذا فقهوا ) هذا شرط.

    ومن كان شريف النسب ولكنه كان سيئ العمل فكان فاسقاً فاجراً أو جاهلاً فلا فائدة في نسبه، بل هو حجة عليه وضرر به، وينبغي أن يكتم نسبه ولا ينسب نفسه إلى هذا النسب الشريف؛ لأنه يكذب خبره مخبره، إذا بحثنا عن شأنه وعمله وجدناه مكذباً لقومه وانتسابه؛ فلذلك نظر الشرع من الناحية الاجتماعية إلى البشر على أنهم أسرة واحدة، أبوها آدم، وأمها حواء ، وهم جميعاً يتعاونون، فمن المعلوم أن الصغير له عمل لا يقدر عليه، فيقوم الكبير به عنه ويتولاه، فالصغير يمارس نوعاً من النشاط هو قادر عليه، والشباب يمارسون نوعاً من النشاط يقدرون عليه، والكبار يمارسون نوعاً من النشاط يقدرون عليه، والنساء لهن نوع من النشاط، ولو قدر أن جميع الأنشطة التي يحتاج إليها البشر جعلت على التساوي وخير الناس في الوظائف، فجاءنا رسول من عند الله فوقف هنا على المنبر وقال: الفرص المتاحة للرزق منها مثلاً الجلوس على المكاتب، أن تجلس على المكتب، وتأخذ أكبر الرواتب، ومنها الغوص في الأرض بحفر الآبار، أو الغوص في أعماق البحار، أو السهر والتعب والنصب، فمن سيقبل الوظيفة التي هي شاقة صعبة وراتبها أقل؟ لو خير الناس لما اختاروا هذه الوظيفة أبداً، ولكن تدبير الله جعل كل إنسان بين عينيه رزقه، لا يرزق ولا يحب الرزق إلا من مجال معين، هذا المجال هو الذي يحسنه ولو تعطل لتوقفت مصلحة البشر، فتراه يعمل في الأمر المنتن في الجلود الشديدة النتن، رائحتها كريهة جداً، وبين يديه أعمال أخرى، لكنه لا يرى رزقاً فيها وغير مرزوق فيها؛ لحاجة البشر إلى عمل الجلود، وتراه يحفر الآبار، ويتلقى الصعاب، وينغمس في البحار، وتراه يلبس اللباس العسكري في وقت الحر الشديد، ويقف في الشمس أو يسهر، وتراه يتعب في المشي، وهو لا يجد رزقاً إلا من هذا الوجه؛ لأن الله قسم الأرزاق، فجعلها على هذا الوجه خدمةً للناس، وعدلاً بينهم وقياماً بمصالحهم، ولو لم تقسم الأرزاق بهذا التقسيم لتعطل كثير من المنافع، لو كان أهل هذه البلدة الآن مخيرين في الرزق بين أن يجلسوا هنا في المسجد وتوزع عليهم رواتبهم في آخر الشهر فسيختارون ذلك جميعاً ولن يذهب أحد منهم إلى السوق، ولن يذهب إلى الأمور المتعبة، لكن الله جعل هذه الأرزاق مربوطةً بهذه الأعمال.

    وكل إنسان كتب بين عينيه المجال الذي يعمل فيه، لا يرزق إلا منه، ليكون ذلك مصلحةً لهم، إذ لو لم يوجد من يشتغل بجمع القمامات والأوساخ لتعطلت مصالح الناس، وامتلأت الطرق بالأوساخ، وامتلأت البيوت بالأوبئة والأمراض، ولو لم يوجد من ينظف الحمامات وبيوت الخلاء لكان هذا ضرراً بيناً على الناس وأثراً بالغاً، لكن جعل الله بعض الناس مرزوقاً من هذا الوجه لا يجد رزقاً في غيره، وهو مجبر على هذا النوع من أنواع العمل؛ لأنه ليس له رزق إلا في هذا، وهذا ليس مصادرةً لمصلحته ولا لحريته، بل هو موافق لحريته ورغبته.

    والغريب أن أصحاب المهن الشاقة يجدون فيها لذةً ومتعة، ولو سألت أي إنسان قد مارس عملاً من الأعمال وأحبه وعاش عليه مدة، ستجد أنه مولع به.

    سافرت مرة في الطائرة من مطار دبي إلى المغرب، ومن المغرب إلى نواكشوط مع رجال من أهل الخليج، ومعهم طيور للصيد، سافرنا بعد صلاة الفجر من مطار دبي ووصلنا المغرب بعد الظهر، وسنسافر الثانية عشرة إلا ربعاً من مطار الدار البيضاء ونصل نواكشوط الثالثة ليلاً، لماذا تقطعون كل هذه المسافات وتبذلون كل هذا العناء؟ قالوا: نحن نريد الصيد، قلت: تصطادون بالرشاشات، أو تصطادون الغزلان، أو ماذا تصطادون؟ قالوا: لا، نحن ما نرغب في الغزلان أبداً، ولا نرغب في الصيد عن طريق البنادق، إنما نرغب في صيدها بالطيور فقط، وهذه متعتنا ليس لنا متعة في الحياة سواه، فإذا هم سيسافرون أيضاً من نواكشوط في البر إلى حدود مالي، ويتعرضون للشمس والأذى وربما تعرضوا لقطاع الطرق؛ لأن الله حبب إليهم هذه المهنة، ورزق أقواماً هنا ينتظرونهم منهم أصحاب السيارات، ومنهم الخدم، ومنهم الذين يدلون المسافات ويعرفون الطرق، ومنهم أصحاب المياه وغيرهم، مرزوقون من هؤلاء، فتعجبت من هذا الأمر.

    وكنا في المطار ننتظر الطائرة، ونسمع النداء في كل خمس دقائق أو أقل على رحلة ستقلع إلى بلد من البلدان، فتذكرت حالنا في الحياة الدنيا فإذا نحن جميعاً في صالة ترانزيت، منا من ينتظر رحلته الآن سينادى عليه بالموت قبل غروب هذه الشمس، ومنا من سيموت في الليل، ومنا من سيموت غداً، ومنا من سيموت بعد غد، لكن الجميع ينتظر رحلته، لا أحد يأتي إلى صالة ترانزيت وهو يريد البقاء الأدبي فيها، بل كلهم ينتظر النداء لرحلته ليقوم، فنحن جميعاً مسافرون، وهنا فهمت قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة )، فإذا نحن بمثابة المسافرين، كل إنسان منا ينتظر النداء على رحلته فتقلع به رحلته إلى الدار الآخرة، والرحلات فيها ما يؤخر، فيكتب في البرنامج في الكمبيوتر المعلق في الشاشة يكتب هذه الرحلة تأخرت إلى موعد كذا، هذه تأخرت إلى وقت غير مسمى إلى موعد غير مسمى، فالناس بعضهم ينسأ له في أجله؛ بسبب صدقته، أو صلته لرحمه، أو دعاء بعض الصالحين، أو عمل قدمه فهو بمثابة تأخر الرحلات.

    فعجبت إذاً من تدبير هذا الملك الديان فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية!

    سبيل المؤمنين من الناحية الثقافية

    كذلك من النواحي الثقافية سبيل المؤمنين، وسبيل الله فيها سبيل بين واضح هو أن الإنسان أوتي ما يدعوه إلى العلم، فأوتي السمع والبصر والعقل، وحبب إليه العلم بأصل فطرته؛ ولذلك قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].

    وقال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].

    وقال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33].

    فابن آدم مؤهل للعلم، ومطلوب منه أن يزداد علماً، وأي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]، فهذا خطاب للجميع ليس خطاباً فقط لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأمره أمر لأمته، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]، فيطلب منا جميعاً أن نزداد ثقافةً وعلماً، وأن نبحث عن فائدة العلم، ففائدة العلم هي خشية الله، العلم هو ما أدى إلى الخشية؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فإذا كان العلم لا يزيد الإنسان خشيةً ولا يقيناً، ولا يزداد به إلا قسوةً وغلظةً وشدة فما فائدة هذا العلم؟ ليس له فائدة، بل هو حجة عليه لا له، وأمانة في عنقه ليس وراءها طائل؛ فلذلك ينظر الشرع إلى العلم على أنه ليس حصراً على أحد، بل الرجال والنساء والكبار والصغار والأغنياء والفقراء والبيض والسود كل مطلوب منه أن يتعلم، وأن يزيد في العلم، وأن ينافس فيه في كل يوم من الأيام، وهذا العلم كلما ازداد الإنسان منه ازدادت منزلته ورفعته في الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله يرفع بهذا العلم أقواماً ويضع به آخرين )، فمن حفظ العلم وكان من أهله وحصل به خشية الله رفعه الله بهذا العلم وأعلى منزلته ولو كان عند الناس في الأصل في أدنى الدرجات، وانظروا إلى ما حصل للتابعين في خدمتهم لـعطاء بن أبي رباح فـعطاء في الأصل كان عبداً، وكان أشن، وكان أفطس الأنف، وكان أعرج، وكان فقيراً، ولكن الله وهبه العلم فحرص على طلبه حتى جمع منه ما لم يجمعه أحد من نظرائه بمكة، فكان الناس جميعاً يخدمونه، ويأتي الملوك من الشام من بني أمية حتى يجلسوا عند رجليه وحوله، ويزاحمونه بالركب ليسمعوا منه، وكان سيد أهل مكة في زمانه.

    وهكذا أئمة الدين الذين حملوه وأدوه ومنهم الموالي من الأئمة الأعلام كـنافع مولى ابن عمر ، وكـعكرمة مولى ابن عباس ، وكـعطاء بن يسار مولى بني هلال، وكـمحمد بن سيرين مولى الأنصار، وكـالحسن بن أبي الحسن البصري مولى الأنصار، وكـقتادة بن دعامة مولى بني سدوس، وغيرهم من الأئمة الأعلام من التابعين، ثم بعدهم أتباع التابعين وهكذا حتى نصل إلى البخاري وهو مولى بني جعف، وإلى أبي حنيفة وهو مولى تيم اللات ، وإلى غيرهم من الأئمة الأعلام الذين حملوا هذا الدين ورفعهم الله به فأعلى الله منازلهم، ولا يزال الناس يذكرونهم بخير، ولا زالت الأعناق ترتفع إليهم، فتصوروا لو أنكم في مجلسكم هذا خرج عليكم أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطا فقيل: ها هو النعمان بن ثابت بن زوطا قد طلع من الباب، كيف ستكون مكانته في نفوسكم وقلوبكم؟ أو طلع عليكم محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري كيف ستكون منزلته بينكم؟ هؤلاء رفعهم الله بالعلم، ورفع منزلتهم لدى المؤمنين، فوضع لهم المحبة في القلوب إلى أن تقوم الساعة، ومنزلتهم يغبطهم عليها الملوك والرؤساء ومن سواهم؛ ولذلك فقد كان أحد السابقين من الذين لهم دفاع عن هذا الدين وحرص عليه، فقتله أحد الملوك وصلبه، وأوقد حوله ناراً في الليل، وكلف به رجالاً لحراسته يخاف أن تسرق جثته فتدفن لمحبته إلى الناس، فجاء أحد الشعراء فرثاه بقصيدة يقول فيها:

    سمو في الحياة وفي الممات لحقاً أنت إحدى المعجزات

    فذكر أوصافه وأوصاف الناس حوله قال:

    كأنك قائم فيهم خطيباً وقد صفوا وراءك للصلاة

    صفوف الناس ينظرون إليه وهو مصلوب على الخشبة يقول:

    كأنك قائم فيهم خطيباً وقد وصفوا وراءك للصلاة

    كما كان يفعل في الحياة، وذكر أنه من شدة كبره وضخامته لم يرتض الناس له قبراً في الأرض، بل قبروه فيما بين السماء والأرض في الهواء الطلق المرتفع في الوضع على الخشبة، وأنه لحرص الناس عليه ومحبتهم له أوقدوا النار حوله في الليل، وكلفوا به من يرعاه ويحرسه خوفاً عليه، فكأنه ملك من الملوك، ذلل له مئات من الحرس لحراسته، فلما سمع الملك هذه القصيدة قال: ليتني كنت مكانه، فأمر به فأنزل ودفن.

    كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

    كأنك قائم فيهم خطيباً وقد صفوا وراءك للصلاة

    إذاً هذه هي النظرة الإسلامية في المجال الثقافي، وبهذا يعلم شمول هذه الشريعة وشمول هذا السبيل، وأنه مغط لكل حاجيات الناس، وأنه كذلك معتدل ليس فيه إفراط ولا تفريط، ولا سرف ولا تقتير، وليس فيه تحجر ولا تقوقع، وإنما هو منسجم مع كل الظروف، صالح لكل زمان ومكان، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

    ورحم الله ابن القيم إذ قال: إن معين الشريعة قد اعتصره الله من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، ليس فيه إفراط ولا تفريط، فهو من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.

    أقف عند هذا الحد، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767945386